معالم إسلامية
(( مسجد جمكران المقدس))
( 1 )
الباحث والأديب
جواد المنتفجي
قم المقدسة
8/ 5 /2006
كان صوتا وضاحا لا ينسى..
لا زال يهلهل في صدغي بعد أن ملء ما حولي من فضاءات .. بل وراح يمتد إلى كل الزوايا والردهات التي يحتويها حضرة مقام فاطمة المعصومة ( عليها السلام ) في مدينة قم المقدسة.
كان ذلك الصوت ...
ينطلق من كل صوب وحدب حتى ملء أعلى المآذن والقبب الذهبية..
كان الخشوع قد غلب على كل شيء ، حتى أننا أحسسنا به بأنه اخذ يمتد إلى دواخلنا ليستقر هناك ، فنحن ومنذ أمسية البارحة لازلنا نلتحف الأرض الطرية الفواحة متنعمين ببرودتها المنبعثة من الأماكن المحيطة بالضريح..
كانت اكفنا مرفوعة لملكوت الأرض والسماوات ، كانت العبرات تتكسر في صدورنا المقرحة ، وأصواتنا التي تآلفت على حين غرة ، وراحت ترفع دعواتها منطلقة من الحناجر سوية بعد أن كنا تائهين في متاهات ظلام دهاليز عميقة طيلة ثلاثة عقود خلت وشفاهنا التي يبست لا شيء يرويها سوى ذلك الماء الموجود داخل الضريح في كل مكان ، وهكذا وريثما بدأنا نشرب منها حتى انبلج الفجر ، وبلا إرادة .. راحت أصواتنا تجهر داعية وبأعلاها بعد صلاة ذلك الفجر...
- ربنا أحفظ لن وحدتنا الوطنية واجعلنا صفا واحدا من اجل نصرة العراق على الأعداء المارقين ..
- ربنا احفظ لنا علمائنا الطاهرين ..
- ربنا احفظ لنا دولتنا الجديدة.. واجعل أعلامها شوكة في أعين الحاقدين .
ومع الخيط الأول من بيان صباح ذلك اليوم.. كنا قد تهيئنا لركوب الحافلة متوجهين نحو الجانب الشرقي من مدينة قم المباركة إلى أحد المعالم الإسلامية ألا وهو ( مسجد جمكران المقدس ) .
كانت الشمس لحظتها تدور فيما حولنا..كانت الحافلة تشق طريقها في شوارع تحاذيها جزر مؤطرة بشتى أنواع الزهور والرياض التي بدت تنتشر هنا وهناك بشكل هندسي رائع.. ومن حين إلى أخر كنا نبتهل بـ (( صلوا على محمد واله الطيبين )) كنا نسبح بعدها انه الحمد لله على هذه النعم التي افتقدناها منذ سنين لم تعد وتحصى بعد أن غاصت أرضنا بدروس وأخبية المقابر الجماعية.. وما فتئنا أن ننزل من الحافلة حتى التقيت برجل بدت عليه بضع علامات الكهولة.. كان يجلس عند أحد المداخل من مسجد ( جمكران المقدس) والذي أحيط من جميع جهاته بأسوار حديدية مهيبة.. ورحت أبادله الحديث عن تاريخ هذا الصرح البارز الذي تحيط به جنات من الخضار وبشتى أنواع الورود المزدهية بألوان الطبيعة ، حيث بدا يسرد لي حكاية هذا المسجد بينما كنا نطالع كتيب صغير يحتوي على معلومات عن هذا المسجد زودتنا به أحد المكاتب التي تهتم بالزوار المثقفين قائلا...
