تمرّت علينا الذكرى السنوية لولادة سبط رسول الله(صلى الله عليه وآله) وولده وريحانته وسيد شباب أهل الجنة، سيد الشهداء وأبي الأحرار أبي عبد الله الحسين(صلوات الله وسلامه عليه)، فلا ينبغي أن تمرَّ هذه المناسبة الجليلة من دون أن نأخذ بطرف من الحديث عنه، مع ما لهذا اللسان القاصر المقصر من الشعور بالذلة والضآلة حينما يتحدث عن هذه القمة الشاهقة وعن مثل هذه الشخصية العظيمة التي تضطرب عندها العقول وتندك عند أنوارها القلوب.
ومع كل ذلك لا نعدم بمقدار ما يوفق له الله سبحانه وتعالى أن نشير إلى بعض فضائله لنأخذ منها العبرة وعليه التوكل في الشدة والرخاء.
فقد صيغت هذه الشخصية الكريمة صياغة إلهية تحت إشراف رسول الله(صلى الله عليه وآله) منذ ولادته ظاهراً، وقد أولاه النبي(صلى الله عليه وآله) العناية المركزة والتربية المكثفة، ليدخر سيد الشهداء (عليه السلام) للدور العظيم الذي سوف يناط به، وللمسؤولية الكبرى التي سوف تلقى على عاتقه.
فقد ورد في كتاب -مناقب أمير المؤمنين(ع)- لمحمد بن سليمان الكوفي ج 2 ص 234:
عن الزهري: عن ابن عباس قال: لما كان مولد الحسين بن علي (صلوات الله عليهما) وكانت قابلته صفية بنت عبد المطلب، فدخل عليها النبي صلى الله عليه وآله فقال: يا عمة ناوليني ولدي. قالت: فداك الآباء والأمهات كيف أناولكه ولم أطهره بعد! قال: والذي نفس محمد بيده لقد طهره الله من علا عرشه، فمد بيده وكفيه فناولته إياه، فطأطأ عليه برأسه يقبل مقلتيه وخديه ويمج لسانه كأنما يمج عسلاً أو لبناً. ثم بكى طويلاً صلى الله عليه وآله. فلما أفاق قال: قتل الله قوماً يقتلوك. قالت صفية: فقلت: حبيبي محمد من يقتل عترة رسول الله صلى الله عليه وآله؟ قال: يا عمة تقتله الفئة الباغية من بني أمية.
فإنه يستفاد من هذه الرواية عدة أمور:
أولاً: إن هذا الاهتمام لم يكن بدافع العاطفة الدنيوية، لأن أهل البيت(عليهم السلام)، منزهون عنها ولا يتحركون من خلالها، ولا تكون علاقاتهم وارتباطاتهم على أساسها.
ثانياً: إن هذا الاهتمام لأجل التركيز الإعلامي المكثف على أهمية الحسين(عليه السلام) من قبل رسول الله(صلى الله عليه وآله) منذ طفولته المبكرة. وذلك لأجل التأكيد عليه وربط الأمة به.
ثالثاً: إن رسول الله(صلى الله عليه وآله) وكما أنه لا ينطق عن الهوى كما نص القرآن الكريم على ذلك، فكذلك أفعاله وتصرفاته، فإنها لا تكون عن الهوى ولا تنبع عن المصالح الدنيوية، وإنما هي منسجمة ومتماشية مع الحكمة الإلهية اللامتناهية. مما يدل على أن التخطيط الإلهي سائر بهذا الاتجاه، لكي يوجه الأنظار نحو شخص الحسين(عليه السلام) منذ أول حياته.
رابعاً: إن قول النبي(صلى الله عليه وآله) بحسب الرواية: "والذي نفس محمد بيده لقد طهره الله من علا عرشه" يدل بحسب فهمي على الطهارة المعنوية أكثر من دلالته على الطهارة المادية، أو قل: إن المقصود بها الطهارة المعنوية والمادية ولكنها في المعنوية أشد تركيزاً. وخصوصاً إذا فهمنا أن الطهارة قد حصلت في العالم الأعلى كما قد يدل عليه قوله بحسب الرواية: "طهره من علا عرشه"، أي أن الطهارة قد حصلت في ذلك المحل الرفيع والذي يرقى إليه بشكل أوضح الجانب المعنوي والروحي من الإنسان، وليس كل إنسان بطبيعة الحال.
