 |
-
حكايات من الصحراء صالح زيادنة
حكايات من الصحراء
« مجموعة من الحكايات الشعبية »
صالح زيادنة
حكايات من الصحراء
« مجموعة مختارة من الحكايات الشعبية »
الطبعة الأولى
شباط ( فبراير ) 2003
جميع الحقوق محفوظة للمؤلف
صدر بدعم من بلدية رهط
الصف والمونتاج : صالح زيادنة
طبع في مطبعة أسيل - الرام - القدس
الإهـــــــــــــــــداء
• إلى كل إنسان يحبّ أهله ووطنه ودينه وعروبته .
• إلى كل إنسان يحبّ تراثه ويفخر به ويراه جزءاً من تاريخه .
• إلى أبناء العروبة في كل مكان .
• إلى أهلي وإخواني وأبنائي في النقب الحبيب.
• إلى زوجتي وأبنائي وأفراد أسرتي .
• إلى هؤلاء جميعاً أقدم هذا الكتاب
صالح زيادنة
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحكاية الشعبية جزء هامّ من تراثنا ، ومن عاداتنا الكريمة التي ألفناها وتعوّدنا سماعها ودرجنا على حبها والاستمتاع بها ، ورأينا فيها قصص الوفاء والبطولة والكرم ، وما كان يتمتع به جيل الآباء من الصدق والصبر والخصال الحميدة والطباع الطيبة التي نفتقر إليها في هذا العصر الذي قضت فيه المادية البغيضة على كل ما هو جميل .
وبعد انتشار موجة التلفزة والإعلام المرئي أخذت الحكاية الشعبية تنحسر ، وأخذ دورها يضمحل ويتراجع ، وتغشّاها ضباب من الإهمال والنسيان كاد يُخفي آثارها ويقضي عليها بالكامل .
وقد هبّت مجموعة من الكتّاب والمفكرين ومن يعنيهم الأمر لنجدة هذا الجزء الغالي من تراثنا ، فجمعوا ما استطاعوا جمعه ووثقوه في كتبهم ومجلاتهم ، وما زالت عملية الجمع والتوثيق قائمة على أشدها ، ونرى من ثمارها الطيبة بين الحين والآخر ما يبعث في نفوسنا الدفء والطمأنينة ، ويدفعنا للعمل الجاد والمتواصل من أجل المزيد والمزيد في هذا المجال . وما كتابنا هذا إلا جهداً متواضعاً من هذه الجهود التي بُذلت وتبذلُ من أجل الحفاظ على تراثنا الشعبي وهويتنا القوميّة وعلاقتنا بالأرض والإنسان والمجتمع .
وقد حرصت على بساطة الأسلوب وعلى ذكر التفاصيل الكاملة لكل قصة من هذه الحكايات ، وابتعدت عن كل ما يشوه جمالها أو يغير شكلها وصورتها إن كان من المؤثرات التصويرية أو الخيال المجنح الذي يبعدها عن أصلها وشكلها الذي جاءت عليه .
وقد تحاشيت القصص التي تحتوي على مواضيع مخلّة بالأخلاق أو القصص الماجنة البذيئة ، وما أكثرها في القصص الشعبية مراعاة لشعورنا كآباء ، ولشعور أبنائنا وبناتنا ، وللمحافظة على سمعة مجتمعنا الطيّب ، حتى نقدّم صورة نظيفة من تراثنا الخالد ، أما ما يسقط عند الغربلة فهو غير جدير بالتوثيق حسب وجهة نظرنا على الأقل .
ولا بد أن نشيد بالدور الإيجابي الذي قامت به بلدية رهط ومكتب رئيس البلدية في دعمهم الماديّ والمعنوي من أجل إصدار هذا الكتاب وإخراجـه إلى النور ، نتمنى لهم كل خير ، ونقول لهم جزاكم الله خيراً وكثّر من أمثالكم .
وما توفيقي إلا بالله وهو حسبي ونعم الوكيل .
صالح زيادنة
رهط في : الأربعاء، 12 شباط، 2003
تقديم
تعريف :
الحكاية في اللغة : " هي ما يُحْكى ويُقَصّ ، وَقَعَ أو تُخُيِّل( )، وهي : " ما يُقَصّ من حادثةٍ حقيقية أو خيالية كتابةً أو شفاهاً ( ) ، وهي مصدر مشتقّ من الفعل حَكَى يحكِي حِكايةً ، أي قصَّ وروى ، والحكْيُ هو الكلام ، والحكاية هي القصة المرويّة التي يتناقلها عامة الناس فيحكيها الكبيرُ للصغير ، وتتناقلها الأجيال حتى تصبح موروثاً شعبياً متعارفاً عليه .
والحكاية نتاجٌ فكريّ جميل ، أنتجته الشعوب عبر تاريخـها الطويـل ، وأودعت بها أروع قصصها ، وأجمل ما مرّ بها من أحداثٍ وحكايات ، فجاءت لتعكس خلاصة تجاربها ، وتعطي صورة نابضة حيّة عن واقع الأمة عبر مراحل تاريخها الطويل ، تتجلى فيها حكمة الشعب وعصارة تجاربه وتفاعله في المراحل التاريخية التي عاشها ، وتعطي وصفاً لبعض الجوانب من الحياة الإنسانية ، والأحداث التاريخية المختلفة ، وإظهار النواحي الفكرية والعقلية التي شهدتها المنطقة في فترة من الفترات ، فتعيد لذاكرة الأبناء صورة تاريخهم المجيد وتراثهم العريق بما عرفه من نُبلٍ وأصالة ، وتعيد إلى أذهانهم صورة آبائهم وأجدادهم ومواقفهم الحميدة وأعمالهم الخالدة ، التي يعتز بها كل محبّ لأرضه ووطنه وأهله وتاريخه .
ولو لم تكن تلك الحكايات تحتوي على مقومات البقاء لما استطاعت الصمود أمام تحديات العصور ، ووقفت بكل شموخ لتؤدي دورها الاجتماعي والفكري الذي من أجله أنشئت .
والحكاية الشعبية موروث تراثيّ عريق يرثه الخلفُ عن السَّلَف ، وما من جيل إلا ويستمد الكثير من حكاياته من الجيل الذي سبقه ، فيستمر التواصل بين الأجيال ، ليربط بين الماضي والحاضر ، فتمتد جذور التراث عميقة في أعماق التاريخ لتصل عقول الأبناء بتراث الآباء والأجداد فيستمر النسل الفكري والمصاهرة العقلية ، بما يحمل ذلك من نقلٍ للصفات والعادات المتوارثة ، ومن معالم للحياة الفاضلة من كرم ووفاء وإيثار وشجاعة وتضحية .
تنتقل الحكايات عبر تاريخها الطويل من بلدٍ إلى بلد ومن قطر إلى آخر ، فتكتسب من كلّ مكان مزايا جديدة ، وإضافات مختلفة تطبعها بطابع ذلك المكان ، وتصبغها بصبغته ، وتضاف إليها بعض المؤثرات التي تلائم كلّ بلد ، فتصبـح وكأنها فُصِّلـت على تلك المنطقـة ، وكأنها حدثت بها دون غيرها .
فنرى القصة الواحدة بأنماط مختلفة ، وألوان وشخصيات مختلفة أيضاً ، حيث يصبغها كل قطر بصبغته الخاصة ، فتتعرض الحكاية بذلك إلى كثيرٍ من التحريف والتغيير ، إن كان في الزمان أو المكان أو الشخصيات ، غير أنها في مبناها وأهدافها وجوهرها تكون قصة واحدة قد تكون حدثت في عصور بعيدة وأيام غابرة .
ولو نظرنا إلى المجتمع البشري لرأيناه يقسم إلى ثلاث طبقات ، طبقة تعيش في البادية والصحراء ، وأخرى تعيش في القرى والريف ، وثالثة تعيش في الحواضر والمدن ، ولكل منطقة من هذه المناطق ظروفها ومناخها وبيئتها ومزاياها الخاصة بها ، ومن الطبيعي أن تؤثر كل منطقة على سكانها ، ونرى ذلك التأثير بارزاً في حكاياتهم وقصصهم كما سنبينه بعد قليل .
1 - حكايات أهل الصحراء :
تمتاز حكايات أهل البادية والصحراء من البدو والأعراب بطابع خاص يربطها بتلك الصحراء وظروفها ومناخها وطبيعة الحياة والمعيشة فيها .
فنجد لديهم حكايات عن الكَرَم ، وهو ما يتفاخر به أهل الصحراء ، والفروسية ، والغزو ، والصيد ، والصبر ، والأناة ، والرعي مع المواشي ، أو موارد الماء ، وكلّ هذه الأشياء من صميم حياة البادية وأهلها .
أما القسم الأكبر من حكاياتهم الشعبية فيدور حول الجنّ والعفاريت والغول والأشياء الغريبة التي يرويها أهل الصحراء نظراً لوجود مناطق خالية وغير مأهولة يشعر المارُّ منها بالوحشة والخوف في بعض الأحيان ، فإذا ما مرّ شخص من هذه المناطق الخالية يصاب بالفزع الشديد ويعود ليشرح عما لاقى من خوف وهلع في تلك الأماكن المشبوهة .
فيقصّون قصصاً أقرب إلى الخيال عن حكايات مفزعة حدثت مع بعضهم ، أو سمعوا بها ، أو تعرّض بعضهم لها في يوم من الأيام .
وليست المناطق الخالية مكمناً للجنّ وحسب فهناك خوف من قطاع الطرق الذين يكمنون عادة على المفترقات ، وبين الأودية والجبال . فيظل السائر لوحده يعيش في دوامة من الخوف من المجهول حتى يبتعد عن تلك الأماكن الموحشة أو يجد رفيقاً يؤنسه في طريقه .
وهناك أماكن خاصة تدور حولها حكايات مختلفة ومتعددة ، كشجرة منفردة في الصحراء ، أو مفترق طرق في واد عميق ، أو طريق خالية لا يسكن بجوارها أحد وغير ذلك كثير .
2- حكايات أهل القرى :
أما حكايات أهل القرى فتدور أحداثها حول الفقر ومشكلاته المختلفة والتطلُّع إلى الغنى عن طريق عفريت من الجن ، أو العثور على كنز مرصود مليء بالجواهر الثمينة ، أو العثور على آثار قديمة نادرة وغالية الثمن في مغارة أو في قبرٍ دارس قديم ، أو في بئر مهجورة أو غير ذلك .
ومن الطبيعي أن حكايات أهل القرى لا تخلو من قصص البطولة والوفاء والكرم والذود عن الحِمَى ، وإكرام الضيف وغيره ، إضافة إلى قصص السحر والشعوذة التي تسود بين النساء في كلّ مجتمع إن كان قروياً أو مدنياً أو صحراوياً ، فالمرأة هي المرأة ولا فرق بين هذه وتلك من ناحية المعتقد والتفكير إلا في ما ندر .
ومن هنا نرى أن حكايات أهل القرى تتسم بطابع القرية وظروفها الخاصة فنراهم يتحدثون عن الطابون والفرن ، وفلاحة الأرض ، وزراعة الكروم ، والحراثة على البغال وغير ذلك ، ونرى في بعض القصص الثعلب وقد دخل الطابون وسرق الحليب الذي تسخنه العجوز ، والطابون يكثر في القرى دون غيرها من المناطق ، وهكذا فإن القرية ببيئتها الخاصة وجوّها المميز تطبع تلك الحكايات بما يميزها عن غيرها ، ويلائمها لتكون خاصة بأهل القرى دون غيرهم .
3- حكايات أهل الحواضر والمدن :
أما حكايات أهل الحواضر والمدن فتدور أحداثها حول التجّار ومغامراتهم ومغامرات أبنائهم ، وما يحدث معهم من قصص الغش والمكر والخداع وغير ذلك ، وذلك يعود إلى جوّ المدينة الذي تكثر فيه التجارة والحركة اليومية النشطة ، بالإضافة إلى قصص الجواري والخدامين ، ومحاولة الوصـول إلى التجّار الكبار أو الـوزراء أو الملـوك ، وحكاياتهم مختلفة ومتنوعة حول هذا الموضوع ، وقصص الغرام التي تحدث بين أبناء الطبقات الغنية والفقيرة ، وما يصاحب ذلك من مشاكل تفرضها الفروق الاجتماعية .
ويفقد دور المرأة جماله ويبدو أكثر شحوباً في كثير من قصص أهل المدن بسبب كثرة الجواري والوجوه النسائية المختلفة ، وما يُعهد إلى المرأة من أدوار تشوّه وجه الجمـال الذي فيها فتبـدو أكثر بذخـاً وترفاً ، متبرجة متصنعة وقد خمدت فيها روح البساطة والوداعة، ولا نجد قيساً يهيم على وجهه ويناجي ليلاه في الليالي المظلمـة، وهذا لا ينفي وجود حكايات كتلك التي تحدث في القرى حيث لا يخلو مجتمع من قصص البطولة والشجاعة والكرم ، وإن كانت تكثر في مجتمع وتقلّ في آخر .
والحكاية نوعان :
نوع خفيف يكثر فيه الخيال ، وتتكلم فيه الحيوانات من أفاع وحيات وثعالب وغيرها ، وتكثر فيه الغولة وأفعالها العجيبة ، وهذا النوع هو ما تقصه النساء على أطفالهن ، ويغلب عليه طابع الخيال والأسطورة وهو أشبه ما يكون بالرسومات المتحركة .
والنوع الآخر ؛ عبارة عن حكايات وقصص هادفة تستخلص منها العبر ، وإن كان فيها بعض اللهو مما يستعمله الرجال في مجالس سمرهم وأماكن اجتماعاتهم .
وأحياناً يقصد منها إظهار حجة دامغة بقصد إثبات قضية على شخص معين في حال اللجوء إلى حل المشاكل العشائرية المختلفة . والتي تثبت للطرف الآخر حدوث مثل هذه القضية وحلها بالشكل الذي ترويه الحكاية .
متى تحكى هذه الحكايات والقصص ؟
بعد أن يدخل الأطفال إلى منامهم تجلس إليهم الأم أو الأخت الكبرى أو الجدة وتحدثهم عن حكايات مختلفة تجعل عقولهم الغضة الصغيرة تحلق في عالم الخيال وتتصور أحداث تلك القصص في شبه شريط أشبه ما يكون بأفلام الرسومات المتحركة .
وتصبح هذه الحكايات شيئاً روتينياً يعتاد الأطفال على سماعها في كل ليلة ، حيث تتنوع من وقتٍ لآخر ، وقد تتذكر الأم أو الجدة حكايات أخرى تكون قد سمعتها من قبل فتقصها على أطفالها فيتلقونها متلهفين ، ويكون لوقعها تأثير كبير على عقولهم الغضة الطريّة .
الأهداف التربوية :
ولو نظرنا إلى الهدف التربوي الذي يُستخلص من هذه الحكايات لوجدنا أنه يتلخّص في عدة أمور ، منها :
1- إن هذه الحكايات تساعد على توسيع أفق الطفل ، وإطلاق العنان لخياله وأفكاره لتحلّق في أجواء خيالية مليئة بالجمال والرؤى الجميلة ، فتسرح أفكاره ليتابع أحداث القصة مما يطور لديه قدرة التفكير والتخيّل .
2- إعطاء الطفل فرصة للاستماع والاستيعاب والمشاركة في نقاش جماعي بينه وبين إخوانه حول أحداث القصة وموضوعاتها . الأمر الذي يعطيه الفرصة للخوض في نقاشات حول مواضيع مختلفة يمكن أن يشارك بها ويساهم في نقاشها .
3- إعطاء الطفل فرصة لسرد وقصّ ما سمع وفهم من الحكايات ، عندما يحين دوره ليقصّ حكاية فهمها واستوعبها الأمر الذي يساعده على الحفظ والاستظهار في مرات قادمة .
4- تساعد الطفل على الخروج من دائرة الخجل عند سرده لقصة أو حكاية وتمكنه من التعوّد على شرح ما يسمعه أو ما يريد قوله للآخرين دون أن يتلعثم أو يخشى من أحد .
وقد تستخدم بعض الحكايات الشعبية بشكل خاطيء من قبل بعض الأمهات وتجعل منها وسيلة تخيف بها الطفل أو تفزعه ، وهناك عدة نقاط يجدر الوقوف عندها وتأملها بكل جديّة لاستخلاص العبر منها وتحاشي ما فيها من ضرر قد يعود بالأذى على الطفل بشكل مباشر أو غير مباشر .
1- تستخدم الحكايات أحياناً لإخافة الطفل وإفزاعه ، وإرغامه على النوم المبكر دون إرادته فتروي لهم قصصاً مفزعة عن الغولة وكيف تأكل بني البشر وتتربص بهم ، أو تروي لهم حكايات مفزعة عن الجن والعفاريت وتقول لهم بعد أن تسرد لهم الحكاية :" غطوا رؤوسكم أحسن تأتيكم الغولة " . ويغطي الأطفال رؤوسهم بما لديهم من غطاء إن كان لحافاً أو حِرَاماً أو غيره مما يسبب لهم ضيقاً في التنفس بسبب قلة الأكسجين . فلتعي الأمهات إلى هذه الناحية وتعرف مضارها وتتحاشاها .
2- الإكثار من الحكايات المفزعة كحكايات الجن والعفاريت والغول الذي يأكل بني البشر ويتربص بهم وغيرها من حكايات ، تزرع في نفس الطفل نوعاً من الإحباط ، والخوف الداخلي ، والقلق وعدم الثقة في النفس ، فلا يستطيع الخروج في الليل لوحده حتى لو طُلب منه أن يجلب شيئاً من خارج البيت ، الأمر الذي يثبط عزيمته ويضعف شخصيته ، ويسبب له مشاكل مستقبلية هو في غنى عنها .
وهكذا نرى أن للحكاية الشعبية دور هام في الحياة الفكرية والاجتماعية ، وهي موروث شعبيّ عريق لا يمكن التنكر له أو الاستغناء عنه ، وعلينا المحافظة عليه وتوثيقه بالشكل الصحيح حتى يصل إلى أبنائنا وأجيالنا القادمة ويكون درساً وموعظة وهدى لمن يريد أن ينهل من هذا النبع التراثي الصافي .
والله نسأل أن يسدد خطانا ويهدينا سواء السبيل
السعادة المفقودة
يحكى أن رجلاً غنيّاً كان على قدرٍ كبير من الثراء ، وكان في أكثر أوقاته مشغولاً في إدارة أعماله وشؤونه المالية ، ولا يجد الوقت الكافي للجلوس مع زوجته وعائلته جلسات فيها شيء من الراحة وهدوء البال .
وكان له جار فقير الحال لا يكاد يجد قوت يومه ، ولكنه كان سعيداً في حياته ، وفي كلّ يوم كان يجلس الساعات الطوال مع زوجته وأفراد عائلته .
وكانت زوجة الرجل الغنيّ ترى هذه العائلة الفقيرة وتحسدهم على تلك السعادة التي تفتقدها ، وهي الثريّة الغنية ، ويتمتع بها هؤلاء الفقراء الذين لا يملكون شيئاً.
وتحدثت ذات يوم مع زوجها وقالت له : يا رجل ماذا تنفعنا هذه الأموال الكثيرة ونحن لا نجد طعماً للسعادة ، ولا يكاد الواحد منا يرى الآخر ، بينما هذه العائلة الفقيرة التي تعيش بجوارنا لا يهمها من أمور الدنيا شيء ، وهم في غاية السعادة والهناء .
وفكّر الرجل الغنيّ هنيهةً ثم وعد زوجته أن يتفرّغ لهم ، وأن يخصّص بعضاً من وقته ليقضيه معهم في جلسات هادئة هانئة .
وفي اليوم التالي أرسل الرجل الغنيّ من يدعو إليه جاره الفقير ، واستغرب الرجل الفقير تلك الدعوة ، فليس من عادة ذلك الرجل أن يدعوه ، أو حتّى يشعر به ، فذهب إليه وعندما وصل استقبله الرجل الغنيّ بلطفٍ وأكرمه وتحدّث معه بهدوء وقال له : أراك يا أخي تجلس كلّ يومك في البيت ، ألا تجد عملاً تعمل به .
فقال الرجلُ الفقير : والله يا أخي ليس عندي ما أعمل به ، فأقضي لذلك كل وقتي في البيت .
فقال له الغني : ما رأيك لو أعطيتك بعض المال كرأسمالٍ تشتري به بيضاً وتبيعه كلّ يوم وتربح منه ، وبذلك تعمل وتطعم عيالك ، ولا ترجع لي مالي إلا بعد أن تتحسن أحوالك ، ويصبح لديك رأسمال كافٍ تعمل به .
وافق الرجل الفقير ووجدها فرصة سانحة ليعمل ويرتزق ويطعم عياله بكرامة ، وأخذ المال من الرجل الغني ، وعاد أدراجه .
وفي الصباح ذهب إلى السوق واشترى بيضاً وأخذ يبيع ويشتري ، وكان في ساعات الفراغ بدل أن يجلس مع أفراد عائلته ، يأخذ في تصنيف تلك البيوض فيضع الكبيرة في جهة ، ويضـع الصغيرة في جهة أخـرى ، حتى يبيع كلّ صنفٍ منها بسعر .
وبعد عدة أيام نظر الرجل الغنيّ من شرفة منزله إلى جاره الفقير فوجده مشغولاً في عدّ بيوضه وتصنيفها ، فابتسم ابتسامة عريضة ملؤها الخبث والدهاء . وقال لزوجته : أهذا هو الرجل الذي تقولين إنه يقضي كلّ أوقاته مع زوجتـه وأولاده ، انظري إليه ماذا يفعل الآن .
ونظرت المرأة فرأت ذلك الرجل مشغولاً على تلك الحالة ، فتعجبت لتغيّر أحواله ، ولكنها لم تعرف السبب الذي سلب منه تلك السعادة التي كانت تحسده عليها . بينما كان زوجها يشيح بوجهه ويحدِّق في الفراغ ليخفي ابتسامة خبيثة كانت ترتسم على شفتيه .
[align=center]  [/align]
-
الأمانــة
يُحْكَى أنّه كان في إحدى القبائل رجل يُعرفُ بالفهمِ والإدراكِ والرأي السديد ، وكانَ هو زعيم القبيلة وشَيْخها (1) ، وعندما كبر وتقدّم به العمر ، أصابه الوهنُ والضَّعف ، وكثرتْ أمراضُه ، واشتدّ به الداءُ ذات يوم ، وشعر بأنَّ أيامه باتت قليلة ، فدعا إليه ابنه وأخاه وأفراد عائلته ، وكان ابنُه حدثاً صغيراً لم يبلغ بعد مبلغ الرجال ، فأوصى الرجلُ أخاه قائلاً : تسلّم الآن يا أخي أمور القبيلة ، وعندما يبلغ ابني هذا سنّ الرجولة ، أعد إليه مقاليد حكم القبيلة ، وكن عوناً له وسنداً حتى يشتدّ عوده وتستقرَّ له الأمور .
ومرّت الأيام وتوفِّي ذلك الرجل وتسلّم أخوه مقاليد الحكم مكانه ، وأصبح شيخاً على قبيلته ، ومرت أعوامٌ وأعوام كبر خلالها ذلك الفتى وأصبح رجلاً بالغاً عاقلاً , وانتظر من عمّه أن يعيد إليـه الأمانة , وهي حكم القبيلة كما أوصى والده بها قبل وفاته , ولكن عمّه لم يفعل شيئاً من ذلك ، وكأنه نسي الأمر تماماً .
فقال الشابّ في نفسه : والله لأسألنّه عنها ، فماذا ينتظر مني ، ومتى سيعيدهـا إليّ ، ألم أصبح رجلاً في نظره حتى الآن ؟
وجاء ذات يوم لعمّه وقال له : ألا تَذْكُر يا عمّ بأن أبي ترك لي أمانة عندك ؟
فقال العمّ : بلى أذكر .
فقال الشابّ : وماذا يمنعك إذن من إعادتها إليّ ؟
ابتسم العمّ وقال لابن أخيه بهدوء : لا أعيدها لك ، إلا إذا أجبتني عن أسئلـةٍ ثلاثة .
فقال الشابّ : سلْ ما تشاء يا عمّ .
فقال العمّ : إذا جاءك رجلان يختصمان إليك ، وأنت شيخ للقبيلة ، وطلبا منك أن تحكم بينهما ، وكان أحدهما رجلاً جواداً طيّباً ، والرجل الآخر حقيرٌ وسفيـه , فكيف تحكم بينهما ؟
فقال الشابّ : آخذ من حقّ الرجل الطيّب ، وأضع على حقّ الرجل الحقير حتى يرضى ، وبذلك أحكم بينهما .
فقال العمّ : وإذا جاءك حقيران يختصمان إليك ، فكيف تحكم بينهما ؟
فقال الشابّ : أدفع لهما من جَيْبِي حتى يرضى الطرفان ، وبذلك أنهي ما بينهما من خصومة وأُزيل ما بينهما من خلاف .
فقال العمّ : وإذا جاءك رجلان طيبان يختصمان إليك ، فكيف تحكم بينهما ؟
فقال الشابّ : مثل هؤلاء لا يأتيان إليّ ، لأنه لو حدثت بينهما بعض المشاكل فإنهما يتوصَّلان إلى حَلٍّ لها ، دون اللجوء إلى طرفٍ ثالث ليتدخل في أمورهما .
فقال العمّ : الآن ثبتَ لديّ بأنك تستحق تلك الأمانة عن جدارة ، لما لمسته فيك من الحكمة والفطنة والعقل ، وأنت من الآن ستصبح شيخاً للقبيلة ، وفقّك الله يا ابني لما فيه الخير ، وجعلك خادماً أميناً لأهلك وقبيلتك .
وأعاد العم زمام الأمور لابن أخيه الذي أصبح شيخاً على قبيلته خلفاً لأبيه بعد أن أثبت بأنه بحلمه وحكمته وزينة عقله يستطيع أن يوفّق بين جميع الأطراف ، ويُرضي بعدلِه القاصي والداني منهم .
