ديوان الوقف الشيعي يعاني من المرض الخبيث

اتسعت دائرة عمل (الأوقاف) في العالم الإسلامي لتشمل اغلب نواحي الحياة (الثقافية والتربوية والاجتماعية والتنموية …الخ) بل كان لها دوراً أساسيا في إدارة وتنمية الدولة الإسلامية في جميع عهودها ، حتى استمرت آثار منجزاتها إلى يومنا هذا ، فالمدرسة المستنصرية التي أسسها الخليفة العباسي المستنصر بالله لم تكن إلا مشروع أوقاف إسلامي اصبح الآن معلماً ثقافياً من أهم معالم بغداد التراثية والحضارية .
ان مفهوم الأوقاف في الإسلام مفهوماً واسعاً ذو أبعاد عميقة تهدف في حقيقة الأمر إلى بناء الدولة وفق برنامج منظم يهدف إلى التلاقح بين مؤسسات الدولة المختلفة (سياسية ، ثقافية ، اجتماعية ، تربوية ، تعليمية ، اقتصادية ) وبين التشريعات الإسلامية التي تحتضن هذه المؤسسات وتوجهها إلى بناء هذا المجتمع.
ولا أريد ان أسهب في الحديث عن تاريخ الأوقاف ومنجزاتها عبر التاريخ واكتفي بالتطرق الى وضعها في الفترة الأخيرة إبان حكم حزب البعث المنحل الذي دام لاكثر من ثلاث عقود سيست فيها كل مرافق الحياة وعسكرت فيها كل دوائر الدولة لخدمة نظام فاشي مجرم لا يملك أي ثقافة أو فكر يؤهله لقيادة شعب ان عد فهو من اعرق الشعوب ثقافةً وتاريخاً . فأتى اليوم الذي انجلت فيه تلك الغمة وذلك السواد المعتم واستبشر أهل العراق خيراً بولادة عراق جديد يحقق آمالهم وتطلعاتهم ويعيد إليهم أمجادهم وهويتهم العراقية المسلوبة.
شكلت الوزارة الجديدة واستحدث فيها ديوانين للوقف الشيعي والوقف السني بعد ان حُلت وزارة الأوقاف (المخابراتية) فكانت هذه المرة الاولى في تاريخ العراق التي تؤسس فيها دائرة رسمية متخصصة لادارة الأوقاف الشيعية .
وبدأ العمل بجد لبناء هذا الصرح العظيم رغم التركة الثقيلة التي ورثها عن نظام البعث المقبور والتي اضطرته لان يبدأ مشواره من تحت الصفر، وبالفعل قطع الوقف الشيعي في مراحله الأولى شوطاً لا بأس به وقام ببعض الإنجازات التي تحسب له ، فمن الناحية الادارية ، قام بتفعيل دوائر الوقف في المحافظات وافتتح دوائر أوقاف في معظم محافظات القطر بل حتى في بعض ألا قضية الكبيرة ومن الناحية التربوية أسس جامعة الإمام جعفر الصادق (ع) والمدارس الدينية في بغداد والمحافظات ، وعمل أيضا على توسعة الحضرة الكاظمية المطهرة واكساء قبة الإمام الجواد (ع) بالذهب ، واصدر العديد من الكتب والكراسات الإسلامية والتربوية والثقافية والتاريخية ، واقام العديد من الندوات والمؤتمرات التثقيفية في بغداد والمحافظات وبعض المشاريع الخيرية كالزواج الخيري الجماعي وغير ذلك من مشاريع مستقبلية تهدف الى توسعة اعمال الاوقاف وتفعيل الاستثمارات والجانب التنموي .
ان هذه النشاطات وان لم ترتقي الى ما يطمح اليه الشارع العراقي ، لكنها استطاعت ان توصل رسالة ايجابية الى المواطن وجعلته يدرك جدية العمل وانسياقه الى مستقبل افضل .