وقد استمر هذا الاهتمام واستمرت هذه الرعاية من قبل رسول الله(صلى الله عليه وآله) للحسين(عليه السلام) في كل عمره الذي قضَّاه برفقة جده المصطفى، وكان(صلى الله عليه وآله) يستغل الكثير من الفرص والمناسبات لكي يسلط الضوء على أهميته، ويظهر علو شأنه، ويشير إلى سمو قدره وشرفه.
فقد ورد في -الإرشاد- للشيخ المفيد ج 2 ص 128:
وروى عبد الله بن ميمون القداح، عن جعفر بن محمد الصادق عليه السلام قال: "اصطرع الحسن والحسين(عليهما السلام) بين يدي رسول الله(صلى الله عليه وآله) فقال رسول الله: إيها حسن، خذ حسيناً، فقالت فاطمة عليها السلام: يا رسول الله، أتستنهض الكبير على الصغير؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: هذا جبرئيل عليه السلام يقول للحسين: إيها يا حسين، خذ الحسن".
والزهراء(عليها السلام) عندما تسأل أباها(صلى الله عليه وآله) عن ذلك لم تكن تجهل ما يعلمه رسول الله(صلى الله عليه وآله)، لأنها بحقيقتها العالية، أعظم من جبرئيل(عليه السلام) بمراتب عظيمة، وهي مطلعة على كل شؤونه وأعماله، فلا يمكن أن نقول بأنها لا تعلم ما يعلمه جبرئيل أو يقوم به.
ولكنها وبحسب ما أفهم تريد أن يبين رسول الله(صلى الله عليه وآله) هذه الحقيقة وهذه الأهمية، لأنها تعلم التخطيط الإلهي الذي يسير باتجاه بيان أهمية الحسين(عليه السلام) وإظهار فضله ومكانته.
وبفضل هذا الاهتمام المركز كان للحسين(عليه السلام) تلك المكانة الرفيعة في قلوب الناس، في حياته وبعد استشهاده، حتى تجد الجميع إلا ما ندر يحسن الظن به ويعظم قدره ومكانته.
فقد روي في المصدر السابق عن إبراهيم بن الرافعي، عن أبيه، عن جده قال: رأيت الحسن والحسين عليهما السلام يمشيان إلى الحج، فلم يمرا براكب إلا نزل يمشي، فثقل ذلك على بعضهم فقالوا لسعد بن أبي وقاص: قد ثقل علينا المشي، ولا نستحسن أن نركب وهذان السيدان يمشيان، فقال سعد للحسن عليه السلام: يا أبا محمد، إن المشي قد ثقل على جماعة ممن معك، والناس إذا رأوكما تمشيان لم تطب أنفسهم أن يركبوا، فلو ركبتما، فقال الحسن عليه السلام: "لا نركب، قد جعلنا على أنفسنا المشي إلى بيت الله الحرام على أقدامنا، ولكننا نتنكب الطريق" فأخذا جانباً من الناس.
أقول: إنه يمكن أن يفهم من هذه الرواية استحباب المسير إلى كربلاء المقدسة لزيارة الإمام الحسين(عليه السلام)، بل لزيارة جميع المعصومين(عليهم السلام). وذلك بعد التجريد عن الخصوصية للحج، وإنما يمكن أن يقال بأن الاستحباب يجري حتى في غير الحج كما ذكرنا. مضافاً إلى ما نعلمه من أن الأجر يتزايد بمقدار ما يبذله الفرد من التعب وما يتحمل من الصعوبات في سبيل الهدف الإلهي. مضافاً إلى ما دل في بعض الروايات على استحباب ذلك، كقول الإمام الصادق(عليه السلام) بحسب الرواية: "من اغتسل في الفرات ثم مشى إلى قبر الحسين(عليه السلام) كانت له بكل خطوة حجة مبرورة مع مناسكها".
وقد كان الحسين(عليه السلام) على قدرٍ عالٍ من الخضوع والتذلل لله سبحانه وتعالى، وعلى مستوى رفيع من العبادة والقرب المعنوي منه جل وعلا، ولم ينشغل عن ذلك اعتماداً منه على قربه من رسول الله(صلى الله عليه وآله)، بل كانت عبادته مع غض النظر عن كل ذلك تماماً، وهذا غاية الشرف والرفعة له(صلوات الله وسلامه عليه).
فقد ورد في -بحار الأنوار- للعلامة المجلسي ج 44 ص 193:
عن عيون المحاسن: إنه (الحسين) ساير أنس بن مالك فأتى قبر خديجة فبكى، ثم قال: اذهب عني. قال أنس: فاستخفيت عنه فلما طال وقوفه في الصلاة سمعته قائلاً:

يا رب يا رب أنت مولاه
يا ذا المعالي عليك معتمدي
طوبى لمن كان خادما أرقا
وما به علة ولا سقم
إذا اشتكى بثه وغصته
إذا ابتلا بالظلام مبتهلا
فارحم عبيدا إليك ملجاه
طوبى لمن كنت أنت مولاه
يشكو إلى ذي الجلال بلواه
أكثر من حبه لمولاه
أجابه الله ثم لباه
أكرمه الله ثم أدناه






فنودي:

لبيك عبدي وأنت في كنفي
صوتك تشتاقه ملائكتي
دعاك عندي يجول في حجب
لو هبت الريح من جوانبه
سلني بلا رغبة ولا رهب
وكلما قلت قد علمناه
فحسبك الصوت قد سمعناه
فحسبك الستر قد سفرناه
خر صريعا لما تغشاه
ولا حساب إني أنا الله





وكان (عليه السلام) يباري السحاب جوداً وكرماً، وهو بذلك يمثل جده رسول الله(صلى الله عليه وآله) وأباه أمير المؤمنين(صلوات الله وسلامه عليه).
فقد ورد في -بحار الأنوار- للعلامة المجلسي ج 44 ص 196:
أن أعرابياً جاء إلى الحسين بن علي عليهما السلام فقال: يا ابن رسول الله قد ضمنت دية كاملة وعجزت عن أدائها، فقلت في نفسي: أسأل أكرم الناس، وما رأيت أكرم من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله. فقال الحسين: يا أخا العرب أسألك عن ثلاث مسائل، فان أجبت عن واحدة أعطيتك ثلث المال، وإن أجبت عن اثنتين أعطيتك ثلثي المال، وإن أجبت عن الكل أعطيتك الكل.
فقال الأعرابي: يا ابن رسول الله أمثلك يسأل مثلي وأنت من أهل العلم والشرف؟ فقال الحسين عليه السلام: بلى سمعت جدي رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: المعروف بقدر المعرفة، فقال الأعرابي: سل عما بدا لك، فان أجبت وإلا تعلمت منك، ولا قوة إلا بالله.
فقال الحسين عليه السلام: أي الأعمال أفضل؟ فقال الأعرابي: الإيمان بالله، فقال الحسين عليه السلام: فما النجاة من المهلكة؟ فقال الأعرابي: الثقة بالله، فقال الحسين عليه السلام: فما يزين الرجل؟ فقال الأعرابي: علم معه حلم، فقال: فإن أخطأه ذلك؟ فقال: مال معه مروءة، فقال: فإن أخطأه ذلك؟ فقال: فقر معه صبر، فقال الحسين عليه السلام: فان أخطأه ذلك؟ فقال الأعرابي: فصاعقة تنزل من السماء و تحرقه فانه أهل لذلك. فضحك الحسين عليه السلام ورمى بصرة إليه فيها ألف دينار، وأعطاه خاتمه، وفيه فص قيمته مائتا درهم وقال: يا أعرابي أعط الذهب إلى غرمائك، واصرف الخاتم في نفقتك، فأخذ الأعرابي وقال: "الله أعلم حيث يجعل رسالاته".
وبماذا يبخل من جاد بنفسه الطاهرة حباً في ذات الله سبحانه وتعالى حتى قال عنه الشاعر حينما يخاطبه بقوله:

لصبرك الملأ الأعلى قضى عجباً
حتى فنيت بحب الله مبتهجاً
الله أكبر بيت الله يهدمه للـ
والصبر من أحمد الأخلاق والشيم
وغاية العشق تعطي غاية الكرم
كفر سهم به قلب الحسين رمي




وما أكثر الروايات التي وردت عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) في بيان فضائل الحسين(عليه السلام) كقوله: "حسين مني وأنا من حسين، أحب الله من أحب حسيناً، حسين سبط من الأسباط" وقوله: "من أحب أن ينظر إلى أحب أهل الأرض إلى أهل السماء فلينظر إلى الحسين" وقوله: "إن الحسن والحسين شنفا العرش (الشنف قرط يلبس في أعلى الأذن)، وأن الجنة قالت: يا رب أسكنتني الضعفاء والمساكين؟ فقال الله لها: ألا ترضين أني زينت أركانك بالحسن والحسين، قال: فماست (تبخترت) كما تميس العروس فرحاً". وغير ذلك كثير