المشروع الأميركي ـ الإسرائيلي: تقسيم المنطقة إلى طوائف وأعراق

السياسيون في البلدان المتقدمة لا يتخذون قراراتهم إلا بعد استشارة كبار الخبراء والاختصاصيين في الموضوع. ومن هو المختص الأكبر بالاسلام ومنطقة الشرق الأوسط والعالم العربي ككل؟ انه برنارد لويس، المستشرق العجوز الذي بلغ من العمر عتيا وهو لا يزال ناشطاً وممتلكاً لكل قواه العقلية (ولد في لندن عام 1916، اي انه دخل التسعين الآن).

كل الدلائل تشير إلى انه يمثل المرجعية الكبرى بالنسبة لجورج بوش والمحافظين الجدد، ويقول الصحافي الفرنسي ريشار لابيغيير في كتابه الهام الصادر مؤخراً في العاصمة الفرنسية بأن استاذ جامعة برنستون مارس تأثيراً كبيراً على كل الإدارات الاميركية المتعاقبة منذ عهد رولاند ريغان وحتى اليوم فيما يخص قضايا الشرق الأوسط (انظر كتاب: التراجع الكبير. بغداد ـ بيروت. اي تراجع شيراك عن السياسة العربية لفرنسا والتحاقه بالمخطط الاميركي الاسرائيلي). وهو المسؤول عن مصطلح صدام الحضارات الذي سرقه منه صموئيل هنتنغتون وخلعه على كتابه الشهير حتى ظن الناس انه هو الذي اخترعه!. ولكننا نعلم ان برنارد لويس تحدث عن صدام الحضارات بين الاسلام والغرب خصوصاً منذ عام 1964. هذا في حين ان كتاب هنتنغتون لم يظهر إلا في أواسط التسعينات، اي بعد ثلاثين سنة من بلورة لويس له. لكن ما هي الاطروحات الاساسية لهذا المستشرق المحنك؟

في رأي برنارد لويس ان التراث الاسلامي شيء، والتراث اليهودي ـ المسيحي شيء آخر، ولا يمكن ان يلتقيا.. نقول ذلك على الرغم من ان كل علماء الاديان قالوا بان الاسلام ينتمي الى الديانة التوحيدية، مثله في ذلك مثل اليهودية والمسيحية، ولا يوجد اي خلاف بينهما على هذا الصعيد. وأي قارئ للتوراة والانجيل والقرآن يعرف ذلك. ومع ذلك فان المستشرق العجوز مصرٌ على موقفه المتصلب. وفي رأيه ان الاسلام شيء والعلمانية شيء آخر، ولا يمكن ان يلتقيا لأن الاسلام دين غير قابل للتطور على عكس المسيحية واليهودية!.. هكذا نلاحظ انه يحشر الاسلام في خصوصية ضيقة تستعصي على كل تقدم او اصلاح.. الاسلام دين المتخلفين، والمسيحية ـ اليهودية دين الحضاريين!..

وبرنارد لويس، كما يقول الصحافي الفرنسي المذكور آنفاً، هو المسؤول عن شيوع مصطلح الشرق الاوسط وتعميمه لكي يحل محل مصطلح العالم العربي. والمصطلح الأول فضفاض، حيادي، لا لون له ولا طعم.

انه مجرد مصطلح جغرافي لا أكثر ولا أقل..

وقد بلوره لكي يدمج اسرائيل في المنطقة، ثم وسعه لكي يشمل أمماً اخرى غير عربية كالفرس والاتراك، بل وحتى الأفغان. وهكذا ضاعت الطاسة وذاب العرب في خصوصية اخرى اكبر منهم ولا علاقة لها بلغتهم او تراثهم الأدبي. وقد أخذ بوش عنه هذا المصطلح لكي يطرح مشروعه عن اصلاح الشرق الأوسط الكبير او تشكيله. وهو بهذا المعنى يشمل منطقة شاسعة واسعة تمتد من حدود المغرب الأقصى وحتى حدود افغانستان والباكستان.

