يمكنك العثور عليه بسهولة في أحد المقاهي التونسية أو المكتبات الموبوءة بالفقدان، في شارع الشوارع، في مقهى “لينيفار”. أصبح للرجل حلقته الخاصة التي تتّسع يوما بعد يوم كما ذكرت إحدى الصحف التونسية، أصبح للشيخ مريدون يتحلّقون حوله مثل سقراط المدينة ليستمعوا لكلامه المختلف. تجمّعت فيه رومانسية العالم وعنفه، خليط غريب من سحر الشرق وعقل الغرب. كان يتحسّس شاربه النيتشوي صحبة قلقه الدائم مقلّبا أوراق كتاب “ستندال” حين أفسدنا عليه تجلّيه بتحيّتنا وعرضنا عليه إجراء الحوار.

سليم دولة

علمت قبل ذلك أنّ الرجل يرفض المقابلات والحوارات، فلا يقبل الحديث إلى صحيفة أو مجلّة إلا نادرا، لكنّه فاجأنا بالقبول، وتورّط بذلك الوعد، و عرفت بع ذلك أنه رجل لا يخلف وعده أبدا لذلك هو قليل الوعود, داهمناه يوما مدجّجين في الأسئلة، وكانت الجلسة الأولى والثانية فالثالثة… وكادت متعة الأجوبة تنسينا أننا بصدد حوار، هذا الحوار الذي انتشر خبره كالنّار في الهشيم بين أوساط المثقفين والبصّاصين الذين أصبحوا يسألون باستمرار عن موعد ظهوره .

سليم دولة هذا الكافر بنواميس الكتابة التقليدية، رجل صاحب عقل متوحّش يتجوّل في الشوارع الخلفية للفكر الدغمائي ليفتّق حواشيه ويرتّق مُزّقه. عاشق للغة والمتون التراثية، منقّب في أدمغة التاريخ، يشقى سعيدا بالحفر في الممنوع، “كاتب حرّ” كما يسمّي نفسه، متحرّر من الضوابط و الفضاءات يحمل أحلامه الطفولية القديمة وكوابيس كهولته الحديثة وهو يجندل الشوارع بشكل انتحاري، صدر له:

ما الفلسفة؟
ما الثقافة؟
كتاب الجراحات والمدارات
كتاب السّلوان والمنجنيقات
قدّم لكتب كثيرة (دواوين شعرية وكتب تراثية …)
له عديد المقالات الفلسفية والسياسية في الصحف و المجلاّت العربية.

من مؤلفاته المخطوطة:

بيان بغداد السقراطي

طاف بنا هذا الحوار في أجواء الفلسفة والحبّ والإبداع والسياسة والفكر وعرّج بنا على عوالم الموت والانتحار…فيه أجوبة خاصة لأسئلة خاصة نحتناها بشكل مخصوص لـ”كاتب استثنائي” كما تسمّيه أحلام مستغانمي ، كاتب مسكون بايتيقا الرّفض، رجل هارب من عوالم الأساطير…من اللاّمعنى إلى المعنى.

الحوار

صباحك فلسفي, تأتي إلى الفلسفة من الصحراء (مدينة قفصة) هل يمكن للفلسفة أن تكون بدويّة صحراويّة ؟
ما هذا الاحتياطي من الاستفزاز الصباحي الذي توفّر على كميّة من المكر الصحفي؟ سأبادلك مكرا بمكر، تتحدّث عن قفصة حاضنة التراث البدوية كما يسمّيها صبحي حديدي في حين أنها تسمّى “مدينة التدقيق والتحقيق” ولو دقّقت وحقّقت في الوريقة الأولى من كتابي “الجراحات والمدارات” لأدركت بلا عناء بصري أنه ورد فيها : » مدينة قفصة مدينة كبيرة قديمة أزلية وكان على أحد أبوابها كتابة منقوشة على حجر من عمل الأُوَّلِ تُرجمت فإذا هي “هذا بلد تدقيق وتحقيق” «. من هذه الملاحظة تتبيّن نسبة المدينة التي انتمي إليها إلى القدامة ببعد أزلي، باختصار، إنّها أقدم من أقدم عواصم الدنيا وأقدم من قرطاج أصلا. هذه مدينة سُكّت بها عملة تسمّى “القفصي” وكما هو معلوم اللحظة الحضارية التي تتوصل فيها مدينة ما أو بلد ما إلى التداول بالعملة يعني أنّها تخطّت مستوى عقليّة اقتصاد المقايضة وأكثر من ذلك يمكن استحضار مفهوم الورد إذ نتحدّث عن “ورد الرمل”، فقفصة بهذا المعنى إنّما هي سليلة مفارقة عجيبة إذ تنتمي إلى مطلقين واحد يفتح على سجلّ الصحراء وما تتوفّر عليه من متاهات رمليّة وواحد يفتح على متاهات حضارية، إنّ وضع قفصة بهذه المفارقة ليشبه وضعي تماما.
كيف ذلك ؟
أنا بدويّ الانتماء سلالة وبدوي في ممارسة تيهي، إذ كيف لبدوي لم تلجمه الصحراء أن يشتغل بالفلسفة، زهرة المدن وسليلة الرياضيات والهندسة والجبر والإحصاء والحساب ؟ فإذا كانت الفلسفة على رأي ذلك الألماني المرعب “هيجل” إنّما هي وردة العصور وزهرة المدن فإنّ ما قادني إليها يمكن اعتباره شيئا شبيها بهذا، وهو الشعر والذي هو في نهاية التحليل زهرة الصحاري رغم أنّ الشعراء يزاولون وجودهم في المدن وما يستلزم ذلك من رهافة عيش وتنوّق كما يقول ابن خلدون إن على مستوى المعيش اليومي أو على مستوى رهافة المخيال الجماعي، فالذي قادني إلى اختيار الفلسفة شاعر وناثر، أمّا الشاعر فهو ذلك الضرير الذي أبصر ببصيرته، أقصد “المعرّي” إذ عثرت يوما على كتاب في جبّانة تسمّى جبّانة “سيدي المقدّم” أثناء اتياني بكرة أفلتت منّا أثناء اللعب ونحن صغار – عمري 14 سنة – وإذا بلفافة من الأوراق الصفراء متروكة لحالها هناك فكأنما لسان الكون وفق لغة صاحب المقدمة قد دسّها كلعنة في طريقي، أخذت هذه اللفافة من الأوراق ولما أنهينا اللعب عدت إلى البيت وفتحتها وإذا بي أقرأ أوّل ما أقرأ هذين البيتين :