صــادق
يُحكى أنَّ فتىً يتيماً كان يُقيم عند عمِّهِ وتحت رعايته ، وكان يُدعى "صادق" ، وكان صادق لا يكذب ولا يعرف معنى الكذب ، وهو مجبول بالفطرة على الصِّدق من الله تعالى .
وكان لعمّه ناقة يأخذها أحياناً للمرعى ويرعى معها طيلة نهاره ، وسمع الناس بصدقه ونزاهته وعفّة نفسه ، فأراد بعضهم أن يختبره ويمتحنه ، فتوجه لعمّه وأخبره انه يشكّ فيما يسمعه من صدق ابن أخيه صادق ، واقترح عليه أن يمتحنه بشيء معيّن .
وافق العمّ على ذلك وذهب الرجل يخطّط للإيقاع بصادق وفحصه إذا كان صدقه فطريّاً بديهياً أم مفتعلاً ومصطنعاً .
وفي ساعات الصباح وبينما كان صادق يرعى مع ناقة عمّه ، رأى فتاة ترعى مع قطيعٍ لها ، ثم أخذت تقترب منه شيئاً فشيئاً حتى وصلت إليه ، وحيّته وجلست تتحدث إليه ، وأغرته الفتاة وقالت له إنها تحبّه وانها تتمنّى الزواج منه ، وستوافق إذا ما تقدّم ليخطبها من أبيها . وظلّت تتحدث معه حتى كاد النهار ينقضي فقالت له إنها لم تأكل منذ الصباح ، وألَحَّت عليه أن يذبح لها الناقة ويطعمها من لحمها وأقسمت عليه بحبها له ، فانصاع لدلالها وذبح الناقة وشوى منها وأكل هو وتلك الفتاة ، وعندما حان وقت الغروب ودّعته الفتاة وساقَت أغنامها وعادت إلى مضارب أهلها .
وكانت سكرة تلتها فَكْرة ، فجلس صادق يفكّر بعد أن صحي مما كان فيه ، وإذا الناقة قد ذُبحت ، وكيف يعود لعمّه بدونها ، وماذا يقول له عندما يسأله عنها .
فكّر صادق مليّاً وقام فغرز عصا كانت معه في الأرض وبدأ يحكي لها ويبثّ لها همومه وكأنه يستشيرها في أمره وفي الورطة التي وقع بها ، فقال : يا عصاتي لو سألني عمّي عن الناقة وقلت له إنّ الذئب قد أكلها ، فماذا سيقول لي ؟
وردّ على نفسه وهو يمثّل دور العصا : قال سيقول لي أرني ما تبقى منها لأن الذئب لن يستطيع أن يأكلها كلّها ولا يستطيع جَرّها وسحبها . وإذا ذهبت معه ولم يجدها ، فسيعرف عندها أنني كذبت عليه ، ولا يصدقني بعدها .
وتوجه إلى العصا مرّة أخرى وسألها قائلاً : وإذا قلت لعمّي بأنّ اللصوص قد سرقوها ، فماذا سيقول لي ؟
قال : سيقول لك تعال نتبعهم ونقصّ أثرهم وأثر الناقة حتى نصل إليهم ، وعندها لن يجد الأثر وسيعرف أنني كذبت عليه .
قال : وإذا قلت له لدغتها أفعى وقتلتها فماذا سيقول ؟
قال : سيقول تعال لنرى جثّتها ونرى أثر الحية التي لدغتها ، وإذا جاء ووجدها مذبوحة ومسلوخة وأثر النار والشواء بقربها فسيعرف عندها أنني كذبت عليه .
وأسئلة أخرى كثيرة كانت تدور في مخيلة صادق ولكنها جميعاً لم تقنعه ولم يجد جواباً شافياً لها .
وأخيراً قال : يا عصاتي لم يبقَ أمامي إلا أن أخبر عمّي بالحقيقة وليحدث ما يحدث .
وعاد صادق كاسف البال يحمل في يده تلك العصا التي كان يسوق بها الناقة وجلس حزيناً ، فسأله عمّه لماذا عاد ولم تعد الناقة معه ، فأخبره بكلّ الحقيقة ولم يترك شيئاً إلا وأخبر عمّه به ، ثم سار معه وأراه المكان الذي ذبح فيه الناقة وما تبقّى منها .
عرف العمّ أن صادقاً لا يكذب ، فرَبَتَ على كتفه وهوَّنَ عليه وخفّف عنه ، وقال له : لا تيأس يا ابني ، سأشتري ناقة أخرى مكانها .
وعاد والد الفتاة إلى عمّ صادق ليسأله عن خبر صادق ، ومـاذا قـال لعمّه ، فأخبره أنه قصَّ عليه الحكاية كاملة ولم يكذب عليه في شيء منها .
ولم ييأس ذلك الرجل بل قال للعمّ : دعني أجرّب معه تجربة أخرى لأرى مدى صدقه ، واتفق مع العمّ على تجربة أخرى جديدة .
وفي المساء بعث العمّ صادقاً لقوم الفتاة ليخبر أباها بأن عمّه قادم لخطبة الفتاة التي ذبح لها الناقة بالأمس ، وذهب صادق فرحاً ، وعندما وصل وجد القوم قد هدموا خيامهم وحمّلوها على الإبل ، والإبل تُرغي والعبيد في هرجٍ ومرج ، فتوجّه إلى والد الفتاة ، وأخبره أن عمّه ينوي زيارتهم في هذه الليلة ، فقال له : قلْ له إننا رحلنا من هذه الديار ، وغادرنا إلى مكانٍ آخر .
وعاد صادق ليخبر عمّه بما رأى وعندما وصل سأله عمّه إن كان قد أخبر والد الفتاة عن خبر زيارته المرتقبة .
فقال : نعم أخبرته .
فقال : وماذا قال لك ؟
فقال له : إنه يقول لك إنهم يريدون الرحيل .
فقال له : وهل رحلوا ؟
قال : رأيتهم قد هدموا بيوتهم ، وحمّلوها على جمالهم ، ولكن لا أدري إذا كانوا قد ارتحلوا أم لا .
فقال له : سنذهب إليهم في المساء على كلّ حال ونرى إن كانوا قد ارتحلوا أم لا ، وذهبوا في المساء إليهم وعندما وصلوا وجـدوا القـوم وقد بُنيت خيامهـم ، وإبلهم في أماكنها وليس لديهم أي شيء يدلّ على الرحيل .
فعجب صادق لذلك ، ولم يعلم أنها خطة مدبرة لفحص صدقه من كذبـه .
وطلب العم يد تلك الفتاة من أبيها لابن أخيه صادق ، فوافق والد الفتاة على زواجها منه بعد أن تأكد له بأنه صادق بالفطرة ، وتزوج صادق من تلك الفتاة التي أحبها وعاش صادقاً لا يعرف الكذب في حياتـه .
كثرة اللقم تطرد النقم
يحكى أن امرأةً رأت في الرؤيا أثناء نومها أنَّ رجلاً من أقاربها قد لدغته أفعى سامة فقتلته ومات على الفور ، وقد أفزعتها هذه الرؤيا وأخافتها جداً ، وفي صبيحة اليوم التالي توجهت إلى بيت ذلك الرجل وقصّت عليه رؤياها وعَبَّرَت له عن مخاوفها ، وطلبت منه أن ينتبه لما يدور حوله ، ويأخذ لنفسه الحيطة والحذر .
فنذر الرجلُ على نفسه أن يذبح كبشين كبيرين من الضأن نذراً لوجه الله تعالى عسى أن ينقذه ويكتب له السلامة من هذه الرؤيا المفزعة.
وهكذا فعل ، ففي مساء ذلك اليوم ذبح رأسين كبيرين من الضأن ، ودعا أقاربه والناس المجاورين له ، وقدم لهم عشاءً دسماً ، ووزَّعَ باقي اللحم حتى لم يبقَ منه إلا ساقاً واحدة .
وكان صاحب البيت لم يذق طعم الأكل ولا اللحم ، بسبب القلق الذي يساوره ويملأ نفسه ، والهموم التي تنغّص عليه عيشه وتقضّ مضجعه ، فهو وإن كان يبتسم ويبشّ في وجوه الحاضرين ، إلا أنه كان يعيش في دوامة من القلق والخوف من المجهول .
لَفَّ الرجلُ الساقَ في رغيفٍ من الخبز ورفعها نحو فمه ليأكل منها ، ولكنه تذكّر عجوزاً من جيرانه لا تستطيع القدوم بسبب ضعفها وهرمها ، فلام نفسه قائلاً : لقد نسيت تلك العجوز وستكون الساق من نصيبها ، فذهب إليها بنفسه وقدّم لها تلك الساق واعتذر لها لأنه لم يبقَ عنده شيء من اللحم غير هذه القطعة .
سُرَّت المرأةُ العجوز بذلك وأكلت اللحم ورمت عظمة الساق ، وفي ساعات الليل جاءت حيّة تدبّ على رائحة اللحم والزَّفَر(1) ، وأخذت تُقَضْقِضُ(2) ما تبقى من الدهنيات وبقايا اللحم عن تلك العظمة ، فدخل شَنْكَل(3) عظم الساق في حلقها ولم تستطع الحيّة التخلّص منه ، فأخذت ترفع رأسها وتخبط العظمة على الأرض وتجرّ نفسها إلى الوراء وتزحف محاولة تخليص نفسها ، ولكنها عبثاً حاولت ذلـك ، فلم تُجْدِ محاولاتها شيئاً ولم تستطع تخليص نفسها .
وفي ساعات الصباح الباكر سمع أبناء الرجل المذكور حركة وخَبْطاً وراء بيتهم فأخبروا أباهم بذلك ، وعندما خرج ليستجلي حقيقة الأمر وجد الحيّة على تلك الحال وقد التصقت عظمة الساق في فكِّها وأوصلها زحفها إلى بيته ، فقتلها وحمد الله على خلاصه ونجاته منها ، وأخبر أهله بالحادثة فتحدث الناس بالقصة زمناً ، وانتشر خبرها في كلّ مكان ، وهم يرددون المثل القائل :" كثرة اللُّقَم تطرد النِّقَم .
إشتغل في صنعة أبيك
يُحكى أنه كان هناك شابّ زاهد متعبّد يرتدي ثياب الزاهدين ، من ثوبٍ أبيض وعمامة خضراء وغيرها ، وكان هذا الشاب هو الذي يعيل أمه وإخوانه بعد وفاة والده ، وفي ذات يوم ضاقت في وجهه سبل العيش ولم يجد عملاً ، أو أي شيء يرتزق منه ، وكان يتمشّى في أحد الأيام في سوق البلدة والحزن يخيّم عليه وعلامات اليأس والقنوط ترتسم على وجهه ، فرآه شخصٌ من معارفه ، وسأله ما الذي بك يا فلان ؟ أراك على غير وضعك الطبيعي ، فأخبره عن حاله وعن الوضع الماديّ الصعب الذي يعيشه . فقال له : إعمل يا أخي في صنعة أبيك وتوكّل على الله . ولما كان الشابّ لا يعرف ما هي صنعة أبيه لأن والده مات وهم صغار توجّه إلى أمه وسألها قائلاً : ماذا كان أبي يعمل يا أمي ، وما هي صنعته ؟ فتغيّر وجه الأمّ وأصابها شيء من الوجوم وقالت بشيءٍ من عدم المبـالاة : كان أبوك يعمل في التجارة يشتري ويبيع ويربح ويرتزق من ذلك ، غير أن الشابّ لم يقتنع بهذا الكلام فقال لأمه : والله إن لم تخبريني عن صنعة أبي لأتركنّ هذا البيت ولن أعود إليه مرة أخرى . ولما رأت الأمّ الإصرار في نبرات ابنها وفي نظرات عينيه ، وأيقنت أنه يعني ما يقول تنهدت وهي تقول : وماذا كان يصنع أبوك يا ابني ؟! كان لصاً يحمل عَتَلَةً(1) ونَبُّوتَاً(2) وهذه هي أدوات صنعته ، فيفتح أبواب الناس خلسـة في الليل بالعتلة ، ويضرب بالنبوت من يجيء في وجهه من الناس ، لقد قضى أبوك أكثر أيام حياته هائماً على وجهه في الجبال مطارداً من الناس ومن الحكومة ، وقضى بقيّة أيامه في السجون ، وكنت لا أراه في السنة إلا لأيام قليلة ، وصدّقني إني كنت أتمنى له الموت حتى يريحني ويريح نفسـه . وسكتت الأم بعد أن أفرغت ما لديها من كلامٍ طالما كتمته ولم تُصرّح به ، ولكن دمعات خفيفة كانت تتدحرج من مقلتيها .
أما الشابّ فذهب إلى السوق وإشترى عتلة ونبوتاً ، وقرّر أن يشتغل في صنعة أبيـه ، وبعد منتصف الليل سار لوحده يحمل أدواته المذكورة حتى وصل إلى قرية مجاورة ، وكان الظلام حالكاً والليلة غير مُقمرة مما يُسهِّل مثل هذه الأعمال ، وتوجّه إلى أول بيتٍ صادفه في طرف البلدة ، وبالعتلة الحديدية فتح الباب الخشبي بخفة ورشاقة دون أن يُحدث صوتاً أو ضجّة ، ونظر داخل الغرفة وإذا برجل وامرأة ينامان على سريرهما ، فأغلق الباب وقال : أعوذ بالله من أعمال الشيطان ، وأخذ يلوم نفسه ويقول : من أعطاني الحقّ في فتح بيوت الناس وكشف أسرارهم وعوراتهم ، ثم ترك البيت وذهب للبيت المجاور ، وبخفة ورشاقة فعل به كما فعل بالبيت الأول ، وإذا بفتاة وحيدة تنام على سريرها ، فتعوّذ بالله من الشيطان مرة أخرى وأغلق الباب ، وقال لنفسه : إنّ هذه الأعمال التي أقوم به هي أعمال لا يرضاها الله ، فترك هذا البيت وسار إلى البيت الذي يجاوره ، وفتح بابه بعتلته كما فتح سابِقَيه ونظر داخله وإذا به يرى بضعة جِرَار ، فقال الآن أصبح الوضع أحسن مما كان عليه في الأوّل ، ثم دخل وفتح جرّةً من هذه الجرار وإذا بها مليئة بالقطع الذهبية والنقديّة ، وفتح بقية الجرار ، ونظر داخلها وإذا بها مثـل الجرّة الأولى ، فقال لنفسه : إن هذا المال له أصحاب ادَّخروه ووفّروه وتعبوا من أجله ، فمن أعطاني الحقّ في سرقته ، والله لن أسرقه ولكنني سآخذ منه الزكاة ، سأقسمه وآخذ منه العُشْر ، فأشعل سراجاً كان هناك وأفرغ واحدة من هذه الجرار ، وبدأ يعدّ ويخرج تسعة قطع ويضعها في ناحية ، ويضع قطعة واحدة في ناحية أخرى ، وهكذا وهو على هذه الحالة يعدّ تسعة هنا وواحدة هناك أذَّنَ مؤذّن البلدة لصلاة الفجر ، فترك العدّ وفَرَشَ عباءته وأخذ يصلّي الفجر ، ومرّ الناس إلى المسجد فرأوا البيت مفتوحاً والسراج مضيئاً فتنافروا وأتوا بهراواتهم وعصيهم ، وتحلّقوا حول الرجل ، ولكن عندما رأوه يصلّي تركوه حتى يكمل صلاته ، وبعد أن فرغ من الصلاة أحاطوا به وقالوا له : ما الذي تعمله هنا ؟ وكيف تفتح بيوت الناس وتأخذ أموالهم ؟ وما الذي تعمله في هذا المال حتى جعلته كومين : فقال لهم : أتركوني وسأخبركم بالحقيقة ، ثم سرد عليهم قصته بكاملها ، فقال أحدهم وكان أكثر الناس لغطاً : أما البيت الأوّل الذي فتحته ورأيت به الرجل والمرأة وسترتهم وأغلقت عليهم الباب ، فهذا بيتي والرجل الذي رأيته هو أنا والمرأة زوجتي ، أما البيت الثاني الذي فتحته ورأيت به الفتاة وسترتها وأغلقت عليها الباب فهذا بيتي أيضاً والفتاة هي ابنتي الوحيدة ، أما البيت الثالث الذي به المال وهو هذا البيت ، والذي لم ترضَ أن تسرق منه المال بل اكتفيت منه بالزكاة فهو بيتي أيضاً وهـذا مالي ، ولأنك شابّ مؤمن وتقيّ فقد زوجتك ابنتي الوحيدة التي رأيتها وقاسمتك في مالي هذا الذي بين يديك ، وأعطيتك بيتاً من هذه البيوت تعيش فيه مع زوجتك ، فخرَّ الشابُّ راكعاً لله يشكره ويحمد فضله ، على أن هداه وأبعد عنه إغواء الشيطان ، ثم ذهب إلى بلده وأتى بأمه وإخوانه ليعيشوا معه في هذا العزّ الذي لم يكن يحلم بـه .
وهكذا نرى مدى تأثير الإيمان على النفوس ، وعلى الأخلاق السامية النبيلة ، وكيف تقود الإنسان إلى عمل الخير ونبذ الشر والفساد .
فراسة فتاة
يُحكى أن شيخاً طاعناً في السنّ راودته فكرة الزواج بعد وفاة زوجته ، فطلب من أبنائه أن يبحثوا له عن فتاة علَّهم يجدوا مَنْ توافق على الزواج منه ، واستغرب الأبناء هذا الطلب الذي جاء في غير أوانه ، خاصة وأن أباهم رجل شيخ وفي مثل هذه العمر المتقدمة . غير أن إصرار أبيهم ، وعدم رغبتهم في إغضابه جعلهم ينزلون عند رغبته ، ويحاولون تلبية طلبه .
وبعد فترة قصيرة من البحث وجدوا فتاة في مقتبل العمر توافق على الزواج من أبيهم الشيخ فخطبوها إليه ، وبعد أن تهيأت خلال عدة أيام زفُّوها إليه ، ودخل الشيخ على عروسه الشابّة وقضى ليلته عندها ، ولكنه في صبيحة اليوم التالي لم يخرج ، وعندما استبطأه أبناؤه ذهبوا إلى خيمته الصغيرة التي تزوّج فيها فوجدوه على فراشه وقد فارق الحياة .
أُسْقِطَ في يد الأبناء لوفاة والدهم ، فجهزوه ودفنوه ، وعادت العروس بعد ذلك إلى بيت أهلها بعد هذا الزواج القصير .
وجاءها من يخطبها من أقاربها فزوّجوها إليه قبل انقضاء العدّة الشرعية ، وبعد فترة الحمل أنجبت لزوجها الجديد ابناً ذكراً ، ثم أنجبت له بعد ذلك أولاداً آخرين .
وكان الابن الأكبر يساعد أباه في أعماله ويعينه في شؤونه ، غير أن الأب كان لا يمنحه أي شعور بالمحبة ، ولا يجعله يشعر بأي شيءٍ من حنان الأبوة ، بعكس إخوانه الآخرين ، الذين كان يعاملهم بكلّ رفق ، ولا يضنّ عليهم بشيء ، بل إن الأب كان يضرب ذلك الابن دائماً ، ويعامله بكل فظاظة وقسوة ، ولا يجد له رحمة في قلبه .
وكبر الولد مع إخوانه وعاش ظروفاً قاسية ، وكان دائماً عوناً لأبيه في أعماله ، برغم كلّ هذه المعاملة القاسية التي يعامله والده بها ، وفي أحد الأيام ذهب الوالد ليعمل في حراثة الأرض على جملِهِ ومعه ابنه هذا ، ولأسباب تافهة ثارت أعصاب الأب وقام بضرب ابنه ضرباً مبرحاً آلمه كثيراً مما جعله يهرب من بين يديه ويهيم على وجهه ، وظلَّ الصبيّ يعدو حتى وصل إلى خيمة يقيم بها عدة أخوة وحولهم أغنامهم ومواشيهم ، فاستجار بهم من ظلم أبيه وقال لهم : أنقذوني من أبي فقد ضربني حتى كاد يقتلني ، فَهَدَّأَ أصحاب البيت من روعه وأعطوه ماءً ليشرب ويهدأ قليلاً ، وبعد أن استراح بعض الشيء حدثهم عن معاملة أبيه القاسية له بعكس إخوانه الذين يعاملهم معاملة طيبة رقيقة ، أما هو فمحروم من كل شيء ، وهو يشغله معه في الحراثة ورعي الأغنام ونَشْل الماء لها من البئر ، وغير ذلك من الأعمال الشاقة التي لا يطلبها من أبنائه الآخرين ، وشعر صاحب البيت بميلٍ شديد نحو الصبي فسأله: ومن هو أبوك ؟ فقال : أنا ابن فلان ، وسأله أيضاً : ومن هي أمك ؟ فقال : أمي فلانة بنت فلان . فقال صاحب البيـت : أنت لسـت ابناً لهذا الرجـل ، بل أنت أخي أنا ، فقال له الصبي : وكيف أصبحت أخاً لك وأنا لم أشاهدك في حياتي قبل هذه المرة ، فقال الرجل : لا تستعجل فسأخبرك بذلك في حينه ، وبعد ساعة من الزمن جاء أبو الصبي يريد أخذ ابنه من عندهم لأنه كان يتبعه وهو يهرب منه ، ولكن الأخ الأكبر قال له : هذا ليس ابنك أيها الرجل ، بل هو أخي . فقال الرجل : كيف أصبح أخوك خلال هذه الساعة ، إنه ابني ولكن يبدو أنه جرى لعقـلك شـيء ، أو تكـون قد جننت حقاً ؟!.
فقال الأخ الأكبر : لن أتركه لك إلا بعد أن نتقاضى ونحتكم عند أحد الشيـوخ ، فإن كان ابنك فخذه ، وإن كان أخي سآخذه أنا ، وقال له سنلتقي غداً في بيت الشيخ فلان ، فهل ترضى به حَكَمَاً بيننا ، فقال الرجل : ونعم الشيخ هو ، واتفقا أن يجتمعا عنده في اليوم التالي ليفصل بينهما في هذه القضية المعقدة ، وفي اليوم التالي ذهب الأخوة ومعهم الولد إلى بيت الشيخ المذكور ، ثم جاء غريمهم أبو الولد ، وكان بيت الشيخ بعيداً فما وصلوه إلا في ساعات العصر ، فرحب بهم الشيخ واستقبلهم استقبالاً حسناً ، وبعد أن استراحوا ، شرح كل واحد منهم حجته لذلك الشيخ ، فقال لهم : لن أحكم بينكم قبل أن أقدّم لكم واجب الضيافة ولكنني أريد من هذا الصبي أن يساعدني في بعض الأمور ، ودعا الشيخ الصبي ليفهمه ما يريد منه فخرج معه إلى جانب البيت ، فقال له الشيخ : أنت ترى يا ابني إنكم ضيـوف عندي ، ولا بد من عمل القِرَى لكم ، وأغنامي بعيدة ، وأريد منك أن تذهب إليها فهي ترعى قرب الوادي الفلاني ومعها ابنتي ، فغافِل ابنتي واسرق منها خروفاً واحمله وأحضره إليّ لكي أعمله عشاءً لكم ولا تدع الفتاة تراك أو تحسّ بك .
فذهب الصبي وغافل الفتاة ثم حمل خروفاً كبيراً وسار يعدو به حتى أحضره إلى الشيخ الذي ذبحه وأعدّ منه عشاءً لهم . وفي ساعات المساء وبعد أن تناول المختصمون عشاءهم عند ذلك الشيخ عادت الفتاة ومعها أغنامها إلى البيت فجاءت إلى أبيها وعلى وجهها ملامح الحزن وقالت لأبيها وعلى مسمع من الضيوف : لقد ضاع مني اليوم خروف يا أبي .
فقال لها : وكيف ضاع منك ؟ هل أكله الذئب ؟
فقالت : لا بل سُرِق .
فقال لها : وهل رأيت الذي سرقه ؟
فقالت : لا ولكنني عرفته .
فقال لها : كيف عرفتِه ولم تبصره عيناكِ ؟
فقالت : وجدت أثر أقدامه فعرفته من أثره ، فهو صبي أمّه شابّة وأبوه شيـخ هَـرِم .
فقال لها أبوها : وكيف تثبتي لي ذلك ؟
فقالت : إن أثره صغير كأَثَرِ صبي لم يبلغ بعد .
فقال أبوها : حسناً ولكن كيف عرفت أنه ابن شيخ هرم ؟
فقالت : عرفته من أثره أيضاً ، فوجدت خطواته مرة تكون طويلة ومتباعدة ومرةً تكون قصيرة ومتقاربة ، فعرفت إنه عندما كان يأتيه العزم والقوة من ناحية أمه ، فكان يعدو فتبعد خطواته عن بعضها البعض ، وعندما تأتيه القوة من عند أبيه فكـان يتعب فتقصر خطواته ، فعرفت أن أمه شابّة وان أباه شيخ هرم.
فقال لها الشيخ : اذهبي الآن يا ابنتي وسنبحث عن الخروف فيما بعد .
ثم نظر إلى ضيوفه وقال لهم : هل سمعتم ما قالته الفتاة ؟
فقالوا : نعم سمعنا .
فقال الشيخ : وبذلك تكون قد حُلّت القضية ، فأما أنت أيها الرجل فالصبي ليس ابناً لك ، وأما أنت أيها الصبي فالحق بإخوانك وعد إلى أهلك .وبهذا أكون قد حكمت بينكم .
وبذلك تكون فراسة الفتاة البدوية حكماً فطرياً أنقذ الصبي من ظلم أبيه المزعـوم ، وأعاده إلى حضن إخوانه الذين فرحوا كثيراً بعودته إليهم .