وبالتالي فلا يوجد عالم عربي ولا من يحزنون.. وانما يوجد إطار جغرافي واسع تختلط فيه الأعراق والأقوام واللغات.

بل وأكثر من ذلك: لا توجد دول قومية كسوريا مثلاً او العراق، أو لبنان، أو حتى مصر. وانما توجد طوائف وأعراق. فهناك الشيعة، وهناك السنة، وهناك الأكراد، أو العرب، أو الأمازيغ: أي البربر في افريقيا الشمالية. ويلوم المنظِّرون الاسرائيليون والأميركان الامبراطوريات الاستعمارية السابقة كفرنسا وانجلترا لأنها شكلت دولاً كبيرة غير متجانسة عرقياً أو طائفياً. بمعنى آخر: فإن ما يعتبره القوميون العرب أقطاراً مجزأة، صغيرة، يعتبره المحافظون الجدد بمثابة اقطار لم تجزأ بما فيه الكفاية!

وبالتالي فالدولة العراقية التي شكلها تشرشل عام 1921 بعد الحرب العالمية الأولى هي دولة مصطنعة في نظرهم وقد آن الأوان لتفكيكها الى عناصرها الأولية أو مكوناتها الحقيقية: أي الشيعة العرب في الجنوب، والسنة العرب في الوسط، والأكراد في الشمال.. وحتى سوريا يطالبون بتفكيكها الى أربع أو خمس دول لكي تصبح متجانسة جغرافياً أو عرقياً أو طائفياً. فهناك دولة سنية حول دمشق، ودولة سنية ثانية حول حلب بشرط أن تكونا متخاصمتين!. وهناك دولة شيعية علوية في الساحل السوري، ودولة شيعية درزية في جبل العرب الذي يمتد حتى الجولان المحتل. وربما هناك دولة خامسة نسيت أين هي، أو ما هي!..

وقل الأمر ذاته عن لبنان الذي لا يحتاج الى شرح.. بل وحتى مصر يمكن تقسيمها الى دولة قبطية ودولة اسلامية، الخ.. واما في المغرب العربي الكبير فيمكن تشكيل عدة دويلات بربرية وعربية متناحرة.. فالانقسام هناك عرقي لغوي لا طائفي لانهم جميعاً مسلمون سنة مالكيون ما عدا أقليات إباضية أو خارجية صغيرة في الجزائر وليبيا (المزاب، جبل النافوسة..).

هذا هو المخطط ايها السادة، وهذه هي ديمقراطية الشرق الأوسط الجديد، أو الكبير. والأنكى من ذلك هو ان المخطط قد ينجح!! ولن تنجحه قوة اميركا واسرائيل بالدرجة الأولى، وانما غباء العرب وتعصبهم وعبادتهم لصدام حسين وبن لادن! أقصد بذلك ان سيطرة التيار الأصولي ـ القومجي العربي على الساحة سوف تؤدي حتماً الى زيادة الشقاق والانقسام وخوف الفئات المختلفة من بعضها البعض. فالأصولية المتعصبة لن ترعب المسيحيين العرب فقط، وانما ايضاً الأقليات الاسلامية الاخرى التي يعتبرونها مهرطقة بحسب مقاييس العصور الوسطى ولاهوته أو فقهه القديم (انظر حديث الفرقة الناجية). وهنا سوف يلعب الاخوان المسلمون دوراً كبيراً في تقسيم النفوس والنفخ على نار العصبيات الطائفية والمذهبية. صحيح ان شيخ الأزهر العقلاني المنفتح والمسؤول يقول بأنه لا خلاف بين السنة والشيعة على الاصول وانما على الفروع. ولكن المتشددين في الجهة السنية يقولون العكس. بل ويصل بهم الأمر الى حد إخراج الطوائف الشيعية برمتها من أمة الاسلام على الرغم من ان كتابها هو القرآن، ونبيها محمد، وشهادتها ان لا اله إلا الله وان محمداً رسول الله... ولكن الأحقاد المذهبية عنيدة وعصور الانحطاط طويلة والجهل عام وطاغ في ربوع العرب.. فمتى ستتغير برامج التعليم يا ترى؟ بل متى ستتغير عقول المثقفين، هذا ناهيك عن الأميين؟! قصة طويلة.. فلماذا لا ينجح المخطط الأميركي ـ الاسرائيلي اذن؟ قولوا لي بالله عليكم لماذا؟ كل شيء مُهيأٌ لتنفيذه ونجاحه. يضاف الى ذلك ان هؤلاء المتعصبين الظلاميين يكفرون المسيحيين العرب على الرغم من ان القرآن لم يكفرهم وانما اعتبرهم أهل كتاب وميز بينهم وبين المشركين.. ولذا فإن المسيحيين العراقيين اخذوا يهاجرون الى اوروبا بقدر استطاعتهم، وربما سيفرغ العراق من المسيحيين عما قريب. وربما سيحصل نفس الشيء لمسيحيي الدول العربية الآخرين وان بدرجات متفاوتة.

