مسؤوليّة اللبنانيين مع الانكفاء البعثيّ عن لبنان
حازم صاغيّة الحياة - 26/05/06//
مَن منا شاهد «المتّهَمة»، فيلم جودي فوستر الشهير؟
الذين فعلوا يذكرون، من غير شك، أن الفتاة لم تكن ملاكاً. فهي غالباً ما داهمتها أحداث صغيرة منغّصة أتتها من ماضيها، دافعةً بها الى سلوك عُدّ «مشبوهاً». وفي هذا، أعطت الآخرين إيحاءات مُضلِّلة نمّ عنها ملبسها ومظهرها ونوع مزاحها وإفراطها في الشراب، فتراءى لبضعة شبّان في خمّارة ملوّثة بأن الفتاة مُشرَعة على الاحتمالات كلها.
كان في جودي فوستر من الغوى ما يغوي، وهي ما كانت لتتردد في استخدامه واستعراضه. الا أنها لم تكن تسعى الى ما يتعدّى اللعب المفرط، وربما الوحشي. وفي لعبها هذا لم يساورْها، بالطبع، استدعاء اغتصابها. لكنها، في اللحظة الحاسمة، اضطُرّت الى أن تبدّد «سوء الفهم» الهائج فقالت «لا» قاطعة. وحُملت لاؤها، مع هذا، على أنها نعم، و... اغتُصبت.
ولأن اللا تعني اللا، والنَعم تعني النَعم، أو أن هذا ما ينبغي أن يكون، بُرّئت ساحة «المتّهَمة» ودينَ المغتصبون. والحال أنه لو لم يصدر حكم كهذا لجاز اعتبار الاغتصاب حدّ الحريّة ونتيجتها. وهذا، بطبيعة الحال، عرف وحشي.
ونحن، اللبنانيين، قلنا، في أكثرية ساحقة، «لا». قلناها حين عُرض علينا التجديد لفخامة رئيسنا الجليل فرأينا في الأمر محاولة اغتصاب لا نستدعيها و، بالتأكيد، لا نستحقّها. لكن لاءنا فُهمت، هي الأخرى، على أنها نعم. و... اغتُصبنا.
لهذا يجب أن يُدان المغتصِب، وهو ما يجري اليوم تباعاً، وأن يُبرّأ «المتّهَم» وتسقط، في هذه الغضون، كل مساواة يمكن أن تنعقد بين «الارتكابين». فعلى رغم الفوارق في الأحجام، ليس جائزاً جعل التعاون الذي أبدته «المجالس اليهودية» مع النازية سبباً يخفّف من هول المحرقة. ووحده الرخيص من يساوي بين التعاون والهول.
لكننا، مع ذلك، يحسن بنا أن نتريّث قليلاً. فإذا كانت المحاكم والسجون مآل المغتصِب، فإن النفس ينبغي أن تكون مرآة نفسها من دون تزويق أو مهادنة. ولا بدّ، لذا، من مساءلة هذه النفس الأمّارة بالسوء: لماذا أعطينا كل تلك الإيحاءات المضلّلة، فتأخّرت لاؤنا في الصدور، وحين صدرت بدا سهلاً على المغتصِب أن يؤوّلها كيفما أراد؟ لماذا صمتنا عن كل ذاك الدم، ناهيك عما سفكناه بأيدينا من دم، حتى خُيّل لذاك المغتصِب أن دمنا مشاع لا يُسأل عن إراقته أحد؟
وهو ما يهبط بنا عن الطهارة بقدر ما يسمو بنا عن التساوي مع مُرتكب الاغتصاب. ففرنسا كانت ضحيّة النازيّة، الا أن الحقيقة هذه لا تُجيز «تعاون» بعض «الأمّة»، وهو بعض كبير، مع حكومة فيشي. وهي لا تُجيز، خصوصاً، الردّ بتبرئة عليّة قوم «الأمة» وحلق رؤوس عدد من نسوتها البائسات. وليس العلاج الصحيّ، بطبيعة الحال، في إخراج بعض الفرنسيين أفلاماً سينمائيّة عن الحرب العالميّة الثانية تُظهر الألمان جمعاً من البُلهاء.