ولكن .. بصيص النور هذا اختفى في ليلة وضحاها بعد ان استبدل رئيس ديوان الوقف الشيعي بسبب المحاصصة المقيتة المبنية على الاهواء والمصالح الخاصة والفئوية، وكباقي ساستنا المحترمين طل علينا رئيس الديوان الجديد بأمته الجديدة والتي عليها وقبل كل شيء ان تلعن اختها ،وبالفعل بدأ العمل السلبي في جميع مرافق الديوان حتى بدى التلكؤ واضحاً في الكثير من جوانبه وخصوصاً تلك التي قطعت شوطاً طويلاً في مراحل الانجاز الى ان اصيب الوقف برمته بالشلل التام لا لشيء سوى ان تلك الاعمال ارتبطت بأسم رئيس الديوان السابق ، وبعد كل هذا النجاح الباهر الذي حققه البرنامج الجديد لرئيس الديوان واستطاع ان يعطل وبشكل تام كل نشاطات الوقف الا ان ذلك لم يرضي غروره فالمرض الخبيث مازال يتفاقم عنده حتى اخذ ماخذه منه ، فذهب الى ابعد من ذلك بكثير فلقد حارب امور لم ترتبط حتى برئيس الديوان السابق ، فلقد عمل بجد خلف الكواليس وكان سبباً رئيسياً في عرقلة عمل هيئة الحج في الموسم الاخير فقام بالمماطلة والمراوغة في ارسال موظفي الديوان كي يعملوا مع كادر الهيئة مما اضطر هيئة الحج بالاستعانة بموظفي ديوان الوقف السني ، وامتنع ايضاً عن فتح باب تسجيل الحجاج في دوائر الاوقاف ومراكز التسجيل في بغداد ولم يوافق على فتحها الا متأخراً بعد ضغوط كبيرة جداً شملت حتى رئاسة الوزراء ، ولقد شاهدت ذلك عندما كنت في كربلاء في موسم تسجيل الحجاج ،وكان الناس متجمهرون امام بناية الوقف الشيعي يطالبون بفتح باب التسجيل اسوة بملاحظية الوقف السني في كربلاء التي فتحت باب التسجيل قبل سبعة ايام ، وبعد ان اضطر الناس لتسجيل اسمائهم في ملاحطية الوقف السني فتحت مديرية الوقف الشيعي باب التسجيل حيث لم يتبقى سوى بضعة ايام لانتهاء المدة المحددة للتسجيل ، وعندما توجهت بالسؤل لاحد موظفي الوقف الشيعي في كربلاء عن سبب هذا التأخير اجابني ..ان هذه التعليمات وردت من رئيس الديوان والذي شدد عليها وبصورة غير طبيعية .. وكان الحال ذاته في اغلب محافظات العراق .
ان مشكلتي لم تكن مع رئيس الديوان ، لاني لا اعرفه ولم التقي به حتى ، ولكن تزاوج الصدفة والفضول هو الذي دفعني لمعرفة هذه الحقائق المؤلمة ، فبدأت رحلتي هذه بعد ان شاهدت في شريط اخبار القناة العراقية عندما وقع حادث جسر الائمة خبراً بتبرع السيد رئيس ديوان الوقف الشيعي (الجديد) بمبلغ مائة مليون دينار عراقي للعوائل المنكوبة من ضحايا الجسر، ثم شاهدت خبراً آخر وفي نفس المكان يتبرع فيه موظفو ديوان الوقف الشيعي براتب يوم واحد ولنفس الحادث ، اسعدني كثيراً هذا التآزر والتكاتف مع عوائل الشهداء ولكن في نفس الوقت وجدت بين سطوره بعض الغرابة لانه اتى بصفتين لجهة واحدة (شخص رئيس الديوان والديوان بصورة عامة )، وشاءت الصدف عندما زرت بغداد التقيت بأحد الموظفين المسؤولين في الدائرة الادارية والمالية لديوان الوقف والذي اطلعني على هذا الامر حيث ابلغني بأن المبلغ الذي تبرع به