كل نصيحة ببعير
يحكى أن أحدهم ضاقت به سبل العيش ، فسئم الحياة وقرر أن يهيم على وجهه في بلاد الله الواسعة ، فترك بيته وأهله وغادر المنطقة متجهاً نحو الشرق ، وسار طويلاً حتى وصل بعد جهدٍ كبير ومشقةٍ عظيمة إلى منطقة شرقيّ الأردن ، وقادته الخطى إلى بيت أحد الأجواد الذي رحّب به وأكرم وفادته ، وبعد انقضاء أيام الضيافة سأله عن غايته ، فأخبره بها ، فقال له المضيف : ما رأيك أن تعمل عندي على أن أعطيك ما يرضيك ، ولما كان صاحبنا بحاجة إلى مكان يأوي إليـه ، وإلى عملٍ يعمل فيه اتفق معه على ذلك .
وعمل الرجل عند مضيفه أحياناً يرعى الإبل وأحياناً أخرى يعمل في مضافته يعدّ القهوة ويقدمها للضيوف ، ودام على ذلك الحال عدة سنوات كان الشيخ يكافئه خلالها ببعض الإبل والماشية .
ومضت عدة سنوات اشتاق فيها الرجل لبيته وعائلته وتاقت نفسُه إلى بلاده وإلى رؤية أهله وأبنائه ، فأخبر صاحب البيت عن نيته في العودة إلى بلده ، فعزّ عليه فراقه لصدقه وأمانته ، وأعطاه الكثير من المواشي وبعض الإبل وودّعه وتمنى له أن يصل إلى أهله وهو بخير وسلامة .
وسار الرجل ما شاء الله له أن يسير ، وبعد أن قطع مسافة طويلة في الصحراء القاحلة رأى شيخاً جالساً على قارعة الطريق ، ليس عنده شيء سوى خيمة منصوبة بجانب الطريق ، وعندما وصل إليه حيّاه وسأله ماذا يعمل لوحده في هذا المكان الخالي وتحت حرّ الشمس وهجير الصحراء ، فقال له : أنا أعمل في التجارة .
فعجب الرجل وقال له : وما هي تجارتك يا هذا ، وأين بضاعتك ؟
فقال له الشيخ : أنا أبيع نصائح .
فقال الرجل : تبيع نصائح ، وبكم النصيحة ؟!
فقال الشيخ : كلّ نصيحة ببعير .
فأطرق الرجل مفكراً في النصيحة وفي ثمنها الباهظ الذي عمل طويلاً من أجل الحصول عليه ، ولكنه في النهاية قرر أن يشتري نصيحة مهما كلفه الأمر فقال له : هات لي نصيحة ، وسأعطيك بعيراً ؟
فقال له الشيخ :" إذا طلع سهيل(1) لا تأمَن للسيل " .
ففكر الرجل في هذه النصيحة وقال : ما لي ولسهيل في هذه الصحراء الموحشة ، وماذا تنفعني هذه النصيحة في هذا الوقت بالذات . وعندما وجد أنها لا تنفعه قال للشيخ : هات لي نصيحة أخرى وسأعطيك بعيراً آخر .
فقال له الشيخ : " أبو عيون بُرْق(2) وأسنان فُرْق(3) لا تأمن له " .
وتأمل صاحبنا هذه النصيحة أيضاً وأدارها في فكره ولم يجد بها أي فائدة ، فقال والله لأغامرنّ حتى النهاية حتى لو ضاع تعبي كلّه في دقائق معدودة ، فقال للشيخ هات النصيحة الثالثة وسأعطيك بعيراً آخر .
فقال له : " نام على النَّدَم ولا تنام على الدم " .
ولم تكن النصيحة الثالثة بأفضل من سابقتيها ، فترك الرجل ذلك الشيخ وساق ما معه من مواشٍ وسار في طريقه ، وظل يسير لعدة أيام نسي خلالها النصائح من كثرة التعب وشدّة الحر ، وفي أحد الأيام أدركه المساء فوصل إلى قوم من العربان قد نصبوا خيامهم ومضاربهم في قاع وادٍ كبير ، فتعشّى عند أحدهم وباتَ عنده ، وفي الليل وبينما كان ساهراً يتأمل النجوم طلع نجم سُهيل ، وعندما رآه الرجل تذكّر النصيحة التي قالها له الشيخ ففرّ مذعوراً ، وأيقظَ صاحب البيت وأخبره بقصة النصيحة ، وطلب منه أن يخبر قومه حتى يخرجوا من قاع ذلك الوادي ، ولكن المضيف سخر منه ومن قلّة عقله ولم يكترث له ولم يأبه لكلامه ، فقال والله لقد اشتريت النصيحة ببعير ولن أنام في قاع هذا الوادي ، فقرر أن يبيت على مكان مرتفع ، فأخذ جاعِدَهُ(1) ونام على مكان مرتفع بجانب الوادي .
وفي أواخر الليل جاء السيل يهدر كالرعد فأخذ البيوت والعربان ، ولم يُبقِ سوى بعض المواشي . وساق الرجل ما تبقى من المواشي وأضافها إلى مواشيه ، وأنعق(2) لها فتبعته وسار في طريقه عدة أيام أخر حتى وصل في أحد الأيام إلى بيت في الصحراء ، فرحب به صاحب البيت وكان رجلاً نحيفاً خفيف الحركة ، وأخذ يزيد في الترحيب به والتذبذب إليه حتى أوجس منه خيفة ، فنظر إليه وإذا به " ذو عيون بُرْق وأسنان فُرْق " فقال : آه هذا الذي أوصاني عنه الشيخ ، إن به نفس المواصفات لا ينقص منها شيء .
وفي الليل تظاهر الرجل بأنه يريد أن يبيت خارج البيت قريباً من مواشيه وأغنامـه ، وأخذ فراشه وجَرَّه في ناحية ، ولكنه وضع حجارة تحت اللحاف ، وانتحى مكاناً غير بعيد يراقب منه حركات مضيفه ، وبعد أن أيقن المضيف أن ضيفه قد نام ،خاصة بعد أن لم يرَ حراكاً له ، أخذ يقترب منه على رؤوس أصابعه حتى وصله ولما لم يسمع منه أية حركة تأكد له أنه نائم بالفعل ، فعاد وأخذ سيفه وتقدم منه ببطء ثم هوى عليه بسيفه بضربه شديدة ، ولكن الضيف كان يقف وراءه فقال له : لقد اشتريت والله النصيحة ببعير ثم ضربه بسيفه فقتلـه ، وساق ماشيته وغاب في أعماق الصحراء .
وبعد مسيرة عدة أيام وصل في ساعات الليل إلى منطقة أهله ، فوجد مضارب قومه على حالها ، فترك ماشيته خارج الحيّ ، وسار ناحية بيته ورفع الرواق(1) ودخل البيت فوجد زوجته نائمة وبجانبها شاب طويل الشعر ، فاغتاظ لذلك ووضع يده على حسامه وأراد أن يهوى به على رؤوس الأثنين ، وفجأة تذكر النصيحة الثالثة التي تقول " نام على الندم ولا تنام على الدم " ، فبردت أعصابه وهدأ قليلاً فتركهم على حالهم ، وخرج من البيت وعاد إلى أغنامه ونام عندها حتى الصباح ، وبعد شروق الشمس ساق أغنامه واقترب من البيت فعرفه الناس ورحبوا به ، واستقبله أهل بيته وقالوا : والله من زمان يا رجل ، لقد تركتنا منذ فترة طويلة ، انظر كيف كبر خلالها ابنك حتى أصبح رجلاً ، ونظر الرجل إلى ابنه وإذا به ذلك الشاب الذي كان ينام بالأمس بجانب زوجته فحمد الله على سلامتهم ، وشكر ربه أن هداه إلى عدم قتلهم وقال بينه وبين نفسه والله إن كل نصيحة أحسن من بعير ، وهكذا فإن النصيحة لا تقدّر بثمن إذا فهمناها وعملنا بها في الوقت المناسب .
[align=center]  [/align]
-
الفرس التي ولدت بقرة
يحكى أن رجلاً فقيراً كانت عنده بقرة صغيرة ، وكان له جار غنيّ وله فرس أصيلة ، وعنده أملاك وأراض وأطيان كثيرة .
وذات يوم قال الرجل الغنيّ لجاره الفقير : ما رأيك أن تأخذ فرسي في كلّ يوم ، وتأخذ معها بقرتك تلك الصغيرة ، وتخرج لترعى بهما في قطعـة مُعشبة من أرضي ، وبذلك توفر لبقرتك طعامها مقابل رعيك مع فرسي .
وافق الرجل الفقير على هذا الاقتراح ، وأصبح يأخذ بقرته وفرس جاره الغنيّ ويرعى بهما طيلة اليوم في أرض جاره المليئة بالعشب والكلأ .
ومرّت فترة من الزمن وهو على هذه الحال كبرت خلالها البقرة الصغيرة وأصبحت بقرة كبيرة ، وحملت من أحد الثيران وعندما دنا وقت ميلادها ذهب الرجل الفقير إلى جاره الغنيّ وقال له : أريد أن أُبقي بقرتي في البيت حتى تلد ولذلك لن أستطيع أن أخرج بفرسك إلى المرعى .
فقال له الرجل الغنيّ : أي بقرة تقصد ؟
قال : بقرتي التي أرعى بها مع فرسك .
قال : هذه بقرتي وهي ابنة فرسي وليست بقرتك .
ودار بينهما نقاش حاد ، خلصا في نهايته إلى التوجه إلى القضاء العشائري ، ليحكم بينهما في هذه القضية .
واتفقا أن يجتمعا عند صاحب بيت له خبرة في حلّ مثل هذه النزاعات لفضّ ما بينهما من خلاف .
وعندما جاء الموعد الذي اتفقا عليه ، سبق الرجل الغنيّ إلى صاحب البيت الذي سيحكم بينهما ، ورشاه بمبلغ من المال ، الأمر الذي أعمى بصيرته فحكم بأن البقرة ابنة للفرس وهي للرجل الغنيّ وليس للرجل الفقير أي حقّ فيها .
ولم يرض الرجل الفقير بهذا الحكم بل قال سنحتكم إلى صاحب بيت آخر ، واختارا شخصاً من الوجهاء له خبرة في حلّ مثل هذه النزاعات .
وعندما جاء موعد عرض القضية سبق الرجل الغنيّ إلى صاحب البيت ورشاه بمبلغ من المال جعله يحكم له كما حكم له الرجل السابق .
ولم يرض الرجل الفقير بهذا الحكم بل قال سنحتكم إلى صاحب بيت آخر ، واتفقا أيضاً على بيتٍ لوجيه آخر ، وعندما جاء الموعد سبق الرجل الغنيّ إليه ، وعرض عليه رشوةً ولكنه رفض وقال : لن آخذ شيئاً من أحد وسأحكم بما يمليه عليّ ضميري .
وعندما عرض كل واحد منهما قصته قال صاحب البيت : لن أستطيع أن أحكم بينكما الآن ، ولكن عودا إليّ بعد أسبوع .
فسأله الرجل الغنيّ قائلاً : ولماذا هذه المهلة ، والقضية كما ترضى ، ظاهرة كالشمس ، ولا تعقيد فيها وقد عرضنا لك كل تفاصيلها .
قال صاحب البيت : السبب بسيط وهو أنني حائض ، وبعد أسبوع سأنظف من الحيض وأطهر وأحكم بينكما .
فقال الرجل الغنيّ : كيف تحيض وأنت رجل ، والحيض لا يكون إلا للنساء ، ماذا تقول يا رجل ، هذا أمر لا يُصَدَّق !.
فقال صاحب البيت : وإذن كيف تصدّق أن الفرس تلد بقرة ، وهذا أمر غير ممكـن ، إذهب فليس لك حقّ عند الرجل ، وكفاك ظلمـاً وفجـوراً ، ولا تعد تتعرّض لجارك بأذى .
واصفرّ وجه الرجل الغنيّ ولم يستطع جواباً بعد أن أفحمه ذلك الشيـخ ، وعاد إلى بيته فاشلاً مهزوماً ، أما الرجل الفقير فقد عاد إلى بيته مستبشراً ومسروراً ، بعد أن فاز على خصمه وعاد إليه حقّه بفضل حكمة ذلك الرجل وسرعة بديهته ، وعدله في الحكم بين الخصمين .
الحدأة والضيف
كان أحد الشيوخ معروفاً بعراقة الأصل وطيب الأرومة والمحتد عزيزاً في قومه ، ولكنه كان فقير الحال معدماً لا يملك مـن متـاع الدنيـا شيئاً ، وكانت له بندقية صيد من بنادق ذلك الزمان مَهَرَ على إصابة الهدف بها حتى أصبح يضرب به المثل في شدة التصويب وفي دقة الإصابة ، وكثيراً ما كان يخرج للصيد فيصطاد بعض الطيور والحيوانات الصغيرة كالأرانب والحَجَل وما شابه ويعود بها إلى بيته فيقتاتون بها هو وعائلته ، وكان في بعض الأحيان يعود خالي الوفاض ولا يجد ما يقتنصه ، فيبيتون على الطوى والجوع في ذلك اليوم .
وخرج ذات يوم للصيد كعادته وسار ساعات طويلة في الصحراء ولكنه لم يجد ما يقتنصه ، فأرهقه التعب والجوع حتى كاد يهلك ، ورأى أثناء سيره بيتاً كبيراً في الصحراء فقصده ليستريح فيه ، ورأى دخاناً متصاعداً من البيت فحدثته نفسه بأنه سيصيب شيئاً من الطعام عند هؤلاء القوم .
وكان البيت لأحد الوجهاء المعروفين ، وقد أعد وليمة أو قِرَى في ذلك اليوم ودعا إليها معارفه من شيوخ ووجهاء تلك المنطقة ، وفرش لهم فراشاً نظيفاً من بُسُطٍ وفرشات صوفية سميكة ووسائد جميلة مطرزة ، وكان البيت يعج بالضيوف والمعازيب ، حيث شربوا القهوة المرة وتناولوا أطراف الحديث ، حتى قارب وقت الغداء .
وعندما وصل الرجل إلى ذلك البيت ألقى التحية وكان مرهقاً رثّ الثياب أشعث الوجه رفيع العود ، وهيئته تـدل على الفقـر والحاجـة ، فظنه صاحب البيت شحاذاً أو قصَّاداً فقال له أجلس هنا يا رجل وأجلسه حيث توضع أحذية الضيوف خارج البيت ، ولم يلتفت إليه أحد أو يكترث لوجوده .
وعندما حان وقت الغداء وقُدمت المناسف وعليها اللحم والثريد ، تناول صاحب البيت قطعة من اللحم ولفَّها في رغيف من الخبز وأعطاها لذلك الأعرابـي ، وكانت اللحمة ساخنة فأخرجها الرجل وأخذ يتأملها ويتأمل ذلك المضيف ، ثم رفعها نحو فمه ليأكل منها ، وكانت حدأة تحوم في الجو فوق ذلك المكان حيث شمت رائحة اللحم والزَّفر ، وكان الجوع يملأ الدنيا بسبب الجدب والمحل في تلك السنـة ، فهبطت بسرعة البرق واختطفت اللحمة من يد الأعرابي وطارت وحلقت بها عالياً في الفضاء . ونظر الأعرابي إلى قطعة اللحم التي اختطفتها الحدأة من يده قبل أن يقضم منها شيئاً وقد غلبه الجوع ونظر إلى الناس الذين أخذوا يضحكون ويسخرون منه ، فتناول بندقيته وصوَّبها بكل هدوء نحو تلك الحدأة التي خطفت اللحمة من يده وأطلق عليها رصاصة واحـدة ، فهوت الحدأة تُفَرْفِرُ حتى وقعت أمامه مقتولـة ووقعـت معها اللحمـة التي خطفتها من يده ، فنظر إليها في سخف ونظر إلى المضيف نظرة ملؤها الاحتقار والازدراء ، ونظر إلى الضيوف والمعازيب الذين سخروا منه ، ثم تناول اللحمة ومسحها من التراب في طرف ثوبه ، وأراد أن يأكلها لأنه كان جائعاً ، وكان الضيوف وصاحب البيت ينظرون إلى ذلك المشهد مشدوهين ، وهنا قام صاحب البيت من مكانه مسرعاً وتوجه نحو الأعرابي وسأله قائلاً : أسألك بالله ألست أنت الشيخ فلان الفلاني ؟
فقال له : أي والله هو أنا .
فضمه صاحب البيت إلى صدره وأمسكه من يده وأخذه وأجلسه في صدر المكان حيث يجلس الشيوخ والوجهاء ، وهو يعتذر إليه لما بدر منه من تقصير في واجبه بسبب جهله به وعدم معرفته له ، وأخذ يحدثهم عنه وعما سمعه عن سمعته الطيـبة ، وأقسم أن يعمل له قِرَىً لوحده ، وعمل له بالفعل ، وانشرحت أسارير الرجل ، وتحدث مع زملائه عن كثير من القصص والمغامرات التي تحدث معه في الصحراء ، وهكذا عاد للرجل اعتباره ، فاستراح عند مضيفه بقية ذلك اليوم ، ثم عاد إلى أهله وعشيرته ليروي لهم أحداث تلك القصة المثيـرة .
الصديق الحقيقي
يُحْكى أنّ رجلاً ميسور الحال كان له ابنٌ فتى كثير اللهو واللعب ، لا يعمل بل يقضي معظم أوقاته مع رفاق له في مثل سنه ، وكانوا يقضون الساعات الطوال في اللعب واللهو والكلام الفارغ من المعنى ، وتناول الطعام في بيت والد ذلك الفتى .
وكان والد الفتى يتذمر من كثرة هؤلاء الأصدقاء ، الذين لا منفعة ترجى منهم ومن كثرتهم ، فهم لا يعملون ، وإنما يضيعون وقتهم سدى ، وكان ينصح ابنه بتركهم والابتعاد عنهم .
وكان يقول لابنه إن رفاقك هؤلاء هم رفاق سوء ، ولا ينفعوك بشربة ماء ، ولن تجد أحداً منهم لو احتجت إليه في ساعة شدة ، وما صداقتهم لك إلا من أجل وضعك المادي الحسن ، ولو كنت فقيراً معدماً لما رأيت أحداً منهم .
وكان الابن يلوم والده ويقول له : إنكم معشر الآباء ، لا تثقون بنا ، ولا يعجبكم أي تصرّفٍ نقوم به ، وتقيسون الناس بالمقاس الذي تريدونه . فخلِّي بيني وبين أصحابي ، فأنا أعرفهم أكثر منك ، وبيني وبينهم مودّة وعشرة طويلة ، وصداقة حميمة ، وأنا متأكد من صدق كلّ واحد منهم .
سكت الأب على مضض ، ولم يقتنع بما سمعه من ابنه ، وتركه مع أصحابه في لهوهم ولعبهم ، إلى أن حدث ذات يوم ما قلب تلك الأمور رأساً على عقب .
ففي ليلة مظلمة ، طرق الأب باب حجرة ابنه وقـال له بصوت خافـت ، لقد قتلت رجلاً يا ابني ، وأحسبه لصاً دخل ليسرق من البيت ، وقد لففته في كيس وغطيته بغطاء ، وأريد منك أن تذهب وتدعو بعض أصحابك وتأخذوا ذلك القتيل وتدفنوه في مكان بعيد .
وذهل الابن لما يسمع من أبيه ، ولكنه سار فزعاً إلى أقرب صديق له وقرع عليه الباب وأخبره بصوت خافت عما فعل أبوه ، وطلب منه أن يأتي معه ليدفنا ذلك القتيل قبل أن يدركهما الصباح .
ولكن صديقه رده قائلاً : من يفعل جريمة يتحمل نتائجها وعواقبها لوحده ، ولن أكون شريكاً في دفن تلك الجثة ، فاذهب وابحث لك عن صديق آخر من بين أصدقائك ، فأنا لن أذهب معك .
فقال له ابن الرجل : إذن لا تخبر أحداً عما سمعت مني ، وسار من عنده إلى صديق آخر فسمع منه مثلما سمع من الأول ، ثم صار يذهب لأصدقائه واحداً تلو الآخر ، فيجد عندهم ما وجد عند الذين قبلهم .
فعاد إلى أبيه خائباً كاسف البال ، يكسو وجهه الخوف والخجل ، فقال له أبوه : لا عليك يا ابني ، إذهب الآن إلى الرجل الفلاني ، فهو صديقي الوحيد وأخبره بما حدث واطلب منه أن يأتي معك لدفن تلك الجثة .
فذهب الفتى لصديق والده وطرق عليه الباب ، فخرج وإذا به شيخ تكسوه الهيبة والوقار ، فأخبره بصوت خافت ما جرى لأبيه في ليلته هذه ، وطلب منه أن يذهب معه لمواراة تلك الجثة قبل أن يدركهم الصباح .
لم يسأل الرجل عن التفاصيل ، بل لبس حذاءه وسار مع الفتى حتى وصل إلى بيت صديقه ، وهناك رأى جثة مغطاة فحملها مع ابن الرجل وسارا في جنح الظلام حتى وصلا إلى جهة منزوية في حقل الرجل وهناك حفرا لها حفرة غير عميقة وغطياها بالتراب ، ثم عادا أدراجهما ، وعاد الرجل إلى بيته وكأن شيئاً لم يحدث .
وفي الصباح كان أصحاب الفتى قد نشروا الخبر في القرية بأن الرجل الفلاني قتل رجلاً ودفنه في جنح الظلام ، فالتمّ الناس بين مصدّق ومكذّب يستفسرون عن الأمر ، وجاء أقرباء الرجل يستوضحون منه صحة ما وصل إلى أسماعهم ، ولما كثر السائلون ، عندها قال الرجل لابنه اذهب وادعُ أصدقاءك وادعُ صديقي وتعالوا في الحال ، فجاء صديق الرجل وجاء القليل من أصحاب الفتى ، فقال لابنه ولصديقه ، اذهبا واحضرا تلك الجثة التي دفنتماها ، فغابا برهة ثم عادا بهـا .
فرفع الرجل عنها الغطاء على مشهد من الجميع ، وإذا به كبش كبير مذبوح ومسلوخ ، فقال لصديقه وأقربائه ، يمكنكم الآن تقطيع هذا الكبش وطبخه ، وإعداد طعام لكم منه ، وأضاف قائلاً : إنما أردت أن أُري ابني من هو الصديق الحقيقي .
وبعد أن تأكد الابن بأن أصدقاءه كانوا رفاق سوء ، يعينون على الفساد والرذيلة ، ولم يجد أحداً منهم في محنته بل تخلوا عنه جميعاً ، كفّ عن ملاقاتهم ومصاحبتهم ، وطرد بعضهم وأصبح يستمع لنصح أبيه ، ويعمل معه في حقله وأعماله . ولم يعد يعاشر رفاق السوء بعد أن تعلم درساً عملياً في الحياة ، عرف من خلاله من هو الصديق الحقيقي ، ومن هو رفيق السوء ، وتمثل بالمثل الذي يقول :" عند الشدائد تُعرف الإخوان " .
الفزورة
قلتُ لجاري ذات يوم ، وهو شيخ كبير في السبعينات من عمره : حدثني يا جاري عن قصة تعرفها أو حكاية سمعتَ بها .فقال سأحدثك بفزورة لأرى هل ستعرفها أم لا ؟ فقلتُ له تفضّل ، فقال :
يُحكى أن أحد القناصة كان يطارد صيداً يصيده في الصحراء ، وقادته خطاه حتى وصل إلى بيت مُنفردٍ في الخلاء ، ليس فيه أحد من الناس سوى فتاة صغيرة السنّ ، فحياها قائلاً :
السلام عليك يا صاحبة البيت .
قالت : وعليك السلام .
قال : أين ذهب أبوك يا فتاة ؟
قالت : ذهب يسقي الماءَ بالماء .
قال : وأين ذهبت أمُكِ ؟ .
قالت : ذهبت ترُدُّ الدمعَ بالدمع .
قال : وأين ذهب أخوكِ ؟
قالت : ذهب يَطْرُد الريحَ بالريح .
فهزّ الرجل رأسه وقد فهم كلامها وعرف أين ذهب أهلها ، ثم لوى رأس جواده وسار في حال سبيله .
وهنا توقف الشيخ عن الكلام ، فقلت له : أكمِل القصة ، قال قد انتهت ، قلت له : لم أفهم كلام الفتاة فهلاّ شرحته لي فقال : أما قولها عن أبيها بأنه ذهب يسقي الماءَ بالماء ، فهو قد ذهب يسقي بعض نبتات البطيخ التي زرعها ، ولأن ثمر البطيخ يتكون أكثره من الماء فهو كالماء ، وكأنه بذلك ذهبَ ليسقي الماء بالماء .
أما قولها عن أمها بأنها ذهبت تردّ الدمع بالدمع ، فهي قد ذهبت تبكي أحد المتوفين ، بعد أن كانت قريبات المُتوفّى قد جئنها وبكين لها عندما فقدت عزيزاً عليها ، وكأنها تعيد بذلك دموع تلك النسوة بدموعها الآن .
أما قولها عن أخيها الذي ذهب يطرد الريح بالريح ، فقد ذهب للصيد ومعه كلاب سلوقية وهي تسابق الريح في عَدْوِها وسرعتها ، حيث تطارد غزالاً سريعاً أيضاً ، وكأن الغزال والكلاب السلوقية التي تطارده ريحاً يطارد ريحاً لأنه لا يظهر منها أثناء عدوها في المطاردة إلا الغبار الناتج عن سرعة العدو .
وهكذا فهمت مغزى القصة ومعناها بعـد أن شرحـها لي جاري الشيـخ .
قضـاء عشائري
يُحْكى أن مشكلةً حدثت بين فريقين من الناس , فاجتمعوا في بيت أحد الوجهاء للتفاوض من أجل حلِّها ، وإيجاد صيغة ترضي الطرفين لفضّ النزاع القائم بينهما .
وأثناء النقاش حمي الجدال واشتد بين رجلين منهما , فقال أحدهما منتهِراً للآخـر : اسكت يا حمار !.
ونظر الرجل إلى صاحب البيت وقال له : هل سمعت ما قاله ذلك الرجل ؟
قال : نعم ، سمعت .
