أموال المسلمين بين مراجعهم ومواجعهم



كتابات - المحامى سليمان الحكيم



تعامل الاسلام مع الملكية ايا كان شكلها باعتبارها وظيفة اجتماعية وليست امتيازا مطلقا لصاحبها ولا يجوز له التصرف بها الا وفق ضوابط خاضعة لأحكام العقل والشرع كما فرض على كل وجه من وجوه الرزق مقدارا معلوما يؤول الى ولىّ الأمر أو للناس كخمس قيمة الغنائم وكالزكاة والصدقات وقد اختلفت المذاهب الاسلامية فى توصيف الأرزاق ومقدار حقوق الله وعباده فيها , فمراجع المذهب السنّى أفتت بأن ولىّ الأمر واجب الطاعة تجبى له أموال الخراج والفىء وخمس غنائم الحروب كما أن المسلم الفرد يخرج ما يستنسب من ماله للصدقات و2.5% منه للزكاة المفروضة , وأما طبقة رجال الدين فانها جزء من نظام الدولة يسرى على أفرادها قانون الموظفين العموميين .

وقد شهدت أربعينات القرن الماضى ظهور تنظيم الاخوان المسلمين فى مصر وهم - بغضّ النظر عن كل ادعاءاتهم - طّلااب سلطة عن طريق التآمر الانقلابى ومن ثم انتشرت حركتهم فى ارجاء الوطن العربى فى أطر تنظيمية علنية وسرية منها ما يدعو الى نهجهم بوسائل الدعوة ومنها ما اعتمد طريق الاغتيال والارهاب غير أن قيام دولة الولىّ الفقيه فى ايران ودخول القضية الفلسطينية فى طريق مسدود استنفر الاخوان المسلمين الى تشكيل تنظيمهم الدولى الذى استثمر أموال تبرعات الفورة النفطية فى دول الخليج العربى منذ منتصف سبعينات القرن الماضى فى مشاريع اقتصادية منتشرة فى كل ركن بالعالم بدءا من القاهرة حيث أسسوا شركة الريان للمعاملات المالية وشركة الشريف للصناعات البلاستيكية وشركة السعد لتوظيف الأموال الى السعودية حيث أسسوا مؤسسة البركة وصولا الى جزر كايمان حيث أقاموا مصرف التقوى الذى يمتلك الشيخ يوسف القرضاوى حصة كبيرة من أسهمه والى جزر البهاماس وغيرها من ارجاء المعمورة ومن ثم أمكنهم بفضل ما تراكم لديهم من فائض مالى أن ينشئوا ويموّلوا فصائل اسلامية - حسب نهجهم - فى فلسطين وأفغانستان والشيشان وكشمير وأخيرا فى العراق , وبرغم الموارد الهائلة التى تدرّها مشاريعهم تلك فان المدد المالى يتقاطر أيضا من زكاة وصدقات أنصارهم والشاهد أن الناشطين من أهل المذهب السنّى فى الشأن العام يعرفون - اذا أحسنوا الظن - فى أية وجوه مشروعة تنفق أموالهم .

تشبّث فقهاء المذهب الشيعى - تعسّفا - بالخمس الذى فرضته الشريعة على غنائم الفتوحات الحربية وأصرّوا على حق وكيل امام الأمة وخليفة رسول الله فى تقاضيه من كل صافى ارباح مقلديهم وأحلّوا هذه الفتوى فى صلب عقائد المذهب ولا تحلّ ولاية أمير المؤمنين لمن يعصيها وكذلك دأب أتباع أهل بيت النبوة على اقتطاع 20% من أرباحهم السنوية لتقديمها الى مرجع التقليد أو الى وكلائه الذين يبثهم فى مواسم الحصاد بين العشائر أو يلبثون فى الحسينيات منتظرين وفود أهل المهن والحرف عليهم حاملين لهم ما يحلل ما خلص من أموالهم .واذا حسبنا أن هؤلاء الأتباع ينتشرون على مساحة قارة آسيا ويقيم مئات الألوف منهم فى المهاجر الافريقية والأميركية والاستراليةأيقنّا بأن مبالغ فلكية تدخل فى ذمة هؤلاء المراجع , ولم اضف الى بند الخمس ما يصلهم من تبرعات وهبات من هيئات ذات ثقل مالى كبير كطائفة البهرة فى الهند والأسرة الامبراطورية الايرانية وسواهما لأنها مبالغ غير محددة وظرفية وليس لها موعد زمنى معلوم , ومن دلائل الرضا الالهى على المراجع العظام أنهم جميعا معمّرون يتصدر الواحد منهم بساط المرجعية لعشرات السنين ينشىء خلالها مدرسة للأجيال الجديدة من الطلبة ويفتى للمسلمين فى شؤون دينهم ودنياهم كما يتواصل تدفق أموالهم على حوزته .