سألتُ عن الحقائق كل يوم فما ألفيت إلاّ حرف جحدٍ

غير أنّي أزول بغير شـكّ ففي أي البلاد يكون لحدي

لم تكن أوراق مسفّرة فظننت أنّ هذا الكتاب في السحر بفعل تداول الكتب السحرية في “قصر قفصة” وكما ترى إن هذه الأبيات الصاعقة قد استجابت للتوّ مع هوى في نفسي المتمثّل في الشعور باليتم ذلك أني عشت في مقام اليتيم ففعلت هذه الأبيات فعلها وأخذت أنزوي تدريجيا وأمارس ضربا من العزلة والانقطاع عن اللعب، كما اتّفق أن كلّفني أستاذ العربية، وأذكر أنّ اسمه “سعيد الدقّاشي”، بتلخيص كتاب “قادة الفكر” لطه حسين وموضوعه الشخصيات التي قادت الفكر فعلا من ذلك تساؤل “طالاس” ومدرسته عن أصل الأِشياء، من أين ؟ وإلى أين ؟ فكانت ثاني الصدمات التي اقتلعتني من عالم الطفولة وبهجته و”فلسفته العفوية” إلى طرح أسئلة من النمط الوجودي والتي يطرحها غالبا الأطفال بسريّة فائقة خوفا من السلوك الانضباطي ضدّهم، من ذلك كنت أتساءل كيف لزوجة والدي، والتي تحفظ ستين حزبا وتحدّثنا عن الغزالي والسحر والطلسمات وعن ابن خلدون أن تعاملني بطريقة تختلف عن تلك التي تعامل بها أبناءها. فهذا الشعور بأني غريب بين أهلي انضاف إليه الشعور بغياب الأمّ وبثقل وجاهة اسم العائلة قد شكّل ضغطا عليّ إلى حدّ وضعت فيه كل أشكال المقدّس الميتافيزيقي والاجتماعي موضع تساؤل ولم أتخلّص حتى هذه اللحظة من ثقل اللحظة الطفولية، فترى إذن أن مدينة قفصة هي مدينة عجائبية لا وسطيّة لدى أهلها إمّا أن يكونوا متمرّدين على كل أشكال السلط أو أنّهم انتهازيون وانبطاحيون إلى أبعد الحدود لذلك لم تقم لهذه المدينة من قائمة منذ الاقتحام الموحّدي.

مدينة يسكنها الملاك والشيطان ويتحالفان أحيانا ويدفعان ببعضهما البعض، وثمّة مثل سائر يهجو أهل قفصة ومؤدّاه “صُحبَتُك في قفصي كِماكلْتك في تبْسي” (صداقتك لقفصي مثل أكلك في تبسي) والتبسي آنية فخارية قابلة للانكسار في أي لحظة لذلك تنتشر العقلية التمرّدية كما العقلية التبريرية الانبطاحيّة.
إذا كانت الفلسفة بحثا في ما الإنسان ؟ فهل انحسارها اليوم دليل على أن الإنسان لم يعد يحتاج إلى معرفة نفسه ؟ أم أنّه فقد الحاجة إلى السؤال لأنّه فقد إنسانيته أصلا ؟!
كان “كانط” نبّهنا فعلا إلى أنّ الأسئلة في الفلسفة والتي هي ماذا يمكنني أن أعرف ؟ ماذا يجب عليّ أن أفعل ؟ وما الذي يجوز لي أن آمل ؟ بإمكاننا اختزالها في سؤال رئيس وحاسم : ما الإنسان ؟ وكما ترون هذه الأسئلة منها ما يفتح على السجلّ الابستيمولوجي – المعرفي – العلم والمعرفة، كما يتعلّق بالشأن الأخلاقي وايتيقا السلوك وبالرجاء والأمل، وسؤال الأسئلة إنما هو الإجابة الكليّة عن مركز الاهتمام الرئيس وهو الإنسان.

ويعنيني اللحظة أن نتدبّر أمر الاستنتاج الممكن فيما يتعلّق بهذا الموقف الكانطي الذي حدّد خارطة التفلسف، الإنسان كائن معرفة وكائن ممارسة وكائن أمل وكائن تساؤل، أمّا من جهة كونه كائن معرفة فإنّ الخطر الكانطي، والخطورة بمعنى الأهميّة، إنما تكمن في أول جملة قد صاغها في كتابه “نقد العقل المحض” إذ أقر بأنّ : » ثمّة قدر فريد للعقل البشري وهو أنّه يطرح أسئلة تتعلق بجانب من معارفه ليس باستطاعته تلافيها البتّة «. ما هو هذا السؤال الذي لا يمكن تلافيه، إنه سؤال الميتافيزيقا – الماورائيات. بهذا المعنى الإنسان حيوان ميتافيزيقي، بلغة أكثر وضوحا حيوان ديني، ومهمة الفلسفة كانطيا تتمثّل في ما يمسّى الوعي بالحدود، حدود مستطاع العقل وحدود لا مستطاعه، أكثر من ذلك قد شبّه كانط الفيلسوف بالشرطي إذ أنّ الفيلسوف النقدي عليه أن يمتحن بدءا مقدرة العقل على تخطّي أو عدم تخطّي مُستطاعه بذلك تتمثّل ما يسمّى بالثورة الكوبارنيكية التي أنجزها كانط في وضع حدود للعقل الدوغمائي، ذلك الذي عاش أكثر من ألفي سنة على وهم معرفة الله والنفس وبدايات العالم كما تُعرف قوانين الفيزياء ومسائل العقل العلمي.

