لا بديل عن المصالحة والوفاق الوطني في العراق

ازدادت بعد مقتل الزرقاوي، احتمالات عقد مؤتمر المصالحة الوطنية العراقية في موعده المحدد في الثاني والعشرين من الشهر الجاري، فقد كان الزرقاوي هو الطرف الوحيد الذي يرفض أساس الحوار والمصالحة، ويدعو علنا الى القتال والفتنة الطائفية. من خلال دعوة السنة الى نبذ أية مصالحة مع الشيعة "الكفرة" والكف عن الاستجابة لدعاة الوحدة الوطنية وترك الطائفية. حسب البيان الذي أصدره في مطلع هذا الشهر، والذي استهدف من خلاله اشعال الفتنة الطائفية في العراق، في الوقت الذي اتجهت مختلف الاطراف العراقية الى الانضمام الى حكومة الوحدة الوطنية.
وفي الحقيقة ان تدهور الاوضاع الأمنية يكشف عن تدهور العلاقات السياسية بين مختلف الأطراف الرئيسية في العراق ، وهو ما يحتم إجراء حوار جدي وصريح سواء في ظل المؤتمر أو خارجه. وان المبررات التي قدمها الزرقاوي لاستمرار الحرب والقتال هي التي تحتم الحوار والمصالحة، بين مكونات الشعب العراقي، وكما للسنة مطالب وشكاوى فان للشيعة أيضا شكاوى ومطالب، وبدلا من الحوار عبر ساحات القتال بين الأخوة والأحباب، فان أفضل وسيلة لوضع نهاية لكل تلك المطالب والشكاوى هو الحوار والتفاهم ومحاولة حل الأمور بالتي هي أحسن، والاستماع الى الطرف الآخر بهدوء وسلام.
وقد بدأ الحوار الوطني قبل أن ينعقد المؤتمر، وسوف يستمر في المستقبل، سواء عقد المؤتمر في موعده أم لم يعقد. فقد ربط الشيخ بشار الفيضي، الناطق باسم هيئة علماء المسلمين، وفي مؤتمر عقده في بغداد ، مشاركة الهيئة بمؤتمر الوفاق الوطني ، بتلبية عدد من الشروط وفي مقدمتها "الاعتراف بحق الشعب العراقي في مقاومة الاحتلال" وتحديد جدول زمني لانسحاب القوات الأجنبية من العراق. وقصر المشاركة على ممثلي القوى السياسية والدينية والعشائرية والاجتماعية والشخصيات الوطنية بعيدا عن التمثيل الرسمي. وبأن يعقد المؤتمر خارج العراق لإبعاده عن تأثيرات قوى الاحتلال وغيرها." على ان لا يعد هذا المؤتمر جزءا من العملية السياسية الجارية في العراق ولا يتخذ سبيلا لاضفاء الشرعية عليها".
ورد ناطق باسم رئيس الوزراء على تلك الشروط بأن الحوار وحده هو سيد المصالحة وليس اطلاق التعقيدات عبر الفضائيات، معتبرا ان من يريد المصالحة مع نفسه والآخرين لا يضع شروطاً مسبقة بل يحضر ويسمع ويحاور ويناقش لأن المصالحة في العراق لن تتحقق في مؤتمر واحد انما في سلسلة لقاءات فضلاً عن توجيه الخطابين السياسي والديني بما يخدم الوحدة الوطنية.