- لقد شيد هذا المسجد في أواخر القرن الهجري الرابع تقريبا ، وذلك من خلال بعض الشواهد والروايات ، وقد نقل قصة بنائه المحدث الكبير سماحة آية الله الحاج( ميرزا حسين النوري الطبرسي) في الباب السابع من كتابه الشريف ( النجم الثاقب ) تحت عنوان الحكاية الأولى..وخلاصة ما حكاه عن الشيخ العفيف الصالح بن ( مثلة الجمكراني) :-
كنت في ليلة الثلاثاء( السابع عشر ) من شهر (رمضان المبارك ) .. سنة( ثلاث وسبعين وثلاثمائة ) ، نائما في بيتي ، فلما مضي نصف من الليل ، فإذا بجماعة من الناس على باب بيتي فأيقظوني وقالوا :-
- قم واجب الإمام المهدي صاحب الزمان فانه يدعوك .
قال:-
- فقمت.. وتعبأت.. وتهيأت .. فلما جئت إلى الباب رأيت قوما من الأكابر فسلمت عليهم ، فردوا ورحبوا بي وذهبوا بي إلى موضع هذا المسجد ألان ، فلما أمعنت النظر رأيت أريكة فرشت عليها فراش حسان، وعليها وسائد حسان ، ورأيت فتى في زي ابن الثلاثين متكئا عليها ، وبين يديه شيخ وبيده كتاب يقرؤه عليه ، وحوله اكثر من ستين رجلا يصلون في تلك البقعة ..وكان ذلك الشيخ هو (( الخضر عليه السلام )) فأجلسني ذلك الشيخ ودعاني الإمام ((عليه السلام )) باسمي ، وبعد التشريفات ومقدمات خاصة أمره الإمام ((عليه السلام )) ببناء هذا المسجد الشريف .
ويتضح أيضا من خلال الشواهد التاريخية أن عمارة هذا المسجد قد أجريت عليها بمرور الزمان العديد من عمليات التعمير والتجديد إلى أن اتخذت شكلها الحالي ، وقد قال تعالى :-(( الذين أن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وأتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور )) ((سورة الحج الآية41 )) .
يقول الإمام الباقر (( عليه السلام )) في تفسير هذه الآية :-
- فهذه لآل محمد (( صلى الله عليهم وسلم )) إلى أخر الأئمة ، والمهدي وأصحابه يملكهم الله مشارق الأرض ومغاربها ، ويظهر (( به )) الدين ويميت الله به وبأصحابه البدع والباطل كما أمات السفهاء الحق حتى لا يرى أين الظلم ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ((بحار الأنوار ، ج 51 ص47 )) .
وقال النبي الأكرم عليه افضل الصلاة والسلام :-
- (( أبشركم بالمهدي يبعث في أمتي على اختلاف من الناس وزلازل ، فيملا الأرض قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما ، يرضى عنه مساكن الأرض ، ويقسم المال صحاحا )) فقال له رجل :-
- وما صحاحا ؟
قال ...
- (( بالسوية بين الناس )) .( مسند احمد بن حنبل ج3 ص34 )
وأضاف ممن التقيت به :- أن استشعار الزوار بمكانة هذا المسجد الرفيعة والعناية الخاصة للأمام الحجة((بن الحسن العسكري - أرواحنا فداه - )) أن يوفقوا لتقوية وتأصيل المعنويات وروح العبودية لديهم ، وان يسعوا مخلصين في نشر الثقافة (( المهدوية )) الأصيلة ، ودعوة المجتمع للصلاح والتقوى ، ونبذ المعاصي والذنوب ، ليوطئوا بذلك لظهور المصلح العالمي الأمام الموعود(( المهدي المنتظر - أرواحنا فداه - )) ويعجلوا أن أنشاء الله تعالى في تنفيذ الوعد الإلهي المحتم (( ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحين)) ( سورة الأنبياء ، الآية 105)
أعمال مسجد جمكران المقدس
طبقا لما ذكره المحدث( النوري _ رحمة الله) في ( النجم الثاقب ) ، قال ( للحسن بن مثلة الجمكراني ) بعد أن أمره ببناء المسجد (( وقل للناس ليرغبوا إلى هذا الموضع ويعّزروه ويصلوا هنا أربع ركعات )) وتفصيلها كآلاتي :-
* ركعتان لتحية المسجد : في كل ركعة يقرا سورة الحمد مرة وسورة الإخلاص سبع مرات .