باختصار، لقد دعا كانط للاقتصاد في إينيرجيتيقا العقل لئلاّ يبدّدها في مجال الميتافيزيقا. وتسمّى هذه ثورة استثنائية في الفلسفة، أمّا حين يزاولها فلاسفة آخرون في فضاء ثقافي مختلف مثلما هو الشأن في الثقافة العربية الإسلامية يعتبر ذلك تحطيما وتهديما للفلسفة وجناية فاحشة ضدّها وتجريما لمن قاموا بذلك دون تمييز بين السجلاّت أصلا كما حدث ويحدث مع الغزالي مثلا وابن خلدون مثلا وابن تيميّة أيضا، إذ يعتبر كثير من “الخلق” الجامعي الذين درَسْتُ عليهم أن ابن خلدون أبطل الفلسفة وشنّع بمنتحليها وقد ورث ذلك عن الغزالي، إلى غير ذلك من الأكاذيب والأعاجيب الأكاديمية دون تنبيه إلى أنّ المجال الذي تمّ فيه نقد الفلسفة والعمل على إبطالها أصلا إنما هو مجال الميتافيزيقا ليس مجال تدبير السياسات المدنية أو سائر النشاطات الإنسانية، فكيف لدكاترة كبار أن يصابوا بالعمه النظري ولا يعملون على أن يكونوا وسطاء صادقين وموضوعيين بين الفلاسفة الكبار وبين الطلبة، فالمطلوب إذن، إنما هو الوعي بالأخطاء الأكاديمية والأوهام الإيديولوجية ذلك أننا نصرّ على أن نقرأ لدى الفارابي أو ابن سينا أو الغزالي أو ابن باجة… إلخ، إلاّ ما نرغب في قراءته، وأذكر عبارة للمفكّر المغربي “محمد عابد الجابري” موحية في هذا المجال حينما ينبّهنا إلى خطر القراءة المتذكّرة في حين أنّ المطلوب هو القراءة المفكّرة. ذلك أننا غالبا ما نقرأ المتون متذكّرين مجموع آرائنا المسبّقة فنصرّ على أن نجد في هذا النصّ أو ذاك ما نرغب في وجوده ونصاب بالعمى عن الجديد لديهم أو عن تردّداتهم وحدوساتهم وتلمّساتهم الليليّة إذ وحده الفكر الدوغمائي يصرّ على أن يجد مسبّقا ما يجب أن يجده في المتن المقروء، من ذلك هذا الوهم المعاصر الحديث عن “موت الفلسفة” وهو ما يتطلّب وقفة متأنّية، فما الذي يبرّر هذه الوقفة المتأنّية؟

إنّ العصر الذي نعيش لو نكتفي بمجرّد تصفّح لعناوينه الإعلامية والإعلانية دون إعمال عميق للعقل النقدي لتبيّنا أنه عصر قيامي ومأتمي وجنائزي، ذلك أنّ التحدّث بصيغ مختلفة ومتعددة عن الموت “موت الكاتب”، “موت المؤلف”، “موت العمل”، “موت المدرسة”، “موت الدولة”، “موت الأمّة”، “موت العائلة”، “موت الله” وآخر الميتات ربّما إنما هي “موت الإنسان” و”موت الرواية” وكلّ موت إنما هو يتمّ لصالح حياة وكل اختفاء يتمّ لصالح ظهور، من ذلك أنّ ما يسمّى بـ”موت الله” في الفكر الغربي كأنّما هو الشرط الرئيس لولادة الإنسان، ليس أيّ إنسان وإنما إنسان التنوير ضدّ إنسان اللاهوت والميتافيزيقا والتزوير تماما كما موت الإعلام إنّما يتمّ لصالح الإعلان والإشهار إلى حدّ غدا معه الإعلام مجرّد فعل إشهار أو “تشهير” كما “موت الرواية” إنما يتم لصالح ما يسمّى بالتحقيق الصحفي و”موت الأمة” إنما يتمّ لصالح العولمة و”موت التاريخ” يتمّ لصالح تفتيت الجغرافيا. كما أنّ “موت العقل” يتمّ لصالح مديح العقوليات. ما يمكن ملاحظته أنّ الفلسفة ذاتها، وهي موضوع حديثنا، يتمّ قتلها يوميّا لصالح الميديولوجيا، فنرى كيف أنّ الإيديولوجيا تذيب الفاعلية النقدية للفكر الحرّ في “الحامض الفسفوري”، وفق عبارة سارتر، في الميديولوجيا، وبذلك تظهر الإيديولوجيا في شكل أرقى نتاجات التكنولوجيا تخفّيا.

أصبحت عبارة “تفلسف” تترادف في متداولنا اليومي مع مفهوم الثرثرة والكذب والخبل واللغو… ما الذي حلّ بالفلسفة لكي تتدهور أحوالها ؟ كيف تحوّت تلك الشجرة الوارفة الظليلة إلى فزّاعة خاوية ؟!!
إنّ السخرية من الأسئلة الحاسمة أمام أشكال الدوغمائيات والدكتاتوريات، إذ لا أحد يجرؤ أن يقول كلّ ما يفكّر فيه حقّا وحقيقة، تظلّ دائما ثمّة مناطق وحالات وأوضاع مسكوت عنها بفعل استحضار الوعي الانضباطي والتدابير الانضباطية ضدّ حريّة التفكير والتعبير لذلك وحدها زلاّت اللسان كما زلاّت القلم بالمعنى الفرويدي تقول ما لا ينقال وإن كان قد قيل تورية أو مجازا أو كناية أو صمتا، ذلك أنّ الصمت منذ ثورة التحليل النفسي لم يعد مجرد انقطاع عن الكلام بالرغم من المقدرة عليه. وإنّما أصبح الصمت “ترجمان أشواق” مغدور بها، مقموعة ومغيّبة إلى أكثر المناطق ظلمة وسديميّة وكبتا، غير أنّ للمكبوت ثارات من ذلك مثلا أن الانحراف اللساني والتوعّك الشفاهي حينما ننطق كلمة “فلسفة” غالبا ما ينحرف لسان العامة والخاصة أيضا كما العوام فيستبدل مواقع الأحرف فتصبح الفلسفة “فلفسة”، وأذكر أوّل مرّة سؤال أمّي البدوية : » آش اِنْ هي الفلفسة التي تريد أن تردسها في الجامعة ؟ « لقد استوقفني توعّكها اللفظي فقلت لها : » أنا لا أدرس “الفلفسة”« فأجابتني بعفويتها : » من أين لي أن أعرف الفلفسة أو فلفسة أمّك ؟ «. وأصرّ لسانها على التوعّك، وهذا الانحراف الحرفي ليس بريئا ذلك أنه يمكن قراءته على أنه انتصار للأفلاطونية لدى العامة ضد نمط آخر من الأداء الفلسفي المتمثّل في تشويه معلّمي البيان – السفسطائيين – ذلك أنه يقترن في أذهاننا فعل الفلسفة “بالفساد” و”الإفساد” و”التزوير” و”الكذب” فكثير التكذاب نطلق عليه “السفسوف” المقترن بالضحالة والتفاهة وترويج الأراجيف وإفساد الجماعة ونشر الشرّ. فترى أنّ الفلسفة سيئة الذكر حتى إنه لتحتاط أكثر من عائلة، كما حدث معي، أن تزوّجك ابنتها باعتبار أنّك، إلى جانب أنك “كافر” و”ملحد” و”كذاب” أنت “مزوّر” ولا يؤتمن لك جانب. من هنا ندرك، ربّما، احتياط النص القرآني بأن لم يذكر كلمة الفلسفة ولو مرّة واحدة وتدبّر أمره باستعمال كلمة “الحكماء” وكل ما يشير إلى “الحكمة”.

