في العام الماضي و عندما رشح السيد جلال الطالباني رئيسا للعراق كان هناك لقاء له في قناة الشرقية وقد حاول جلال الطالباني أن يظهر فيه عراقيا حد النخاع وقد كان موفقا ولم يتوقف عند هذا بل راح يستعرض مواهبه في حفظه لديوان الجواهري و راح يتغزل ببعض الأبيات و كعادته المرحة ختم اللقاء بنكتة حشرت حشرا في لقاءه رغم سماجة النكتة التي كانت تقول إن هناك رجلا كردين قد تواجد على ظهر طائرة وقد كان منهمكا في مطالعة جريده بينما كان الذعر و الخوف و الصراخ يعج بالمسافرين و عندما سؤل الرجل عن عدم اكتراثة عندما قيل له إن النار قد اشتعلت بالطائرة مالك لا تبالي بهذا قال الرجل الكردي و ما يهمني فان الطائرة ليست لي فهي عائده للحكومة و ليس ملك خاص لي .
كنت إلى وقت قريب اعتقد أنها مجرد نكتة عابرة لا اثر لها في الواقع السياسي غير أن الإصرار الكردي و السعي الحثيث إلى إيجاد المعرقلات و رشق العملية السياسية الجارية في العراق بكل أنواع الحجارة و سد الطريق بوجهها و بدعوى المشاركة الوطنية والحفاظ على روح التوافقية و الوحدة و عدم التهميش لقوى عراقية وغير ذلك من تصريحات جاءت لا تنسجم مع روح و مبدأ الديمقراطية المنشودة التي ناضل الكرد خاصة و العراقيون عموما من اجل أن تسود مفاهيمها و أعرافها في الذهنية السياسية العراقي و جعل الصندوق الانتخابي هو البوابة الشرعية التي توصل إلى سدة الحكم وفق ضوابط قانونية كفلها الدستور الدائم و لا يمكن في أي حال من الأحوال
تخطي الصندوق أو الالتفاف على الدستور لأنه يمثل هدم للعملية السياسية برمتها في العراق الجديد .
وقد كرست بعض التصريحات الكردية التي رافقت الانتخابات الأخيرة هذا الفهم الذي ترمي إليه النكتة التي أعاد طرحها السيد جلال الطالباني من على شاشة الشرقية و التي تؤكد أن الشارع الكردي مشغول في قرأته الخاصة و لا يهتم بسير العملية السياسية التي تدور بالقرب من محيطه و قد يعاب بالمبالغة في القول أن الكردي يؤثر و لا يتأثر في الشارع العراقي و خلق أو تشجيع ألازمات السياسية في الشارع العراقي مصالح لا تغفل الذهنية الكردي فوائدها الكثيرة و لا يمكن مقاومة الفوائد المترتبة عليها مستقبلا . ومن هنا تأتي المبادرة الأخيرة من الجانب الكردي و التي طرحت (ورقة المبادئ) التي تقدم بها التحالف الكردستاني و التي ركزت على :
1. تشكيل حكومة وحدة وطنية تمثل القوائم الفائزة في الانتخابات ( الائتلاف، التحالف، التوافق، العراقية، الحوار الوطني )•
2. والاتفاق على برنامج الحكومة بالتوافق وتشكيل مجلس امن وطني تناط به مسؤولية إدارة حكم البلاد والإشراف على شؤون البلاد وتكون قرارات هذا المجلس الهامة والأساسية بالتوافق، وفي القضايا الثانوية بأكثرية الثلثين .
3. أن تكون وزارة الدفاع ووزارة الداخلية والأمن تحت إشراف مجلس الأمن الوطني ويتولاهما وزراء محايدون أكفاء يتم الاتفاق على اختيارهما بالتوافق.
