انتهى زمن الهيمنة الأمريكية في الشرق الأوسط وبدأت حقبة جديدة في تاريخ المنطقة الحديث. وسوف يرسمها ممثلون جدد وقوى جديدة تتنافس على النفوذ، وحتى تستحوذ واشنطن عليها فسوف يكون عليها أن تعتمد على الدبلوماسية أكثر من اعتمادها على القوة العسكرية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــ

بعد أكثر من قرنين على إيذان وصول نابليون إلى مصر بظهور الشرق الأوسط الحديث – بعد حوالي 80 سنة من زوال الإمبراطورية العثمانية، وبعد 50 سنة من انتهاء الاستعمار، وبعد أقل من 20 سنة من انتهاء الحرب الباردة – انتهت الحقبة الأمريكية في الشرق الأوسط، وهي الحقبة الرابعة في تاريخ المنطقة الحديث. ولن تتحقق رؤى منطقة جديدة على غرار أوروبا – مسالمة ومزدهرة وديمقراطية، فمن الأرجح، ظهور شرق أوسط جديد يسبب أذى عظيماً لنفسه وللولايات المتحدة وللعالم.
إن كل الحقب قد حددها تفاعل القوى الطامحة، داخلية وخارجية عن المنطقة، والشيء الذي اختلف هو التوازن بين هذه التأثيرات، والحقبة التالية في الشرق الأوسط تبشر بأن تكون حقبة يكون للممثلين الخارجيين فيها تأثير متواضع نسبياً، ويكون للقوى المحلية اليد العليا- والتي يكون فيها الممثلون المحليون الذين يكتسبون القوة راديكاليين ملتزمين بتغيير الوضع القائم. وسيكون تشكيل الشرق الأوسط من الخارج أمراً بالغ الصعوبة، لكنه سيكون – إلى جانب إدارة آسيا ديناميكية - التحدي الرئيس أمام السياسة الخارجية الأمريكية لعقود قادمة.
ولد الشرق الأوسط الحديث في أواخر القرن الثامن عشر، فبالنسبة لبعض المؤرخين، كان الحدث البارز، التوقيع في عام 1774 على المعاهدة التي أنهت الحرب بين الإمبراطورية العثمانية وروسيا، وهي حجة قوية يمكن إيرادها لأهمية دخول نابليون السهل نسبياً إلى مصر في عام 1798، الذي أظهر للأوروبيين أن المنطقة كانت ناضجة للاستيلاء عليها، ودفعت المثقفين العرب والمسلمين إلى التساؤل – مثلما يواصل كثيرون التساؤل في هذه الأيام – عن السبب الذي جعل حضارتهم تتخلف إلى هذه الدرجة الكبيرة عن حضارة أوروبا المسيحية. وأدى التراجع العثماني، مقترناً بالتغلغل الأوروبي في المنطقة إلى ظهور "المسألة الشرقية" – فيما يتعلق بكيفية التعامل مع تأثيرات انحسار الإمبراطورية العثمانية، وهو ما حاولت الأطراف المختلفة منذ ذلك الحين الإجابة عنه بما ينفعها.
انتهت الحقبة الأولى مع الحرب العالمية الأولى، وزوال الإمبراطورية العثمانية وظهور الجمهورية التركية وتقاسم غنائم الحرب بين المنتصرين الأوروبيين، وكان ما تمخض عن هذا، زمن الحكم الاستعماري، بهيمنة فرنسا وبريطانيا. وانتهت الحقبة الثانية بعد حوالي أربعة عقود، بعدما استنزفت حرب عالمية أخرى كثيراً من قوة الأوروبيين، وظهرت القومية العربية، وبدأت القوتان العظميان تستكينان.
" إن من يحكم الشرق الأدنى يحكم العالم، ومن له مصالح في العالم يتوجب عليه أن يهتم بالشرق الأدنى"، حسبما كتب المؤرخ ألبرت حوراني، الذي كان مصيباً في اعتبار أزمة السويس عام 1956 مؤشراً لانتهاء الحقبة الاستعمارية وبداية حقبة الحرب الباردة في المنطقة.