إنّ غياب كلمة الفلسفة من النصوص المقدّسة يدعو إلى التفكير فما الذي يبرّر هذا الغياب ؟ كيف يمكن لنا أن نستنطق هذا الغائب وإن كان حاضرا بالممارسة وغائبا بالتسمية ؟ ألم يتمّ الانتقال من حضارة “الميتوس” إلى “اللوقوس” بفضل نمط من التعقّل الجديد للإرث القديم فكان المرور من الميتوس إلى اللوقوس لدى اليونان كما تمّ لدينا المرور من “حضارة الشعر” إلى “حضارة الشريعة” ؟ ألم يقترن الشعر في الذهنية العربية الإسلامية “بالزيف” و”الكذب” و”الجنون” و”الغواية” ولم يسلم الأنبياء أنفسهم من التهمة عينها إذ نسبو “للكهانة” و”السحر” “التنجيم” ؟

إنّ للكلمات غوايتها وحيلها، ألا نستعمل في متداولنا اللساني اليومي التونسي عبارة “أنجّمُ” بمعنى “أستطيع” وعبارة “أنا لا أنجّم” بمعنى إني لعاجز عن القيام بهذا الفعل ؟ ومجرّد التفكير في تسلّل هذه العبارة إلى وعينا اللغوي اللساني يبيّن لنا أن الإنسان المعاصر يمكن أن يعيش في زمن الحداثة بإرث لساني موغل في القدامة. أليست وراثة الكلمات في جانب من جوانبها تعني وراثة المواقف والأحكام ؟ من ذلك نستنتج ببساطة مطلقة أنّ الفلسفة إنما هي سيّئة الذكر في منتظمنا الحضاري بفعل “المقدّس” و”المقدّس المزيّف” وهو ما يبرّر إعادة النظر في ما معنى الفلسفة أصلا في حضارة تستند إلى الوعظ والإرشاد ؟ ماذا لو نفكّر في أمر الوعظ أصلا ونجترح تعريفا للفلسفة على قياس الوعظ ؟ فما الوعظ ؟ إنّه “تليين القلب”، فإذا كان الأمر كذلك بإمكاننا أن نعرّف الفلسفة بأنها “تليين للعقل”.
هل يمكن الإنسان أن يحافظ على وجوده، باعتباره إنسانا، في هذا الرّكام من الأشياء والنفايات ؟
الإنسان بدءا إنّما هو كائن الثقب والنفايات، لم يكن قيصورمون Goysorman مخطئا عندما عنون واحدا من كتبه بعنوان دال « Le monde poubelle »، “عالم النفايات”، بأكثر دقة “عالم القمامة” وأكثر من ذلك، لقد أصبح ثمّة نشاطات كثيرة وموارد رزق ومواطن شغل إنّما تتمثّل في صناعة النفايات، وما يسمّى بالرسكلة لا يزيد عن كونه فعلا إعادة التصريف والتصرّف في البقايا، والمثال الأكثر إرباكا إنما هو المتاجرة بالأعضاء، إذ ما معنى أن يبرم المحتضر عقدا على بيع أعضائه لبنوك الأعضاء كما يبيّن بحذق استثنائي “دافيد لوبروطون” في كتابه “انتروبولوجيا الجسد والحداثة” حيث نبّهنا إلى أننا مررنا من الأمومة البيولوجية الرحميّة إلى الأمومة الأنبوبيّة، ومررنا من استثمار البذور النباتية إلى البذور المنويّة. كما المرور من اكتراء الشقق والعمارات إلى بيع البويضات واكتراء الرحم. لقد تمّ تفكيك المتناهي في القداسة، الأمومة الرحمية، إلى تداول الأمومة الأنبوبية. لقد كتب مفكّر فرنسي مؤلفا موحيا بمجرّد عنوانه “الأجساد المحوّلة ومكننة الكائن” وهو ميشال طيبون كورينيو، ذلك أننا مررنا حضاريا من النظرة السحرية، الشعرية، والجمالية، والإلغازية للمغلق الجسدي إلى النظرة الآلية، الأداتية، الميكانيكية للكائن الذي استحال إلى مجرّد جسد، لا بل مجرّد جسم. فإذا كانت النجاة في ما مضى تنسب إلى الروح فإنّ النجاة الآن في حضارة الصورة أصبحت تنسب إلى الجسد كما بيّن ذلك بدقة فائقة صاحب كتاب “التبادل الرمزي والموت” وكتاب “مجتمع الاستهلاك” جون بودريار ومن هنا ندرك بأكثر عمق أهميّة الانقلاب الحضاري الذي نعيش نحن العرب المسلمون، ذلك أننا مررنا بالرغم عنّا من حضارة السورة والآية إلى حضارة الصورة والآلة. فالآية لم تعد تتعلّق بالمغلق، مغلق العالم، مغلق الجسد، وإنما أصبحت تتعلّق بالمفتوح، مفتوح العوالم ومفتوح الخلوي ومفتوح السلالة ومفتوح الثقافة تماما كما تمّ المرور من المغلق الماهوي العقلي إلى مفتوح المعقوليات والمرور من العالم إلى العوالم ومن “المستبدّ” إلى “الديمقراطي”، وعبارة “استبدّ” تستدعي وفقا لميراثنا اللغوي تأمّلا نقديا من جهة الاستعمال اللغوي ذلك أن فعل “استبدّ” يحيلنا مباشرة على الربوبية والألوهيّة : “استبدّ” جعل من نفسه بُدّا بمعنى ربًّا ومن هنا ندرك لماذا عنون ابن سبعين المرسي الأندلسي كتابه بعبارة “بُدُّ العارف” والذي أغرب ما في الأمر أنه انتحر بمكّة وهو الذي وسم الفلاسفة وشناهم بـ”المموّهين” و”الممخرقين” معنى ذلك أنه سعى إلى مصادرة الفلاسفة انتصارا للدين، فكيف نفسّر انتحاره ؟

