العراق بين استعادة السيادة واستمرار الاحتلال
2006/06/21
د. سعيد الشهابي
يخطئ الامريكيون اذا اعتقدوا ان استقرار العراق سوف يتحقق مع استمرار الاحتلال. واذا كان القضاء علي ابي مصعب الزرقاوي قد أزال عنصر تهديد مهما لأمن العراق وشعبه، فانه في الوقت نفسه أضر بالوجود الامريكي لأكثر من سبب: أولا ان انتهاء الزرقاوي أزال واحدا من المبررات الاساسية لاستمرار القوات الانجلو ـ أمريكية، وثانيا انه قلص شعور العراقيين بالحاجة لحماية من اعماله الارهابية التي استهدفت العراقيين أكثر من استهدافها القوات المحتلة، وثالثا انه وجه الانظار مجددا لتلك القوات، وقد يدفع المزيد من العراقيين لاستهدافها اذا لم تحدد لنفسها زمنا محددا للانسحاب. وما يثير الشك رفض تلك القوات إلزام نفسها بجدول زمني لذلك، والتصرف بشكل يكرس الانطباع بانها مصممة علي البقاء وليس الانسحاب. وقد بدأ الساسة العراقيون يشعرون بانهم امام تحد كبير وهم يسعون لاستعادة السيادة التي ما تزال بأيدي تلك القوات، وانهم لا يعاملون بالطريقة التي تليق بهم كحكام لأكبر بلد عربي مشرقي. وكانت زيارة الرئيس الامريكي الاسبوع الماضي لبغداد خالية من اللباقة الدبلوماسية، فلم يتم إخطار رئيس الوزراء العراقي بها الا قبل خمس دقائق من وصول الرئيس بوش الي بغداد، الأمر الذي يشير الي ان واشنطن تتعامل مع العراق ليس كبلد مستقل له سيادته الكاملة، بل كبلد يتبع في ادارته للبيت الابيض. هذا التصرف من شأنه اثارة مشاعر العراقيين بالاحباط واليأس من انتهاء ازماتهم السياسية والامنية لانها لا تؤكد الاحتلال فحسب بل تكرس الشعور بان الاحتلال متواصل، وربما دائم.
ويخطئ الامريكيون ايضا اذا ظنوا انهم قادرون علي البقاء في العراق طويلا، مع انهم يخططون لذلك بشكل جاد. وتكفي الاشارة الي ان السفارة الامريكية التي يتم تشييدها علي ضفاف دجلة تعتبر الأكبر في العالم، وتتسع لطواقم من الدبلوماسيين والموظفين والعمال يتجاوز عددهم 8000 شخص، وهو رقم يجعلها خارج المفهوم المتداول للمنشأة الدبلوماسية، ويقع في نطاق المستعمرات والوزارات. انها ليست سفارة بل مركز عمليات دولي تمارس الولايات المتحدة من خلاله نشاطاتها الاقليمية والدولية، علي غرار ما تفعله في قاعدة دييغو غارسي في المحيط الهندي او قاعدة غوانتانامو التي استأجرتها الولايات المتحدة من كوبا والتي تحولت الي أبشع تجسيد لانعدام الانسانية وتجاوز مبادئ حقوق الانسان. وحتي الرئيس الامريكي وجد نفسه الاسبوع الماضي مجبرا علي الاعتراف بضرورة غلق هذا السجن الذي أصبحت مشاهد السجناء فيه سلاحا معنويا أصاب الامريكيين في مقتل. وفي الاسبوع الماضي وصف رئيس القضاة البريطاني، اللورد فالكونر في مقابلة مع هيئة الاذاعة البريطانية تلك القاعدة بانها خطأ ولا يمكن تحمله قائلا: اعتقد ان قاعدة غوانتانامو اصبحت مركز توظيف لاولئك الذي يهاجمون كل قيمنا... فما تفعله قاعدة غوانتانامو هو إقصاء الناس عن حكم القانون، وهو امر لا يمكن تحمله وخطأ. لقد كان فتحه خطأ وكذلك استمراره . وقبل اسبوع من ذلك وصف المدعي العام البريطاني ذلك المعسكر بانه غير مقبول ودعا الي غلقه. اما قاعدة دييغو غارسيا فقد كانت تحت الاحتلال البريطاني، وسكانها الاصليون من اصول هندية وأفريقية. ولكن بعد ان استخدمت من قبل الامريكيين في بداية السبعينات تم ازاحة مواطنيها الي جزر موريشوس وسيشل. وما يزال مواطنوها الاصليون، ويسمون ايلويز يطالبون الحكومتين البريطانية والامريكية بحق العودة. وقبل شهرين سمح لمائة شخص منهم بدخول الجزيرة لزيارة قبور أسلافهم وأماكن ولادتهم.