وخلال الحرب الباردة، مثلما كان الوضع في السابق، لعبت القوى الخارجية دوراً مهيمناً في الشرق الأوسط، لكن طبيعة المنافسة الأمريكية السوفيتية ذاتها، أفسحت للدول المحلية مجالاً كبيراً للمناورة، وكانت العلامة البارزة للحقبة، حرب أكتوبر(تشرين الأول) 1973، التي أوقفتها أمريكا والإتحاد السوفيتي عند مأزق لا مخرج منه، مما هيأ الطريق أمام الدبلوماسية الطموحة، بما فيها اتفاق السلام المصري الإسرائيلي.
لكن قد يكون من الخطأ أن ننظر إلى هذه الحقبة الثالثة على أنها ببساطة وقت منافسة أديرت بشكل جيد بين القوتين العظميين، فحرب حزيران (يونيو) 1967 غيرت وإلى الأبد، توازن القوى في الشرق الأوسط وأبرز استخدام النفط كسلاح اقتصادي وسياسي في عام 1973 الهشاشة الأمريكية والدولية أمام نقص الإمدادات وارتفاعات الأسعار وأوجدت عملية التوازن في الحرب الباردة سياقاً حظيت فيه القوى المحلية في الشرق الأوسط باستقلالية بارزة لمتابعة أجندتها الخاصة بها، وأظهرت ثورة عام 1979 في إيران، التي أطاحت بركيزة من ركائز السياسة الأمريكية في المنطقة، أن الغرباء لا يستطيعون التحكم بالأحداث المحلية، وقاومت الدول العربية المحاولات الأمريكية الرامية إلى إقناعها بالانضمام إلى المشاريع المناهضة للسوفييت، وأطلق احتلال إسرائيل للبنان عام 1982 حزب الله، واستنزفت الحرب الإيرانية العراقية ذينك البلدين على مدى عقد.
وأدى انتهاء الحرب الباردة وزوال الاتحاد السوفيتي إلى حقبة ثالثة في تاريخ المنطقة، والتي حظيت فيها الولايات المتحدة بنفوذ غير مسبوق وبحرية التصرف.
وكانت الملامح المهيمنة لهذه الحقبة الأمريكية تحرير الكويت بقيادة أمريكا، ووضع القوات البرية والجوية الأمريكية لأمد طويل، في شبه جزيرة العرب، واهتماماً دبلوماسياً نشطاً بحل الصراع العربي الإسرائيلي، مرة واحدة وإلى الأبد (والذي توج محاولات حكومة كلينتون المكثفة لكن غير الناجحة في نهاية المطاف في كامب دافيد).
وجسدت هذه الحقبة، أكثر من أي حقبة أخرى، ما يعتبر الآن " الشرق الأوسط القديم"، فقد اتصفت المنطقة بعراق عدواني لكن محبط، وإيران راديكالية لكن منقسمة على نفسها وضعيفة نسبياً، وإسرائيل كأقوى دولة في المنطقة والقوة النووية الوحيدة فيها، وتذبذب أسعار النفط وأنظمة عربية شديدة الوطأة تقمع مواطنيها وتعايش قلعاً بين إسرائيل والفلسطينيين والعرب، وبشكل أعم، تفوقاً أمريكياً.
إن ما أدى إلى انتهاء هذه الحقبة بعد أقل من عقدين، عدد من العوامل، بعضها هيكلي وبعضها أوجدها اللاعبون أنفسهم، وكان أبرز هذه العوامل قرار إدارة بوش بمهاجمة العراق في عام 2003 وإدارتها للعملية، وما نجم عنها من احتلال، وكانت إحدى ضحايا الحرب عراقاً كان خاضعاً لهيمنة السنة، والذي كان قوياً وذا حافزية قوية بما يكفي لتشكيل توازن مع إيران الشيعية، وظهرت التوترات السنية الشيعية التي كانت هامدة لبعض الوقت، إلى السطح في العراق وفي كل أنحاء المنطقة، وأحرز الإرهابيون قاعدة في العراق وطوروا فيه مجموعة جديدة من الأساليب للتصدير، وأصبحت الديمقراطية، في كل أنحاء المنطقة، مرتبطة بفقدان النظام العام وانتهاء التفوق السني، وتعززت المشاعر المناهضة لأمريكا، وهي مشاعر ملحوظة، وبتقييد جزء كبير من الجيش الأمريكي في الحرب قلصت النفوذ الأمريكي على نطاق العالم، فمن مفارقات التاريخ أن الحرب الأولى في العراق، وهي حرب فرضتها الضرورة، شكلت بداية الحقبة الأمريكية في الشرق الأوسط، بينما عجلت حرب العراق الثانية، وهي حرب بالاختيار، بنهاية هذه الحقبة.