هل انتحر حقا أم “نُحِر” ؟! ذلك ما يتطلّب تدقيقا وتحقيقا. مرّة أخرى إن الفلسفة سيّئة الذكر، وأنباء حرق الكتب معروفة في تراثنا العربي، وإن كانت ليست ميزة عربية، ولقد أصدرت دار الجمل بألمانيا كتابا مهمّا “يُأرشِفُ” للمحارق ولما يشبه “محاكم التفتيش” ويكفي فقط أن نتصفّح الفصل ما قبل الأخير من “حي ابن يقظان” لابن طفيل الأندلسي وكتاب “مداواة النفوس” لابن حزم الأندلسي وهو آخر ما كتب في حياته لندرك أنّ وضع الفلسفة ليس على أحسن حال، لقد تم حرق كتابي الأول “ما الفلسفـة ؟ ما الثقافة ؟” في الثمانينات من قبل أكثر من جهة لأمر بسيط وهو أنّي أوردتُ فيه نصّا في إدانة الفلاسفة كان قد أصدره المنصور ابن أبي عامر لمّا سُجن ابن رشد في مدينة سيّئة الذكر أندلسيّة.

لماذا نذهب بعيدا ؟ لما أصدرت كتابي “الجراحات والمدارات” تم الاعتداء عليّ شخصيا وأحمل آثار هذا الاعتداء كشرخ حاضر عند رأسي وفي صلعتي تحديدا إذ تمّ تعنيفي من جهات لا أعرفها والتهمة هي التفكير خارج ما أسماه محمد أركون “الأسيجة الدغمائية”.

ألا ترى معي أنّ سؤال الفلسفة والعلم أصبح أكثر إلحاحا اليوم، نحن نعيش زمن العلم بامتياز ولكن شوارعنا مزدحمة مثل صحفنا بلافتات المشعوذين وبياعي السخف. هل نحن بحاجة إلى فلسفـة أم علم ؟
من أهمّ مهمّات الفلسفة بيداغوجيا العمل على تحديد المفاهيم وهو ما يبرّر استنطاقي لسؤالك، ما الذي تعنيه بـ”العلم” و”الشعوذة” ؟ إنّ من أبسط تعريفات “العلم” وأكثرها إجرائية المعرفة العقلانية بالقوانين وذلك يفترض أن الظواهر التي تحدث إن على مستوى الطبيعة أو على مستوى المجتمع لا تحدث صدفة وإنما لها منظومة من الأسباب تقود إلى إنتاج ظواهر محددة سواء تعلّق الأمر بما يسمّى بالعلوم الدقيقة أو الإنسانيات فلا بدّ لنا إذن من التمييز بين تعريف العلم وموضوع العلم ومنهج العلم والحقيقة العلميّة حتى نتبيّن ما إذا كنا علميين في نظرتنا لما يدور حولنا وإلى ما نحن خاضعين له كذوات فردية وجماعيّة. إن العلم بمعناه الوضعي من جهة الموضوع إنما يدرس كل ما هو قابل للزيادة والنقصان، يعني كل ما هو مقيس يخضع للإحصاء ويخضع لسببيّة موضوعيّة تتخطّى الإرادات الذاتية والمزاجيّة وكل ما يحيل على الغواية والإشتهاء الذاتي بهذا المعنى ربّما ندرك التأكيد الخلدوني على ضرورة التمييز بين “ميزان الذهب وميزان الحطب والحجر والخشب” فمجال الطبيعة يُقاس بميزان الكثيف في حين أنّ مجال العواطف والأهواء والذوق يُقاس بميزان اللطيف. تتمثّل الثورة العلميّة في المجتمعات التي شهدت أكثر من ثورة كوبارنيكية في الإيمان بأنّ ما يحدث لا يحدث هكذا صدفة وإنما يخضع إلى أسباب محددة مسبّقا وإلى فواعل لاحقة لذلك ربّما ندرك أهمية الثورة الخلدونية في كتابة التأريخ، إذ كان قبل الثورة الابستيمولوجية الخلدونية لا يزيد عن كونه سلسلة من الأحداث والحكايات المرتبطة رأسا برغبات الملوك والسلاطين والأمراء ومن يسميهم أصحاب “الجاه والتجلّة” وهذا المنزلق النظري إنما هو الذي وقع فيه المسعودي والبلاذري وحتّى من أسماهم ابن خلدون “فطاحلة المؤرّخين”. أمّا وإن تمّ التعمّق في تفسير الظواهر خلدونيا فإنّه لا بدّ أن ندرك أن للظواهر الاجتماعية تعليلا بمعنى تحديدا، للأسباب والمسبّبات من ذلك أن الدولة من جهة تكوينها الجنيني وعمرها لم تعد خاضعة لمجرّد الصدفة ولا إرادة أو رغبة هذا السلطان أو ذاك الأمير أو هذا الحاكم أو ذاك وإنما أصبح للدول أعمار “كالتي للبشر : جيل للتعب وجيل للذهب وجيل للحطب”. بقطع النظر عن المرجعيّة التفسيرية والتأويلية للخطاب الخلدوني فإنه يكفيه شرف “إرادة المعرفة” من تحويل كتابة التاريخ وفق المرغوب فيه أميريا وسلطانيا إلى تاريخ يخضع لمنطق الصرامة والضرورة ومن هنا ندرك أهميّة التوقّع وإن كان الأداء الخلدوني يخضع بدوره إلى ما يشبه القدر، استحضر عبارته الموجعة وهو يتحدّث عن العرب زمن انكسارهم واندحارهم حينما يعلن بمرارة من ولد في “تربية الباي” التونسية » كأنما لسان الكون ناداهم أن أدبروا فاستجابوا له «.