فقال له :أنت الآن معقود العمامة(1) ، تشهد بما سمعت ورأيت ، وقال لجماعته قوموا بنا ، فعادوا إلى ديارهم وقد أخذ الغضب منهم كل مأخذ .
وبعث الرجل وجماعته أناساً لأقارب ذلك الرجل وأبلغوهم بأنهم مطرودون لهم طَرْد الرجال للرجال , وفي هذه الحالة يكون أي شخص يخرج من الطرف الآخر معرضاً للاعتداء عليه ، من أي واحد من أقارب الرجل الغاضب ، وتوسّط الوجهاء لحلّ القضية ورفعوها إلى القضاء العشائري ، فحكم قاضيهم بأن يخرج ذلك الرجل ويقف أمام جمع الحضور وينهق مقلداً صوت الحمار ثلاث مرات ، ويكرر ذلك في ثلاثة بيوت من بيوت الوجهاء حتى يتعلم درساً يكون عبرة له ولغيره ، ولا يصِف بعدها رجلاً كريماً وجيهاً بتلك الصفة التي حَقَّرته أمام الناس ، واعترض الرجل على هذا الحكم ، وقال حتى لو فَنِيَ الطرفان فلن أفعل ما طلبوه مني ، فإنّ ذلك من شأنه الإهانة والتحقير ليس أكثر ، ولكن أهله وأقاربه ضغطوا عليه وقالوا له : إذا لم تفعل ذلك فقد يسقط ضحايا بين الفريقين ، والأَوْلَى ومن أجل حقن الدماء ، أن ترضى بالحكم ، فانصاع الرجل للأمر كارهاً , وقد نهقَ بالفعل ثلاث مرات وفي ثلاثة بيوت مختلفة من بيوت وجهاء تلك المنطقة ، وبعدها رضي الطرف الآخر وانفضّ بذلك الخلاف القائم بينهما وانتهت تلك المشكلة التي كادت تتفاقم وتصل إلى عواقب وخيمة .
ابنة الرجل الشهم
يُحكى أن أحد الشيوخ تقدّم به العمر وكان له ابن شابٌّ فأوصاه أن لا يتزوج إلا من ابنة رجل شهم ، وقال له : إن ابنة الرجل الشهم تستطيع أن تعيش معها حياة طيبة ، لأن تربيتها تكون تربية حسنة إضافة إلى أن وراءها أب تظل عينه ترعاها حتى لو كانت متزوجة وفي بيت زوجها ، أما ابنة الضعيف من الرجال فلا يأتيك من ورائها إلا المشاكل بسبب التربية الفاسدة ، وعدم وجود من يوقفها عند حدها فيما لو حدث سوء تفاهم بينها وبين زوجها .
وعاش الشيخ فترة من الزمان ثم انتقل إلى رحمة الله . وبحث الابن عن زوجة ملائمة تكون ابنة لرجل شهم حسب المواصفات التي أوصاه والده بها ، ووجد في نهاية المطاف فتاة تنطبق عليها تلك المواصفات .
فجاء إلى أهلها وطلب يدها من أبيها وأخبره بقصته ووصية أبيه له ، فقال له أبو الفتاة : أزوجها لك ولكن بشرط إذا وافقـت عليه فهي لـك ، وإذا لم توافق فابحث لك عن فتاة أخرى ، فلن أزوّجها لك .
فقال الشاب : وما هو هذا الشرط ؟
فقال الأب : إذا أغضبت زوجتك بعد أن تتزوج وجاءتني غاضبة وحردانة فلا تأتي لتراضيها إلا بعد حَوْل ، أي بعد عام ، لأني لن أعيدها لك قبل مرور العام .
ووافق الشاب على هذا الشرط ، وتزوج من ابنة ذلك الرجل الشهم ، وعاش مع زوجته فترة من الزمن حياة سعيدة هانئة ، فكانت تعجن وتخبز وتعدّ الطعام ، وتغسل الملابس وتقوم بكل أعمالها المنزلية على أحسن وجه ، ولا تزور أحداً من جيرانها ولا تختلط بأي إمرأة من جاراتها . وتبقى دائماً ملازمة لبيتها لا تخرج منه إلا للضرورة القصوى .
وفي أحد الأيام كان عند أحد أقارب زوجها عرس لواحدٍ من أبنائهم فقالت لزوجها : ما رأيك أن تأخذني معك في هذه المرة . فهؤلاء الناس أقاربك وهم ليسوا غرباء عنا ، وعلينا أن نشاركهم فرحتهم ونقف بجانبهم ، فهذا واجب علينا ولن يكون هناك ما يضرنا إن شاء الله .
فقال لها : أخشى عليك من اجتماع النسوة ، فاجتماعهنَّ لا يأتي منه خير .
فقالت : لا عليك ، فأنا عندي عقل أميّز به ، ولن يستطعن التأثير عليّ .
فذهب الرجل واصطحب امرأته معه وما كادت تصل حتى تناولتها النسوة وجلسن إليها وسألنها عن حياتها وقلن لها : ما لك يا أخت لا تخرجين من بيتك ولا تزورين أحداً من جاراتك ، فماذا تعملين وكيف تقضين أوقاتك .
فقالت : أقوم بأعمالي المنزلية من طهي وغسل وغيره ، ثم انتظر زوجي حتى يعود ، فنأكل سوية ونحن بخير والحمد لله .
فقلن لها : ما أقل عقلك إنك لا تعرفين من أمور الدنيا شيئاً ، ومن أجل ذلك هو يمنعك من الخروج من البيت حتى لا تعرفي الحقيقة وتظلي تخدمين عنده وكأنك خدّامة لديه .
وقلن لها : إننا لا نعمل شيئاً مما ذكرتِه في البيت لأن هذه الأشياء من عمل الرجال ، فالرجل هو الذي يعد الطعام ويغسل الملابس وينظف البيت ، ونحن لا نعمل شيئاً . وعادت المرأة إلى بيتها وهي تظن أنها فهمت سراً غاب عنها وصممت أن تكون كباقي النسوة ولا تعمل شيئاً من أعمال البيت لأنها من واجبات الزوج وليس من واجباتها هي .
وفي اليوم التالي عاد الزوج من عمله فوجد زوجته نائمة ولم تعدّ له طعاماً ولم تقم بأي عمل من أعمال المنزل ، فقال في نفسه ربما تكون مريضة ، فقام وأعدّ طعاماً لنفسه ودعاها وأكلا معاً .
وفي اليوم التالي عاد من عمله ووجدها نائمة كما وجدها بالأمس ، ولم تعد له طعاماً ولا غيره ، وأراد أن يعمل لنفسه مثلما عمل بالأمس ولكنه سألها : ما الذي جرى لك يا امرأة ؟ هل أنت مريضة ، أو ماذا أصابك فلم تعدي لي طعاماً ولم تعملي شيئاً من أعمال المنزل .
فقالت له : لا أنا لست مريضة ، لأن هذه الأشياء يجب أن يقوم بها الرجل وليس أنا ، أوتحسبني مغفلة ، كل النساء لا يعملن شيئاً لأزواجهن ، وأنا أقوم لك بكل هذه الأعمال .
فقال لها : من أخبرك بذلك ؟
فقالت : النسوة أخبرنني بذلك بالأمس ، وأنا سأكون مثلهن ، ولن أعمل شيئاً من أعمال المنزل ، فهذا شيء يخص الرجال فقط .
فقال لها : يا زوجتي ، لقد خدعتك تلك النسوة بفساد رأيهن ، فعودي لرشـدك ، وأرجعي إلى ما كنت عليه .
فقالت : لن يكون ذلك ، فهن لسن بأفضل مني .
فقال لها : ما دام الأمر على ذلك ، فهيا إلحقي بأهلك .
فقامت ووضعت بعض أغراضها ومتاعها في صُرَّة وحملتها على رأسها وعادت إلى بيت أبيها ، وعندما رآها أبوها مقبلة وعلى رأسها صُرَّة الملابس عرف أنها جاءت غاضبةً وحردانة ، فقال لأمها : استقبليها بفتور ولا تبشي في وجهها ولا تريها وجهـاً طيباً .
وبعد أن استراحت قليلاً قال لها أبوها : تعالي اسقي لي المواشي يا ابنتي ، ونظفـي الحظيرة واعملي كذا وكذا حتى أرهقها ، وصار في كل يوم يشغلها طيلة النهار ، واستمر الحال بها على ذلك الشكل فترة من الزمن ، فندمت ولامت نفسها وعرفت أن النساء خدعنها لأنها كانت تعيش سعيدة في بيتها ، وصارت تنظر إلى طريق زوجها عله يأتي ليراضيها ويعيدها إلى بيتها ، ولكن زوجها كان لا يستطيع أن يأتي قبل مرور عام ، فرأت عند والدها ألواناً من العذاب من تعب وإرهاق ومذلة بعد أن كانت سيدة مطاعة في بيتها ، فلامت نفسها وبكت على حظها ولكن دموعها لم تجدِها نفعاً لأن زوجها لن يأتي قبل مرور العام .
وبعد أن انقضى العام جاء زوجـها ليراضيها ، فقـال أبو الفتاة لامرأته : استقبليه بفتور وافرشي له كيساً ليجلس عليه ، واطبخي له طعاماً من العدس ، والعدس طعام يملّه أهل الصحراء لكثرة استعماله وهو في هذه الحالة تحقير وتقليل في واجب الضيف وشأنه ، وبعد أن جلس الرجل واستراح قدموا له طعاماً من العدس ، وكانت زوجته ترى ذلك ، وتأكل نفسها وتصرّ على أسنانها ، وتقول لنفسها أيقدّم له عدساً بعد هذا الغياب الطويل وهو كريم وعزيز في قومه ، إن ذلك احتقار له وازدراء وإهانة به . وعندما حلَّ المساء قال أبو الفتاة لزوجته : افرشي لصهرك كيساً وضعي برذعة الحمار وسادة له .
وفي الليل جاء أبو الفتاة إلى صهره وقال له قم ونم مكاني وكان قد أعد له فراشاً نظيفاً وغطاءً سميكاً ، فقام الرجل ونام مكان صهره ، أما الأب فنام على الكيس وتوسد برذعة الحمار وغطّى رأسه باللحاف .
وبعد ساعة من الوقت جاءت زوجة الرجل تختلس الخطى وهمزت أباها وهي تظنه زوجها فتظاهر بالنوم ، فقالت له قم فقد أعددتُ لك حماماً مطبوخاً لأن ذلك الشيخ النحس عشّاك عدساً ، لأنه لا يعرف قيمتك ومقدارك ، آه منه ما أظلمه ، فقد أراني ألواناً من العذاب في غيابك .
وتظاهر الرجل بالتعب والنوم ولما لم يقم تركت الطعام عنده وهي تظنّه تَعِباً ، أما الشيخ فكان يضحك بينه وبين نفسه .
وفي الصباح قال الرجل لابنته : ارجعي مع زوجك الآن ، وحاولي ألاّ تغضبيه ، أو تخرجي عن طاعته ، وعادت المرأة مع زوجها وهي تشكو له ظلم أبيها لها وكيف أرهقها بكثرة الأعمال التي كانت تقوم بها في كل يوم .
وفي اليوم التالي جاءت النسوة ليهنئنها بالعودة فلاقتهن خارج البيت وقالت : والله لن تدخل واحدة منكن بيتي ، اذهبن فقد أفسدتن عليَّ حياتي ، هيا لا أريد أن أرى واحدة منكن بعد اليوم .
وهكذا عاشت مع زوجها حياة رغدة هانئة بعد أن عرفت مصدر الفساد وتجنبته بطردها تلك النسوة ، بعد أن كدن يخربن بيتها ، ويفسدن عليها حياتها .
[align=center]  [/align]
-
الذي يفهم لغة الطير
يُحكى أنَّ رجلاً كان يفهم لغة الطير ، وكان قد أُخِذَ عليه عهد أن لا يبوح بهذا السرّ لأي مخلوق كان ، وإن باح به فهو يموت في الحال .
وحدث ذات يوم أنْ تشاجر مع زوجته ، وعلا لغطهما ، وارتفع صوت الزوجة وأصبح الرجل يُداري نفسه معها مداراةً اكتفاءً لشرّها وطولة لسانها وشدّة فجورها . وبينما كانا يتشاجران سمع الرجل ديك الدجاج يحكي مع دجاجاته ويقول : ما أضعف صاحبنا وما أقل هيبته ، تغلبه امرأة واحدة فيسكت لها ، وأنا معي أكثر من أربعين زوجة أحكمهن جميعاً ولا تستطيع إحداهن مخالفة أمري أو الخروج عن دائرة حكمي .
وسمع الرجل ما يقوله الديك لدجاجاته وعرف أنه يقول عين الحقيقة فتبسم ضاحكاً مما يسمع ، ورأته زوجته وهو يبتسم ويضحك من دون سبب فظنته يسخر منها ويهزأ بها فقالت : تضحك مني ! ما الذي لا يعجبك من أمري ، هل رأيت عندي أحـداً ، والله لا أقعـد في بيتـك إلا إذا أخبرتني ما الذي أضحكك مني .
وسكت الرجل مغلوباً على أمره ، وحملت المرأة بعضاً من متاعها ولحقت بأهلهـا ، وبعد عدة أيام ذهب زوجها ليراضيها ويطلب من أهلها إعادتها معه إلى بيتها ، ولكنها أصرّت على رأيها وساندها بعضٌ من أهلها على موقفها ، وقالوا لن تعود معك إلا إذا أخبرتنا ما الذي أضحكك من أمرها .
وعاد الرجل خائباً إلى بيته وطالت المدة وعاد الرجل ليراضي زوجته مرة أخرى وليخبرها بأن سبب ضحكته سرّ لا يستطيع البوح به ، وإذا ما باح به فسيموت في الحال ، وأنها ستعيش بعده أرملة ، ولكن الزوجة لم تصدقه وظنّته يلعب بعواطفها حتى تعود معه ، وقالت إن كلامك هذا غير صحيح ، ولا فائدة منه فلا تحاول إقناعي به .
ويئس الرجل من تصرفات زوجته ووافق أن يخبرها عن ذلك السرّ ليموت ويتخلّص بذلك من هذا العذاب الذي يلاقيه من زوجته ، واتفقوا على يوم يخبرها فيه بذلك الخبر .
وعاد الرجل إلى بيته وجلس حزيناً مكتئباً ، ينتظر مصيره المرّ ، والذي سيكون فيه هلاكه ، وبينما كان جالساً سمع الديك يقول لدجاجاته : ما أضعف شخصية صاحبنا وما أقل عقله ، أيريد أن يموت من أجل امرأة ، والله لو كنت مكانه لذهبت إلى شجرة الرمان الفلانية ولقطعت منها سبعة عيدان لينة ومستقيمة وجَرَزْتُهَـا(1) حتى تصبح كعصا واحدة ولجلدت بها تلك المرأة حتى تتكسر العيدان على جسدها ، فتتوب عن التدخّل فيما لا يعنيها ويسلم الرجل بذلك من موت محقّق ينتظره .
سمع الرجل ما قاله الديك لدجاجاته وكأنما كان عقله في غفلة فاستيقظ في الحـال ، وذهب لتوّه لشجرة الرمان المذكورة وقطع منها سبعة عيدان لينة ومستقيمة وجَرَزَها كأنها عصا واحدة ونظفها وخبأها في غرفته .
وفي اليوم المتفق عليه ذهب الرجل ليعيد زوجته ويخبرها بسرّه وسبب ضحكه منها ، وكانت تبدو عليه علامات القوة والنشاط ، وقال لزوجته بلطف : لا يحسن أن أخبرك هنا وعند أهلك بهذا السرّ الخطير، ولكني سأخبرك به في بيتنا ودون أن يسمعنا أحد ، حتى إذا حدث لي مكروه أكون في بيتي ، وإذا لم أخبرك فيمكنك العودة لأهلـك.
وعادت الزوجة إلى بيتها ، ودخلت مع زوجها في غرفتهما وأغلقا بابها حتى لا يسمعهما أحد ، وعندها تناول الرجل العيدان المذكورة وقال لزوجته تريدين معرفة السرّ ، وتريدين أن أموت من أجلك ، هذا هو السرّ وأهوى بتلك العيدان على جسدها ، وأخذ يجلدها بها وهي تصرخ وتستغيث ولكن ليس هناك من يسمع . .
وظل يضربها حتى تكسرت العيدان السبعة في يده ، فأقسمت له أنها لن تعود لتسأله عن أي شيء وستتوب عن مشاجرته والتحرّش به ، وإنه لن يرى منها في المستقبل إلا ما يسرّه ، فتركها وهي في أسوأ الأحوال وقد شفى منها غليله وهدأت نفسه . وبعد عدة أيام عادت للمرأة عافيتها وأصبحت مطيعة لزوجتها ولم تعد ترفع صوتـها عليـه ، ولم يعد يسمع منها إلا ما يرضيه ، وهكذا عاشا معاً سعيدين بقية عمرهما .
تعليق : هكذا في الحكاية ، ولكن الواقع أن الزوج لا يضرب زوجته بل يعيش معها في محبة ووئام ، ويسود بينهما التفاهم والانسجام ، ويعيشا حياة كريمة مشتركة .
الصبر على الضيم
كانت لإحدى النساء ابنةٌ فتيّةٌ وجميلة ، تنافس على الزواج منها رجلان وكلٌّ منهما طلبها من أمها لنفسه ، وهو يرغب في زواجها ويريدها زوجة له مهما كان الثمن ، فقالت المرأة : لا أزوج ابنتي إلا للذي يستطيع أن يجلس على مجرى الدخان ويصمد فترة أكثر من رفيقه الآخر , فوافق الاثنان على هذا الطلب ، واتفقوا على يومٍ معيّن يجلسان فيه على مجرى الدخان ، وعندما جاء ذلك اليوم توجّه الرجلان إلى بيت المرأة ، فأشعلت ناراً من القشّ وزبل المواشي وخرج منها دخانٌ كثيف , وجلس الرجلان على مجرى الدخان ، فأصبح الأول يميل برأسه يمنة ويسرة فترة قصيرة ، ثم لم يستطع التحمّل ، فنهض من عندها وقال لها : لا أريد ابنتك , ولا أريد أن أرى وجهك بعد اليوم ، ثم تركها وسار في حال سبيله .
وجلس الرجل الثاني على مجرى الدخان فسالت دموعه ولكنه صبر , وسال مخاطه ولكنه كان يتحمّل حتى أصبحت عيناه كالجمر ، وأخيراً قالت له المرأة : كفاك يا رجل .. كفاك يا رجل .
فقام الرجل وعاد إلى بيته وعيناه كالجمر ودموعه تسيل بغزارة على خدّيه ، ولكنه كان يُمَنِّي نفسه بالزواج من تلك الفتاة الجميلة .
وفي اليوم التالي بعثت إليهما وقالت للذي تحمّل الدخان وصبر عليه أنا لا أزوج ابنتي للذي يصبر على الضيم ( أي على الذل والمهانة ) فعُد إلى بيتك فهي ليست من نصيبك ولن أزوجها لك .
وقالت للأول أما أنت فلأنك لم تصبر على الضيم ، ولم تصبر على تحمّل الأذى فقد زوجتك ابنتي ، لأنها لن تضام عندك وهي من نصيبك إن شاء الله ، وهكذا تزوّج الرجل الذي لم يصبر على الضيم أما الرجل الثاني فعاد يجر أذيال الهزيمة .
بنت الخوّاضة
يحكى أن رجلاً طلّق إمرأته بعد أن شَكَّ في نزاهتها وعفَّتِها ، وكانت قد أنجبت له بنتاً فتركتها عنده وعادت إلى أهلها ، وعاشت الطفلة في كنف والدها ، وبعد أن أصبحت صبية أخذت ترعى معه الإبل ، وفي أحد الأيام وبعد مرور فترة من الزمن ، سقطت أمطار غزيرة وسالت الأودية وامتلأت الغدران ، وأراد الرجل أن يعبر مع إبله أحد الأودية الذي كان يسيل بالماء ، ليعبر إلى الجهة الأخرى حيث ترعى إبله ، ولكن السيل حال بينه وبين ذلك ، ومنعه من العبور فتراجعت الإبل لا تجسر على عبور الوادي ، فقالت ابنته : امسك البَكْرَة(1) الفلانية وادفعها أمام الإبل فستخوض الماء لأن أمها كانت خوّاضة تخوض الماء ، فقال لها : هل أنت متأكدة من ذلك . فقالت نعم ، فامسك بالبَكْرَة ودفعها أمام الإبل فخاضت الماء وعبرت إلى الجهة الأخرى وتبعتها الإبل وعبرت وراءها ، وربط الرجل نفسه وربط ابنته معه بحبل وعبر الماء وعندما أصبح في وسط السيل قال لها كيف عرفت يا ابنتي أن البَكْرَة الفلانية ستخوض الماء ، فقالت : لقد كانت أمها خواضّة وبنت الخواضة خواضة كأمّها ، فقال : صدقتِ يا ابنتي ، ثم قطع الحبل بها ودفعها فابتلعتها المياه وأخذها السيل .
تعليق :
في ديننا السمح لا يُعاقب البريء بذنب المسيء ، وكذلك في عصرنا الحاضر لا يُحاسب إنسان بجريرة غيره ، ولكن الكثير من الحكايات علقت بها بعض رواسب الماضي ، فلا تقاس عليها تصرفات الحاضر .
الفتاة الأصيلة
يُحْكى أنَّ عائلةً فقيرة كانت تعمل عند إحدى العائلات الغنية في مواسم الزرع والحصاد ، وكانت قد نصبت خيمتها بالقرب من منزل العائلة الغنية التي يعملون عندها ، وكان للعائلة الفقيرة ابنة جميلة تساعد أهلها أحياناً في عملهم عند تلك العائلة ، وقد رأى تلك الفتاة ابنٌ وسيمٌ للعائلة الغنية وأراد أن يعبث بها ، فأخذ يتودَّد إليها، ويحاول التقرب منها بمعسول الكلام ، ولكنها أخبرته بأن ذلك لن يكون ولن يتمّ إلا بالزواج ، وقالت له : إذا أردتني بصحيح فاطلب يدي واخطبني من أهلي .
وحاول الفتى مرّات ومرّات ولكن محاولاته كلّها باءت بالفشل ، ولم يتغير موقف الفتاة منه ، فيئس منها وقرر أن يجرح كبرياءها ويهدّ من معنوياتها ، خاصة بعد أن تأكد له أنه لن يستطيع إغراءها لا بالمال ولا بالكلام ، ورأى أن محاولاته لن تجدي معها نفعاً ، فنظر إليها بإزدراء نظرة فيها علوّ وكبرياء وأجابها ببيت من الشعر العاميّ يقول فيه :
بنت الرّدِي(1) لو زَهَتْ بالعين ما يسند(2) الراس طِرْيَاهَا(3)
وأنا اللي رَمَاني عليها الزّين(4) شِلْـوِة(5) ليالـي وأخَلِّيهَـا
وهو يقصد أنها ليست ذات أصل حتى يتزوجها ، ولكن ما جذبه إليها هو الجمال وحده وليس أي شيءٍ غيره ، وبكت الفتاة بدموع حارة سخينة فليس ذنبها أنها ولدت لعائلة فقيرة ، وليس الفقر في حدّ ذاته عيباً ، ولكن فرحتها كانت أكبر من كل تصوّر لأنها استطاعت ردع ذلك الشاب الطائش ، وحافظت بذلك على شرفها وعفافها وشرف عائلتها الفقيرة المتواضعة . وبذلك وضعت حدَّاً لمحاولات ذلك الفتى الطائش الذي ذهب في حال سبيله ولم يعد يعاكسها مرّة أخرى .
المرأة اللعوب
يُحكى أن رجلاً بدوياً احتاج لبعض المال فأخذ خروفاً وذهب ليبيعه في سوق المواشي ، وكان السوق بعيداً والمسافة إليه ليست قريبة ويحتاج من يجلب(1) بعض المواشي أن يذهب في المساء ويبيت في الطريق وفي صباح اليوم التالي يصل إلى السوق ، وفي ساعات المساء اختار البدوي مكاناً ليبيت فيه وربط خروفه بجانبه ، وباتت مجموعات أخرى من الناس في نواحي المكان .
فرآه بعض القوم الخبثاء ، وكانت معهم امرأة ماكرة لئيمة ، فقالت ماذا تعطوني لو عشّيتكم من خروف هذا الرجل ، فقالوا نعطيك الشيء الفلاني ، فذهبت إليه وتحدثت معه وقالت له إنها وحيدة في هذا المكان وتريد أن تذهب إلى السوق ، وسألته هل أنت متزوج فقال لا فقالت وكذلك أنا ، وقالت له إنها جوعانة ولم تذق طعم الأكل منذ فترة ، فقال ما دمنا سنتزوج فلا حاجة بنا إلى بيع الخروف ، وذبحه وشوى منه وتعشيا معاً ، وبعد أن شبعت قالت له : تعال بنا نتمشى قليلاً وأخذت تتدلع عليه وطلبت منه أن يُركبها على رقبته ، فوضع ما تبقى من اللحم في خريطة(1) كانت معه ، وأركبها على رقبته ، وهي تقول له سِرْ بنا من هنا ومن هناك حتى أقبلت على جماعتها وأصبحت قريبة منهم فقالت : ها قد جئتكم به ، فهبّوا إليه . فشعر الرجل بخديعة المرأة ومكرها معه ، وكان رجلاً طويلاً عظيم البنية ، فشدّ على رجليها بيده ، ووضع يده الأخرى على ظهرها وأطلق ساقيه للريح فانطلق القوم في أثره ولكنه ضاع من بين أيديهم واختفى في ظلام الليل ولم يستطيعوا اللحاق به ، وفي الصباح ركبوا خيولهم وقصّوا الأثر فوجدوا أثر أقدامه غائراً في الأرض عدة سنتيمترات ، ووجدوه قد داس على أفعى طويلة فقطعها نصفين دون أن يشعر بذلك ، ووجدوا في الطريق قافلة جمال فسألوا صاحبها هل رأيت رجلاً يمر في الليل من هنا ، فقال لقد جفلت الإبل في الليل وكادت تدوسني ، وسمعت قرقعة ، ورأيت زَوْلاً (2) يمر كأنه السهم من هنا ولم أستطع التحقق منه لسرعته ، فعاد القوم أدراجهم مخذولين ، أما الرجل فقد وصل إلى بلاده وتزوج من تلك المرأة وعاد بها إلى أهلها بعد سبع سنوات ومعه عدة أطفال قد ولدوا له منها .