وثمة خشية من ان يتم التعامل مع العراق وفق سياسة مماثلة، لا شك ان العراقيين والامريكيين اصبحوا منزعجين من ضبابية الاحتلال الامريكي، ويدفع التشكيك في النوايا الامريكية للمزيد من التمرد واعمال العنف والارهاب. وكما تقول صحيفة سان فرانسيسكو كرونيكل في افتتاحيتها في 13 حزيران (يونيو): ان من المؤسف ان ادارة بوش غير مستعدة لطرح التزام سياسي لدعم وعودها بمغادرة العراق. هذا مع ان قرارين صدرا عن مجلسي النواب والشيوخ ويتضمنان دعما ماليا للحرب في العراق ولكنهما يمنعان احتمال اقامة قواعد دائمة في العراق . غير ان الصحيفة اضافت ان هذا المنع ألغي من قبل لجنة مشتركة من المجلسين، بعد تدخل مباشر من البيت الابيض. وهكذا تبدو النوايا الامريكية في أحسن احوالها غير و اضحة بشأن مستقبل الوجود العسكري في ذلك البلد المحتل الذي اصبحت القوات الانجلو ـ أمريكية تتصرف فيه كما تشاء بلا وازع او خشية من أحد. وجاءت موافقة مجلس الشيوخ الأمريكي في 15 حزيران (يونيو) علي مشروع قانون للنفقات الطارئة في الموازنة الامريكية يتضمن تخصيص مبالغ قدرها 5ر94 مليار دولار لتغطية تكاليف الحرب في العراق وافغانستان، لتضيف المزيد من الشكوك حول بناء القواعد. فقبل عام مثلا احتلت القوات الامريكية في العراق 106 قواعد، وفق ما ذكره تقرير نشرته الواشطن بوست ، من ضمنها 14 قاعدة دائمة . وتقول المعلومات ان البنتاغون يسعي لدمجها في اربع قواعد عملاقة في تليل والاسعد وبلد واربيل والقيارة. هذه الخطط والمشاريع تتم بعيدا عن القرار العراقي، وفي غياب اي اتفاق بين الطرفين، فهو قرار من طرف واحد، هو الجانب الامريكي، بدون موافقة من الجانب العراقي او حتي استمزاج رأيه. يتم ذلك بمنأي عن القرار الدولي، الذي أقصي عن الشأن الامريكي في العراق، منذ قيام الحرب قبل اكثر من ثلاثة اعوام.