4. أن تكون رئاسة الوزراء والوزارات مؤسسات عراقية وطنية عامة وليست دوائر حزبية أو طائفية أو قومية خاصة•
5. وتنص على إعادة تنظيم الهيئات المستقلة بحيث تكون محايدة ومستقلة أو ممثلة للجميع•
6. و لا يجوز انفراد حزب أو تكتل نيابي أو طائفة أو قومية بحكم البلاد بل لا بد من حكم وطني يشترك فيه ممثلو الجميع يسهمون في رسم السياسات العامة والإشراف على الشؤون العامة للبلاد بحيث يكون الحكم مشتركا بين ممثلي الجميع•

و يبدو واضحا التركيز على جمع العناصر المتنافرة و محاولة صياغتها من جديد في قالب الحكومة التي يراد لها أن تكون قوية و فعاله في فترتها القادمة و إن أي عملية تجميع للفرقاء السياسيين في قالبها الكردي الجاهز يضفي عليها حالة من الضعف و التناحر و التمزق الداخلي وهذا لا ينسجم و مهامها القادمة وقد أكدت التجربة في حكومتين متتاليتين إن التنوع السياسي المبالغ فيه من خلال حشر لامتجانس لقوى سياسية متغايرة في الشكل و المضمون ليس عامل قوة بل على العكس من ذلك ساهم كثيرا في عرقلت مشاريع الحكومة وشتت جهودها و إدخالها في دوامة تزاحم الإرادات و الأيدلوجيات وكرس مفهوم التحزب داخل نطاق الدائرة الواحدة .
وقد نختلف أو نتفق على مفهم الوحدة الوطنية ولكن يبقى الواقع مصداقا لكل هذه المفاهيم و بالقدر الذي نقترب منه أو نبتعد يمكننا تحديد العديد من المعايير المزدوجة و كثير من إشكالات التي كلها تدور حول مفهوم الوحدة الوطنية المستفرغ منها مصاديقها الواقعية ففي الوقت الذي نسمع و نرى كل يوم من يكيل لنا الشتائم و الاتهامات و بدافع الوطنية أيضا بينما يتغنى الأخر عبر سلسلة مساومات لا أول لها و لا آخر في اعترافه بفدراليات و رفضه لأخرى وقبوله بكيانات وتنكره لقوميات والجميع يذعن لنشيد الوحدة الوطنية ناهيك من تكبيرات القتلة الذين امتهنوا الذبح على الهوية الوطنية . كما ومن المعلوم إن الملف الأمني مازال اللاعب الأساس الذي يحظى باهتمام بالغ من جميع ابناء الشعب العراقي و لا يمكن تجاهله أو العبث فيه أو الرهان عليه لان المعركة شرسة و الضحايا كثر ولكن ما يجمعهم أنهم ذبحوا على الهوية فعلى من يريد أن يقيم تجربته أمنية معروفة النتائج سلفا و هو متأكد من نجاحها كما يدعي و يهول كان الأولى بيه أن يجربها على نفسه فكل إنسان يصعب علية المجازفة و يحرص على البقاء و الاستمرارية . لهذا لم يكن من العقل أو المنطق القبول بفكرة أن تكون وزارة الدفاع ووزارة الداخلية والأمن يتولاهما وزراء محايدون أكفاء وذلك إذا سلمنا بوجود محايد ( من المريخ مثلا ) فكيف نطمئن للكفاءة لأننا و باختصار نملك 3 وزراء أكفاء الأول صدامي و الثاني علاوي و الثالث جعفري فباء معيار نقيس الكفاءة الجديدة المحايدة !! كما ويصعب التقبل لمنطق الوصاية والرعاية و التعالي على الغالبية بنظرية تشكيل مجلس امن وطني تناط به مسؤولية إدارة حكم البلاد والإشراف على شؤون البلاد وتكون قراراته خاضعة لمبدأ المزاجية ( التوافق) .
والسؤال الذي تثيره هذه المبادرة هل حقا أنها جاءت لحل هذه الإشكالات ام لا أنها وسعت من دائرة ألازمات وجددت مخاوف و انتهكت مصداقية دستور و سيادة قانون وسلبت أرادة وطنية لشعب كان من المفترض احترام أرادته و خياره .
ومن الواضح إن الرجل الكردي هذه المرة لا ينشغل بالقراءة وحسب كما تقول النكتة بل حاول الإسهام في إخماد النار ولكن كانت وسائله خاطئة وبدائية .