خطبة الجمعة لسماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله
11 محرم 1424 هـ/ 14 آذار ـ مارس 2003م.
--------------------------------------------------------------------------------
لأنّ إمامة أهل البيت(ع) امتداد لخط النبوة:
لنربِّ أنفسنا على الطهارة والإخلاص والصبر عن المعصية
--------------------------------------------------------------------------------
ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك، بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين، ومما جاء في خطبته الأولى:
حركة الحسين(ع): تغيير الواقع المنحرف
كنا في موسم عاشوراء مع الحسين(ع) الإمام الثائر الشهيد، ونحن بحاجة إلى جانب ذلك أن نكون معه(ع)، في وصاياه ومواعظه التي تذكِّرنا بالله وبالمسؤولية بين يدي الله، وبالدار الآخرة، وليس معنى ذلك أن للحسين(ع) شخصيتين منفصلتين، شخصية الثائر وشخصية الواعظ الناصح، لأن شخصيته هي شخصية واحدة، وحّدها الإسلام في حب الله وتوحيده، والإخلاص له، وهي تتحرك في الذات لتقدم لنا الحسين(ع) في تربيته لنفسه، الإنسان الكامل، الذي تتكامل فيه كل صفات الخير والحق والعدل، ويتكامل فيه شخصية الإمام الذي يريد للإنسان أن يصنع نفسه على الصورة التي يحبها الله، وأن يروّض نفسه في الانفتاح على عملية إصلاحها من الداخل، عن طريق المحاسبة والمحاكمة والمجاهدة.
لذلك كان الحسين(ع) يطلق الكلمة السياسية من قاعدة الكلمة الوعظية، لأن السياسة وفق مفهومه، كما الثورة، ليست مهنة، إنما هي حركة من أجل تغيير الإنسان والواقع، ذلك أن الله حمّل الأنبياء والمؤمنين مسؤولية تغيير الإنسان لنفسه وللواقع، عندما تفسده نفسه وينحرف الواقع.. من هنا، فإن الثائر الإسلامي يبقى يحدق بالله وهو يتحدث للناس، حتى لا يقدموا رجلاً ولا يؤخروا أخرى، حتى يعلموا أن في ذلك لله رضا.
الإمام القدوة
نحن بحاجة إلى أن ننفتح على هذا الجانب من شخصية الإمام الحسين(ع)، لأنه الإمام القدوة الذي يجب أن نقتدي به فكرياً وعملياً، فهو يجسِّد الحق كلّه في الفكر والعمل.
ومن بين كلماته التي تصف سلوك المؤمن، يقول: "إن المؤمن اتّخذ الله عصمته ـ أي الإنسان الذي يعتصم بالله ويستمسك به وليس بأحد غيره، لأن معنى الإيمان بالله الواحد هو أن يكون الله هو مصدر القوة والرغبة في تيسير أموره وقضاء حاجاته، فلا ينظر إلا لله عند حاجاته، سواء في الرغبة أو الرهبة ـ وقوله مرآته ـ أن يكون القرآن هو المرآة التي يرى فيها الإنسان نفسه ليصوغها على الصورة القرآنية، لتعرف خط الاستقامة فتمسك به بعيداً عن خط الانحراف، لأن القرآن هو النور الذي يضيء للإنسان الحقيقة وطريق الاستقامة والكمال.
ثم يفصِّل الإمام(ع): ـ فمرةً ينظر في نعت المؤمنين ـ كيف يصفهم القرآن في توحيدهم لله وإخلاصهم وحبّهم وتوكّلهم وجهادهم له وتواصيهم بالحق والصبر والمرحمة، وفي تخطيطهم لأن تكون حياتهم في خط العمل الصالح ـ وتارة ينظر في وصف المتجبرين ـ فهو يقرأ في القرآن قصة فرعون، وينطلق من خلالها ليبتعد عن أن تكون صورة فرعون في نفسه، عندما تتوفر له الأمور، وينظر صورة الأمم التي عاش الأنبياء معهم، وكانوا يضطهدونهم ويقتلونهم بغير حق، وينكرون عليهم رسالتهم، ويمتنعون عن الحوار معهم، لأن لغتهم مليئة بالاتهامات الباطلة والسباب والشتائم، فيبتعد عن مثل هذه الأخلاق عندما يقف في معركة الحق ضد الباطل، ليلتزم الحق ضد الباطل ـ فهو منه في لطائف ـ أي هو من القرآن في لطائف فكرية وروحية وعملية ـ ومن نفسه في تعارف ـ عندما يقرأ القرآن يملك نفسه، لذلك لن تكون هناك ازدواجية بينه وبين نفسه، ولا خصام، لأنه يربي نفسه على الطهارة والإخلاص ـ ومن فطنته في يقين، ومن قدسه على تمكين".
التسليم المطلق لله
وفي رواية عن الإمام الحسين(ع)، وقد سأله شخص كيف أصبحت يابن رسول الله، قال(ع)، وكأنه يريد أن يقول له إن الإنسان محاصر بكل مسؤولياته التي تفرضها عليه الحياة، وما يقبل عليه بعد الحياة: "أصبحت ولي ربٌّ فوقي ـ فأنا أشعر في كل صباح بأني عبد الله، وأنّ عليّ أن أطيعه ولا أعصيه، وعليّ أن أخلص لله، لا لغيره، وأن أعبده وحده، وأن أنحني لكل ما أمر الله به وما نهى عنه {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم}..