وكان هنالك عوامل أخرى ذات صلة، وأحدها موت عملية السلام في الشرق الأوسط، فقد كانت أمريكا تحظى تقليدياً بقدرة فريدة على العمل مع العرب والإسرائيليين على حد سواء، لكن حدود تلك القدرة انكشفت في كامب دافيد في عام 2000، فمنذ ذلك الحين، فإن ضعف حلفاء ياسر عرفات، وظهور حماس والتبني الإسرائيلي للتوجه الأحادي، ساعدت جميعها في تهميش الولايات المتحدة، وهو تحول عززه غياب ميل إدارة بوش إلى لجنة للقيام بدبلوماسية ناشطة.
وهنالك عامل آخر ساعد في إنهاء الحقبة الأمريكية، وهو عدم مساهمة الأنظمة العربية التقليدية عملياً في مواجهة إغراء الأنظمة الإسلامية الراديكالية، ففي مواجهة خيار بين ما اعتبره الناس كقادة سياسيين تقليديين وبين قادة دينيين نابضين بالحيوية والنشاط، اختار الكثيرون المجموعة الأخيرة، واحتاج القادة الأمريكيون إلى الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) حتى يرسموا العلاقة بين المجتمعات المغلقة واحتضان الراديكالية، لكن ردهم- وهو في أغلب الأحيان اندفاعة متسرعة نحو الانتخابات بغضّ النظر عن السياق السياسي المحلي – وفر للإرهابيين وأنصارهم فرصاً للتقدم أكثر مما توفر لهم في السابق.
وأخيراً، فإن العولمة غيرت المنطقة، فالأمر حالياً أقل صعوبة أمام الراديكالية للحصول على التمويل والأسلحة والأفكار والمجندين، كما أن ظهور وسائل الإعلام الجديدة وعلى رأسها التلفزيون الفضائي، حول العالم العربي إلى "قرية إقليمية" وسيّسها. فكثير من المواد التي تعرض – مشاهد العنف والتدمير في العراق وصور السجناء العراقيين والمسلمين الذين تساء معاملتهم، والمعاناة في غزة والضفة الغربية والآن في لبنان- زادت من نفور كثير من الناس في الشرق الأوسط من الولايات المتحدة، ونتيجة لذلك، فإن الحكومات في الشرق الأوسط تجد الآن وقتاً أصعب للتعامل مع أمريكا، وتضاؤل النفوذ الأمريكي في المنطقة.

ما الذي يلوح في الأفق؟
إن محددات الحقبة الخامسة في الشرق الأوسط ما زالت تتشكل، لكنها طبيعياً تجيء بعد انتهاء الحقبة الأمريكية، وهنالك (دزينة) من الملامح ستشكل السياق للأحداث اليومية:
أولاً: سوف تواصل أمريكا التمتع بنفوذ في المنطقة أكثر من أي قوة خارجية أخرى، لكن نفوذها سيتضاءل عما كان عليه في الماضي، وهذا يعكس الأثر المتنامي لعدد من القوى الداخلية والخارجية، والحدود المتأصلة للقوة الأمريكية ونتائج خيارات السياسة الأمريكية.
ثانيا: سوف تواجه أمريكا باستمرار تحدياً من السياسات الخارجية لأطراف خارجية أخرى، فالاتحاد الأوروبي سوف يقدم القليل من المساعدة في العراق، ومن المحتمل أن يلحّ على نهج مختلف إزاء المشكلة الفلسطينية، وسوف تقاوم الصين الضغط على إيران، وسوف تسعى إلى ضمان توفر إمدادات الطاقة، كما أن روسيا ستقاوم الدعوات إلى فرض عقوبات على إيران، وسوف تبحث عن فرص لإظهار استقلاليتها عن أمريكا، وسوف تنأى الصين وروسيا (وكثير من الدول الأوروبية أيضا) بأنفسها عن الجهود الأمريكية الرامية إلى تشجيع الإصلاح السياسي في الشرق الأوسط.