*يسبح في الركوع والسجود سبع مرات .
* يؤدي الزائر ركعتان للإمام صاحب الزمان (( عليه السلام ))- يقرا الفاتحة - فإذا وصل إلى (( إياك نعبد وإياك ... )) كرره مائة مرة - ثم يقراها إلى أخرها .
* وهكذا يصنع في الركعة الثانية – ويسبح في الركوع والسجود سبع مرات ، فإذا أتم الصلاة يهلّل.. ويسبح تسبيح فاطمة الزهراء (( عليها السلام )) فإذا فرغ من التسبيح يسجد ويصلي على النبي وآله مائة مرة .
ثم قال (( عليه السلام)) :- (( فمن صليهما فكأنما صلى في البيت العتيق ))
حكومة العدل بزعامة المهدي
ورد في عشرا المصادر بألفاظ متقاربة من الرسول الأكرم انه قال :-
- (( لو لم يبق من الدنيا ألا يوم ، لطول الله ذلك اليوم حتى يبعث رجلا مني – أو من ولدي أو من أهل بيتي – يواطى اسمه اسمي ، يملا الأرض قسطا وعلا كما ملئت ظلما وجورا ))
ومن تلك المصادر :
المصنف ؛ ابن أبي شيبه الكوفي ( المتوفى 235 هـ ): ج8 ، ص694 ، ح 194
الإمامة والتبصرة ؛ ابن بابويه القمي ( المتوفى 329 هـ ): ص 153
المعجم الأوسط ؛ الطبراني ( المتوفى 360 هـ ): ج2 ، ص55
من لا يحضره الفقيه ؛ الصدوق ( المتوفى 381 هـ ): ج4 ، ص177
الإرشاد ؛ المفيد ( المتوفى 413 هـ ): ج2 ،ص34
كنز الفوائد ؛ الكراجكي ( المتوفى 449 ): ص113
الغيبة ؛ الطوسي ( المتوفى 449 هـ ): ص46 ، 180 ، 181 ، 424
روضة الواعظين ؛ الفتال النيسابوري ( المتوفى 508 هـ ): ص 261
كنز العمال ؛ المفتي الهندي ( المتوفى 975 هـ ): ج14 ، ص 264 ، ح 38661
الجامع الصغير ؛ السيوطي ( المتوفى 911 ه ): ج2 ، ص 438 ، الأحاديث 7489 – 7491
مقتضب الأثر في النص على الأئمة لأثني عشر ؛ احمد بن عياش الجوهري
( المتوفى 401 هـ ): ص11
المكانة الرفيعة والمقام الشامخ لمسجد جمكران
وفي نهاية اللقاء قال ممن التقيت به :-
عندما اصدر مولانا ((الإمام المهدي - عليه السلام )) أوامره لبناء هذا المكان المقدس ، خاطب ( حسن بن مثلة الجمكراني ) قائلا :-
- (( أن هذه ارض شريفة قد اختارها الله تعالى من غيرها من الأراضي وشرفها ... وقل للناس ليرغبوا إلى هذا الموضع ويعّزروه ويصلوا هنا أربع ركعات ... فمن صليهما فكأنما صلى في البيت العتيق )) .
أن هذه العبارة النورانية تكشف عن قدسية ومكانة هذا المسجد من نواحي متعددة :-
ا- فضل وشرف هذه الأرض مثل مثيلاتها .
ب – دعوة الناس للتوجه أليها والتشرف بها .
وعلى هذا فقد احتل مسجد جمكران المقدس مكانة مرموقة ومميزة لدى كبار علماء الدين وأصحاب الشان من المؤلفين والمبلغين الأكفاء وعباد الله الصالحين ، وكلما شعروا بالحاجة إلى من يأخذ بأيديهم إلى الكمال ، ويحل مشاكلهم .