وغالبا ما نعلن بشراهة نرجسيّة أن ابن خلدون قد سبق أوقيست كونت في تأسيس علم الاجتماع وفي هذا البلاغ الادّعائي اعتداء مزدوج : اعتداء على ابن خلدون واعتداء على أوقيست كونت، فكيف ذلك ؟ إن ابن خلدون إنما هو مُدشّن “علم العمران” و”علم العمران” يمثّل منظومة الحالات والتحوّلات التي تمس مجموع فسح المجتمع ويكفي فقط تصفّح فهرست المقدمة لندرك إسهامه الانتروبولوجي السياسي والاجتماعي وما يسمّى اليوم سيميولوجيات الحياة اليومية ومن ذلك مثلا رصد “نحلة المعاش” لدى أصحاب شظف العيش وأصحاب التنوّق في الحياة فالنعت الوحيد الذي يجب أن يبقى في كل لغات العالم للاختراع الخلدوني هو “علم العمران البشري”. لماذا هذا التأكيد ؟ لأنّ علم العمران أشمل من السوسيولوجيا لدى أوقيست كونت ذلك أنّ الاكتشاف الخلدوني إنما هو اكتشاف انتشاري بإمكان أحفاده أن يحملوه إلى مداه فتتوفّر لديهم مجموعة من العلوم الذريّة أو القطاعية من ذلك مثلا “آداب السفرة” و”آداب المآكلة” و”آداب الاحتفالات الجنائزية” إلى غير ذلك من سائر الحقول التي أشار إليها دون أن يتبسّط فيها، في حين أن أوقيست كونت يؤرّخ سوسيولوجيا للتقدّم وأراد أن يجعل الانتصار العلمي مقام الانتصار اللاهوتي فكأنما العلم كونيا يقوم مقام المفعول اللاّهوتي. إنّ الخلدونية، وفقا لمقولة التسويق الكونية، لماذا ؟ لأنّ ابن خلدون ترك مجالات “للمخيال، وترك للأخطاء” و”للأوهام” و”للتردّدات” فُسحها بينما أوقيست كونت طالب بصرامة استثنائية أملاها عليه الشرط الوضعي وإن كان قد دعا إلى فيلسوف جديد “مختصّ في عدم الاختصاص” وظيفته الأساسية التأليف والتوليف بين جميع جُمَّاع المنجز العلمي إذ لا ننسى أنّ القرن الثامن عشر إنّما هو العصر الوريث لأفكار كلّها تؤمن بـ”التقدم” و”التغيير” و”الدوران” و”الثورة”. فزمن أوقست كونت إنّما هو زمن أفقي وزمن ابن خلدون إنما هو زمن دائري إلى حدّ أنّه يمكن أن نطرح معه مسألة الوجه الهندسي للأفكار إذ ثمّة أفكار يمكن نعتها بالدائرية وثمة أفكار أفقيّة من ذلك عبارتنا المتداولة عاميا “ما يعْجبكْ في الدهر كان طوله”. هذه الفكرة تبدو ظاهريّا فكرة أفقيّة في حين أننا لو تدبّرنا أمرها جيّدا لأدركنا أنها فكرة دائريّة ودائرية بامتياز، هذه العبارة تفتح على فكرة الشعوذة ودائريّة الزمان تحديدا.

إذن، ما الشعوذة ؟
ما الشعوذة ؟ وما السّحر ؟ وما الطلسمات ؟ إنّها جميعا تحيل على إيمان ما. إيمان بماذا ؟ الإيمان بأهميّة اللغة، اللسان، البيان، القادر على تحويل الطبائع والعناصر، ذلك أنّ السحر كما الطلسمات إنما هو الاعتقاد في سلطة اللغة سواء أكان سحرا أسود أو أبيض ومعادلته السيميائية هو التفريق والمباعدة كما المباعدة بين الزوج وزوجه والمباعدة بين الابن وأبيه، من هنا نفهم لماذا تمّ اتّهام الأنبياء والرسل بتغيير “علاقات الطين”/العصبية بـ”علاقات الدين” ذلك أن الكثير من الأبناء قد مارسوا ضربا من العقوق تجاه الآباء كما مارست الزوجات المضطهدات العقوق تجاه الأزواج المضطهدين كما مارس العبيد ضروب الأبوق والتمرّد ضدّ الأسياد بمعنى أن كلّ الثورات سواء تمّت باسم السحر أو الدين أو الطلسمات أو أيّ ضرب من ضروب الوعي الثوري العقلاني إنّما هي تفجير لمنظوم علاقات القرابة القديمة واستبدالها بعلاقات قرابة جديدة فالفاعل الرئيس في حقل الشعوذة هو الإيمان بإمكانية تحويل الطبع إلى طبائع وتحويل المكروه إلى محبوب والمنبوذ إلى مقبول والمجروح إلى سليم والفقير إلى غنيّ والمرؤوس إلى رئيس، إلى غير ذلك من متواليات المفارقات. أمّا وأن تنتصر العقلية الشعوذيّة في المجتمعات الأكثر علمانية وعلمنة فذلك يعود إلى ما يمكن تسميته بالتسريع الاغتصابي للتاريخ. فما معنـى هذا ؟