حانا ومانا
يُحكى أن رجلاً في سن الكهولة تزوج زوجةً ثانية ، وكانت واحدة من زوجاته تُدعى « حانا » والأخرى تدعى « مانا » ، وكان عندما يأتي إلى الصغرى تدلـّله وتلاطفه في الكلام وتمسح على وجهه ، وتخلع بعض الشعرات البيضاء من لحيته حتى يبدو أكثر شباباً ليتناسب مع جيلها ، أما الكبرى فقد أصابتها نار الغيرة وبدأت تقلّد ضرتها في تصرفها مع زوجها ومعاملتها له ولكنها كانت تخلع الشعرات السوداء من لحيته حتى يبدو أكثر شيباً وكهولةً ليتلاءم مع جيلها هي ، وبذلك خلعت نساء الرجل شعر لحيته كله ، فصار يقول : بين حانا ومانا ضاعت لحانا .
العشب في حليقات(1)
يُحكى أنه كان لأحد الأشخاص عبدٌ يرعى مع إبله وشائه ، وكان لجارٍ له غير بعيد منه جارية سوداء ، وكانت هذه الجارية تهوى ذلك العبد وتحبه ، وكانت تبعث له بين الحين والآخر شيئاً يأكله ، أو مشروباً يشربه دلالة على حبها له وشغفها به ، وكان العبد يبادلها ذلك الشعور وتلك العاطفة ويتمنى الزواج منها ، ولكنه لا يجرؤ على البوح لسيده بذلك الأمر ، ودام الأمر على ذلك الحال فترة من الزمان رحل خلالها الرجل صاحب العبد بإبله ومواشيه وعبيده إلى مكان آخر يكثر فيه الربيع والكلأ ، وكان ذلك المكان قرب قرية تسمى حُليقات في منطقة الساحل ، وشعرت الجارية بأن العبد الذي تهواه قد ارتحل وابتعد عندها ، فاحتارت في أمرها وفكّرت ماذا عساها تفعل ، فعمدت إلى بعض الطرق لكي تُحَبِّب ذلك المكان الذي ارتحلوا إليه إلى سيّدها عساه يرتحل إليه وكانت تقول له : سمعت يا حَبَّاب(1) أن العشب في حليقات للخِلّة(2) ، أي أن طول العشب في حليقات يصل إلى طرف الساتر الخلفي للخيمة وهو حوالي متر ونصف المتر ، وهي تمني النفس أن يرحل سيّدها إلى ذلك المكان فتتمكن بدورها من رؤية العبد الذي يحبه قلبها ، ولكن سيدها كان يدرك ما ترمي إليه الجارية ، فلم يعر الأمر اهتماماً ، بل ارتحل إلى مكان آخر حيث يكثر العشب والربيع وظلت الجارية تعيش على ذكرى ذلك العبد فترة من الزمان دون أن تتمكن من رؤيته .
الملك الجائر وقصة الإسراء والمعراج
يُحكى أنّه كان في مصر ملك جائر وكافر وعلى غير دين المسلمين ، وكان له وزير مسلم ، فدار نقاش في أحد الأيام في مجلس الملك حول قصة الإسراء والمعراج ، فأنكرها الملك إنكاراً شديداً ، وحاول الوزير المسلم أن يقنعه بشتى الوسائل ، ولكنه أراد دليلاً مادياً ، وكان أن غضب الملك من وزيره وطلب منه أن يأتيه ببرهان قاطع ، ودليل على ما يقول وإلا سيكون مصيره القتل ، وأسقط في يد الوزير المغلوب على أمره أمام هذا الملك الظالم ، وطلب من الملك مهلةً حتى يسأل رجال الدين ومن هم أفقه وأعلم منه في هذا المجال ، فأمهله الملك مدة أربعين يوماً ، وإن لم يأت بدليل فسيقطع رأسه في ذلك اليوم .
وصار الوزير يذهب إلى العلماء ويسألهم عن دليل يستطيع به إقناع الملك وتخليص نفسه مما ينتظره من مصير ، ولما كان العلماء يخشون سطوة ذلك الملك وبطشه فلم يرضَ أحدٌ منهم أن يذهب مع الوزير ، وضاقت الدنيا في وجه الوزير وقبل انتهاء المدة بأيام قليلة وعندما كان يسأل في كلّ مكان عله يجد من يخرجه من هذه الورطة ، فقال له بعض الناس ما لك إلا أن تذهب إلى الرجل الصالح الموجود في برّ الشـام ، وسار الوزير وظل يسأل حتى وصل إلى ذلك الرجل فوجده إنساناً بسيطاً رثّ الثياب يحرث على جملٍ له ، فانتظره عند نهاية الخطّ حتى وصل إليه ، فحيّاه الوزير ، وحكى له قصته مع الملك ، وطلب منه مساعدته ، فعاد به الرجل الصالح إلى بيته ، وبعد أن تناولا شيئاً من الطعام وهيئا نفسيهما سارا متوجهين إلى مصر وإلى قصر ملكها الظالم .
وفي اليوم المتمم للأربعين وهو آخر يوم من أيام المهلة حضر الوزير إلى قصر الملك ومعه الرجل الصالح ، فسأله الملك ساخراً هل أتيت ببرهان مقنع ؟ وإن لم تأتِ فأنت تعرف مصيرك ، فأشار الوزير إلى الرجل الصالح الذي معه وقال للملك هذا الذي سيبرهن لك إن شاء الله . فطلب منه الملك أن يبرهن له بالدليل القاطع على قصة الإسراء والمعراج والتي لم يستطع عقله أن يستسيغها فقال له الرجل الصالح ليس قبل أن نشرب الشاي عندك ، فأحضروا لهم الشاي وكان ساخناً ووضعوه أمامهم وأمام الملك . وعندها صفّق الرجل الصالح بيديه فنام الملك ونام كلُّ من كان حاضراً عنده في تلك الجلسة ، وعندما نام الملك رأى في منامه طائراً كبيراً عملاقاً يقترب منه وينقضّ عليه ويمسكه بأظافره القوية ويخطفه ويطير به بعيداً ، وطار به الطائر مسافة بعيدة حتى وصل به إلى صحراء قاحلة لا يوجد بها أحدٌ من الناس ورماه هناك ، وإذا بالملك يتحول إلى امرأة في ساعته ، ونظر الملك إلى نفسه وإذا به امرأة في كل شيء ، فهام على وجهه في الصحراء لا يدري أين يذهب ، وعطش جداً وأصابه جوع شديد ، وبعد أن أصابه إرهاق شديد ، رأى بدوياً على هجينٍ له يقتـرب منه ، فسألـه البدوي : ما تفعلين هنا أيتها المرأة ، ألك أحد هنا أم أنكِ قد ضللت الطريق ، فأجابت بالنفي فأردفها وراءه وسار بها إلى خيمته وأطعمها وأسقاها ثم تزوجها ، وحملت المرأة من ذلك البدوي وبعد فترة الحمل أنجبت له طفلاً ، ثم بعد ذلك أنجبت له طفلين آخرين ، ودام ذلك حوالي سبع سنوات كانت فيها المرأة تربي أولادها وتقيم مع زوجها البدوي في بيته في الصحراء حتى نسيت تماماً أنها كانت رجلاً وملكاً في يوم من الأيام .
وفي أحد الأيام وعندما كانت المرأة تحمل ابنها الصغير على كتفها رأت طائراً صغيراً يعدو أمامها فتبعته لتمسكه إلى ابنها ليلعب به ، وعدا الطائر أمامها وسارت خلفه حتى بعدت عن بيتها ، ثم تحول فجأة إلى طائر كبير وإذا به ذلك الطائر العملاق الذي اختطفها أول مرة قبل سبع سنوات ، وانقض الطائر على المرأة وحملها بمخالبه القوية وطار بها مسافة طويلة ، ثم رماها في قصر الملك وإذا بها قد أصبحت رجلاً .
وعندها صفق الرجل الصالح بيديه فاستيقظ الجميع واستيقظ الملك ونظر حوله ، وقال أين أنا فقال له الرجل الصالح أنت في قصرك ومكانك أيها الملك وها هو الشاي ما زال ساخناً ولم يبرد بعد .
فقال له الرجل الصالح : هل آمنت الآن أم لا ، فقال : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله . وروى لهم القصة من أولها إلى آخرها وما حدث له خلالها ، وصار بعدها ملكاً عادلاً طيباً ، ولم يعد يظلم أحداً أو يتعرض لأحد من رعيته بسوء .
الذي حصد الزيتون
يُحكى أن أحد الأتقياء كان متصوفاً منقطعاً إلى العبادة , وحدث أن جُذِبَ ذات يوم , وكان كلّ مَنْ يُجْذب من هؤلاء الصالحين يهيم على وجهه , ويترك أمور الدنيا ، ولا يهتم لا بملبسه ولا بمظهره ، وهام الرجل على وجهه وطال شعرُ لحيته , وبَلِيَتْ ثيابُه وأصبحت رثّة مهلهلة , وكان يبيت في أي مكان يدركه فيه المساء .
وذات يوم أدركه المساء في قرية بعيدة نائية , وكانت حالته تدل على الفقر والحاجة , ناهيك عن شكله ومظهره الخارجي ، فجاء إلى أحد البيوت ، ففرشَ له صاحب البيت , وقدم له عشاءً مما تيسّر من طعام البيت ، وأخذ معه في الحديث وسأله قائلاً : لماذا لا تعمل يا أخي بدل أن تهيم على وجهك لا تملك شيئاً من أمور الدنيا ؟.
فقال : وماذا أعمل , وأنا لا أُحسن شيئاً من الأعمال .
فقال صاحب البيت : ألا تحصد ؟!
فقال الرجل : بلى , ولي معرفة بالحصـاد , وسبـق أن حصـدت كثيراً .
فقال له : ما رأيك إذن أن تحصد عندي قطعةً من الأرض , وسأعطيك عليها أجراً يرضيك , ويسدّ حاجتك ويغنيك عمَّا أنت فيه من فقر .
وافق الرجل على هذا العرض دون أن يطلب أجراً ، أو حتى دون أن يسأل عن قيمة ما سيُدفع له عن عمله وأتعابه.
فقال له صاحب البيت : إذن تبدأ عندي في الصباح الباكر إن شاء الله ، وأضاف : هيا لأريك الحقل فهو غير بعيد من هنا ، فذهب معه وشاهد الحقل ، وكان عبارة عن دونمات قليلة تحيطها أشجار من الزيتون من جهاتها الأربع ، وعمر هذه الأشجار لا يتعدّى الثلاث أو الأربع سنوات .
وأعطى صاحب البيت منجلاً لذلك الرجل حتى يسري عندما يستيقظ في الصباح الباكر ليحصد قبل أن يطير الندى فتتكسر عيدان الزرع ويصعب حصدها .
ونام الرجل ونام صاحب البيت , وفي منتصف الليل استيقظ الرجل وظن الوقت فجراً فأخذ منجله وسار متوجهاً نحو الحقل فأراد أن يحصد وقبل أن يبدأ أتتـه حالة الجذب التي تصيبه دائماً ، فأصبح لا يدري عن نفسه . فقال : يا قوة الله , ويا سرَّ جدودي وأخذ يحصد دون أن يدري ما يفعل حتى حصد جميع الحقل . ثم عاد يحمل منجله ونام في مكانه مرهقاً مما أصابه من غيبوبة الجذب ، ولم يستيقظ إلا بعد أن اعتلت الشمس وارتفعـت كثيراً , وكاد الندى يطيـر .
فقال صاحب البيت : إن هذا الرجل لا يصلح للعمل , فأتى إليه وأيقظه وهو يقول له : قم يا رجل , اعتلت الشمس وأنت ما زلت نائماً , .فمتى ستحصد إذن !
فقال الرجل الصالح : ابحث لك عن أناس ليُغَمِّرُوا(1) لك زرعك ، واذهب إلى حقلك فقد حصدته كلّه .
فقال صاحب البيت : حقاً إنك مجنون أيها الرجل ، كيف حصدته وأنت لم تقم من مكانك ، وكيف تستطيع حصده كله في يوم واحد .
فقال له : اذهب كما قلت لك ولِمَّ زرعك فقد حصدته كله كما ذكرتُ لك .
فذهب الرجل غير مصدّقٍ ما سمعت أذناه ، وعندما وصل إلى الحقل صرخ من هول ما شاهد ، وأخذ يلطم على رأسه ويمزق شعره بيديه ، ويصرخ فقد رأى أن الزرع قد حُصد كله بالفعل ، وأن أشجار الزيتون قد حُصدت هي أيضاً ولم تبقَ منها شجرة واحدة .
فعاد إلى بيته باكياً ، وقال للرجل : كيف فعلت ذلك ؟
فقال له : لا أدري .
فأدرك صاحب البيت عندها أن هذا الرجل من عباد الله الصالحين , فأخذ يقبّل يديه ويستسمحه إن كان قد اخطأ في حقّه ويسأله معاتباً كيف فعلت ذلك ، ألم تشعر بأشجار الزيتون ؟!.
قال : لم أشعر بأي شيء سوى أني سمعت صوت المنجل وقد قطع شيئاً صلباً في مكان كذا من الحقل .
فذهبوا ليفحصوا هذا الشيء فوجدوه عظم جمل مغروز في الأرض وقد قصه المنجل نصفين , فتعجبوا لذلك .
وأكرم صاحب البيت ضيفه ، وجاءت عائلته لتصافحه وتتبرك من كراماته , ثم ودعهم وسار في حال سبيله بعد أن وعدهم أن يزورهم في كل مرة يمر فيها من قريتهم .
[align=center]  [/align]
-
المناظرة
يُحكى أن رجلاً صالحاً عُرف بالورع والتقوى ، واشتهر بذلك بين الناس ، وعمت شهرته في الآفاق ، وأصبح له أتباع ومريدون ، وصاروا يتحدثون عن كراماته في مجالسهم المختلفة .
وسمعت به امرأة صالحة أخرى تعيش في بلدٍ آخر ، ولها مكانتها وشهرتها ، وسمعت ما يتناقله الناس عن ورعه وكراماته فقررت أن تناظره وتغلبه حتى تصبح هي صاحبة السيادة والكلمة في تلك المنطقـة ، فبعثت إليه وأخبرته عن رغبتها في مناظرته واتفق الاثنان على الاجتماع في مكانٍ في القرية في يومٍ محدّد اتفقا عليه ، وكانت تلك المرأة بارعة الحسن والجمال ، فلبست أفخر ما لديها من الملابس وذهبت لتلتقي به في ذلك المكان ، ولتجتمع بذلك الرجل الصالح وتناظره في المسائل التي اتفقا عليها .
وجلس الرجل الصالح وانتظرها حتى جاءت وألقت التحية وجلست ، ثم بدأت تطرح عليه الأسئلة وهو مطرق لم ينظر إليها ولم يرفع بصره نحوها ، وكان يجيب على كلّ سؤال تطرحه عليه إجابة شافية لا تترك لها مجالاً للزيادة .
وبعد أسئلة عديدة أصابها الإعياء وأدركت أن منافسها ليس سهلاً ، فكشفت عن وجهها لتغريه وتفتنه بجمالها ، ولكنه ظل مطرقاً لا ينظر إليها ، بل ظل يجيب على أسئلتها وهو على هدوئه المعتاد ، فيئست وأعيتها الحيلة فقالت غاضبة : كُلْـهُ يا قمل .
فانتشر القمل على ملابسه وجسده ، حتى كاد يغطيه بالكامل .
فقال : نَقِّـهِ يا نمل .
فأخذت كلّ نملة قملةً وسارت بها .
وهكذا انتصر ذلك الرجل الصالح على تلك المرأة وغلبها وحافظ على مركزه ونفوذه ،وعادت هي إلى منطقتها دون أن تحقق ما كانت تطمح إليه ، ويقول البعض إن العداء ما زال قائماً بين أتباع هذين الصالحين حتى يومنا هذا ، والله تعالى أعلم .
أخلاق الصالحين
يُحكى أن رجلاً صالحاً اشتهر بين الناس بالوَرَعِ والتقوى ، وكانت له كرامات مختلفة يتحدّث بها أهل بلده ، ومن يزوره من الناس ، وكان في بيته ذات يوم إذ جاءه رجلٌ من أهل بلده وأخبره بأنه سمعَ زيداً من الناس وهو يشتمه ويسبّه ، وإنه قد اغتاظ منه نظراً لما يعرفه من صفات الرجل الصالح وما يتسم به من الحلم والأخلاق الحميدة والسيرة الحسنة وإنه قد جاء ليخبر الرجل الصالح بما سمعه من ذلك الرجل .
ولم ترتسم على وجه الرجل الصالح أية علامات لغضب أو غيظ أو غيره ، بل ظل على هدوئه المعتاد ، وقال لجليسه سأفتح فمي فأنظر فيه وأخبرني ماذا ترى ، وفتح فاه ونظر ذلك الرجل فيه وقال : أرى بحراً كبيراً لا حدّ له ، ثم أضاف : وأرى طفلاً يبول في البحر ، فقال له الرجل الصالح : أنظر جيداً هل عكّر بول الطفل مياه البحر ، فنظر الرجل وقال : لا لم يعكّره .فقال له الرجل الصالح بهدوء ، وكذلك نحن – عباد الله الصالحين - فإن مثل هذه الأمور التي ذكرت لا تؤثر علينا ولا تعكر صفونا ، فلا تقلق منها في المرات القادمة ولا تكترث لها.
وتعجب ذلك الرجل من حكمة الرجل الصالح ومن قلبه الكبير ، ومسامحته للمسيئين إليه من الناس وعاد وهو يحمده ويكثر من الثناء عليه .
جدي الخليل
يحكى أنّ إبراهيم الخليل عليه السلام عندما قَدِمَ إلى منطقة الخليل ، استقبله أهلها بالاحترام والترحاب واحتفوا به ، ودعاه بعضهم وذبحَ له جدياً وعمل له قِرَى .
وصار الذين عملوا القِرَى كلما احتاجوا شيئاً من الخليل عليه السلام ، يقولون له : نحن الذين ذبحنا لك جدياً ونريد كذا وكذا ، وصار إذا ذهب أحد من معارفهم أو أقاربهم يقولون له نحن من أقارب الذين ذبحوا لك الجدي .
وتكررت القصة مرات ومرات حتى أن الخليل عليه السلام ضجّ من ذلك ، وفي يوم جاءه بعض الأشخاص وعندما سألهم من أين أنتم قالوا له نحن من جيران الذين ذبحوا لك الجدي ، فيقال إن الخليل وضع إصبعه في فمه وتقيأ بشدة فخرج الجدي حياً يجري على أقدامه ، فقال لهم : خذوا جديكم ، واذهبوا في حال سبيلكم .
ومن يومها أصبح من يكرم بشيء ويعود يذكره أو يذكّر به ، يقولون له هذا يشبه جدي الخليل ، والله تعالى أعلم .
القادر يُكذِّبُ عبدَ القادر
يُحكى أنه كان هناك رجل صالح عرف بكراماته العديدة وبصدقه وشدة ورعه ودينه ، وكان هذا الرجل يُدعى عبد القادر ، وفي أحد الأيام جاءته امرأة حامل وطلبت منه أن يخبرها عن نوع الجنين الذي في بطنها وهل هو ذكر أم أنثى ، ووضع الرجل الصالح يده على بطنها من فوق ثيابها ، بعد أن سمّى باسم الله الرحمن الرحيم ومَرَّر يده عدة مرات وكأنه يتحسس نوع الجنين وحركاته ، وقال للمرأة إن الذي في بطنك ولد ذَكَر وقد لمست ذكورته بيدي ، وعادت المرأة إلى بيتها فرحة مستبشرة مسرورة الخاطر وأخبرت زوجها بذلك ، وبعد انتهاء فترة الحمل وضعت المرأة مولودة أنثى ، فأسقط في يدها وعادت بعد فترة لتعاتب الرجل الصالح على عدم تدقيقه معها في ما قاله لها ، فقال لها الرجل الصالح : أنا لمست ذكورة الجنين الذي في بطنك بيدي ، ولكن القادر كذّب عبدَ القادر ، فهو سبحانه قادر على كل شيء ، ولا يعجزه تغيير نوع جنينك ، وليكن اتكالك على الله وليس على أحد من خلقه وعباده .
فخشعت المرأة لله وعادت إلى بيتها بعد أن غمرتها السكينة والهدوء .
الثور
كان عند أحد الأشخاص ثور صغير هزيل الجسم ، لا يسمن ولا تتحسن حالته ، بالرغم من كثرة الطعام الذي يقدمه له صاحبه من عَلَفٍ وقشٍّ وتبن وغيره .
وعندما طالت المدة ولم تتحسّن حالة الثور ذهب صاحبه إلى أحد الشيوخ الذين يعملون التمائم والحُجُب ، وشكا له حالة ثوره وكيف أنه قلق عليه ، ويخشى إن استمر الحال على ذلك أن يصاب ثوره بمكروه ، وطلب من الشيخ أن "يَفْتِـش " لثـوره ، وأن يعمـل له " ورقة " ليشفى من الهزال الذي هو فيه ، فطمأنه الشيخ قائلاً : عد إليّ في الغد وسأعمل له ما يعيد إليه عافيته ، وفي الغد أعطـاه "حِجَاباً " على شكل مثلث ملفوفاً لفّاً جيداً وقال له علّقه في رقبة ثورك وسيزول عنه الشرّ إن شاء الله .
وبعد عدة أيام بدأ الثور يتحسن شيئاً فشيئاً ، وسمن جداً حتى أصبح ثوراً كبيراً ، فأصاب الرجل شيء من الفضول وحب الاستطلاع لهذا السرّ الذي يكمن في الحجاب والذي أدّى إلى هذه النتائج المرضية والسريعة وقال في نفسه سأفتح هذا الحجاب وأرى ماذا كَتَبَ فيه الشيخ . وفعلاً فَكّ الحجاب من رقبة الثور وفتحه وقرأ ما كُتب فيه ، وإذا هو سطر واحد لا غير كُتب فيه :" يسمن الثور يا إن شاء الله عُمره ما سمن ".
فضحك الرجل من سخافته وقلة عقله وكيف صدق هذه الأباطيل ومزّق الحجاب غاضباً ورمى به إلى الأرض .
ولكن يقال إن الطريف في هذه القصة أن الثور بدأ يهزل من جديد .
جرادة وعصفور
يُحكى أنه كان هناك شيخٌ يُدعى عصفور ، وكانت له زوجة تُدعى جرادة ، وكانا يعيشان حياة فقرٍ وعوز ، وفي أحد الأيام أشارت عليه زوجته أن يبحث له عن عمل ، ولما لم يجد ما يعمل به ، أشارت عليه أن يعمل نفسه ساحراً ويجلس على الرصيف ويحكي ما شاء له من الكلام ، علّه يأتي ببعض النقود في نهاية اليوم ليشتروا بها ما يقتاتون به .
وافق عصفور على رأي زوجته وذهب في اليوم التالي إلى المدينة وجلس على الرصيف وبسط أمامه منديلاً ووضع عليه الرمل وأخذ يخُطُّ عليه بأصابعه وكأنه يتقن أسرار هذه الصنعة ، فتهافت الناس عليه كلّ يسأله عن حلٍّ لمشكلته ، وهو يلقي الكلام على عواهنه بعفوية وبساطة وكيفما اتفق ، ولكنه كان كثيراً ما يصيب ، وكان يعود في نهاية اليوم وقد جمع كثيراً من النقود حتى تحسّنت حالته ، ودام على ذلك فترة من الزمن اكتسب خلالها شهرة واسعة ، واكتسب كذلك جرأة على العمل في هذا المجال ، وحدث في أحد الأيام أن سطت عصابةٌ من اللصوص على خزينة الملك وسرقوا منها صندوقين من المال ، فدعا الملك وزراءه وتشاوروا في الأمر وقرروا البحث عن ساحر يضرب الرمل ويكشف عن مكان الصناديق المسروقة ويكشف عن السارقين أيضاً، ولما كان عصفور قد اكتسب شهرة واسعة فقد وصلت شهرته إلى مسامع الملك وحاشيته ، فأمر بإحضاره وطلب منه الكشف عن مكان الصندوقين واللصوص .
أُسقط في يد عصفور ولم يدر ما يعمل وطلب مهلة من الملك ليدبر أموره ويضرب الرمل ويستشير أعوانه ، فأعطاه الملك مهلة أربعين يوماً ، ولما كان عصفور لا يعرف الحساب ولا العَدّ ، فأخذ زوجته إلى السوق واشترى أربعين حبةً من الرمان ليأكل كل ليلة رمانةً منها فيعرف ما تبقّى من أيام المهلة . وسمع اللصوص الخبر وكانوا أربعين لصاً وزعيمهم ، فخشوا من افتضاح أمرهم وأيقنوا أن عصفور كاشف عنهم لا محالة .
