في حسينيتين بخانقين توضأ المصلون بالدم.. ولكن الناس واثقون من غدهم
كتابة وتصوير / محمد درويش علي
حال دخولك إلى مدينة خانقين الحالمة والغافية على خرير نهر الوند، تطالعك لافتات سود، متناثرة هنا، وهناك، تؤكد على إن عدداً كبيراً من الناس الآمنين، استشهدوا، وهم يركعون على سجادة الصلاة، في حسينيتين هما الحسينية الكبيرة الواقعة في منطقة الحميدية، قرب نهر الوند، وحسينية المزرعة داخل المدينة يوم الجمعة 18/11/2005، أثناء صلاة الظهر، حينما اخترق إرهابيان صفوف المصلين، وفجرا نفسيهما في وقت واحد.
هكذا سقط أكثر من 85 شهيداً تحت انقاض الحسينيتين، الطابوق والحديد والأسيجة وجرح 150 مصلياً نقلوا إلى مستشفيات كلار والسليمانية بعد أن عجز مستشفى المدينة عن احتوائهم، وبين يوم وآخر يعود اثنان أو ثلاثة منهم، بعد أن يفارقوا الحياة إثر الجروح البالغة التي نالت منهم.
دماء على بقايا الجدران
الحسينية الكبيرة لم يبق منها غير هيكل هش لبناية ربما مر على بنائها أكثر من نصف قرن. لا سقف ولا جدران وإنما هنالك دماء على بقايا الجدران، وألم وحزن يلف كل ما في المكان المقدس هذا. أشار أحد الواقفين، من تحت هذه الأنقاض أخرجنا عدداً من الشهداء، ومن هناك أخرجنا عدداً من الجرحى، ولملمنا بقايا كتاب الله.
وماذا بعد يا ترى؟ إنها المأساة. قال رجل طاعن في السن وهو يكفكف دموعه: قضيت العمر أصلي في هذا المكان، وأدعو الباري عز وجل أن يحفظ الناس من كل مكروه. الآن تهدم المكان وبات اطلالاً، تذكرني بموت المصلين في يوم الجمعة الفائت.
في مكان من الحسينية، توجهنا بالسؤال إلى العالم الديني في الحسينية السيد عباس السيد محمد شبر عن كيفية حصول هذا الحادث البشع فأجابنا: في ظهر يوم الجمعة 18/11/2005 بعد الأذان للصلاة، دخل إلى الحسينية شخص يرتدي قمصلة صفراء، تبدو ملامحه غريبة عن سكان المنطقة، مما أثار شكوك حراس الحسينية وهم مدنيون لا يحملون أي سلاح فاقترب منه اثنان، وسألوه بعض الأسئلة عن سبب تواجده ولما تلمسوا وضعاً غير طبيعي عنده، حاولوا إخراجه من الحسينية بالقوة، فما كان منه إلا أن فجر نفسه، في الوقت نفسه الذي فجر فيه الإرهابي الثاني نفسه في حسينية المزرعة.
وأضاف السيد عباس: إن هذا العمل هو إرهاب وإجرام ولا علاقة له بأي دين أو مذهب، وإذا أراد الذين خططوا له أن يثنونا عن أداء واجبنا تجاه المسلمين في المدينة، فهم على وهم كبير وضلالة. وسنستمر في عملنا وأداء طقوسنا وشعائرنا الدينية مثلما كنا في السابق.
أثناء حديثنا مع السيد عباس، كانت مفرزة من الشرطة تقوم بالتحريات داخل الحسينية، ورفع بعض الأنقاض. وعندما توجهنا بالسؤال إلى ضابط كبير كان معهم، اعتذر قائلاً: إن كلام السيد عباس يكفي وليست لدي الصلاحية لأتحدث بأي حديث إلى الصحافة.
اما حسينية المزرعة التي بنيت عام 1954، فهي في منطقة داخل خانقين تحمل الاسم نفسه، تحيط بها مجموعة من الدور التي يسكنها أهالي المنطقة. عندما دخلنا إليها بصحبة عدد من أهالي خانقين، لم نصدق ما جرى فيها، ولا نعتقد بأن هنالك عقلاً يتحمل هذا الخراب الذي حصل في بيت من بيوت الله، وبهذه الطريقة البشعة وباسم الإسلام.