ذلك يعني أنّ للجغرافيات كما للشعوب خصائص تمييزية واختلافية لابدّ من الانتباه إليها على أقلّ تقدير من أفق حكم الانثروبولوجيا الثقافية، فإذا قلنا أنّ الشعب الفرنسي كما نبّه إلى ذلك جورج بولينتزير – المغتال نازيا – من أخصّ خصوصياته : “الدفاع عن الحرية” وإذا قلنا أنّ الشعب الانقليزي من أخصّ خصوصياته رفض الإفراط الإيمائي خلافا لما عليه الشعب الإيطالي والشعوب المتوسطية عموما، وإذا ما قلنا أن الشعب الجزائري شعبا قُصْوَويًّا إذ ينخرط في مطلق المحبّة والالتزام تماما كما يفرط في مطلق الانفلات والتمرّد والعصيان وهو ما نستشرفه من أدبه (واسيني الأعرج، أحلام مستغانمي، الطاهر وطّار،…) فإنّما ندرك أن عقلية الشعوذة أو ما يسمّى “الشَّعْبَذَة” ثابتا بنيويًّا في كل الحضارات وأكثر من ذلك أنها لأكثر حضورا في المجتمعات الأكثر علمنة وادّعاء للعقلانية.

لقد استحضر رئيس فرنسي سابق “مدام سولاي” وهو يجيب عن واحد من الأسئلة المحرجة، وأن يستعير رئيس بلد التنوير في مقام الراحل “ميتران” “مدام سولاي” وحده دال على مدى تغلغل الذهنية الخرافية والأسطورية والشعوذية. وأكثر من ذلك إنّي لأعرف عرّافين على مستوى عالمي يطلب منهم كثير من الخلق المتنفّذ في السلطة السياسية قراءة أكفّهم ومستقبلهم السياسي والعاطفي أيضا وفقا لإيمان منهم بتوفّرهم على طاقة لقراءة كتب الغيب. نعم هكذا يتصرّف اللذين يزعمون أنّهم يمسكون بدواليب رقابنا ورواتبنا الشهرية أيضا. لقد نبّه “مارسيا إلياد” الروماني في آخر حوار أجري معه قبل وفاته إلى ضرورة التمييز بين بنية الفكر الديني ومسوخ بنية الديني مستحضرا مثالا إجرائيا وهو مثال الزواج، فكيف ذلك ؟

إذا كان المسيحي أو السنّي عند تدشين لحظة الزواج يهرع إلى الجامع أو إلى الكنيسة فإن الثوري الماركسي وفقا للصياغة الأرتودكسيّة يهرع إلى الساحة الحمراء. في هذا الفعل الطقوسي الذي أرادته السلط الاستبدادية فعلا مباركا إنما يتوفّر على احتياطي من الاستبداد على الذوق الشخصي. الثابت الرئيس في هذه الممارسة وتلك إنّما يكمن في غياب ما يُسمّى بـ”العقل النقدي”، فالمباركة في صيغتها اللاهوتية الدينية كما في صيغتها العلمانية الثورية بقيت أسيرة الزمن التكراري وذلك هو الثابت البنيوي في الفكر الديني والأسطوري كما حلله صاحب ديوان “أغاني مهيار الدمشقي” في كتابه “الثابت والمتحوّل” أدونيس، فترى معي أن التمييز المطلق بين الأداء العلمي والأداء الخرافي الأسطوري والشعوذي ليس دائما واضحا ومتميّزا كما ندّعي. ألم يتحدّث “رولان بارط” في كتابه المدوّن منذ الخمسينات عن الميثيولوجيات، أليس غريبا أن يستحيل “البيفتاك” أو “الستاك” أمرا للتأمل السيميولوجي ؟! أليس دالا أن يكتب أحدهم على باب منزله أنّ “صاحب البيت واعر” دون إشارة إلى الكلب بمعنى أن الكلب أقل شراسة من صاحبه ؟ أليس غريبا أن يتمّ مديح الكلاب ضد الكثير من واضعي الثياب في الحضارة العربية ؟ استنتاج مفاجئ. إن كل الحضارات وفق أي صيغة كانت إنما هي : سعي إلى الاقتصاد في تبذير اللذات والآلام. فالشعوذة أو “الشعبذة” كما الكذب أو التكذاب إنما هي صمّام أمان ضدّ كل ما يمكن أن يحتقن في الجسد الفردي أو الاجتماعي، بهذا المعنى تعتبر الكتابة فعلا اقتصاديا في الإجرام ذلك أن المشعوذ كما العرّاف يقوم بوظائف اجتماعية تعويضيّة عن مقام التجّار والمحتكرين والشعراء اللاّسلطويين والروائيين الذين يؤرّخون لرذيلة السائد، ومن هنا نفهم الاحتفاء الرسمي في كل صحافة الوطن العربي والإعلامي بالمخنّث الشعري على حساب الشاعر، وسقراط الموظّف على حساب سقراط النقدي وبالمحقق الصحفي على حساب الروائي، إن لكل علم أو شبه علم شروط إمكان من ذلك مثلا أن العرب منعت الكذب على سائر الخلق إذا لم تتوفّر لديهم شروط الكذابة، وقد تمّت صياغة هذا المبدأ الابستيمولوجي المعرفي وفق الأداء التالي : “إذا كنت كذوبا فكن ذكورا”، معنى ذلك أنّه ليس بإمكان أي كان أن يكون كاذبا، لابدّ أن تتوفّر لديك ذاكرة فيل كما يقول الفرنسيون أو حقد الجمال كما يقول العرب.

أمّا وقد انتقلنا من المطلق والإيمان بالمطلق الديني والحضاري والذاتي فإننا نعيش زمن المخنّث، مخنّث الذاكرة كما صاغه “سورين كيرغارد” وفق ما سمّاه “كوجيتو الندم” : » تزوّج فإنك ستندم، ولا تتزوّج فإنك ستندم، وأحب فإنّك ستندم، ولا تحبّ فإنّك ستندم، كن مقداما وستندم، لتكن جبانا وستندم«. هذا الكوجيتو إنّما هو ضدّ كوجيتو الصلابة الديكارتي الذي كان قد فتّته أوّل من فتّته، ليس فيلسوفا ولا مؤرّخا ولا روائيا إنما هو شاعر : رامبو صاحب “فصول في الجحيم” حينما أعلن كوجيتو مضادا » إنّ الأنا آخر « : » ملعون أنا الآن ومرتعب من الوطن «. ألا ترى معي أنّ الشعوذة آتية من الإدّعاء، إدّعاء أنه بالإمكان القبض على الإنسان بتواريخه وجغرافياته وفق منطق واحد وحيد أوحد كما تفعل الآن وهنا أمريكا التي تريد لنا أن نعيشها كميتافيزيقا.