واما الاكراد والبربر فمدانون من قبل القومية العربية الشوفينية لانهم لا يتحدثون لغة اهل الجنة (اي العربية) او قل انهم يتحدثونها ولكنهم يطالبون بمشروعية لغتهم الأم التي تربوا عليها. فهل هذا عيب؟ هل هذه جريمة؟ ما ذنبهم اذا كانت لهم لغة اخرى وتراث ثقافي وانساني آخر؟ هل نعدمهم بالرصاص؟ في كل الاحوال نلاحظ ان الشيء المرفوض في العالم العربي الشوفيني ـ الاصولي هو التالي:

التعددية. فالتعددية الدينية والعرقية اللغوية هي العدو اللدود للايديولوجيا العربية التي تشكلت في الخمسينات من القرن الماضي من خلال حزب البعث والناصرية والاخوان المسلمين. اقول ذلك على الرغم من وجود فرق نوعي بين الحزبين الاولين والحزب الاخير، بل وحصلت بينهما صدامات دموية مروعة وبخاصة في مصر وسوريا. وبالتالي فلا يمكن ان نضعهما على نفس الصعيد او المستوى لأن البعث والناصرية كانا ينطويان على مضامين تقدمية وانسانية لا يستهان بها، وذلك على عكس حركة الاخوان المسلمين.. ولكن لا احد يستطيع ان ينكر ان القومية العربية في نسختها الاكثر تطرفا وشوفينية (صدام حسين مثلا) كانت ذات مضمون عنصري واحتقاري للاكراد والبربر. وبالتالي فهي مدانة من هذه الناحية تماما كالايديولوجيا الفاشية في ايطاليا او النازية في المانيا.

مهما يكن من امر فإن العالم العربي على مفترق طرق ولا احد يعرف كيف سيقلب: في هذه الجهة ام تلك، ولكن اشد ما اخشاه هو ان ينجح المشروع الاميركي ـ الاسرائيلي نظرا لغياب او انعدام اي مشروع تنويري انساني في الجهة العربية او الاسلامية. وهذا الوحيد القادر على مواجهته واحباطه لو وجد. ولكن كيف يمكن ان يوجد اذا كانت الاصولية الظلامية من جهة، والقومجية العنصرية من جهة اخرى هما سيدتا الموقف وتسيطران على الشارع العربي؟

لذلك اقول: ربما كنا قد دخلنا في مرحلة تفكيكية لا اول لها ولا آخر.. ولكن بعد ان تأخذ كل مداها وابعادها سوف تبتدئ المرحلة التركيبية او التوحيدية القائمة على احترام التعددية وحق الاختلاف ودولة القانون وكل المبادئ الديمقراطية. ولكن هل سنعيش لكي نشهد هذه المرحلة الثانية؟ اشك في ذلك كل الشك. بل ان اولادنا قد لا يرونها ولا حتى احفادنا وبالتالي فهي مسألة اجيال.