كان مسجد جمكران ملاذهم وملجأهم الدائم . ويقول معلم الأخلاق العارف الكبير ، سماحة آية الله (بهاء الديني - رحمة الله ):-
- (( ما من مشكلة كانت تواجه الحوزة العلمية في قم ومؤسسها المحترم سماحة آية الله الحاج الشيخ( عبد الكريم الحائري اليزدي ) ، ألا وارتفعت بتشرف العالم الرباني سماحة آية الله ( البافقي - رحمه الله ) بمسجد جمكران المقدس وقد عني مراجع الدين باهتمام خاص بهذه القاعدة العظيمة للتشيع ، حتى انهم كانوا دائما يقطعون المسافة التي تفصل بين قم وجمكران البالغة ( 6 ) كيلو مترات مشيا على الأقدام ، بقلوب ملؤها العشق والإرادة الخالصة لولي ( الله الأعظم – أرواحنا فداه – ) .
واحتفظ الكثير من المراجع والعلماء والأساتذة الكبار وأصحاب الفضيلة والوجاهة بذكريات وخواطر ومشاهد تربط بعنايات الأمام بقية( الله الأعظم – أرواحنا فداه – ) بهذا المكان وقداسته ، ومن جملتهم آيات الله العظمى :-
( الحاج السيد محمد تقي الخوانساري ، والحاج محمد علي الاراكي ، والحاج الشيخ مرتضى الحائري اليزدي ، حجت الكوه كمري ، السيد المرعشي النجفي ، والحاج الشيخ محمد تقي بهجت الفاضل اللنكراني ، والمكارم الشيرازي ، الصافي الكلبايكاني ، والسيد القائد الأعظم ) .
يمتاز هذا المسجد المبارك بنورانية ومعنوية وجاذبية فائقة ، وقد وصف أحد مراجع الدين العظام أجوائه قائلا:-
(( كل من يقع في دائرته الملكوتيه ، يشعر بروحانية عجيبة وقوة جذب معنوية خارقة وبالإضافة إلى الدور الذي يلعبه هذا الجو المعنوي في قضاء حوائج الناس وحل مشاكلهم الكثيرة الذي يتأتى من خلال العبادة في المسجد والتوسل ( بالإمام المهدي – أرواحنا فداه -) فانه يزيد من عظمة المسجد يوما بعد يوم ويعجّل في استقطاب أفواج المشتاقين من أنحاء البلاد نحوه ، لينتفعوا من الكوثر ينبوع الخير والبركة ، كلّ على قدر استعداده ))
كان العلماء الكبار دائما يكنون احتراما خاصا لهذا المسجد ومناجاتهم فيه كثيرة ، ولا يزال اليوم مورد عناية واهتمام العلماء والفضلاء والعلماء أيضا ، وكان لأستاذ الفقيه والمجتهد سماحة آية الله الحاج ( مرتضى الحائري اليزدي – رحمه الله - ) عقيدة خاصة بمسجد جمكران ويعتبر الآيات الباهرة العناية الأمام (( عليه السلام )) إذ اعتبر بعض أصحاب الشان والفضيلة من المؤلفين هذا المسجد من الأماكن الشريفة التي يكون فيه الدعاء قريبا من الإجابة وهذا حسبما ذكروه في كتبهم .
تشكل النذور والهدايا المباركة التي يقدمها الزوار الرصيد المالي للمسجد إذ تشير إحصائية عام ( 1421 ) هجري إلى ما يقارب من خمسة عشر مليون زائرا تشرف بزيارة مسجد جمكران المقدس في ذلك العام وحده ، وان هذا الرقم ازداد قطعا في العام الذي تلاه، واستنادا لإحصائية موثقة فان عدد الزوار الذين ارتادوا هذا المسجد الشريف في ثلاثة أيام فقط ( 13 ،14 ، 15 ) من العام ( 1422 ) هجري قد تجاوز بمليوني شخصا .