وبدورها، كانت ألمانيا الشرقية، بمعنى مشابه، ضحيّة الشيوعية. لكن الألمــان الشرقيين ممن بالغوا في شتم الشيوعيّة والتنصّل منها كانوا يدلّون الى حجم تعاونهم مع «ستازي» الذي لم يبلغ مثيلَه شعب آخر من شعوب أوروبا الوسطى مع جهازه الاستخـــباري. أما تـــواطؤ «المجالس اليهودية» فلا يصحّ، لا أخـــلاقيّاً ولا معرفيّاً، التكــتّم عنه بذريعة الحؤول دون تشوّه صورة اليهود، أو بذريعة إفادة النازية ورفدها بالمبرّرات.
فلسنا مجرمين إذاً ولسنا أطهاراً. وأمر كهذا يجب ألاّ يثير فينا إحساساً «قوميّاً» بـ «العار» لأننا، في آخر المطاف، بشر أكثر منا قوميين. وبدورهم، فالذين يُستثار فيهم إحساس كهذا قوميون لبنانيون أكثر منهم بشراً، يفترضون في أنفسهم كمالاً ونصاعة لا يدانيهما ارتكاب الخطأ، ثم ينهالون بالثأر على مُستضعَفين ومُستضعَفات يصمونهم بتشويه صورة الأمّة العذراء.
لقد أخطأنا أخطاء البشر. الا أننا، بالصفة هذه، مُطالَبون بأن ننكبّ على أخطائنا التي تراكمت وأنتجت تلك الايحاءات المضلّلة مواجهينها بالأسئلة الحارقة: ماذا عن ثقافة «الأخوّة» المرفقة بالتنافس الضاري بين طوائفنا وجماعاتنا، والتي استُحضرت لأجلها «حِكَم» الـ «مئة قلبة ولا غلبة»، و «الذي يتزوج أمي يصير عمّي؟»، ماذا عن حلاقة الذقن بالسكّر قبل التقاط الصور التذكارية مع «سيادة الرئيس»، أو حتى مع غازي كنعان ورستم غزالة، من أجل أن يقوى الحليق على زعامة أخرى، أو طائفة أخرى، يُراد لها الحلق؟ وماذا عن الصمت حيال الألم ما دام أنه ألم شخص آخر؟ ولماذا لم تستوقفنا الإهانة المديدة عند أي منعطف من منعطفاتها، خصوصاً ولم يبق بيننا، على امتداد عشرين عاماً ونيّف، مَن لم يتعرّض لضرب أو سلب أو هجرة قسرية أو نفي طوعي أو سجن أو موت؟
نعم، نحن لسنا متّهَمين بالمعنى الذي يُتهَم فيه المغتصِب. بيد أننا مدعوون الى طرح العزّة القومية جانباً - وهي دائماً مطمورة بالدناءات حتى أذنيها - والاحتكام الى المراجعة.
فالنمسويّون، بعد الحرب العالميّة الثانية، سُمّيت بلادهم «ضحية هتلر الأولى»، وقد ظنّوا أنهم محظوظون مستور عليهم. فالتصنيف هذا انطوى على محاباة لبلادهم التي كانت تحمّست، بإرادتها الحرة، للوحدة (الأنشلوس) مع ألمانيا النازية، ثم بزّت الألمان في الارتكابات التي أنزلتها بيهودها. ونجح برونو كرايسكي في هندسة التواطؤ وتعبيد دروب الكذب، ما استمر طويلاً الى أن انكشفت واقعة فالدهايم انكشاف الفضيحة، ثم انكشف النمسويّون أنفسهم مع واقعة هايدر.
لهذا، نحن لسنا ضحايا سورية فحسب. بل لسنا ضحايا نظامها فقط. ذاك أن التصانيف المغلقة والقاطعة تلك لا تحصّننا تجاه أنفسنا، أو تاريخنا، ولا، طبعاً، حيال الضعفاء بيننا أو الغرباء عنا. فنشر الصمت فوق تجربة «المجالس اليهودية»، بل فوق المحرقة نفسها، على ما حصل في العقدين الأوّلين من ولادة إسرائيل، كانت وظيفته التمكّن من إخضاع الفلسطينيين. وهو ما ينبغي اجتنابه والتنقيب، في المقابل، عمّا هو «سوري» فينا، أي عمّا وفد إلينا من ذواتنا ودواخلنا. فحين نُخرج منا السوري البشع نُخرج أيضاً ذاك اللبناني البشع، والعكس بالعكس.