البناية تهدمت من الداخل بالكامل، ولم يبق منها شيء، غير بعض الجدران المتشققة في بداية البناية. أنقاض فوق أنقاض، وصورة السيد عباس الذي كان خادماً لهذه الحسينية، وأعدم بسبب مشاركته في الانتفاضة الشعبانية في العام 1991، كانت تحت الأنقاض، يبكي عليها أحفاده الذين كانوا في الحسينية ساعة دخولنا إليها. وألقى عدد من المتواجدين هناك باللائمة على الجهات الأمنية لأنها لم توفر الحماية الكافية، لهذه البيوت الآمنة. وفي خارج الحسينية، كانت هنالك أنقاض كثيرة، يبدو أن أهالي المنطقة قد أخرجوها من الحسينية. وهمس لنا أحدهم أن العلامات السود المعلقة على الجدران الأمامية للحسينية من الداخل هي بقايا أشلاء الإرهابي، الذي عثروا على قدمه متفحمة وسلموها للجهات ذات العلاقة.
حدثنا أحمد مراد عباس، وهو حفيد السيد عباس صاحب الحسينية: أحد الجرحى تحدث لي، من أنه شاهد الإرهابي، وكان مرتبكاً جداً، وعند سؤاله ماذا تعمل هنا؟ أجاب: بأنه يريد ان يصلي، وسرعان ما رن الموبايل الذي معه ثم حصل الانفجار. طالب السيد أحمد مراد الجهات المسؤولة بتأمين الحماية لهذه الأماكن الدينية ولاسيما في المناسبات التي يكثر فيها المصلون.
مبادرة رئيس الجمهورية
عدد الشهداء كان كبيراً، لم تستوعبه المدينة، وتفاجأت به. شحت الخيم فأتوا بها من بغداد وبعقوبة، كان هذا واضحاً من خلال العلامات المكتوبة عليها.
حدثني أحد أهالي المدينة قائلاً: هنالك الكثير من مجالس العزاء أقيمت داخل البيوت أو في الأزقة من دون خيم أو مكبرات صوت، وإنما تمت الاستعاضة بأجهزة التسجيل. فجلوسك في مجلس عزاء كان يتيح لك سماع أكثر من عشرين صوتاً لآيات متباينة من القرآن، بسبب قرب هذه المجالس من بعضها.
لذلك كانت الحميدية، وتولة فروش، والمزرعة، والمحطة، وبانميل، واركوازي، ونيسان، وكهريز، وباشا كبري وغيرها من مناطق المدينة تتنفس الحزن والبكاء لهول ما جرى!
أهالي المدينة غاضبون، وزيارات مسؤولي الأحزاب الكردية متواصلة لمجالس العزاء، ومنهم مندوب عن رئيس الجمهورية جلال الطالباني.
الذي ترحم على الشهداء باسم الرئيس، وندد بالعمل الجبان هذا، موضحاً أن الدولة ستقوم ببناء الحسينيتين بشكل أفضل من السابق.
نهر الوند حزين اليوم
توقفنا عند نهر الوند والذي يسميه الأهالي (ألون) وهو يمر بالقرى ولاسيما قرية كهريز، والجسر القديم الذي تعبر عليه السيارات، الذي يقول عنه المؤرخون أنه بني في زمن الساسانيين. هذا النهر في زمن الطاغية، كان ممنوعاً على الشباب أن يسبحوا فيه، ومن يمسك وهو يسبح في هذا النهر يغرم بأمر من القائممقام آنذاك خمسة آلاف دينار أما قبل الـ(1968) فكان مرتعاً للشباب، ومكاناً لتجمع النساء يغسلن الملابس والصحون ويتبادلن الأحاديث والضحك فيما بينهن.هذا النهر كان حزيناً اليوم، لأن مجالس العزاء كانت تحيط بجوانبه.
الحياة الجديدة في المنطقة
قال ماجد مصطفى أحمد وهو من أهالي المدينة: هذا العمل الجبان أثار فينا الحزن والألم والسخط على هؤلاء الإرهابيين الذين لا يعرفون معنى الإنسانية والدين والأخلاق. كنا نعيش قبل هذا الحادث بأمان، وتم توزيع قطع أراض علينا من قبل الجهات ذات العلاقة مجاناً، لغرض بنائها وبالفعل باشر قسم كبير من أهالي المدينة بالبناء وظل يبحث عن منافذ أخرى ليديم فرحه وحياته.