هل يمكن أن نفلسف اليومي ؟
إنّ عبارة “اليومي” سيّئة الذكر على أقل تقدير من منظور الفيلسوف الألماني “هيجل” ذلك أنه قد أدان جبروت اليومي والحاجات اليومية وما تستلزمه مزاولة الوجود اليومي من تصريف طاقات ذهنيّة في المسائل الساذجة والسطحية كما يسمّيها وطلب في زمنه تحيّة العصر الذي عاد فيه الفكر إلى ذاته بعد تشرّده الطويل سواء في الطبيعة أو في مسائل الحياة اليومية لأن زمن هيجل قد أعاد الفكر إلى ذاته فعلا. غير أن الملاحظة الهيجلية لا تنفي اهتمام الفلسفات المختلفة بصيغة مباشرة أو بطريقة سريّة بالمعنى اليومي، يكفي فقط أن نتذكّر النقد الذي وجّهه نيتشه مثلا إلى خصائص حياة الألمان أو حياة الإنقليز لندرك أن اليومي بتفاصيله يمكن أن يكون مادة غزيرة لفعل التفلسف إذا ما حدّدنا التفلسف على أنه فعل “تعقل” و”تصريف طاقات ذهنية” لاكتشاف “الجوهري” وراء “العرضي”، بهذا المعنى سواء أكان الفيلسوف “غروبي” الظهور والولادة كما لدى هيجل الذي يعتبر أن الفيلسوف يأتي دائما متأخّرا وشبّهه بالطائر الليلي إذ يخاطب طلبته في واحدة من أشهر محاضراته وفق الصياغة التالية : » … عندما تنهار الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والحضارية يظهر الفيلسوف مدققا النظر باحثا في الأسباب التي جعلت الأوضاع تؤول إلى ما آلت إليه «.

غير أن هذه الفلسفة التي تأتي دائما متأخّرة يمكن لها أن تكون فجريّة الولادة كما لدى نيتشه وأكثر من ذلك أنها تسبق عصرها بزمن ويمكن أن يكون هذا الزمن عشرون سنة أو نصف قرن أو حتى قرنا بأكمله. ألم يؤكّد نيتشه (توفي سنة 1900) على أنه “دينامية العصور” وإنّه إنّما يكتب لقارئ لم يولد بعد ويكفي أن نقرأ أخبار وأنباء الإهمال التي عرفتها الكثير من الكتب من قبل معاصريها كما شأن كتاب “ما وراء الخير والشرّ” الذي طبعه نيتشه على نفقته وأخذ يتوسل بعض معاصريه طالبا منهم مجرّد قراءته وهو ما لم يتمّ إلى حدّ أنه استعاد نرجسيته وجمع أمره معلنا أنه لا يكتب لمجايليه متسائلا بطريقة ساخرة مغرقة وجعا وفرحـا » لما أنا أكتب كتبا جميلة ؟ « فكأنّ قبح المعاملة إنما هو الذي جعله يدرك فعلا سرّ تلك الشعرية العالية والرهافة الاستثنائية والجمال الفاحش أيضا الذي يكتب به صاحب كتاب “هكذا تكلّم زرادشت”.

صحيح أن اليومي لم يكن مركز اهتمام رئيس في المتداول الفلسفي غير أنه باطنيا لم يكن الأمر كذلك، لنأخذ مثالا عربيا : ابن رشد، عندما كتب “فصل المقال وتقرير ما بين الحكمة والشريعة من اتصال”، ألم يكن مغرقا في اليومي ذلك أن مسألة الكفر والإيمان البتّ فيها يمكن أن يذهب بالرأس، فقضايا الفقه الديني أو العقل والشريعة لم تكن ترفا فكريا وفائضا ثقافيا. والملاحظ في الفلسفة المعاصرة أنها قد تغذت من ضروب علوم الاجتماع والميديولوجيا فأصبحت أكثر إصغاء لها يعتمل في الشوارع والحجرات الخلفيّة للمجتمعات الإنسانية وقد يعود الفضل في ذلك إلى الفلسفة الماركسيّة لما أعلنت انخراطها الفعلي باعتبارها أداة للثورة والتنوير ومحاربة الوعي المزيّف.

قد يكون “نقد الفكر اليومي” لمهدي عامل من أكثر المحاولات إصغاء لما يعتمل في الحياة اليوميّة.
رأى القديس أوغسطين أن القبح في الوجود هو الاستثناء هل توافقه هذا الرأي ؟ كيف يرى سليم دولة العالم ؟ هل تعيش الحبّ والجمال ؟!
إنّ الحديث عن الحبّ تماما كما الحديث عن الحرب والصداقة والغيريّة والأنانية إنما هو حديث يتنزّل فعلا في المشاغل الفعلية للفلاسفة وعلماء الاجتماع وقرّاء الكف كما الاعتناء بالموت وتجربة المحو، “فأنْ تحب وتفعل ما شئت” وفقا للبلاغ الذي أكّده “سانت أوغسطين” يدعونا إلى أن نتخلّص فعلا ولو إلى حين من طوفان اليومي ذلك الذي يمنعنا من رسم مسافة نقدية بيننا وبين تضاعيف وطيات حياتنا ذلك أنّ كل ما يحيط بنا يدعونا فعلا وبشكل اغتصابي بألا نفكّر بأنفسنا إذ كل الأصوات تدعوك إلى ألاّ تفكّر لأنه دائما ثمّة من يكفّر لك وعوضا عنك. فالتفكير بالنيابة إنما هو السائد خاصة في حضارة الصورة وفائض الإعلام وفائض الإعلان وغوايات و”دونجوانيات” البضاعة. غير أنّ التأمل
عن الكاتب المعروف كمال الرياحي