وكانت الهيئة ربطت مشاركتها في المؤتمر القادم بتنفيذ قرارات مؤتمر القاهرة بالاعتراف بالمقاومة واطلاق سراح المعتقلين. ولم أعرف فيما اذا كان موقفها المشروط هذا موقفا نهائيا وسلبيا من المشاركة في مؤتمر الوفاق والحوار والمصالحة. وأرجو أن لا يكون كذلك. فان هدف أي مؤتمر هو التقريب بين المتحاورين المختلفين، وإذا لم يكن ثمة اختلاف فلا حاجة لهكذا مؤتمرات. وأتمنى أن يحمل أعضاء الهيئة مطالبهم الى اخوتهم المؤتمرين من أبناء الشعب العراقي الذين يختلفون معهم في بعض النقاط والتفاصيل، وأن لا يضعوا شرطا مسبقا بعدم المشاركة في المؤتمر إذا حضره أعضاء الحكومة الرسمية، وذلك لأن الحكومة العراقية اليوم تشكل مرآة لمختلف أبناء الشعب، وتتمتع بشرعية شعبية لا مثيل لها في تاريخ العراق. وإذا لم تحضر الحكومة فمن تريد الهيئة أن تتحاور معه؟
ولا أحسب أن مطلبها بالاعتراف بحق الشعب العراقي بمقاومة الاحتلال، مطلب يمكن طرحه على طاولة الحوار مع أبناء الشعب العراقي نفسه، فان هذا الشعب بمختلف فصائله وطوائفه وأحزابه يتفق ويقر ويعترف بحقه في مقاومة الاحتلال، ولكن الاختلاف يتركز حول التوقيت والوسائل والشروط المناسبة، فبينما يعتقد البعض ومنهم هيئة علماء المسلمين، بأنه يجب المبادرة الى مقاتلة القوات الأجنبية عسكريا وإخراجها فورا من العراق، يقول المشاركون في العملية السياسية (من السنة والشيعة والعرب والأكراد) بأن العراق قد استعاد سيادته قانونا، وان القوات الأجنبية باقية بناء على طلب الحكومة العراقية، ومستعدة لمغادرة العراق في الوقت الذي تطلب منها الحكومة العراقية ذلك. وان الحكومة العراقية لا تستطيع التقدم بهكذا طلب منها الآن، في ظل تدهور الأوضاع الأمنية واحتمالات عودة حزب البعث الى السلطة، أو سيطرة الجماعات المسلحة على السلطة. ولم تكن تستطيع الطلب من تلك القوات مغادرة العراق في السابق قبل تشكيل الحكومة العراقية الدائمة والمؤسسات الدستورية التي تضمن حفظ الأمن والسلام، والا فان البديل الجاهز هو الحرب الأهلية والاقتتال على السلطة. وقد مال الى هذا الحل كثير ممن كان ينادي بإخراج القوات المحتلة فورا من العراق، خوفا من ملأ إيران للفراغ الأمني الحاصل عند انسحاب القوات الأجنبية، ولا يزال البعض يخشى من هذا السيناريو ويوجه أصابع الاتهام الى الأحزاب الموالية لإيران بأنها تفعل ذلك الآن.
ويقول أنصار الحكومة العراقية والعملية السياسية الجارية في العراق، بأن أية مقاومة تحتاج الى الشرعية الوطنية، ولا يمكن لأية مجموعة مسلحة أن تقوم بأعمال عسكرية بعيدا عن الاجماع الوطني، وان الشرعية الوطنية اليوم تتمثل في البرلمان العراقي ، والحكومة المنتخبة منه، وانها هي وحدها تتمتع بالحق الشرعي والدستوري للطلب من القوات الأجنبية بالرحيل متى تشاء. وان على من يرفعون السلاح باسم المقاومة أن ينضموا الى العملية السياسية الوطنية الديموقراطية قبل أن يطالبوا الحكومة بوضع جدول زمني لرحيل تلك القوات، حتى يسقطوا ذريعة تواجد القوات الاجنبية في حفظ الأمن، ويطمئنوا الأطراف الخائفة من استيلائهم على السلطة بقوة السلاح. ويقولون أيضا بأن الحكومة العراقية مستعدة للحوار مع أية جماعة شريفة من جماعات المقاومة، من التي لم تتلطخ أيديها بدماء الشعب العراقي، وانها لن تتحاور مع البعثيين والزرقاويين الذين يعدون لانقلاب عسكري على النظام السياسي الجديد الذي يحظى بتأييد غالبية الشعب العراقي.
