الجسد العراقي: أيهما.. مجرد خفقان علم أم مقدمة لأعراض أعمق؟ - جابر حبيب جابر

[10-09-2006]
ما زالت الهزات الارتدادية التي أثارها قرار السيد مسعود البارزاني رئيس اقليم كردستان بانزال العلم العراقي الحالي، ومنع رفعه في الاقليم، واستبدال ذلك برفع علم ثورة 1958 في المناسبات الرسمية، يفعل فعله سواء في اروقة الحكومة أو الرئاسات، أو بين الكتل البرلمانية أو بين القوى السياسية او في الأوساط الشعبية، حيث اثار نقاشا اتسم بالحدة غالبا، وغطى ولو الى حين على تفاقمات الوضع الأمني وأعاد الجدل وربما التنبيه الى شكل العراق المتصور، والى العلاقة المستقبلية بين اجزائه ومكوناته.

هذا العلم الذي يراد انزاله هو الرابع منذ تأسيس الدولة العراقية، اعقبه خامس اسقط قبل ان يرفرف وهو العلم الذي اقره مجلس الحكم. حيث ان العلم الاول هو علم التأسيس عام 1921 والثاني علم ثورة 14 تموز 1958 التي انهت الحقبة الملكية، والثالث علم حكومة البعث الاولى عام 1963 والرابع العلم نفسه، الذي اضاف اليه الرئيس السابق صدام حسين بخط يده كلمة الله اكبر، متوسطة نجومه بعد احتلاله الكويت، وهو العلم الذي يرى الرافضون له وفي مقدمتهم الكرد، انه ارتبط بالذاكرة الجمعية لجرائم الانفال والإبادة بالأسلحة الكيمياوية وحملات التهجير القسري والتطهير العرقي والمقابر الجماعية، وبالدموية التي رافقت ابادة الاحزاب والقوى الوطنية ومراجع الدين ورجاله، وارتبط بالحروب التي خاضها النظام ضد ابناء شعبه وضد جواره والتي راح ضحاياها مئات الآلاف من البشر. وارتبط بتدمير مصادر الحياة والبيئة واستنزاف خيرات العراق في حروب متواصلة عبثية افقرته، رغم ثرواته الكبيرة، ودفعته لمؤخرة تسلسل دول المنطقة. كما ان هذا العلم لم يكن موضع اجماع ولا يمثل المكونات العراقية وآمالها بل جاء في لحظة اختيار كرمز لمشروع وحدوي وهمي، انسحبت باقي اطرافه وبقي العراق محتفظا بعلم اماني لم تتحقق، حتى اضافت له يد الطاغية، وبدوافع تضليلية، بعد ذلك لفظ الجلالة، وهو الذي لم يراقب يوما في الله ذمة.

في حين يرى الرافضون للخطوة الكردية، بأن ذلك يستبطن غايات أخرى، وانه فتح ملف تداعيات كبيرة حول شكل العلاقة بين المركز والإقليم. اذ أن هذه الخطوة فسرت انها رغم رمزيتها، فإنها تعبر عن اخلال باحترام السيادة وأثارت تنازعا عليها، وان ذلك مقدمة لميول استقلالية للكرد الذين لايتوانون عن الافصاح عنها وتكرارها مرارا، مستهدفين مران الاسماع على تقبلها، وان الكوابح على هذه الرغبة لا تتأتى من حسابات تجاه سلطة بغداد الهشة والضعيفة، وانما الخوف من الجوار الاقليمي الذي سيتدخل لمنعها، فضلا عن التحسب للمعادلات الدولية التي تريد عراقا موحدا تسوقه للمنطقة كقدوة، وان انفراط عقد هذا العراق سيؤدي الى تأثيرات اقليمية، لا احد يتكهن بمداها، وربما ستقود الى انشطارات اخرى في الدول التي تحتفظ بتعددية في مكوناتها، وهذا آخر ما تحتاجه منطقة متخمة بمشاكلها. لذلك فإن الاكراد يدركون هذه الانشغالات وينتظرون تغير المعادلات الاقليمية والدولية لكي يعلنوا استقلالا وقوده نفط كركوك التي هم باتجاه حسم عائدايها، والا كيف يمكن تفسير اصدار تشريع انزال علم لم يرفع يوما، الا بكونها خطوة استباقية لقطع الطريق على امكانية مراجعة الدستور كثمن للمصالحة بما يقلل من السلطات الممنوحة للاقليم، والتي جعلته سيد موارده بما يهدد ادارة الثروات وربما عائداتها، او بإعادة النظر بالسيطرة على الموارد المائية او بعلوية التشريعات الاقليمية على تشريعات المركز في حالة التنازع، او لجهة هوية العراق وانتمائه.

الا انه بعيدا عن المبررات المتقابلة، لا بد من اعادة هذه الخطوة الى اطارها، وفهمها بمعزل عن التهييج العاطفي ومحاولات بعض السياسيين تسجيل النقاط، والسعي لكسب عواطف شارع مأزوم او كغطاء للهروب من الازمات او ترحيلها. لذلك يجب التعويل على ان الاكراد هم شركاء حقيقيون في البناء الديمقراطي، وان وجودهم ضمن العراق يجب ان يتحول من قدر الى ارادة ومصلحة ومصير، وان لا وجود لإقليم كردي مزدهر بدون عراق أمن ومستقر. ويجب الفهم بأن اعتراضاتهم ليست على رفع علم العراق بل على هذا العلم، وهذا ما يجب ان يحفز على التصدي للاستحقاقات وعدم الهروب منها، اذ انه بعد ما يزيد على ثلاث سنوات لا يمكن القبول بعدم وجود علم ونشيد وطني متفق عليه وممثل للمكونات، وهو ما اقرته المادة 12 من الدستور. كما لا يمكن الاحتفاظ بعلم تختزن منه الآلام الذاكرة الجماعية، او بنشيد وطني وصف شاعره يوما رئيسه بالقول، وليعذرني القارئ على صفاقة هذه العبارة: «وجهك كوجه الله يأتلق»، الا انه ايضا يجب الاعتراف بأن هذه الخطوة خانها التوفيق لجهة اضافتها عبئا وشرخا لشعب يضمد جراحات الفرقة، وينزف بفعل آلة القتل والدمار العبثية، وأنها ستضعف من الدور الكردي المعول عليه في عملية المصالحة في تجسير الهوة بين الفرقاء العراقيين، وأنها تنم ايضا عن ميل فردي يتجاوز آليات العمل الديمقراطي، وعن تعسف في استخدام الحقوق.

لكنني افترض بأن السيد مسعود البارزاني سيكون سعيدا، اذا ما وفرت قضية العلم التي اثارها صمغا لإعادة الصاق الجسد العراقي المتشظي، أو أن وصفه اللاذع لمنتقديه بأنهم «يهربون من المشاكل الداخلية، وهم فاشلون وليسوا رجال حكم، ولا يستطيعون ادارة مناطقهم، ويريدون جعل كردستان مثل مناطقهم»، فإن هذا النقد على مرارته يجب أن يوقظ الطبقة السياسية ويحثها على التسامي فوق صراعاتها، وإيقاف عبث اختلافاتها، ويحفزها على بناء وطنها، وإيقاف انحداراته الكارثية التي لم تورث انسانه الا الشقاء.

الشرق الاوسط