وفي الليلة الأولى طلب زعيم اللصوص أن يذهب أحدهم إلى بيت عصفور ويتجسّس الأخبار ويحاول أن يسمع ما يقوله عصفور ، وقبل أن ينام عصفور طلب من زوجته أن تحضر رمانة ليأكلوها لانقضاء أول ليلة من أيام المهلة ، وعندما أحضرتها قال عصفور هذا أول واحد من الأربعين وهو يقصد أول يوم من الأربعين يوماً ، ولما سمع اللص ذلك سقط قلبه في جوفه ، وظن أن عصفور قد شعر به وعلم بوجوده ، فهرب وعاد إلى زعيمه وأخبره بما سمع من عصفور وكيف شعر به وعلم بوجوده دون أن يراه ، وفي الليلة التالية بعثوا لصاً آخر ليتجسّس أخبار عصفور ، وعندما أحضرت زوجة عصفور الرمانة قال هذا ثاني واحد من الأربعين وحدث مع الثاني كما حدث مع الأول ، ودام الحال على ذلك عدة ليال حتى ضج اللصوص من الخوف واقشعرت أبدانهم ولما لم يرضَ أحدٌ منهم بالذهاب إلى بيت عصفور قرّر الزعيم الذهاب بنفسه وسماع ما يقوله عصفور ، وفي المساء عندما أحضرت زوجة عصفور له الرمانة أمسك بها وكانت كبيرة وأكبر واحدة في الرمانات ، فقال عصفور هذا أكبر واحد في الأربعين وهو يقصد حبّة الرمان ، أما الزعيم فظن أنه يقصده لأنه أكبر واحد في العصابة وهو زعيمهم فخاف وعاد إلى أصحابه وقرر إعادة الصندوقين وتسليم أنفسهم ، وهكذا فعلوا ، فسلمهم عصفور في اليوم التالي إلى الملك وطلب منه أن يخفّف عقوبتهم .
وطار صيت عصفور بعد ذلك وانتشر خبره وعمّت شهرته كلّ أرجاء المملكة وأصبح ساحر القصر بلا منازع ، وفي يوم سألته الملكة وكانت حاملاً وعلى وشك الوضع : هل تعرف أين ألد يا عصفور فكّر عصفور مليّاً ولما لم يعرف الجواب قال : لا فوق ولا تحت ، وصعدت الملكة الدرج إلى حجرتها فسابقها الطَّلْق ووضعت قبل أن تصل إلى غرفتها ، فقالت صدق عصفور فقد تنبأ لي بذلك وكافأته وأحسنت إليه . أما الوزير فكان يشك في صدق عصفور ويقول للملك إنه كاذب ، وفي يوم سنحت له الفرصة أن يمتحن عصفور ويوقع به ، وذلك أن جرادة طارت من مكانها ومرّت أمام شرفة القصر وعلى مرأى من الملك ووزرائه فانقض عليها عصفور وابتلعها وكانت كبيرة فوقفت في حلقه ولم يستطع ابتلاعها فوقع ومات ، فكّر الوزير بمكيدة يوقع بها عصفور فقال للملك إن كان ساحرك ماهراً فدعه يخبرنا كيف مات هذا العصفور فأمر الملك بإحضاره وسأله الوزير عن سبب ميتة العصفور . عرف عصفور بالمكيدة لأنه كان يعرف كراهية الوزير له ، وجعل يندب حظّه ويلوم زوجته التي أشارت عليه وأوقعته في هذا المأزق وقال وهو يجهش بالبكاء :« لولا جرادة ما وقع عصفور » وهو يقصد لولا جرادة زوجته لما وقع هو في هذا المأزق ، وظن الملك والوزير أنه يقصد لولا الجرادة التي وقفت في حلق العصفور لما وقع ومات ، ففرح الملك لفشل مكيدة وزيره وأمر بمكافأة عصفور على ذلك ففرح عصفور بخلاصه بعد أن كان لا يصدق بالنجاة .
الحرذون
يحكى أنَّ امرأة شابة حديثة عهدٍ بالزواج ، كانت لديها خيمة كالمطبخ تخبز فيها وتطهو طعامها، وكانت كلما دخلت هذه الخيمة ترى حرذوناً يقف على عمودٍ في زاوية من زوايا الخيمة وهو ينظر إليها باستمرار .
فأوجست المرأة خيفةً من هذا الحرذون ، وأصبحت تخشى من دخول الخيمة ، وشَكَتْ إلى زوجها من هذا الأمر ، وأخبرته بقصة ذلك الحرذون الذي ينظر إليها وأعربت عن قلقها وخوفها منه .
ولكن زوجها سخر منها ، ومن قلة عقلها وسخافة أقوالها ، وقال لها أتخشين من حرذون ؟!، وماذا يمكن أن يفعله بك حرذون مسكين كهذا ؟ . ولكنها لم ترضَ بدخول الخيمة إلا إذا رافقها زوجها حتى يشاهد بنفسه على الأقل هذا الحرذون الذي يشكّل مصدر خوف وإزعاج لها .
وانصاع الزوج لأمر زوجته ، ودخل معها الخيمة فأرته الحرذون الذي ينظر إليها ، يقف في زاوية من زوايا البيت ، فقال لها زوجها ساخراً : أتخشين من هذا الحرذون ؟ وقهقه ضاحكاً وقال : إذن خُذْهَا يا حرذون ؟.
وما أعظم دهشة الرجل ، وما أشد خيبته ، عندما وجد أن زوجته قد اختفت بالفعل ، واختفى معها ذلك الحرذون أيضاً .
اختفت زوجته ، ولم يعد يجد لها أثراً وكأن الأرض ابتلعتها ، فجُنَّ جنون الرجل ، وأدرك أن امرأته كانت على حقّ ، وأن مخاوفها كانت في مكانها ، وأن ذلك الحرذون لم يكن حرذوناً حقيقياً بل كان جِنِّياً في شكل حرذون ، ولامَ نفسه لأنه سخر من زوجته ، وفرّط فيها بإهماله وسخريته منها .
وأخذ الرجل يندب حظه ، ويبكي على زوجته ، ويبحث عن طريقة لإرجاعها إلى بيتها ، فأرشده بعض أقاربه وأصدقائه ، ودلّوه على ساحرٍ كبير ، له باع طويلة في حلّ مثل هذا الأمور ، وقالوا إن كثيراً من الناس قد جرَّبوا علاجه ومدحوه وشكروا صنيعه .
توجه الرجل وبعض أشخاص من أهله إلى ذلك الساحر وأخبروه بالقصة وأحضروه معهم ليشاهد مكان الحادث ، فضرب المندل وأمر بإحضار الحرذون الذي خطف المرأة ، وعندما حضر أمره بإرجاعها إلى مكانها وإلا أحرقه ، فرفض الحرذون أن يطلق سراحها مدعياً أنّ زوجها هو الذي قال له أن يأخذها ، فأخبره الساحر بأن زوجها لم يكن يدري بأن ذلك الحرذون هو مارد من الجن ، ولذلك عليه أن يطلق سراحها ، ولكن الحرذون رفض أيضاً هذا الطلب وأصرّ على إبقائها معه .
فأمر الساحر بإحضار ملك الجنّ وقرأ من العزائم التي يعرفها وأطلق البخور في المكان ، فحضر الملك فأمره بإجبار ذلك الحرذون على إطلاق سراح المرأه وإلا أحرقه بعزائمه وعهوداته التي بينهم ، غير أن الحرذون أصرّ على عناده ، ولم ينصع لأمر الملك أيضاً ، فأمر الملك عندها بإعدامه شنقاً ، فرأى الذي يشاهد المندل وقد أعدموا ذلك الجنيّ وعلقوه على شجرة ، فأغلق الساحر حينها كتبه وصفّـق بيديه ، وإذا بالمرأة تظهر أمامهم سليمة معافاة ، وإذا بالحرذون يبدو معلقاً من رقبته ومشنوقاً بخيط على العمود الذي كان يقف عليه في زاوية البيت .
وهكذا عادت المرأة إلى زوجها بعد أن كاد يقطع الأمل في عودتها سالمةً إليه .
عقالك ظَلّ
كان الناس يعتقدون بأن كثيراً من الأماكن المهجورة في الصحراء ، أو بعض الأشجار التي تنبت على جوانب الطرق تكون مسكونة بالجنّ الذي يخرج على الناس ، أو على كلّ من يسير لوحده في ساعات الليل أو المساء أو يمرّ بالقرب من تلك الأماكن في أوقات الظلام ، وكانوا يتجنبون الاقتراب من هذه المواقع في ساعات الليل ، وكذلك يتجنب الواحدُ منهم السير منفرداً في هذا الخلاء .
فكان كلّ من يمر من هناك بالصدفة دون أن يعرف عن قصة هذه المواقع يخرج عليه ساكنُ ذلك المكان من الجنّ ويفزعه ، أو يتصوّر له في هيئاتٍ شتى ثم يفزعه في نهاية المطاف ، وكثيراً ما كان بعض هؤلاء الذين يتعرضون لمثل هذه الحوادث ما يصابون بالجنون ، وحتى أن بعضهم قد يموت من شدة الفزع .
والحكايات حول هذا الموضوع كثيرة ومتعددة ، وتأخذ أشكـالاً مختلفة ، وأحداثها وأبطالها تختلف من بلد لآخر ، وقد يكون في هذه الحكاية ما يوضِّح الصورة ، حول الموضوع الذي نحن بصدده .
يحكى أن رجلاً فقيراً ذهب ليشتري له جدياً صغيراً من سوق غزة قبل عيد الأضحى بفترة حتى يكون سعره رخيصاً ويربيه في بيته ويطعمه حتى إذا ما جاء العيد يكون الجدي سميناً فيذبحه أضحية لأولاده ، وكان من عادة الناس أن يسيروا في ساعات الليل حتى يدركوا السوق مع بدايته في ساعات الصباح الباكر .
وفي الطريق وفي ساعات الظلام الحالك وبينما كان الرجل يسير لوحده كانت هناك شجرة سِدْرٍ كبيرة منفردة على جانب الطريق ، وعندما وصل إليها الرجل وجد جدياً صغيراً يرتعد من البرد ، فقال الرجل في نفسه : يبدو أن هذا الجدي قد ضلّ من قطيع مَـرَّ من هنا في ساعات المساء ، وقال سبحان الله الذي وفَّر عليّ جهدي ومالي ويَسَّر لي بهذا الجدي الهزيل ، وسأعود به إلى عيالي وأطعمه وأعلفه وأسقيه حتى يسمن ، وما أن يحين وقت العيد إلا ويكون جدياً كبيراً فأذبحه أضحية لأولادي .
وحمل الرجل ذلك الجدي على رقبته ثم عاد أدراجه ، وصار يفكّر في هذا الحظ الطيّب وفي تربية الجدي وفرحة الأولاد به ، وسها عن نفسه أثناء تفكيره ، ولكنه أخذ يشعر بأن الجدي الذي يحمله أصبح ثقيلاً ، فاستغرب ذلك ، وأخذ الجدي يكبر ويثقل فنظر إليه الرجل وإذا به قد أصبح تيساً كبيراً ، وإذا برجليه قد طالت أمامه حتى كادت تصل إلى الأرض .
فأدرك الرجل بأن الجدي الذي يحمله ما هو إلا ذلك الجنيّ المعهود الذي سمع عنه والذي يخرج على كلّ من يسير لوحده في ساعات المساء في هذه الطريق الموحشة ، وأدرك أيضاً أنه قد وقع في حبائله فكيف يكون الخلاص منه .
فتململ الرجل واستعاذ بالله من الشيطان الرجيم ثم رمى الجدي بقوة من على رقبته ، فوقع على الأرض ، وهرب هو بكلّ قواه لا يلوي على شيء ، ووقع منديل الرجل وعقاله من على رأسه فناداه الجدي من خلفه قائلاً : تمهل يا هذا ، فعقالك قد وقع .. تمهل .. عقالك ظلّ .. عقالك ظلّ ..
ولكن الرجل لم يلتفت وراءه ، بل ظلّ يجري حتى ابتعد عن ذلك المكان ، وهو لا يصدق بالنجاة ..
ثم نظر خلفه فلم يجد الجدي قد تبعه ، فتنفس الصعداء وحمد الله ، بعد أن فقد الأمل بالنجاة من أيدي ذلك الشيطان .
القط
كان صاحب سيارة أجرة عائداً إلى بيته قبل منتصف الليل ، وعندما اقترب من منعطف غير بعيد عن منزله ، وكان مسرعاً قفز أمامه قطّ أسود وارتطم بالسيارة فمات على الفور .ولم يهتم صاحب السيارة بذلك القط المقتول فهذه الأشياء كثيراً ما تحدث مع السائقين فلا يعيرونها اهتماماً .
ولكن بعد أن وصل الرجل إلى بيته وأراد أن ينام بدأت الحجارة تنهال على البيت من كل جانب ، تحطّم زجاج النوافذ ، وتهشّم ما يقع في وجهها مهما كان نوعه .
وذعر أصحاب البيت وبدأوا بالصراخ والعويل ، فالتمَّ عليهم الجيران ورأوا كيف تنهال عليهم الحجارة من كل ناحية دون أن يروا الذي يلقيها عليهم .
وسارع الجيران بنقل السائق وعائلته إلى بيوتهم علّهم يحمونهم من هذا البلاء المجهول ، ولكن الحجارة استمرت تلاحقهم أينما ذهبوا وحيثما حلّوا ، واستمرت تنهال عليهم وعلى بيتهم حتى اليوم التالي ، ولم يتمكن صاحب السيارة وعائلته من النوم وكذلك جيرانهم الذين نقلوهم إلى منزلهم ، فاستنجدوا بالعديد من الشيوخ والسحارين من القرى المجاورة ، الذين هبّوا لنجدتهم ، وجاءوا لكشف حقيقة الأمر وقاموا بدورهم بفتح المندل ، واستفسروا عن السبب ، فأخبروهم أن ذلك القط كان جنيّاً قد تصوّر في شكل قط ، وقد قتله سائق سيارة الأجرة .
وسمع سكان القرى المجاورة بهذا الحادث فهرع المئات منهم ليروا كيف تتساقط الحجارة على بيت ذلك السائق التعيس الحظ ، دون أن يروا من يلقيها .
واستطاع السحارون في نهاية المطاف إبرام صلح بين الطرفين ، حيث أن السائق لم يتعمد قتل القط ، بل أن القط هو الذي قفز أمامه ، ولم يستطع الوقوف عنه ، وكذلك كيف يمكن للرجل أن يعرف بأن ذلك القط هو من الجنّ وهو في صورة القطط ، فكان ما كان .
واتفق السحارون مع ملك الجانّ أن ينحر أهل السائق عدة ذبائح إكراماً لأهل القتيل ،وأن يضعوا المناسف في غرفة ويتركوها ويغلقوا الباب عليها ، وفعلوا ما طلب منهم ، ووضعوا الطعام في غرفة وأغلقوا الأبواب ، وبعد فترة فتحوا الباب ووجدوا الصحون فارغة من الطعام فعرفوا أن القوم قد أصابوا طعامهم ، وأصبح بينهم عيش وملح وهذا دليل على نية الصلح .
واستطاعوا بذلك إقناعهم بإيقاف ذلك السيل من الحجارة فأوقفوها وعاد السائق وعائلته بعد ذلك إلى منزلهم ، وناموا ليلتهم دون أن يتعرض أحد لهم بأذى .
غير أن الحجارة عادت لتنهال عليهم من جديـد في صبيحـة اليوم التالي ولكنها كانت قليلة وتأتي من جهة واحدة ، فاتصلوا بالسحارين الذين حضروا صلح الأمس وطلبوا منهم فحص الأمر والتأكد منه ، ففتحوا المندل من جديد واستدعوا ملك الجنّ الذي تأكد بعد تقصي الحقائق بأن أحد أقارب القتيل كان غائباً وعندما عاد وسمع بالخبر أراد أن يثأر لقريبه ولم يكن قد سمع بالصلح الذي تمّ بين الطرفين .
فأخبروه أن ما حدث كان خطأً غير مقصود وأن ذلك من قضاء الله وقـدره، فكفَّ عن رمي الحجارة وعاد الهدوء يخيّم على أرجاء المكان من جديد ، لتنتهي بذلك تلك القصة المثيرة التي ما زالت أحداثها تعلق بأذهان الكثيرين .
رفيق الطريق
كان الناس إذا أراد أحدهم أن يذهب إلى السوق , فكان يسري مع ساعات الفجر الأولى , فيصل مع إطلالة الصباح ويكون السوق قد بدأ في ذلك الوقت وكانت الأسواق تقام يومي الاثنين والخميس , وبعضها كان يقام يوم الجمعة .
وذات يوم سرى أحد الأشخاص راكباً بهيمته ومتوجهاً نحو السوق وكان الوقت ليلاً , ومن يذهب وحده يحسّ بوحدة الطريق ووحشته , وببعد المسافة , فتمنى ذلك الرجل أن يجد رفيقاً يقطع معه عناء السفر حتى يصل إلى السوق .
وبعد أن سار بعض الوقت , رأى رجلاً أمامه يركب بهيمةً وقد تقدمه في الطريق , فساق الرجل بهيمته لتسرع به علّه يلحق بذلك الرجل ويتسلّى معه بالحديث فلا يشعر بمشقة السفر وعنائه .
وكان الرجل الأمامي يسير على مهل ، فما هي إلا برهة قصيرة حتى اقترب منه ذلك الرجل وبادره بالتحية قائلاً له : صَبَّحَكَ الله بالخيـر , فرد عليه الرجل قائلاً :
لا صبَّحك الله بالخير , أيها الوغد ، من أين تعرفني ، وماذا تريد مني في هذا الصباح الباكر .
وغضب الرجل ولام نفسه على اللحاق به ، وشتمه ورد له الصاع صاعين ، ولم يسكت الرجل الآخر بل أخذ يكيل له من المسبة والشتائم الشيء الكثير ، وصار الرجل يردّ أحياناً ويسكت أحياناً أخرى , وظلا يتشاجران على هذا الشكل حتى اقتربا من السوق , وعندها التفت الرجل فجأة فلم يرَ أحداً أمامه ، واختفى ذلك الرجل تماماً ولم يعد يظهر له أثر ، فعرف أن ذلك الرجل لم يكن رجلاً بل هو شيطان تلك المنطقة ، الذي يخرج على كثير من الناس في الليالي المظلمة ، وتعجب من نفسه كيف لم يعرفه أو حتى يفطن على باله ، وضحك من ذلك الصباح الذي نَكَّدَه عليه ذلك الشيطان , ولكنه فطن إلى أنه قطع الطريق دون أن يشعر بأي تعب أو عناء ، لأنه كان مشغولاً بمشاجرة ذلك الرجل الغريب الأطوار .
[align=center]  [/align]
-
الغولة وابن الملك
كان لأحد الملوك ثلاثة أولاد في غاية الجمال والأدب، وقد بنى لهم قصراً من زجاج ووضعهم فيه، ولم يسمح لهم بالخروج خوفاً عليهم، وكانت إحدى الخادمات تأتيهم بطعامهم في كل يوم ، وهو عبارة عن بيض لا قشر فيه, ولحم لا عظم فيه, وفجل لا ورق فيه, وظلت هذه الخادمة تأتيهم بطعامهم وتخدمهم فترة طويلة، ثم توفيت وصارت تأتيهم بطعامهم خادمة جديـدة فأتـت لهم بالبيـض وقشـره فيه , واللحم وعظمه فيه, والفجل وورقه فيه, فقالوا لها لماذا تأتينا بالطعام على هذه الصورة, وقد تعوّدنا أن يصلنا البيض ولا قشر فيه، واللحم لا عظم فيه، والفجل لا ورق فيه, فقالت لهم : تُقشِّرون البيض فتتسلون بتقشيره, وتأكلون اللحم وتمصمصون العظم فتتسلون بذلك, وقد يعجبكم ورق الفجل فتأكلون منه, فقالوا لها: نِعم الرأي فعلتِ، وأنت على حقّ في ذلك, واستمرت الخادمة تأتيهم بطعامهم على هذه الطريقة مدة من الزمان، وفي إحدى المرات رمى أحدهم بالعظم فكسر زجاجة من القصر وعمل فجوة صغيرة, فنظروا من خلالها إلى العالم الخارجي, وإذا هناك بيوت وأناس ودواب وأراضٍ خضراء, فأعجبهم ذلك المنظر، وقالوا لماذا نحن في هذا السجن, وعندما أتتهم الخادمة قالوا لها قولي لأبينا, إذا كنا بنات نريد أن نتزوج, وإذا كنا أولاداً نريد أن نتزوج, وإذا كنا زرعـاً نريد أن نُحصد .
فأبلغت الخادمة أباهم بذلك ، فذهب إليهم وقال لهم سأزوجكم , وغداً سآمر جميع بنات المملكة بالمرور من تحت القصر , وإذا أعجبت أحدكم واحدة منهن فليرمها بحبة تفاح ، وسوف أزوجها له .
ومرّت البنات .. جميع بنات المملكة مررن من تحت القصر ، وكان أولاد الملك يتفحصون بأنظارهم تلك البنات , ورمى أكبرهم واحدة بحبة تفاح ، وبعد فترة , رمى أوسطهم حبة التفـاح على فتـاة أخـرى ، أما الصغير فلم يرمِ بحبة التفاح التي كانت معه , وأمر الملك البنات أن يمررن مرة أخرى ففعلن , ولكن الابن الأصغر لم يرم إحداهن بتفاحته وكانت هناك فتاة تخلّفت عنهن فأمرها الملك بالمرور فمرّت , فرمى ابن الملك تفاحته عليها , فكانت البنتان التي رماهما الأخوان الأكبر والأوسط ابنتي عميهما , أما التي رماها الابن الأصغر فكانت " غولةً " .
وزوج الملك أبناءه ودخل الأخوان الأكبر والأوسط على عروسيهما وخرجا للناس ، أما الأصغر فلم يخرج , وبقي ثلاثة أيام دون أن يخرج فقلق والده الملك وأهله عليه , وفي الليل تسلل أبوه ونظر من خلال فتحة في القصر فرأى ابنه مرمياً على ظهره وعلى صدره رحىً ثقيلة , وغولة عيونها صفراء كالنار تجْرُشُ عليها , ففزع الملك مما شاهدت عيناه وفرّ هارباً , وأمر جميع قبيلته بالهروب في جنح الظلام , ولم يبقَ خلفهم سوى فرس عجوز هرمة , وعندما أتى الصباح لم يبقَ لهم أثر في المكان , وعاد الابن الأصغر إلى وعيه وطلب من زوجته الغولة أن تسمح له بالخروج ليرى النور , فقالت : لا تحاول أن تهرب , لأنك لو هربت خمسة أعوام فأنا اقطع هذه المسافة في خمسة أيام , وسمحت له بالخروج فرأى النور ولم يرَ أحداً من أهله وقبيلته فتعجّب لذلك , ورأى الفرس الهزيلة وأراد أن يركبها ويهرب من المكان ، فنطقت الفرس وتكلمت وقالت له : أنا فرس هزيلة ولا أستطيع الجري ، وإن هربنا فسوف تلحقنا الغولة وتأكلنا معاً ، فتعال شقَّ بطني واخرج منها مُهرةً واركبها , وستكلمك المهرة كما كلمتك أنا , وخذ معك هذه العيدان الثلاثة، وهي عود أسود ، وعود أحمر ، وعود أبيض ، وعندما تلحقك الغولة ارمِ بالعود الأسـود , فينبت بينك وبينها شوكٌ كثيف يعوقها إلى حين ، فتبتعد عنها ، وعندما تلحقك مرة ثانيه ارمِ بالعود الأحمر , فتهب نيران بينك وبينها تعوقها إلى أن تبتعد عنها , وعندما تلحقك للمرة الثالثة ارمِ بالعود الأبيض فيصبح بينك وبينها سبعة بحور وهكذا تتخلص منها نهائياً .
وفعل الابن الأصغر ما أشارت به الفرس فشقَّ بطنها , وأخرج المهرة وركبها وأخذ العيدان الثلاثة وهرب .
وانتظرت الغولة أن يعود زوجها ولكنه تأخّر وأبطأ عليها فخرجت تبحث عنه وعندما تأكد لها أنه هرب منها ، لحقت به مسرعة حتى اقتربت منه ، فرمى بالعود الأسود فسدّ بينه وبينها شوك كثيف وما استطاعت أن تخلّص نفسها منه إلا بعد جهد ، وقد أصبح على مسافة بعيدة عنها , ولحقت به للمرة الثانية وعندما اقتربت منه رمى بالعود الأحمر ، فشبّت نيرانٌ عالية وحالت بينها وبينه , وما أطفأت قسماً منها ، وفتحت ممراً لها , حتى أصبح على مسافة بعيدة عنها , وعندما لحقت به للمرة الثالثة واقتربت منه ، رمى بالعود الأبيض فسدَّ بينه وبينها سبعة بحور , وهكذا تخلص منها نهائياً .