السيد رئيس الديوان المحترم لم يكن من ماله الخاص ، بل كان من اموال الوقف ، وكان هو احد الموظفين الذين كلفوا بسحب المبلغ من خزينة الديوان ، وعندما سألته لماذا لم يكن التبرع باسم ديوان الوقف الشيعي بصفته صاحب المبلغ واتى بأسم رئيس الديوان ..! فهذا بحد ذاته يشكل خللاً قانونياً وشرعياً في نفس الوقت ، فاجابني وبلهجة ساخرة (( ان رئيس الديوان الجديد استلم منصبه منذ فترة وجيزة واعتقد انه يجهل مثل هذه الامور او انه يعتبر الديوان مُمثلاً بشخصه وفق ثقافة حزب البعث وشعاره الذي يقول (اذا قال صدام قال العراق) منذ ذلك الحين بقي الشك والقلق يراودني على مصير الاوقاف الشيعية وخفت ان تمر بنكسة تنحدر بها الى ما كانت عليه في السابق اذا لم يكن اسوء ، وبقيت انتظر متى يصل النذير، تابعت وبشغف كل مستحدثات الوقف في بغداد والمحافظات وكم تمنيت ان اسمع ولو خبراً واحداً يوحي لي بتقدم او ايجابية في العمل، لكن ومع شديد الاسف لم اجد ساكن قد تحرك سوى الى الوراء ، واتحدى ديوان الوقف الشيعي من اعلى منصب فيه الى ادناه ان يقول انه انجز ولو انجازاً واحداً فقط منذ ان استلم رئيس الديوان الجديد مهامه والى يومنا هذا، فما دام المرض الخبيث ينخر في الراس فلا اعتقد ان باستطاعة باقي الجسد ان ينتج .
وبعد فترة دامت بضع اشهر متخمة بالاخبار السيئة عن الوقف الشيعي ومصائبه صعقت بمعلومة كانت هي مسك ختام انجازات سيدنا رئيس الديوان ، فلقد علمت ان الميزانية السنوية التي خصصت لديوان الوقف السني هي ثلاث اضعاف ميزانية الوقف الشيعي ، والتي تعكس مدى التخلف الذي اصاب الوقف الشيعي من جراء ذلك المرض الخبيث ، في حين ان السنتين الماضيتين كانت التخصيصات متساوية لكلا الوقفين مع اعتراض الوقف الشيعي والمطالبة بزيادة تخصيصاته كونه يضم في دائرة عمله الكثير من العتبات المقدسة والمراقد الدينية والمزارات وفي شتى انحاء العراق.
لقد تفاقم هذا المرض الخبيث بين رجالات الدولة والمتصدين لصنع القرار فيها حتى ابتعدوا في آرائهم كل البعد عن مفهوم المشاركة والديمقراطية والتكامل بل حتى ابجديات الديمقراطية التي تقول (( رأيي صواب يحتمل الخطأ والرأي الاخر خاطئ يحتمل الصواب )) لم تجد ولو بحبوحة صغيرة في عقولهم وافكارهم ، وراحوا يؤسسون وينظرون لديمقراطية تتطابق مع عللهم الخبيثة ، فعدلوا ذلك المبدأ حتى صار ((رأيي صواب يحتمل الصواب والرأي الاخر خطأ يحتمل الخطأ)).
ان الوضع الاستثنائي والمرتبك الذي يعيشه العراق في هذه الايام تحتم علينا ان نتسامح شيئاً ما في بعض الامور ، ولكن ان يصل الامر الى تحطيم هويتنا الاسلامية وانتمائنا المذهبي ورموزنا العظام هذا الامر الذي لا يمكن لنا ان نسكت عنه او نتهاون به ابداً ، ولا نسمح ولن نسمح لتلك العقول المريضة ان تستخف بأرثنا وتراثنا الذي عاش ومات آبائنا واجدادنا في سبيل الحفاظ عليه ، واذا كانت اليد قد كتبت بالقلم هذه المرة فالمرة القادمة ستكون هي الطبيب .
الامير الصغير