ويؤكد المنحي الامريكي نحو بقاء دائم في العراق الموازنات العملاقة التي تقدمها ادارة البيت الابيض الي الكونجرس لاقرارها، فهي ليست موازنات دعم او اغاثة، بل انفاقات عملاقة تؤكد السعي نحو الهيمنة المطلقة علي هذا البلد العربي الاسلامي الكبير. فاقرار مجلس الشيوخ الامريكي الاسبوع الماضي (15 يونيو) مشروع قانون النفقات الطارئة في الموازنة الامريكية يتضمن مبالغ قدرها 94.5 مليار دولار لتغطية تكاليف الحرب في العراق وافغانستان. وقال الرئيس بوش تعليقا علي مصادقة المجلس علي القانون ان هذه المبالغ لازمة لمكافحة الارهاب والدفاع عن الولايات المتحدة وحماية الحدود الأمريكية . ويشمل مشروع القانون الذي اقره مجلس الشيوخ علي تخصيص مبلغ 65.8 مليار دولار لتغطية احتياجات الوجود العسكري الأمريكي في العراق وافغانستان الذي يبلغ قوامه نحو 140 ألف جندي. ولتعزيز الوجود العسكري الامريكي وافق مجلس الامن الدولي علي استمرار عمل القوات متعددة الجنسيات في العراق والترتيبات المتعلقة بصندوق تنمية العراق والهيئة الدولية للرقابة والمشورة وذلك بناء علي توصية الحكومة العراقية المنتخبة دستوريا، وفقا لما جاء في القرار الدولي 1637. وتجدر الاشارة الي ان القرار الدولي 1637 ينص علي ان ولاية القوات متعددة الجنسيات تنتهي في ديسمبر 2006 قابلة للتمديد، غير انه ينص ايضا علي ان وضع تلك القوات يتم مراجعته قبيل ال 15 من يونيو الجاري، وهو ما حدث فعلا.
برغم مقتل الزرقاوي، فان مسألة الاحتلال ستظل قضية مضرة ليس بأمن العراق فحسب، بل بأمن المنطقة كلها، لانها اصبحت توفر المناخات المناسبة لتقريخ الارهاب والتطرف والاضطراب الامني والسياسي. ويضاعف المشكلة سياسات الادارة الامريكية ونهجها في التعاطي مع شعوب المنطقة وقضاياها. فقرار نقل السفارة الامريكية من تل أبيب الي القدس استفزاز واضح، وقرار عدائي ضد مشاعر العرب والمسلمين. وهذا لا يمكن ان يخفف حالة الاحتقان التي تعيشه المنطقة، بل يزيد الامور تعقيدا، ويدفع نحو المزيد من العنف والتوتر. الرئيس بوش حاول تخفيف اثر القرار بتأجيل العملية ستة شهور أخري، قائلا: انه من الضروري حماية مصالح الامن القومي وتأجيل نقل السفارة الي ستة اشهر وهي المدة المحددة في القانون الصادر عام 1995 . الا انه اكد التزام ادارته بعملية نقل سفارتها الي القدس. ومنذ عام 1995 تتخذ الادارات الامريكية السابقة قرارات مشابهة لقرار الرئيس الحالي بتأجيل نقل السفارة من تل ابيب الي القدس في تحرك لتجنب معارضة العالم العربي للنقل ولمساعدة تحريك والمضي قدما بمفاوضات عملية السلام. هذا الدعم السياسي المكشوف لسياسات الاحتلال والاستيطان الاسرائيلية اصبح عامل تهديد للاستقرار والامن في المنطقة وسببا لاستمرار الاحتقان، وتواصل نزعات التطرف والعنف.