إن الإمام(ع) يريد أن يقول للإنسان، عندما يصبح الصباح ويرى الشمس تشرق، عليه أن يظل واعياً لله، خائفاً مقام ربه {وأما من خاف مقام ربّه ونهى النّفس عن الهوى* فإن الجنة هي المأوى}، أن لا تنسى الله {ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم} ـ أصبحت ولي رب فوقي والنار أمامي ـ لأنني أعرف وقرأت في القرآن أن من ينحرف عن خط الله فالنار موعده: {يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيءٌ عظيم* يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حملٍ حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد}..
تذكّر النار عندما تدعوك نفسك إلى أن تترك ما أوجب الله عليك، أو تفعل ما نهاك الله عنه، انظر إلى جلدك هل يقوى على حرارة النار وعذاب الله ـ والموت يطلبني ـ فعليّ أن أستعدّ قبل أن يأتي الموت، عجِّلوا بالتوبة قبل الموت، فلا أحد يضمن حياته إلى غد، وليس معنى ذلك ترك العمل بسبب الخوف من الموت، بل بالقيام بأفضل الأعمال وأحسنها، لأن حياتك ليست خالدة ومستمرة، ولأن بعد الموت ثواباً وعقاباً يجب أن تستعد لمواجهته، {وتزوّدوا فإن خير الزاد التقوى} ـ والحساب محدقٌ بي ـ {اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً}، ويقرأ الكتاب {يا وليتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها} {يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها} ـ وأنا مرتهن بعملي ـ لأن المصير يأتي من خلال العمل {كل نفس بما كسبت رهينة}..
ـ لا أجد ما أحب ولا أدفع ما أكره، والأمور بيد غيري فإن شاء عذّبني وإن شاء عفا عني، فأي فقير أفقر مني". هكذا يريدنا الإمام، أن نخشع عندما يصبح الصباح ويمسي المساء، لأن كل يوم يمر علينا فهو شاهد علينا يوم القيامة، لذا علينا أن نعرف أن الزمن مسؤوليتنا، ليكون عمرنا في طاعة الله، وأن لا يشغلنا شيء عن هذا العمر، ما يتطلب محاسبة الذات في كل المسؤوليات التي تحملها، وذلك على قاعدة الحلال بعيداً عن الحرام.
في بعض كلمات الإمام الحسين(ع) نشهد طرافة، وهو ما يشير إلى أن أساليب الأئمة(ع) تجعل الإنسان الذي يمتد في المعصية، واعياً لمسؤوليته، فهو حرٌ في أن يمارس المعصية، ولكن بشرط، كما يقول الإمام الحسين(ع) لرجل قال له: أنا لا أصبر عن المعصية فعظني بموعظة لأتخلص من المعاصي، فقال الإمام الحسين(ع)"افعل خمسة أشياء وأذنب ما شئت، فأول ذلك: لا تأكل من رزق الله وأذنِب ما شئت ـ فهل هناك غير رزق الله ـ والثاني أخرج من ولاية الله وأذنِب ما شئت ـ فهل هناك من مكان لا سلطة لله فيه حتى يمكن المعصية فيه ـ والثالث اطلب موضعاً لا يراك الله فيه وأذنب ما شئت ـ فأين يمكن أن نجد هذا المكان الذي لا يرانا الله فيه ـ والرابع إذا جاء ملك الموت لقبض روحك فادفعه عن نفسك وأذنب ما شئت ـ فهل يمكن مواجهة ملك الموت ـ والخامس إذا أدخلك مالك في النار فلا تدخل في النار وأذنب ما شئت". لقد أراد الإمام(ع) أن يقول: إنّ الإنسان يأكل من رزق الله، ويتحرك في ولاية الله، وينطلق بعين الله، ويتحرك في الأجل بقضاء الله وقدره، ويدخل النار إذا عصى ربه، فكيف يعصي الله. فالإنسان محاصر بكل هذه الأمور، كان الإمام يريد توجيهنا بذلك إلى كلِّ العصاة لنلتفت إلى حقيقة ما يحيط بهم، ونحن نستعد للقاء الموت وللقاء ما بعد الموت، فكيف نعصي الله!!؟
وهكذا، كتب رجل إلى الحسين(ع)، يا سيدي أخبرني بخير الدنيا والآخرة، فكتب الإمام إليه: " بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد.. فمن طلب رضا الله بسخط الناس كفاه الله أمور الناس، ومن طلب رضا الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس".
لنعش الحسين(ع) في موقع إمامته
هذه هي كلمات الإمام الحسين(ع)، وعلينا أن نعيش الحسين في موقع إمامته، في ثورته التي هي امتدادٌ لتقواه ولمحبته لله، وفي كلِّ موقع كان فيه، وفي كل موقف وقفه. إن إمامة أهل البيت(ع) التي هي امتداد لخط النبوة، تمثل مسؤولية وليست مجرد انتماء شكلي. إنها حركة في الرسالة على خطِّ الولاية، في الموقف والحركة، وانطلاقة إلى الخط المستقيم، وليست مجرّد نبضة قلب. نسأل الله أن يوفّقنا لنكون مع خط أهل البيت(ع)، فهم سفينة نوح التي "مَن ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق وهوى"، فلنركب هذه السفينة، فإنها تؤدي بنا إلى الله وإلى الجنة {وفي ذلك فليتنافس المتنافسون}.
* * * *