سار ابن الملك على مهرته وحيداً في البراري بعد أن أمن شرَّ الغولة , وأثناء سيره وجد ريشة طير مكتوب عليها , « مَن يأخذني يندم ومَن يتركني يندم » , فقال في نفسه إذا تركتها فانا نادم وإذا أخذتها فانا نادم , فآخذها وأندم أفضل من أن أتركها وأندم , وهكذا أخذها ، وسار حتى وصل إلى أقرب بلد وبات فيها , وكان مبيته قريباً من قصر ملك تلك البلاد , وفي الليل غنّت الريشة غناءً شجياً ، وطرب ابن الملك لغنائها ، وسمع ملك تلك البلاد ذلك الغناء الشجيّ فقال آتوني بالمغنّي , فبحثوا عن مصدر الغناء وسألوا الناس القريبين من المكان عن مصدر هذا الغناء ، فأنكروا خبره ، وقال بعضهم إنه لم يسمع به ، وأخيراً قال أحدهم ربما يكون مع هذا الغريب ، وعندما سألوه قال نعم ، إنها هذه الريشة ، وهي التي كانت تغني في الليل بذلك الصوت الشجي ، فأخذوه للملك ، وعندما عرف الملك بأن الريشة هي التي كانت تغنِّي ، قال لها : غنِّ يا ريشة ، فقالت لا أغني حتى تأتوني بطَيْرِي ، فقال الملك : ومن يستطيع أن يأتي بطيرك ، فقالت الذي أتى بي يستطيع أن يأتي بطيري ، فقال ملك تلك البلاد لذلك الغريب : أمهلك ثلاثة أيام وثلث اليوم على أن تأتيني بطيرها , وإن لم تفعل ، فسوف أقطع رأسك ، فخاف ابن الملك الصغير وندم على حمله لتلك الريشة وقال هذا أول الندم , وذهب ابن الملك على وجهه , والهمّ يعتصره ويأكل قلبه , ورأته المهرة وهو على هذه الحالة ، فقالت له : ما الذي جرى لك ، ولماذا أنت قلق , فأخبرها بالقصة , فقالت له ، لا تقلق فهذا من أسهل الأمور ، فقال لها : كيف ذلك ، فقالت : اذهب إلى الملك واطلب منه قفصاً ، وحبّةً سوداء وتعال إليّ , فذهب للملك فأعطاه ما طلب , وعاد فدلته المهرة على مكان يضع فيه القفص ويضع فيه الحبة السوداء ، وجاء الطير, ودخل في القفص وأخذ يأكل من الحبة السوداء ، فأغلق ابن الملك عليه القفص , وأخـذه إلى الملك , فقال الملـك : غنِّ يا ريشة ، فقالت لا أغَنِّي حتى يُغَنِّي طيري ، فقال غنِّ يا طير فقال لا أغنّي حتى تأتوني بزوجي ، فقال الملك ومن يستطيع أن يأتيك بزوجك ، فقالت الذي أتى بالريشة ، وأتى بي هو الذي يستطيع أن يأتي بزوجي , فقال الملـك : أمامك ثلاثة أيام وثلـث اليوم , لتأتي به , وان لم تأتِ أقطع رأسك , وسار ابن الملك على وجهه , وهو حيران قلق , والحزن ينهش قلبه , ورأته المهرة وهو على هذه الحال فقالت ما بك هكذا ، وما الذي أصابك فأخبرها بقصتـه , فقالت وهذا هيّن أيضاً , فقال لها وماذا أفعل ، فقالت : عُد إلى الملك واطلب منه عربتين مملوءتين بالألبسة وتعال إليّ , فعاد إلى الملك وأعطاه ما طلب ، فقالت المهرة اذهب الآن إلى السوق وبع هذه الألبسة بنصف الثمن وعندما يأتي زوج الطير سأدلك عليه ، فأغلق عليه الباب وأمسك به .
وذهب ابن الملك إلى السوق وذهبت معه المهرة وصار يبيع الملابس بنصف الثمن وأقل من النصف , وتهافت عليه الناس وبدأوا يزدحمون حوله , وأقبل زوج الطير وأراد أن يشتري فقالت له المهرة هذا هو فقال له ابن الملك ادخل واختر ما تريد من الملابس ، فدخل , وعندها أغلق ابن الملك عليه الباب , وحمله وسار به إلى الملك , فقال الملك غنِّ يا ريشة فقالت لا أغني حتى يغني طيري ، فقال غنِّ يا طير ، فقال لا أغني قبل أن يغني زوجي ، فقال غنِّ يا زوجها , فقال لا أغني حتى تأتوني بخاتمي ، فقال الملك : وأين هو خاتمك ، فقال : سقط في البحر , فقال ومن يستطيع أن يأتيك به . فقال الذي أتى بالريشة والطير وبي , هو الذي يستطيع أن يأتي بخاتمي , فقال الملك أمامك ثلاثة أيام , إذا أحضرت خلالها الخاتم عفوت عنك , وإذا لم تحضره أقطع رأسك .
فذهب ابن الملك وهو يكاد يجنّ ، وهو يضرب كفاً بكف وقد بدا القلق على وجهه وهو يقول : كيف أستطيع أن أُحضر خاتماً قد سقط في البحر ، وأين أبحث عنه يا إلهي ، وفي أي مكان من البحر ؟!
ورأته المهرة وهو على هذه الحال ، فسألته عما حدث له فأخبرها بما طلب منه الملك ، فهدأت من روعه وقالت وهذا أيضاً أمر هيّن ، عد الآن إلى الملك واطلب منه سفينتين مليئتين باللحم وتعال إليّ ، فذهب إلى الملك وأعطاه ما طلب ، وعاد إلى المهرة فقالت أنزل الآن بسفينتيك إلى البحر وارمِ قطع اللحم هنا وهناك في أماكن مختلفة من البحر حتى يخرج إليك ملك السمك وهو الذي سيعطيك مرادك إن شاء الله ، فنزل إلى البحر وصار يرمي قطع اللحم هنا وهناك والسمك يلتهمها بنهم ، ورآه ملك السمك فخرج إليه وقال له : ما بك أيها الرجل ولماذا ترمي هذه اللحوم إلى البحر فقال إني أبحث عن خاتم لي سقط في البحر ، فقال ملك السمك انتظر قليلاً وسأدعو جميع السمك الذي في البحر ، فدعا السمك وأمرها جميعاً أن تقذف ما في بطونها ، ففعلت الأسماك جميعاً ما أمرها به ملكها ولكنهم لم يجدوا الخاتم ، وأخيراً رأوا سمكة متأخرة يبدو عليها التعب والإعياء ، وعندما قذفت ما في بطنها وجدوا الخاتم ، فأخذه ابن الملك وعاد إلى الملك بعد أن شكر ملك السمك ، وأعطى الخاتم للطائر وسأله هل هذا خاتمك فقال نعم ، فقال الملك إذن غنِّ يا ريشة فقالت لا أغني حتى يغني طيري فقال : غنِّ يا طيرها ، فقال لا أغني حتى يغني زوجي ، فقال غنِّ يا زوجها فقال لا أغني حتى تشعلوا ناراً ثلاثة أيام ويدخلها الذي أتى بي إليك ويقف فيها ثم يعود ويخرج إلينا دون أن تمسّه النار بأذى . وأعطى الملك مهلة ثلاثة أيام وثلث لابن الملك التعيس الحظ ليهيئ نفسه للدخول في النار والوقوف فيها ، وشعر ابن الملك بأن نهايته قد اقتربت ، وقال في نفسه لا مفر من الموت في هذه المرة ، ولن أنجو كما نجوت في المرات السابقة .
وأمر الملك بإشعال النار فأشعلوها حامية عالية ، ورأت المهرة آيات القلق والخوف والحزن ترتسم على وجه ابن الملك فسألته عما حدث له ، فأخبرها بقصة النار ، فقالت : أحضِر إناءً وأملأه من عَرَقِي واغسل به جسمك قبل أن تدخل النار بقليل ، وادخل النار فلن تؤذيك بعون الله تعالى ، وعندما جاء اليوم المحدّد غسل ابن الملك جسمه بعرق المهرة ودخل النار أمام الجميع ، ووقف داخلها عدة دقائق فلم تؤثر فيه ولم تؤذه بالمرة ، ثم خرج منها سليماً معافى ، فقال الحاضرون إذا كان هذا الصعلوك الفقير يدخل النار ولا تؤذيه فكيف أنت يا ملك الزمان ، فتجرأ الملك أمام شعبه ودخل النار ولكنه لم يخرج منها فقد أحرقته والتهمته ألسنتها الحامية ، وأراحـت النـاس منه ومن ظلمـه ، وعندها قال الشعب بلسانٍ واحد ، لا يليق بالمُلك علينا إلا هذا الشاب الذي فعل الأعاجيب ودخل النار ولم تحرقه ، ونصبوه ملكاً عليهم ، وغنّت له الطيور في كل يوم وأدخلت الفرحة على قلب الملك الجديد ، وفرح سكان البلدة بملكهم الذي أحبهم ، وحكـم بينهم بالعدل والمحبة .
الإصابة بالعين
مدخل :
الإصابة بالعين من الأشياء المعروفة عند عامة الناس , وهي من الأمور التي يخشونها ويحتاطون لها بوسائل مختلقه كخرزة العين , والحرز عن الإصابة بالعين , وقراءة سور من القرآن الكريم كالمعوذتين وبعض الآيات الأخرى .
ومن الاحتياطات أيضاً إبعاد الصبي إن كان جميلاً عن الأعين أو عن (العين اللي ما تصلّي على النبي ) .
ويقال عن الذي يصيب بالعين إن كان رجلاً أو امرأة أنّ « عينه فارغـة » , والحكايات كثيرة حول هذا الموضوع :
ويقال إن الذي بين ثنيّتيـه الأماميتين فراغ ظاهر أنه يصيب بالعيـن , أو كلّ مَنْ ( أسنانه فُرْق) كما يقولون فهو يصيب بالعين إن كان رجلاً أو امرأة .
والتي لم تنجب الأطفال تصيب بالعين أيضاً لأنها محرومة من الأطفـال ، والمحروم يشتهي ما حُرم منه لذلك فهو يصيب بالعين .
والأمثلة كثيرة حول هذا الموضوع نكتفي منها بهاتين القصتين القصيرتين .
يحكى أن أحد الأشخاص كان يصيب بالعين , وكان يعرف ذلك من نفسه وقد كبر وأسنَّ وكُفَّ بصره .
وذات يوم قال له بعض الناس ممن في قلوبهم مرض , إن فلاناً من الناس عنده جمل سمين وكبير , وليس في جمالنا ما يشبهه لا في كبر الجسم والسنام ، ولا في جمال الشكل والمنظر .
وقالوا للرجل الكفيف : لو كنت بصيراً لطلبنا منك أن تصيبه بالعين حتى نرتاح منه وكان ذلك لشدة حسدهم وغيرتهم .
فقال لهم الرجل الكفيف : لا عليكم ، اعملوا لي كومة من التراب تشبه سنام الجمل .
وعملوا له ما أراد ، فقام يتحسّسها وجعل يمرّ بيده عليها عدة مرّات وهو ويتخيّل ذلك الجمل ويقصده بكلامه ويقول : ما أسمـن هذا الجمـل وما أكبر سنامـه ، وما أكثر شحمه ولحمه ! ماذا يطعمه صاحبه حتى أصبح بهذا الحجم !
فيقال إن الجمل وقع عند صاحبه ومات على الفور .
وفي هذا من الإيـذاء ما فيـه مما لا يقـوم به إلا الذين في قلوبهـم مـرض ، والذين أعمى الحقد بصيرتهم ، فجعلهم يحسدون الناس على نِعم الله تعالى .
وهناك حكاية أخرى تقول :
يحكى أن أحد الأشخاص ممن كانوا يصيبون بالعين كان غنياً ولديه مواشٍ كثيرة من شاءٍ وغنم ، وذات يوم أخرجها الراعي في الصباح الباكر لترعى على سفح الجبل ، وعندما أشرقت الشمس ، وظهر نورها ، نظر ذلك الرجل فرأى الأغنام تغطي سفح الجبل لكثرتها ، فتأفّف وقال مندهشاً : لمن هذه الأغنام التي تغطي عين الشمس ؟ ما أكثر عددها !
فيقال إن حَجَراً كبيراً تدحرج من أعلى الجبل وقضى على الكثير من هذه الأغنام ، ولما علم الرجل أنها أغنامه بدأ يلوم نفسه ويبكي حظه ولكن هيهات ، فقد سبق السيف العذل ، وماتت أكثر الماشية .
الضيف الثقيل والمضيف البخيل
عُرِفَ أحدُ الأعراب ببخلٍ وشُحٍّ شديدين ، ولم يُسمع عنه أنه أقْرَى ضيفاً في حياته ، وكان بيته صغيراً ولم يحاول أن يوسّعه خشية أن يأتيه بعض الضيوف ، الأمر الذي لا يرغبه ولا يريده .
وفي أحد الأيام قدم عليه ضيفان على فرسيهما ، فرحَّب بهما وأجلسهما في المكان المُعدّ الضيوف ، وقدم لهما القهوة ، ثم عرض عليهما أن يعمل لهما قِرَى ، فسكتا ، والسكوت دلالة الرضى ، فامتعض بينه وبين نفسه ، وكانت أغنامه ترعى بعيداً عن البيت مع أحد أبنائه ، وليس لديه أحد ليبعثه ليأتي له بشاة يذبحها لهما ، فأتى ببهيمته ووضع على ظهرها وِقَاءً(1) ليركب عليه ، وأخذ يلفّ ويدور حولها عدة مرات ليركبها ولكن نفسه لم تطاوعه على ذلك ، فتركها وعاد إليهما قائلاً : يا قليلي الحياء ، تريدانني أن أترككما في بيتي لوحدكما وأذهب لآتي لكما بشاةٍ من القطيع الذي يبعد عن البيت مسافة غير قليلة ، وهذا الأمر يستغرق أكثر من ساعة من الزمان ، والطريق كما تعلمون مليئة بالعساكر وقد يتحرّشون بي ويقتلونني ، وتبقيا أنتما في بيتي وحدكما وليس به إلا زوجتي ، لعنكم الله ما أثقل دمكما ، قوما لا بارك الله بكما ، والله لا ذقتما عندي شيئاً ، هيا انصرفا من هنا ولا ترياني وجهيكما بعد اليوم . هيا انصرفوا من هنا ، فانصرف الضيفان مسرعين لا يلويان على شيء ، وهما يلعنان ذلك المضيف البخيل ويتعجّبان من شدة بخله وشحّه ، بينما عاد هو إلى بيته وزوجته مبتسماً ابتسامة عريضة بعد أن تخلص من هذين الضيفين الثقيلي الظل .
لم يعدم الوسيلة
يُحكى أن شيخاً طاعناً في السنّ ، كانت عنده بعض البهائم ، وكان يُفْلتها من مربطها في الصباح ويتركها ترعى قريباً من البيت ، وفي ساعات المساء كان يطلب من أبنائه أن يعيدوها إلى مكانها ، حتى لا تهيم على وجهها في الليل فتفترسها الذئاب أو تفتك بها الوحوش الضارية .
وكان أولاده يلومونه على هذا التنبيه الذي يكرره على أسماعهم في كل ليلة ويقولون له : يا والدنا ، هل لا يوجد لدينا شُغل إلا هذه البهائم ، فمرة أفلتوا البهائم ، ومرة أعيدوها واربطوها . سئمنا من هذا الأمر !.
فغضب الشيخ وأقسم أن لا ينبههم إلى هذا الأمر مرة أخرى ولا يُذَكّرهم بالبهائم حتى لو أكلتها الوحوش .
وفي اليوم التالي وعندما حلّ المساء وخيّم الظلام على المكان لم يتذكّر أحد من أبناء الشيخ بهائمهم ، وحتى لم تفطن على بال أيّ واحد منهم .
وتأخر الوقت ، وأخذ الشيخ يتململ في مكانه ولما كان قد أقسم ألاَّ يُذكِّرهم بشيء ، فتحيّر ما عساه يفعل في مثل هذه الحالة ، ولم يعدم الشيخ الوسيلة ، بل خرج إلى خارج البيت وأخذ ينهق بصوت عالٍ ، فتذكر الأبناء بهائمهم وخرجوا ليبحثوا عنها ، ولكن الوقت كان متأخراً فقد هامت البهائم على وجهها وابتعدت عن مكان رعيها ، وكان أن هاجمتها الذئاب وفتكت بها جميعاً .
وأسقط في يد الأبناء ولاموا أنفسهم على عدم استماعهم لنصح أبيهم وندموا ولكن بعد فوات الأوان . وهكذا فإن من لم يستمع لنصح والديه يقع في الخطأ ويندم في حين لا ينفع الندم .
[align=center]  [/align]
-
إلحق أخوالك
يُحكى أن امرأةً كان لها ابن مغفّل وضعيف الشخصية ، وبحثت له عن زوجة ترضى بالزواج منه حتى وجدت أخيراً فتاة تكبره بعدة سنوات وافقت على الزواج منه ، وفرحت الأم بزواج ابنها ، ولكن الابن بعد الزواج بدأ يهزل ويضعف ويصفرّ وجهه ، وأصبح مُخَاطه سائلاً ، وحالته يرثى لها ولا يكاد يقوى على المسير ، ورأته أمه وهو على هذه الحالة وهي المجربة الخبيرة ، وعرفت أن ما حلّ بابنها هو من فعل زوجته الشابة . فأرادت أن تريحه قليلاً فقالت له ما رأيك يا ابني أن تذهب معي لنزور أخوالك ونمكث عندهم عدة أيام حتى نغير جوّ وترتاح نفوسنا وتهدأ حالنا ثم نعود وقد جددنا نشاطنا وارتحنا قليلاً ، وكذلك فإننا لم نزر أخوالـك منذ فتـرة طويلـة ، ولا بد أنهم مشتاقون لرؤيتنا ، وكان الأخوال على مسافة بعيدة عن بيت تلك المرأة وابنها . فوافق الابن على مرافقة أمه وركبت الأم وابنها كلّ على بهيمته وسارا حتى وصلا إلى منازل أهلها ، ورحّب أهل المرأة بقدومها وقدوم ابنها واحتفوا بهما وأكرموا وفادتهما ، ومكثا عندهم أكثر من أسبوع من الزمان ، فعادت إلى صاحبنا قوته واستعاد نشاطه وبدأ الإحمرار يزهو على وجنتيه وتحسّن حاله كثيراً .
وبعد هذه الراحة الطويلة عادت الأم وابنها معها إلى منازلهم ، وفي الطريق مرّا على قطيع من الغنم والماعز ، فرأى ابنها تيساً هزيلاً تكاد جوانب بطنه تلتصق ببعضها لشدة الهزال ، ومخاطه يسيل على وجهه وحالته سيئة للغاية ، وعندها تذكر الشابّ حالته وخاطب التيس بصوت عال قائلاً : إلحق أخوالك .. إلحق أخوالك .
وضحكت الأم من سذاجة ابنها وقلة عقله وعادت به إلى بيتهم .
ضَيَّقْتَه كثيراً
يحكى أنَّ صديقين اتفقا على ضيافة أحد الأجواد حتى يتناولا طعام الغداء عنده ، وكانت عادة الضيافة مشهورة في ذلك الزمان ، فلم يكن وراء الناس ما يشغلهم من الأعمال ، وقد اشتهر هذان الصديقان بالكذب ،وكانا يعرفان ذلك من نفسيهما ، فقال أحدهما للآخر اسبقني أنت بضيافة فلان ، وأنا سأجيء من بعدك ، واجعل نفسك لا تعرفني ، وعندما يصافحني المضيف ، قُم وصافحني أيضاً وكأنك لم تعرفني من قبل ، وإذا كذبتُ أنا وسرحت كثيراً في الكذب فاهمزني بجنبي حتى انتبه لنفسي ، وإذا كذبتَ أنت فسأهمزك أنا ، وهكذا كان ، فذهب الأول لضيافة صاحـب البيت الذي رحّـب به وأكرم وفادته ، وبعد ذلك بقليل جاء الآخر من مكان مختلف ، وصافح صاحب البيت وصافح صديقه وجلس بجانبه وكأن لا معرفة بينهما ، وبعد أن تناولا طعام الغداء نظر أحدهما إلى بيت المضيف وقال : الحقيقة إن بيتك هذا جميل ولكنه صغير نسبياً ، وقد بنيتُ أنا بيتاً أكبر منه بكثير ، فقال له المضيف : وكم طول بيتك ؟ فقال : سبعون متراً ، فهمزه صاحبه الذي بجانبـه ، فقـال المضيـف وكم عرضه فقال : متراً واحداً ، فقال له : لقد ضَيَّقْتَه كثيراً ، فقال : الله يُضَيّق على الذي يُضَيّق . وهو يقصد بذلك صاحبه الذي لم يتركه يكذب على راحته .
في الدَّبَّة جمل
يُحكى أن أحد المغفلين كذب في السوق وقال أن في «الدَّبَّة» وهي مكان معروف جمل مذبوح وكان من عادة الناس في ذلك الزمان انه إذا كُسر جملٌ عند أحدهم وأصبح صاحبه لا يستطيع الاستفادة منه لا في العمل ولا في حراثة الأرض أو في النقل أو غيره فإنهم يذبحونه ويوزعون لحمه على الجيران مقابل ثمن زهيد ، فهرع الناس إلى المكان لأخذ حصتهم، وعندما رأى كثرتهم ذهب يعدو خلفهم ليأخذ نصيبه ونسي انه هو الذي ابتدع هذه الكذبة . وتدل هذه القصة على سذاجة بعض المغفلين الذين يصدقون حتى الأباطيل التي يبتدعونها هم بأنفسهم .
الثعلب الماكر والمرأة العجوز
يُحكى أنَّ امرأة عجوزاً كانت تربّي الدجاج ، وكان لديها العديد منها من ديوكٍ وفراريج وكتاكيت وغيرها ، وكانت تعمل لكل مجموعة منها قنّاً خاصاً بها حتى كثرت دجاجاتها وأصبحت ترتزق من ورائها ، فمرة تبيع من بيوضها ، ومرة أخرى تبيع من الديوك الصغيرة ، أما الإناث فكانت تربيها لتزيد من عدد الدجاجات التي تضع البيض .
ودام الحال على ذلك إلى أن سمعت العجوز ذات صباح صراخ دجاجاتها فهبت تهرول نحوها مذعورة لترى ما الذي حلّ بها أو أصابها ، وكان الثعلب قد دخل قنَّـاً وفتك بالعديد مما بداخله من الدجاج ، ومن عادة الثعلب إذا دخل قنّ الدجاج أن يقتل كلَّ الدجاجات التي فيه ، ولكن العجوز باغتت الثعلب ، ولم يكن أمامه شيء من الوقت ليهرب منها ، فرمى نفسه وتظاهر بأنه ميت ، وعندما رأت العجوز دجاجاتها المقتولة والثعلب ملقى بجوارها ، ولسانه يتدلّى خارج فمه وعليه شيء من الزَّبَد فما شكّت بأنه ميت بالفعل ، فقالت : تستحق والله أكثر أيها الغدار اللئيم ، وأمسكته من ذنبه ورمته خارج القنّ ، ولكن ما أن وطأت قدماه الأرض حتى فرَّ مذعوراً وولى هارباً ، وأسقط في يد المرأة العجوز وعرفت أن الثعلب قد خدعها عندما تظاهر بأنه ميت وأضمرت له شراً إن عاد لمثلها .
وعاد الثعلب بعد أيام وفعلَ فعلته الأولى وداهمته العجوز ووجدته ميتاً في القنّ كما وجدته في المرة الأولى ، فقالت : آه أنت ميت ، الآن تموت بصحيح ، وربطته من يديه ورجليه وأحكمت وثاقه ، وأشعلت ناراً كبيرة في كومة قش ورمته فيها ، فأخذ يصرخ بكلّ قواه ، ولكن الحيلة لم تسعفه في هذه المرة فقضى محروقاً .
وهكذا تخلصت العجوز من ذلك الثعلب الماكر الذي فتك بدجاجاتها ، وكاد يقضي على مصدر من مصادر رزقها .
ونحن لا ننصح بمثل هذه الأعمال لأن هذه الحيوانات خلقت تعيش على أكل اللحوم ، وعندما يشتد بها الجوع تلجأ لمثل هذه الوسائل ، وعلينا أن نأخذ حرصنا منها دون أن نؤذيها أو نقتلها .
الثعلب وابنه
يروى أن أحد الثعالب تعبّد في آخر حياته وأخذ يكثر من الصلاة والتهجّد ، وكان بعد أن يصلي صلاة الفجر في كل يـوم يدعـو ربه قائلاً : اللهم أَكْفِنَا شَرَّ ابن آدم .
وكان له ابن صغير يسخر منه ومن دعائه ويقول له من هو هذا ابن آدم الذي تدعو كل يوم ليقيك الله شره ، ويسكت الأب على مضض لأنه يعرف أن ابنه لم يعرك الحياة بعد ولم يفهـم أسرارهـا وخفاياها .
وذات يوم خرج الثعلب يبحث عن طعام له ولعائلته ، وخرج ابنه الصغير من جحره وأخذ يلعب ويركض هنا وهناك حتى ابتعد كثيراً عن جحره .وفجأة أبصر به بعض الفتية الذين كانوا قريباً من المكان فتربصوا له حتى أمسكوا به ، وربطوه بحبل في عنقه وأخذوا يقودونه ويجرونه ، وإذا امتنع من السير معهم يضربونه على ظهره حتى كاد يهلك من شدة العناء والضرب ، وظل مع الصبية على تلك الحال إلى ساعات المساء حيث استطاع الإفلات منهم والهرب بكل قواه حتى وصل منهكاً إلى جُحره ومأمنه .
وفي صبيحة اليوم التالي عندما صلى الثعلب الأب صلاته المعهودة وأخذ يدعو بدعائه المعتاد : اللهم قِنَا شر ابن آدم ، رفع الثعلب الصغير يديه قائلاً : وشرّ أبنائه يا أبي ، وشرّ أبنائه يا أبي .
ففهم الثعلب الأب بأن ابنه قد تعلّم درساً في الحياة سينفعه طيلة عمره .
صنعة الحرذون
يُحكى أن أحد الأشخاص التقى بالحرذون ذات يوم ، والحرذون حيوانٌ صغير من الزواحف ، يعيش في الصحـراء ، ذو جلد رمادي خشن تملأه حراشف صغيرة فسأله السائل ، ما هي صنعتك يا حرذون ؟ فقال : أعمل في عصر الزيت ، فتعجّب السائل وقال : لو كان الأمر كما ذكرت ، لظهر ذلك على جلدك وعلى ظهرك الخشن ولرأيته أكثر نعومةً وملوسةً .
وهذه الحكاية تصف حالة من يتظاهر بما ليس فيه ، ويدعي أشياء تُظهر هيئته عكسها .
وفاء الأفعى
يُحكى أن رجلاً كان يعيش في مغارة ، وكانت له حظيرة لأغنامه ومواشيه أمام تلك المغارة ، وكان يرعى بأغنامه في النهار ، ثم يعود في ساعات المساء ليبيت في تلك المغارة والتي هي له بمثابة بيت حقيقي يعيش فيه .
ورأى ذات يوم أفعى طويلة تدخل في إحدى زوايا المغارة ، وتستقرّ في جُحر صغير ، وتلفّ نفسها وترقد طويلاً في ذلك المكان .