سألنا جبار حكيم قادر: هل هنالك فرق بين زمن صدام والزمن الحالي؟
ضحك قائلاً: الفرق لا يوصف يكفي أن الحرية أتيحت لنا الآن، نتكلم، نأتي ونذهب دون سؤال أو جواب، لا وجود للاستخبارات الآن، والرفاق والزيتوني.
في طريق الذهاب والإياب
تخرج من بغداد، تتجاوز سيطرة الراشدية، وتتجاوز الشارع المؤدي إلى منطقة الحسينية، تجد على جانبي الشارع حركة دؤوب لحياة متواصلة. الخضرة، والطماطة المسقفة، والحيوانات المنتشرة في مساحات الخضرة، ومنظر البيوت كل ذلك يوحي لك بالأمان، وبأن الآتي هو الخير بعينه. تتجاوز سيطرة الغالبية تسير بك السيارة وتدخل في حدود محافظة ديالى (بعقوبة). ثمة طريقان الأول يؤدي إلى بعقوبة أي داخل المدينة وبإمكانك تجاوزه والذهاب إلى المقدادية أو خانقين والثاني مساره خلف بعقوبة، وجسر كبير يوصلك إلى الجانب الآخر أقيم على نهر ديالى ضرب جانباه غير إن الأمريكيين قاموا بإصلاح أحد جوانبه بعد أن وضعوا المصدات والحواجز، والعبور عليه يكون بطابور طويل يقف في هذا الجانب، لتعبر السيارات التي تأتي من الجانب الآخر. والعملية تستغرق أحياناً نصف ساعة، وربما ساعة.
بعدها تمضي بشكل طبيعي، حدثنا أحد الأشخاص بعد أن توقفنا لشراء بعض المرطبات، هذا الطريق كان من الصعب السير فيه بعد سقوط النظام السابق لكثرة العبوات الناسفة، وعمليات التسليب أما الآن فالأمر مختلف جداً.
هذا ما تلمسناه من خلال وجود أعداد من السيطرات ما بين الشرطة والحرس الوطني، حتى تشعر أنه طريق للسيطرات، يتعاملون مع الناس بحذر حتى تصل إلى الطريق المؤدي من المنصورية إلى خانقين ويسمى طريق إمام ويس نسبة إلى رجل دين بهذا الاسم مدفون هناك.
فهذا الطريق كان في الثمانينات طريقاً عسكرياً وعندما تعرض الطريق الآخر الذي مساره من داخل المقدادية، إلى التلف جراء الفيضانات والأمطار، استحدث هذا الطريق، الذي هو أطول من ذلك الطريق بحدود الـ(40 كلم) هذا الطريق خلال السنتين الماضيتن حدثت فيه الكثير من حوادث السلب والنهب والقتل، ولكن هذه المرة كانت السيطرة العائدة للدولة تملأ هذا الطريق برغم طوله غير الاعتيادي، والذي ينتهي بمفترق طريق خانقين وطريق جلولاء والسعدية. كانت علامات البناء واضحة قبل الدخول إلى خانقين، دور حديثة بنيت بعد أن وزعت الأراضي على مواطني المنطقة، وحالة الانفتاح كانت واضحة على وجوه الناس.
فالبناية التي كانت في مدخل المدينة وهي عبارة عن ثكنة عسكرية تعود للاستخبارات العسكرية، أصبحت داراً لأحد مسؤولي الأحزاب، دون حماية أو سؤال من الذي يمر من هناك.
الطريق من بغداد إلى قلب خانقين يقدر بـ(170) كلم، ومن هناك إلى المنذرية يقدر بعشرة كلم. برغم ما تحدثنا عنه، إلا أن وضع المدينة أي الشوارع الرئيسة فيها، والسوق ما زال على حاله. إلا أن المواطنين قالوا بأننا نشعر بإمكانية تغيير كل شيء نحو الأحسن، بما أن الإعدامات الغيت، والسجون تهدمت، والرفاق ذهبوا إلى غير رجعة. لقد أيقنت أنا الآخر أيضاً أن وضعاً جديداً تشهده المدينة، أما ما حصل من إرهاب في المدينة فسيكون حافزاً لأهالي المدينة للتمسك بمدينتهم وإغداق الحب عليها، هذا ما سمعته من الكثيرين الذين دفنوا أمواتهم، ونهضوا مواصلين صنع الحياة.
http://www.almadapaper.com/sub/11-542/p10.htm#1