جمهورية احمد مطر او حلمه القديم و رايه الملفت حول شمائل نوري السعيد
حديقة الإنسان
كانت لدينا مواسم للمشمش
قال لي أحد الأصدقاء ضاحكاً، بعد أن قرأ الجزء الخاص برجل السلطة من نص بالمشمش الذي نشر هنا في الأسابيع الماضية:
- الآن عرفت سبب ما أنت فيه من آلام.. إنك تبالغ في أحلامك وآمالك إلي حد السرف المهلك، كمن يطلب قرص الشمس من أجل أن يقلي فوقه بيضة. الدنيا ظلمة دامسة وأنت تريد منها أن تمنحك سراجين اثنين.. العاقل يا صاحبي يطلب عقب شمعة أو حتي عود ثقاب.
قاطعته:
- علي رسلك.. ما ضيرك أو ضير الدنيا من أن أحلم بسيادة الأمور الصحيحة؟
ضحك مجدداً:
- لكنك لا تتذكر أبداً أن هناك حداً أدني للأمور. إنك حتي لم تطلب الحد الأعلي، بل بالغت فتجاوزته إلي طلب ما فوق العادة بأميال.. يا رجل، كيف استطعت أن توقف رئيس الجمهورية وهو عجوز وقور في الطابور الطويل أمام مخزن التموين شأنه شأن عبادالله الآخرين؟ ثم كيف بالغت في تعريضه للسخرية من قبل شاب نزق واقف في الطابور هو أيضاً، ويتبين لنا أنه ابن وزير الداخلية، ومع ذلك فهو لا يعرف رئيس الجمهورية؟! قلت بجد:
- من أين له أن يعرف؟ الشوارع والمكاتب خالية من صور وتماثيل الرئيس، والصحف لا تضيع صفحاتها الأولي في استعراض صورته يومياً، والتلفزيونات لا تخنق أنفاس الفضاء باستقبالاته وتوديعاته.. إنه مجرد موظف. صحيح أن وظيفته كبيرة ومتعبة، لكنها تبقي وظيفة كغيرها من الوظائف، فلماذا يتميز عن بقية الموظفين بجعل صورته قرينة للشمس والقمر؟
إذا كان لابد من ظهور الرئيس فإن أعماله هي التي تملك حق الظهور، وإذا كان لابد أن يتحدث فإن نتائج أعماله هي التي يجب أن تتحدث.
استغرق صديقي في الضحك، ثم أقفل الموضوع قائلاً:
- اسمع.. لقد قلتها أنت، وها أنا أقولها لك: بالمشمش!
قلت علي الفور:
- عسانا علي خير إذن، فلعلك لا تدري أنه كانت لدينا بالفعل مواسم حقيقية للمشمش؟ إنني حين أحلم لست أبالغ في طلب المستحيلات، بل أوسع الأمل في اجتلاب تلك المواسم.
هاك مثلاً هو ليس إلا حبة في مسبحة أمثال: ذات زمان استعماري بغيض، كان لدينا رئيس جعلته منشورات الثوريين أخاً بالرضاعة للشيطان، لكنه مع ذلك كان ينطوي علي كثير من شمائل رئيس الجمهورية الذي ذكرتُه في رجل السلطة .
كان ذلك الرجل ضابطاً كبيراً مشاركاً في الثورة العربية ضد العثمانيين. وعند تأسيس الدولة الحديثة، شارك في هندسة بنائها بحرفنة بالغة، وأثبت أنه رجل دولة من الطراز الأول.
أما علي الصعيد الاجتماعي فقد كان من صفوة أبناء الأصول الرفيعة، وموقعه علي سلم الطبقات كان يقف به علي رتبة الباشا .
وعلي الرغم من خطورةمنصبه، وكثرة أعدائه من اليساريين والقوميين في الداخل والخارج، فقد كان بيت ذلك الرجل ملاصقاً لبيوت الناس العاديين. وكان لا يطيب له أن يأكل لقمته إلا مما تخبزه نساء الجيران، دون أن يقف في بلعومه متذوق فدائي يأكل نصف الرغيف قبله، خوفاً من أن يكون السم معجوناً به لقتل الباشا.
والأطرف من هذا هو أن ذلك الرئيس الخطير كان ينزل من بيته في الصباح، مرتدياً الروب فوق بيجامته، حاملاً زنبيلاً مثل كل الناس البسطاء، ليتجول في السوق ويبتاع احتياجات بيته اليومية، ولا تكاد تميزه أبداً عن غيره من المتسوقين، فليس من أمامه مدرعة، ولا من خلفه قطيع حماية.
رجل علي سجيته، يتزاحم بالمناكب مع الناس ويفاصل الباعة علي أسعار البضائع بلا حرج، ثم يعود إلي بيته ويرتدي ملابس الوظيفة، ويذهب إلي عمله، ليدير شؤون بلد بكامله ببراعة منقطعة النظير.
حسناً.. لقد أسقطت الثورة المباركة عهد ذلك الرجل، لتفتح الباب واسعاً لعهود رهيبة من حكم أولاد الشوارع والشطار والعيارين.
لكنه عندما أحاط به العامة الذين تخصصوا في التمثيل بجثث الموتي بعد استلامها من أيدي الجنود . أخرج مسدسه وأطلق النار علي نفسه بكل شجاعة، فمات بكرامة مثلما عاش بكرامة، وهو الأمر الذي لم تسمح أصول صدام الرجيم ولا تربيته بأن يفعله، فقد قُبض عليه في بالوعة، ورشاشته معه مذخورة لوقت الشدة !
سألني صاحبي وهو بين مصدق ومكذب:
- عمن تتحدث؟!
أجبته بنبرة هادئة وقاطعة ومفعمة بالوجع:
- أتحدث عن صنيعة الاستعمار وربيب الامبريالية العميل الخائن نوري السعيد رئيس وزراء العراق المزمن في العهد الملكي، رحمة الله عليه.. وعلينا.
أحمد مطر
و مراد النفوس أصغر من أن تتعـــــادى فيه و أن تتفــــانى