ان تعليق الآمال بتراجع العنف والارهاب علي مقتل الزرقاوي وخلخلة تنظيماته وخلاياه ليس أمرا واقعيا. فالعنف والتطرف وانتشار الارهاب كان ملازما للحرب التي شنتها القوات الانجلو ـ بريطانية في العراق، ومن ذلك ظهور الزرقاوي والمجموعات المسلحة الاخري. ويوفر استمرار الاحتلال مناخا مناسبا لبروز الحركات المسلحة، التي لا تنحصر اهدافها بمواجهة ذلك الاحتلال، بل تتعداه لتصبح قوي تدميرية داخل المجتمع العراقي. وما حدث في افغانستان يؤكد هذا المنحي. فقد وفر الاحتلال السوفياتي مناخا مناسبا لقيام الاتجاهات المتطرفة التي أكسبتها سنوات الحرب ضد الاحتلال خبرات عسكرية واسعة، وأحدث انفتاحا واسعا علي السلاح والقتال، وأضعف منطق التحاور والتفاوض والتعاطي الفكري، وأدي الي تراجع دور الحركات الاسلامية التقليدية التي لم تحمل السلاح من قبل. والوضع نفسه يتكرر اليوم في العراق، وتوفر اجواء الاحتلال المناخات المناسبة لتضخم مشاعر القوة والعسكرة، علي حساب العطاء الفكري والثقافي. وما يجري في العراق ليس بعيدا عن كل هذا. فما لم تتجه القوات الاجنبية للانسحاب، فانها ستستمر في تخصيب الارضية المناسبة لصعود حركات التطرف التي لن تقتصر علي الجماعات المرتبطة بالزرقاوي، بل ستتعدي ذلك لتصل الي اغلبية العراقيين. وهناك شعور يزداد تعمقا بعدم قدرة الامريكيين علي ادارة ملف الصراع، وسعيهم المتواصل لاستعراض القوة واستعمالها بدون حدود، وهذا لا يؤدي الا الي المزيد من الاحتقان والتفاعلات المتسلسلة التي تكرس العنف والتشطير المجتمعي، والخلافات الايديولوجية.
وفي الوقت الذي يسود فيه الشعور بالارتياح في الاوساط العراقية بعد مقتل الزرقاوي، فان فشل السياسات الامريكية في العراق، وعدم وضوح الاجندة السرية لدي الادارة الامريكية، بما في ذلك بناء القواعد العسكرية العملاقة، أصبح كل ذلك يضغط علي النفسية العراقية بشكل سلبي، ويوفر للمجموعات التي تحمل السلاح فرصا لتجنيد الانتحاريين وتوسيع دائرة الدمار. ان استمرار الوجود الامريكي اصبح يمثل عبئا علي الشعب العراقي، خصوصا مع عدم وضوح اجندة الساسة الامريكيين، وما يرشح عن عزمهم علي اطالة بقائهم فترة اطول، وربما بشكل دائم. ولا يخفي الوزراء العراقيون امتعاضهم من السياسات الامريكية، التي تسعي لاضعاف السلطة المركزية في بغداد، بدلا من تقويتها ودعمها. فهذه السلطة سوف تواجه الكثير من المشاكل، وتتعرض لامتحان شعبي حول المصداقية وحسن الآداء. ولم يخف الامريكيون امتعاضهم من سيطرة تيارات اسلامية علي الحكومة الجديدة، وتدخلاتهم بشكل سافر للتأثير علي القرار العراقي خصوصا في التعيينات الوزارية، كما حدث مع وزراء الداخلية والدفاع والامن القومي. وقبل ذلك كان موقفهم الرافض لاعادة ترشيح رئيس الوزراء السابق، الامر الذي ادي الي توتير الاجواء وتأخير تشكيل الحكومة. العراقيون يرون كيف ان سيادة بلدهم اصبحت تنتهك بشكل مروع، وان الامريكيين يتدخلون في كل صغيرة وكبيرة، وكيف ان القواعد العسكرية يتم انشاؤها ليس بناء علي اتفاقات ثنائية مع الحكومة العراقية، بل وفقا لمخططات البنتاغون، وليس للعراقيين حق للاعتراض او المساءلة. ان العراق اليوم يعيش فصلا مأساويا، ولن يؤدي القضاء علي الزرقاوي الي تغير جوهري في الاضطراب الامني والعسكري والسياسي، لان القضية الاساس، بعد سقوط النظام السابق، قضية الاحتلال في نظر الكثيرين، وهي قضية تزيدها التصرفات الامريكية وضوحا امام الناس. لقد اصبح امن العراق مرتبطا ليس بانتهاء الاحتلال فحسب، بل استعادة السيادة الكاملة، بما في ذلك حق تقرير شكل العلاقات المستقبلية مع الولايات المتحدة، وقضايا النفط والامن والقواعد العسكرية. انه الامتحان الاصعب للعلاقات المستقبلية بين بغداد وواشنطن.