وقرّر الرجل بينه وبين نفسه عدم التعرّض لها خشية أن تكون من عُمَّار ذلك المكان ، فيصيبه مكروه بسببها .
وظلّ الرجل يراقبها عدّة أيّام ، وهي ترقد في نفس المكان ، وإذا خرجت فلا تلبث إلا قليلاً ثم تعود إلى مكانها ، فأنِسَ لها الرجل ، ولم يعد يخشى منها .
وخرجت الأفعى ذات يوم فحدّثته نفسه أن يرى ما في عشّها الذي ترقد فيه، فقام ونظر إليه ، فرأى فيه عدّة أفاعٍ صغيرة حمراء وملساء، فقال في نفسه سآخذ هذه الأفاعي وأُخبئها ، وأرى ماذا ستفعل أمهم إذا جاءت ولم تجدهم .
ووضع الرجل صغار الأفعى في علبة صغيرة وخبأهم في سلّةٍ مُعلقةٍ في سقف المغارة ، ثم خرج واختبأ في مكانٍ ليرى ماذا ستفعل الأفعى الأمّ عندما تعود ولا تجد صغارها .
وعادت الأفعى إلى عشّها ومرقدها ولكنها وجدته فارغاً ولم تجد صغارها فيه ، فأخذت تبحث عنهم قريباً من المكان علّها تجدهم هناك ، ولكنها لم تجد أحداً ، فأخذت تبحث في زوايا المغارة ، وفي كلّ مكانٍ منها ولكنها لم تجد شيئاً ، فعرفت أن ذلك الرجل هو الذي أخذ أولادها ، فعمدت إلى زير ماء يشرب منه الرجل ، وملأت فمها منه ، وأعادت الماء إليه ممزوجاً بالسم ، ثم أعادت الكَرّة عدّة مرات حتى سمّمت الماء الذي في الزير ، وخرجت من المغارة تبحث عن أولادها في مكان آخر .
وبعد أن خرجت الأفعى أعاد الرجل أولادها إلى عشّهم ومكانهم ، ثم عاد وكمن في مكانه الأّول ليرى ماذا ستفعل الأفعى إذا ما عادت ووجدت أولادها مكانهم ، ولم تكن الأفعى قد كفّت عن البحث عن صغارها فعادت لتبحث عنهم في المغارة من جديد ، وعندما رأتهم في مكانهم ولم يُصب أحدٌ منهم بأذى تركتهم مسرعةً وذهبت إلى زير الماء ولفّتْ ذنبها عليه وفَتَلَتْـهُ بقوة فوقع الزير وانكسر وانسكب ما بداخله من ماء على الأرض ، وبعد ذلك عادت لترقد على أولادها من جديد وكأن شيئاً لم يحدث . وعجب الرجل من أمومة تلك الأفعى ومن وفائها وإخلاصها ، ولم يعد يتعرّض لها أو لأولادها بأي أذى أو ضرر .
تطريب الناقة
أصاب المحلُ والقحط بعض المناطق في الجنوب ، فعَمَّ الفقر وأصاب الناس عُسْرٌ شديد ، فأخذ أحدهم وكان عزيز النفس يُحَمِّل حجارة الملح من الجبل على ناقته التي لا يملك غيرها ، وينقلها إلى المدينة بأجرٍ زهيد ، ورآه أحدهم ذات يوم وهو على هذه الحالة فسأله :ما الذي تُحَمِّله يا فلان كلّ يوم على ناقتك وتذهب به إلى السوق ؟ فأنِفَ الرجل أن يخبره بالحقيقة المُرّة بل أجابه شِعراً :
الحَمْد لله غْنَاوِي(1) ما عَلَيّ فَاقَهْ أُجَلِّب المِلْح بَسْ تَطْرِيب للنَّاقَهْ
وكأنّه يُحَمِّل الملح ويجلبه إلى السوق لمجرد تطريب الناقة ، وليس بسبب وضعه الماديّ الصعب .
الضابط التركي
في أواخر العهد التركي منعَ الأتراك بيع التبغ أو المتاجرة به ، وكان كُلّ من يُمسك وهو يحمل تبغاً يُعاقب ويُضرب ضرباً مبرحاً من قبل المسؤولين الأتراك ، ويغرّم غرامة عالية ، وكان البدو من عشّاق التدخين ومن المدمنين عليه ، ويندر أن تجد بيتاً لا يوجد فيه الغليون والمِنْكَاش(1) والمَاشَا(2) ، فنزل عليهم هذا القانون نزول الصاعقة ، وكان تطبيقه من الصعوبة بمكان ، وفي فجر أحد الأيام كان بدويّ يحمل على حماره كيساً كبيراً مليئاً بالتبغ وهو في طريقه إلى السوق في بئر السبع ليبيعه هناك ، فطلع عليه ضابط تركيّ يمتطي صهوة جوادِه ، وهو من الذين يفتشون عن التبغ ويصادرونه ، فسأل البدويّ : ما الذي تحمله في هذا الكيس الكبير ؟ فارتبك البدويّ وخاف إن هو كذب عليه أن يضربه فقال على الفور : أحمل دخّاناً ، فضحك الضابط التركيّ وظن البدويّ يقول ذلك من شدة خوفه وارتباكـه ، فتركه وسار في حال سبيله ، فحمد البدويّ ربّه وأثنى عليه حيث خلّصه من هذا الظالم الجبّار ، ثم تابع سيره نحو السوق ليبيع بضاعته في السوق السوداء .
بيض الدجاج
استاء بدويّ من بعض أقاربه وأصدقائه ، بعد أن خيّبوا ظنه ولم يجدهم في وقت عُسره ومحنته ، ولم يكن يتوقع منهم ما رأى ، فعبّر عن ذلك شِعراً بقوله :
يهِدَّكْ يا قلبـي ما أَرْدَا فعايلــك
يا اللي تريد من بيض الدجاج صقُور
والله عُمر طَيْر البوم ما صار بَاشِق
ولا صار من فـوق الطيـور يحـوم
الذي يأكل حمير العرب
يُحكى أنَّ « الزير سالم » عندما كان في عنفوان شبابه وفي فترة لهوهِ ومجونِه ، ذهب يستقي يوماً ويملأ بعض قِرَبِ(1) الماء من بئرٍ قريبة، فترك حماره يرعى بجانب المكان ، ونزل إلى قاع البئر ليملأ القِرَب من الماء الصافي ، وكان الماء شحيحاً فيها ، وعندما خرج وجد حماره مقتولاً ووجد أسداً يفترسه ، فغضب الزير وتطاير الشررُ من عينيه وأمسك بعصاه الغليظة وأهوى بها على رأس ذلك الأسد ، فترنّح ثم وقع على الأرض مغشيّاً عليه ، فألجمه الزير بحبلٍ متين ووضع عليه برذعة الحمار وقِرَب الماء وركب عليه وساقه إلى الحيّ وصار يهمزه برجليه ويضربه على رأسه وهو يقول له: « اللي بياكل حمير العَرَب لازم يزازي(2) بالقِرَب » .
عنتر والفروسية
يُحكى أنَّ أحد الفرسان الشباب ذهب إلى عنترة العبسيّ وهو الفارس المعروف وطلب منه أن يعلّمه أسس الفروسية . فقال له عنترة : هذا أمر بسيط اعطني إصبعك وخذ إصبعي وليعضّ كلُّ واحدٍ منا على إصبع الآخر .
وبدأ كلُّ واحدٍ منهما يعض إصبع رفيقه ويضغط عليها بأسنانه بكلّ قواه حتى كاد كلّ واحد يقطع إصبع الآخر ، وهنا صرخ الفارس الشاب قائلاً : آخ قطعتَ إصبعي .
فقال له عنترة : لو صبرتَ قليلاً لصرختُ قبلك ، وهكذا يا ابني فإنَّ الفروسية هي الصبر على الشدائـد وتحمـل المشـاقّ والآلام ، والمثل يقول : الشجاعة صبر ساعة .
وخرج الفارس الشابّ من عند عنترة العبسيّ وقد تعلّم درساً في الفروسية لن ينساه ، وفهم سراً من أسرارها لم يكن يخطر له على بال .
حيلة غريبة
كان الأعراب يلاقون في صحرائهم كثيراً من الشِّدَّة والعَنَت ، ، بسبب سنوات القحط المتتابعة وقلة سقوط الأمطار ، فكانت تجفّ المراعي ، وتنضب موارد المياه ، فتموت الماشية ، ويعضهم الفقر بنابه ، ولا يجد بعضهم ما يقتات به ، فيتعرضون للجوع والعطش ، وقلة ذات اليد .
ولم يكن الأعراب من هواة الزرع والقلع ، فلم يكونوا يستقرون في أماكن ثابتة حتى تستهويهم الزراعة والفلاحة ، ولم تكن نسبة الأمطار مشجعة على ذلك حتى لو كانت النية موجودة .
فكان بعض الفقراء منهم يهيمون على وجوههم يبتغون الرزق عند أهل القرى الذين كانت حالتهم أحسن ومنطقتهم أكثر خصباً ، وأوفر حظاً من كمية الأمطار التي تسقط في السنة ، فكانوا يزرعون حقولهم بالحنطة والشعير والعدس ، إضافة إلى كروم العنب والتين والرمان وغيرها من الأشجار المثمرة .
وكان بعضهم يزرع نبات التبغ فيقص أوراقه عدة مرات وينشرها ويجففها على ظهر بيته ، فيستعمل بعضها لاستهلاكه الشخصي ويبيع ما يزيد عن حاجته .
وكان أهل القرى قد سئموا وضجوا من كثرة السائلين من الأعراب بسبب إلحاحهم وكثرة سؤالهم ، وأصبحوا يكرهونهم ولا يعطونهم شيئاً ، اللهم إلا بعض الأرغفة القليلة من الخبز ، تتصدق بها النساء وهن يخبزن على الطابون ، وكان من عادة أهل القرى إذا جاءهم أعرابي أن يقولوا له : لوك على الجارات ، أي اذهب إلى النساء المجاورات اللواتي يخبزن على الطابون فقد تجد شيئاً من طلبك عندهن ، فيحصل الأعرابي على بعض الأرغفة هناك .
وكان أحد الخبثاء قد رأى تبغاً منشوراً على أحد البيوت ، وكان مُدخِّناً مدمناً فسال لعابه له ، وطلب من صاحب البيت شيئاً منه ولكن الأخير رده خائباً ولم يعطه شيئاً .
فأضمر الأعرابي شيئاً في نفسه ، وفي المساء أمسك بحرذون وربطه بخيط طويل من ذيله ، وكان معه كيس من القماش ، فانتظر حتى حلَّ الظلام ونامت العين ، فذهب يختلس الخطى حتى وصل إلى ذلك البيت ورمى الحرذون عليه فوقع على التبغ المنشور ، وعندها سَحَبه من الخيط المربوط في ذيله فأمسك الحرذون بأرجله في أوراق التبغ المنشورة ، فسحبه فسقط وسقط معه كثير من أوراق التبغ ، فجمعها الأعرابي في كيسه ثم عاد ورمى الحرذون مرة أخرى ، وأعاد الكرَّة عدة مرات حتى أتى على كل أوراق التبغ وملأ كيسه منها وذهب عائداً إلى رفاقه ، ثم فكّ الخيط وأفلت الحرذون وضحك من تلك الحيلة العجيبة التي استطاع بواسطتها أن يشبع نهمه وشوقه من ذلك التبغ الطازج الذي ضنّ به صاحبه .
[align=center]  [/align]
-
من هذا أو من ذاك
يحكى أن أحد الأعراب ذهب إلى إحدى القرى للاستطعام علَّهُ يصيب شيئاً من طعام أو من حبوبٍ قليلة ، يعود بها عند عودته لأهله وأولاده ، وكان معه بعض الرفاق الذين هم في مثل حاله ، وعندما وصلوا القرية ، أخذوا يسألون من يلاقونه من الناس ، فدلوهم على ديوان القرية وقالوا لهم : إن هناك وليمة ولا بد أن تصيبوا شيئاً من الطعام عندهم .
وسارع الأعرابي ورفاقه ليصلوا إلى الديوان الذي كان يعجّ بالضيوف والمعازيب ، فوقف الأعرابي ومن معه مع من يقف خارج الديوان ، وبعد برهة من الزمن أُحضر الطعام وكان عبارة عن عدة مناسف مليئة بالأرز واللحم ، وعندما أدخلوها لتقديمها للضيوف رآها الأعرابي فسال لعابه لها ، ومد يده وتناول قطعة لحم من على أحد الصحون ، فنظره المضيف وكان يتقزز من الأعراب لرثاثة ثيابهم ، وسوء حالهم وهيئتهم ، فقال لمن يحمل الصحن توقف لا تدخل بهذا الصحن على الضيوف فقد وضع الأعرابي يده فيه ، وقال للأعرابي بحنق في أي صحن وضعت يدك أيها الأعرابي القذر ، وكان الأعرابي ماكراً لئيماً ، فقال : لا أدري إذا كنت وضعت يدي في هذا الصحن ، ووضع يده في الصحن الأول ، أو في هذا الصحن ووضع يده في الصحن الثاني .
فقال المضيف ارفعوا هذين الصحنين فقد نجسهما ذلك الأعرابي بيده وآتوا بغيرهما .
وقال للأعرابي خذ هذين الصحنين واجلس خارجاً وكل أنت ورفاقك ولا تدخل علينا الديوان ، وأخذ الأعرابي صحني الطعام وجلس مع رفاقه خارج الديوان وأكلوا حتى شبعوا ، ثم تركوا الديوان وذهبوا في حال سبيلهم ، وهم يضحكون من فطنة زميلهم الذي دبّر لهم تلك الحيلة فأصابوا طعاماً لم يتوقعوا أن يصيبوا مثله عند أهل هذه القرية الذين عرفوا بالبخل والشحّ ، وعدم إقراء الضيف .
قرى ما بهن هبة الريح
من عادة المسافر في الصحراء أنه إذا غربَتْ عليه الشمس وحلّ المساء فإنه يتّجه إلى أول بيت يلاقيه أمامه ليبيت فيه ، وبعد أن يستقبله صاحبُ البيت ويجلس ويأخذ مكانه يسأله صاحب البيت قائلاً :
- أنت قادم من سفر فهل حصلتَ على طعام ؟ فإذا كان الجواب بالإيجاب فإن صاحب البيت يقدّم له القهوة ويسهر معه بعض الوقت ثم يهيىء له مكاناً للنوم ويقول له : أنت مسافر والمسافر يتعب من السفر فخذ راحتك في النوم .
وعادة ما ينام صاحب البيت في فراش قريب من فراش الضيف .
أما إذا لم يصب طعاماً فإن المضيف يقدم له ما تيسر من الطعام ويأكل معه حتى يشجعه على تناول الطعام .
وظن شاعرٌ بدويّ أن الوضع في القُـرى مشابه لما تعـوّد عليـه في الصحــراء ، ولكنه وجد العكس من ذلك فكان كلما اتجه نحو بيت يقابلونه بالطرد وعدم الاستقبال حتى مرّ على ثلاثة قرى لم يستقبله فيها أحد فقال في ذلك شعراً :
ثلاث قُرى ما بهن هَبَّة الريح سِلْوَان وأبو دِيس والعيزرية
والقصيدة طويلة ولكن هذا ما يحضرنا منها ، وطارت أبيات ذلك الشاعر في هجاء هذه القرى وتسامع بها الناس فحرفها بعضهم على أنها :
ثلاث قُرى ما بهن هَبَّة الريح سِلْوَان والطُّور والعيزرية
والطور أيضاً قرية مجاورة لهذه القرى وهي تقابل المسجد الأقصى من الجهة الشرقية .والله أعلم .
البدوي والفلاح
كان النفور في بداية القرن المنصرم وحتى العقد السادس منه على أشده بين سكان الصحراء من البدو والأعراب ، وبين إخوانهم العرب من سكان القرى والمدن ، وقد وصل حداً جعل كل فئة منهم ترى أنها أفضل من الأخرى ؛ فالبدوي مثلاً يرى نفسه أنه أحسن أصلاً من ساكن القرى لأنه من العرب الأقحاح ، ويرى أن سكان القرى قد أسلموا بالسيف وهم من بقايا الفرنجة أو من هم على شاكلتهم .
وهو يزدري عملهم وطرق معيشتهم ويسميهم الفلاّحين لأنهم يعيشون على فلاحة الأرض ومن أجل ذلك يسميهم بهذا الإسم ، بينما هو يعيش من سيفه الذي يغزو وينهب به ، ومن الصيد الذي يصيده بسلاحه ؟
وهو يرى نفسه يُقري الضيف ولا يصبر على الضيم والحيف ، بينما يرى أن سكان القرى لا يهتمون لا بضيف ولا يهتمون بسواه. وهو لا يزوج ابنته من الفلاحين لأنه يلحقه من ذلك العار ، لأنها في نظره كالمهرة الأصيلة ، والفلاح كالحصان المُهجّن فهو ليس من رُكَّابِها .
وهو يأنف أن يتزوج من الفلاحين حتى لا يكونوا أخوالاً لأولاده في مستقبل الأيام ، وإن فعل ذلك فللضرورة القصوى .
بينما يرى أهل المدن والقرى أن البدوي إنسان متأخر يعيش حياة بدائية غير نظيفة ، فهو رثّ الثياب ممزقها ، قذر الملابس، وحياته حياة تنقل غير مستقرة ، وليس لديه بيت ثابت يؤويه ، وليست له أملاك ومزارع وكروم مثلهم ، فكيف يزوجونه أو يتزوجون منه والحالة هذه .
وكان هناك نفور حقيقي بين الطرفين أدّى في نهاية المطاف إلى أن أهل القرى لا يزوجون بناتهم لأهل الصحراء ، لأنه يتعذر على ابنتهم أن تصبح راعية للمواشي وتسكن في خيمة ممزقة لا تقيها لا من الريح ولا من المطر .
ولا يتزوجون من بنات البدو والأعراب لأنه يصعب عليهم ترويضهن أو تنظيفهن على أقلّ تقدير ، والحكايات حول هذا الموضوع كثيرة نسوق منها هذه الحكاية الطريفة:
يُحكى أن بدوياً أراد أن يخطب فتاة قروية ، وفي أحد الأيام أراد أن يمتحن أهلها وأقاربها ليرى مدى شجاعتهم وبأسهم قبل أن يتزوج من ابنتهم ، فجاء بجمجمة رجل ميت وأخفاها تحت عباءته ، وعندما وصل الديوان الذي يجتمع فيه أهل الفتاة التي ينوي خطبتها رمى بينهم تلك الجمجمة ، ففرّ الناس وقفزوا من أماكنهم عندما رأوا تلك الرأس المقطوعة ، وعندها تبجح ذلك البدوي متمثلاً ببيت من الشعر العامي يقول فيه :
عَرَب تشرد من الراس والراس ميّت
يِحْرَم على ولدي إن قال لهم يا خال
وترك الديوان ولم يعد لخطبة الفتاة خشية أن يصبح أولاده فيما بعد يتوارثون شيئاً مما رآه في أخوالهم .
تعليق : وتجدر الإشارة إلى أن هذه الرواسب قد انتهت تماماً من المجتمع ، فجميعنا إخوان في دين الله ، وقد تمت المصاهرة بين الطرفين ولم يعد هناك من يسمع عنها إلاّ في القصص والحكايات .
جميزات العبيد
يُحكى أن عدة أشخاص من العبيد اجتمعوا في ساعات النهار وقرروا الخروج في الليل ليسرقوا ما تقع عليه أيديهم من أشياء ، فذهبوا واختبأوا في أحد الأودية كي ينطلقوا مع حلول الظلام ، وكان معهم طبق مليء بثمر الجميز ، فأكلوا بعضه وبالوا على الباقي ورموه على التـراب ، وقالوا ما حاجتنا به ونحن سنسرق ما تشتهيه أنفسنا في المساء .
وعندما حلّ المساء وساد الظلام وكانت ليلة مظلمة همّوا بالخروج فتردّد أحدهم وقال : أتريدون الخروج في هذا الظلام الدامس ، فقد تعترضكم بعض الوحوش الكاسرة كالضباع وغيرها ، وقد تدوسون على بعض الحيّات فتلدغكم وتقتلكم ، وقال آخر مثل قوله فتراجعوا خائفين ، وبعد ذلك شعروا بالجوع فأخذوا يلمّون حبّات الجميز التي رموها ويمسحونها في ثيابهم ويقولون هذه لم يصبها البول ويأكلونها وهذه لم يصبها حتى أتوا عليها جميعاً ، وعند الصباح عادوا خائبين دون أن يفعلوا شيئاً ، فيقال لمن يتأفف عن شيء ويعود إليه :" لا تجعله كجميزات العبيد ".
ما على الدنيا فالح
يحكى أنه كان لشيخٍ من العرب قطعة أرض مزروعة شعيراً ، وكان الزرع أخضر في بداية نموه ، ومرّ ذات يوم أعرابيّ كهل يلبس جاعداً على ظهره ومعه قطيـع من الغنـم يسوقه ويُظْعن بـه بقـرب أرض الشيـخ ، وكانت بعض الأغنام تدخل في الزرع وتأكل منه ، وكان للشيخ عبد قويّ مفتول العضلات مغرور بقوته لا يحسب أن أحداً يستطيع أن يغلبه ، فهرع العبد يجري مسرعاً نحو الأغنام يضربها بعصاه، ويطردها عن الزرع وهو يسبّ الأعرابي ويشتمه ويهدده بالضرب، فهادنه الأعرابيّ بالكلام اللين ولكنه لم يجدِ معه ، بل اقترب العبد منه ورفع يده ليضربه ولكن الأعرابيّ كان أسرع منه فأمسكه مع عصاه ووضعه تحت إبطه وضغط عليه بساعده حتى كاد يكسر عظامه وأخذ يسوق أغنامه على مهل ، والعبد معلق تحت إبطه تكاد تزهق روحه، وبعد أن ابتعد عن الزرع رماه من تحت إبطه فوقع محطماً ، لا يكاد يقوى على النهوض ، فقام العبد لا يصدّق بالنجاة وهرب لا يلوي على شيء وهو يقول : " طول والولاّدة بتولد ما على الدنيا فالح .
الفرق بين العبدين
كان لأحد المزارعين عبد يدعى " سلاّم " ، وكان مخلصاً أميناً ، يعمل في الحراثة والحصاد ونقل الغلال ، وسقي المواشي وغير ذلك من الأعمال ، وكان للرجل أملاك وأطيان كثيرة مما أرهق العبد وأثقل كاهله ، فتكلم مع سيده في الأمر ، وشرح له عما يلاقيه من تعب ومشقة من كثرة الأعمال التي يقوم بها وحده وقال له : انه بحاجة إلى مساعد ليعينه على كثرة المشاغل التي لا يستطيع أن يقوم بها بمفرده , وطلب من سيده أن يشتري له عبداً آخر ليعينه على هذه الأعمال الكثيرة .
وافق الرجل واشترى عبداً آخر , وصار العبد الأول ، يعطيه الأوامر ليعمل كذا وكذا ، وأخذ يرتاح هو ويترك أكثر الأعمال ليقوم بها العبد الجديد .
وأطاع العبد الجديد الأوامر في بداية الأمر ، ولكنه بعد أن كثرت عليه الأعمال ، ورأى أن العبد الأول لا يقوم إلا بالقليل منها ، ضجّ من ذلك , فقال للعبد القديم غاضباً : " ما الفرق الذي بيني وبينك يا سلاّم .. أنا اشتراني السنة ، وأنت اشتراك العام " !.
أي ما الفرق الذي بيني وبينك يا سلاّم فكلانا عبيد للرجل ، اشتراني أنا في هذه السنة واشتراك أنت في العام الذي قبله فكيف تعطيني الأوامر لأعمل أنا وترتاح أنت .
وهكذا عاد العبدان ليعملا سوية في خدمة الرجل دون أن يرتاح أحدٌ منهما على حساب الآخر .
عبيد نَمْنَم
يُحكى أنّ هجيناً لأحد الأشخاص هربَ بعد أن أفلتَ من عقالِهِ وهامَ على وجهه , فتبعه أصحابه وطاردوه وحاولوا الإمساك به , ولكنه كان سريع العَدْوِ ، فلم يتمكنوا من اللحاق به , وكان لهم عبد نحيل العود ضامر البطن سريع العدو من قبيلة من العبيد تسمّى " عبيد نَمْنَم "، وكانت هذه الفصيلة من العبيد تتصف بنحافة الجسم وسرعة العَدْو . فانطلق العبد من البيت في أثر الهجين(1) الهارب . وكان البيت على ظهر قَوْزٍ(2) مرتفع عن الأرض , وكان العبد يرتدي ثوباً أبيض ويتمنطق بحزامٍ جلدي ، وما إن خرج من البيت حتى أخذ يعدو بسرعة ، وكان يُرَى بين الحين والآخر وهو يمدّ يده إلى الأرض ويلتقط بعض الأشياء ويضعها في حِجره ، وفعل ذلك عدة مرات . وغاب العبد بعض الوقت ثم عاد وهو يقود الهجين الهارب من زمامِه بعد أن أمسك به ووضع خزاماً في أنفه وقاده خلفه ، وظل يقوده حتى أوصله إلى مكانه ثم عقلَهُ وشدّ عليه وربطه مكانه ، ثم عاد إلى البيت وبعد أن جلس واستردّ أنفاسه سأله الحاضرون عن الشيء الذي كان يلتقطه ويضعه في حِجره ، فقال لهم إنه كان يملأ حِجره بالحجارة خشية أن يطير من شدة العدو لأن جسمه خفيف ولا يكاد يثبت على الأرض . فعجب منه الحاضرون ومن قوة ساقيه وشدة عَدْوه .
[align=center]  [/align]
ضوابط المشاركة
- لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
- لا تستطيع الرد على المواضيع
- لا تستطيع إرفاق ملفات
- لا تستطيع تعديل مشاركاتك
-
قوانين المنتدى
|
 |