ولنا أن نتصور رد حزب البعث على هذا الموقف الذي تتبناه الحكومة العراقية، وأطراف رئيسية في العملية السياسية، وخصوصا الائتلاف العراقي الحاكم، وهو كيف تريدون منا أن نلقي السلاح وننضم الى العملية السياسية وقد أغلقتم الباب أمامنا بقانون اجتثاث البعث وحرماننا من مناصبنا في الدولة والجيش؟ ولماذا لا تفتحون أبواب المصالحة الحقيقية بالسماح لنا بمزاولة نشاطنا السياسي في العراق؟
وربما أضاف بعض المعارضين للعملية السياسية شكوى أخرى وهي إقصاء أبناء السنة من الدولة وتهميش حتى المعارضين السابقين لنظام صدام حسين. وقد عبر عن هذا الرأي السفير السابق الدكتور ماجد أحمد السامرائي الذي كتب مقالا في جريدة الحياة بتاريخ 25 /5/2006 اتهم فيه الأحزاب الشيعية بإقصاء العرب السنة، مما أدى الى شعورهم بالإحباط والانخراط في المقاومة المسلحة، ودعا الى صياغة معادلة وطنية ترفض التقسيم والعزل الطائفي.
وقبل أن ننقل رد الأحزاب الشيعية على هذه النقطة. أقول بأنها نقطة جديرة بالحوار والبحث بين الأطراف المختلفة الجادة في البحث عن جذور الأزمة في العراق.
وسوف أتبرع يالاجابة عن تلك النقطة، فأقول ان المصالحة الحقيقية لا تقوم الا على العفو والتسامح، وهذا ما دعا اليه مستشار الأمن القومي في الرئاسة العراقية الفريق الركن وفيق السامرائي الذي طالب بشمول العفو حتى من أساء الى الشعب. ولكن هذا لن يحدث الا بالاعتراف بالأخطاء أولاً، كما حدث في جنوب افريقيا عندما جاء المنتمون للنظام العنصري السابق واعترفوا بأخطائهم وطلبوا العفو من ضحاياهم، ولا يعقل أن يقوم أبناء المقابر الجماعية بالعفو عن جلاديهم من منتسبي حزب البعث، وإشراكهم في الحياة السياسية أو تقليدهم مناصب عليا في الدولة دون أن يعترفوا بجرائمهم السابقة، ودون أن يعلنوا التزامهم بالعملية الديموقراطية وحق مختلف شرائح الشعب العراقي القومية والطائفية والحزبية بالتمثيل الديموقراطي، ودون أن يوقفوا عمليات القتل والارهاب المستمرة بحق أبناء الشعب المعارضين لهم.
ان العفو والتسامح لا يمكن أن يكون من طرف واحد، وبلا ثمن، واذا كان حزب البعث جادا بالعودة الى الحياة السياسية فلا بد أن يجري نقدا لسياسته السابقة على مختلف الاصعدة، وأن يغير من نظرته الى أبناء الشعب. وأما عن شكوى بعض السنة بالإقصاء، فان معهم بعض الحق، وهذا بسبب جو الاستقطاب الطائفي، ولكن الشعور بالاقصاء يعود أيضا في جزء منه الى قيام الشرائح والطوائف والجماهير المهمشة سابقا بملأ الفراغ السياسي والوظيفي. وان على العرب السنة أن يقبلوا بدور المشاركة بصورة نسبية ولا يطمحوا بالهيمنة الكلية على جميع مرافق الدولة كما كانوا في السابق.
وأتمنى من جميع الاحزاب والطوائف في العراق ان يتعالوا على الهويات الطائفية، ما داموا قد تعالوا على الهويات الدينية وقبلوا من الشيوعيين والعلمانيين وحتى الملحدين الانخراط في العملية السياسية فلماذا لا يقبل الشيعي السني؟ والسني الشيعي؟ هل أصبحت الحواجز الطائفية أقوى من الحواجز الدينية؟
لا اعتقد ذلك ، وانما أرى بأن العراق يمر في مرحلة استثنائية عاطفية طارئة، وانها سوف تزول بالتأكيد، وان الطريق الوحيد لزوالها هو الحوار ، والمزيد من الحوار.
وأولى مقدمات الحوار وقف العنف والقتل والتهجير الطائفي، ووقف العنف الكلامي والاعلامي بالمسارعة الى اتهام الآخرين وتحميلهم مسؤولية كل حادث، وقذفهم بأقذع التهم والافتراءات.
نحن أبناء بلد واحد ونشترك في 99 بالمائة من الدم والدين والمصالح المشتركة، وعلينا أن أن نخرج العراق من محنته الراهنة، تمهيدا لبنائه وتعميره في المستقبل. ومن أجل ذلك علينا انتهاز كل فرصة للحوار، بدون شروط.
ahmad@alkatib.co.uk