ولا شك أن موارد الحضرة العلوية وحدها تفوق تلك التى لمحافظة النجف بأسرها بدليل تلك المعركة الدموية التى خاضتها زمرة السيد مقتدى الصدر فى رحابها من أجل اغتصايها من يد السيد السيستانى ولما خذله الحظ فكّر ودبّر فمنح ذاته لقب حجة الاسلام تمهيدا للقفز الى مرتبة آية الله التى ستعطيه ميزة تأسيس حوزة خاصة به يحشد لها شباب المقلدين بسلاحهم وكهولهم بأموالهم .

وللانصاف فان المراجع العظام يقيمون فى بيوت متواضعة تنطق بالزهد والتقشف وتحاط حياتهم الشخصية بكتمان يقترب من التحريم ويتحركون الهوينى فلا تكاد الناس تسمع لهم دبيبا الا اذا أطلق كبيرهم فتوى فاصلة فى موضوع حساس فتسرى كالريح تهز الأرض وأهلها , ولئن خلت حياتهم من أى مظهر ينم عن حجم الثروة المتراكمة لديهم فان سيرة أبنائهم كانت دوما ثغرة تمرق منها التساؤلات هامسة غالبا وصاخبة أحيانا , فأبناء السيد محسن الحكيم رحمه الله كانوا فى ستينات القرن المنصرم يثيرون احتجاجات مكتومة عند الناس فى كل صيف يقضونه فى ربوع لبنان أو جبال ايران أو فى مغانى باريس متقلبين فى بذخ يماثل ذلك الذى تتقلب فيه العائلات المالكة وكذلك فان أبناء السيد الخوئى رحمه الله شيّدوا صرحا اقتصاديا بارزا فى لندن أطلقوا عليه اسم مؤسسة الخوئى الخيرية وقد استثمرت عشرات الملايين من الدولارات فى كل نشاط اقتصادى متاح بدءا من استيراد الدجاج البرازيلى الى العراق وانتهاء بتجارة العقارات فى لندن وهؤلاء ايضا بسطوا يدهم كل البسط على أنفسهم فحاكوا فى نمط حياتهم سيرة الطبقات الارستقراطية .

تحيط غالبية العوام مراجعها بهالة من القداسة والحصانة وهذا مما يمكن فهمه وان يصعب تبريره ولكن يستحيل فهم كتمان التساؤلات المشروعة المسكوت عنها حول مصير تلك الثروات الهائلة التى تراكمت على مرّ العقود والتى اقتطعها ملايين البسطاء من رزقهم أداء لما يظنونه فرض دينى يتصل بصورة ما برسول الله وباولى الأمر من بعده . ويقال أن عوائل متعففة تتعيش من هبات شهرية تتلقاها من هذا المرجع أو ذاك ولكن لم يعرف فى النجف مثلا أن عائلة فقيرة قد كفاها العطاء المرجعى ذلّ السؤال , ويقال أن المراجع ينفقون على مدارس الفقه وطلبتها ولكنى شاهدت طالبا منهم على شاشة التلفزيون يشتكى من أن عطاءه الشهرى يبلغ ثلاثة آلاف دينار وهو مال قد يعطى لأى متسول

تنتشر فى اصقاع افريقيا ومجاهلها وفى عمق ريف آسيا بعثات تبشيرية مسيحية تدعو كل واحدة منها الى كنيستها ومذهبها من مبنى مستوصف أنشأته أو من مدرسة أقامتها أو دار للأيتام أسسته أو مطعم مجانى للمعوزين فتحته أو مكتبة للعامة افتتحتها وليس بأسلوب الزعيق واللطم وحشد العوام فى طقوس بدائية تهين العقل وتزيّف التاريخ وتحط من ذلك الدين القيّم ومن عظمة خلق نبيّه وآل بيته.

لم يتذوّق شيعة العراق ثمرة حلوة من دأبهم عقودا طويلة على ضخ مبالغ فلكية فى خزائن مراحعهم العظام ولم يبن فى قراهم وقصباتهم حجر ينفعهم ولم تضرب حوزات العراق مثلا واحدا تدل فيه على انتمائها لمدرسة أبى الفقراء وكافل الأيتام القائم بالحق والعدل ولو على شخصه وأولاده المؤثر على نفسه ولو كان به خصاصة المقيم الصلاة والمؤت الزكاة وهو راكع ساجد.

سيذكر التاريخ أن العراق أوشك على الضياع والتفتت لأن مراجعه الدينية فى حوزة النجف قد أمعنوا فى تجهيله ولم يبذلوا جهدا ولو يسيرا للارتقاء به وتنويره بل كان لهم مصلحة أكيدة فى اركاسه فى لجج التعصب المذهبى تحيط به الأساطير, وحملوا على رقابه ثلّة من اللصوص والمارقين ثم اتكأوا على أكداس لا تحصى من أمواله متقابلين .

2006-6-13