ثالثا: سوف تكون إيران واحدة من أقوى دولتين في المنطقة، والذين يعتبرون إيران على حافة تغيير داخلي مثير، مخطئون في رأيهم، فإيران تتمتع بثروة عظيمة، وهي تمثل أقوى تأثير خارجي في العراق، وتتمتع بنفوذ كبير مع حماس وحزب الله، وهي قوة استعمارية كلاسيكية ذات طموحات لإعادة تشكيل المنطقة حسب تصورها وتملك إمكانية لترجمة أهدافها إلى حقيقة واقعة.
رابعاً: ستكون إسرائيل الدولة القوية الأخرى في المنطقة والبلد الذي يملك اقتصاداً حديثاً قادراً على المنافسة عالمياً، وهي الدولة الوحيدة في الشرق الأوسط التي تملك ترسانة نووية، وتمتلك أيضا أقدر قوة عسكرية تقليدية في المنطقة، لكن يظل عليها أن تحتمل تكاليف احتلال الضفة الغربية والتعامل مع تحد أمني متعدد الجبهات والأبعاد، وعند التحدث استراتيجيا، فإن إسرائيل حالياً في موقف أضعف مما كانت عليه قبل أزمة هذا الصيف في لبنان، وسوف يزداد وضعها تدهوراً – مثلما وضع الولايات المتحدة - إذا طورت إيران أسلحة نووية.
خامساً: إن أي شيء يمثل عملية سلام حيوية أمر غير محتمل في المستقبل المنظور، ففي أعقاب عملية إسرائيل المثيرة للجدل في لبنان، فإن من شبه المؤكد أن تكون الحكومة التي يقودها حزب كاديما أضعف من أن تقدر على الحصول على تأييد محلي لأية سياسة، ينظر إليها على أنها محفوفة بالمخاطر. أو أنها تكافئ العدوان، وقد فقد فك الارتباط الأحادي موثوقيته الآن بعد أن جاءت الهجمات بعد انسحاب إسرائيل من لبنان وغزة ، وليس هنالك أي شريك واضح، من الجانب الفلسطيني الذي يملك القدرة والرغبة في التسوية، مما يعيق فرص نهج تفاوضي، وفقدت أمريكا كثيراً من مكانتها كوسيط موثوق ونزيه، على الأقل في الوقت الراهن. وفي الوقت ذاته فإن توسع إسرائيل الاستيطاني وبناء الطرق سوف يستمران على قدم وساق، مما يزيد من تعقيد الدبلوماسية.
سادساً: سوف يظل العراق الذي كان تقليدياً مركزاً للقوة العربية في وضع يتسم بالفوضى لسنوات قادمة، بحكومة مركزية ضعيفة ومجتمع منقسم على نفسه وعنف طائفي، وفي أسوأ الأحوال، فإنه سيصبح دولة فاشلة تدمرها حرب أهلية شاملة تجر جيرانها.
سابعاً: سيظل سعر النفط مرتفعاً، وذلك نتيجة الطلب القوي من الصين والهند، والنجاح المحدود في الحد من الاستهلاك في الولايات المتحدة، والإمكانية المستمرة لحدوث نقص في الإمدادات، ومن المرجح أن سعر برميل النفط سيزيد على 100 دولار بدلاً من هبوطه إلى ما دون 40 دولاراً. وسوف تستفيد إيران والسعودية والمنتجون الآخرون الكبار بشكل متفاوت.
ثامناً: سوف تستمر "العسكرة" بسرعة، فالجيوش الخاصة في العراق ولبنان والمناطق الفلسطينية تزداد قوة، والمليشيات، وهي نتيجة وسبب للدول الضعيفة، سوف تظهر حيثما كان هنالك عجز متصور أو حقيقي لسلطة وقدرة الدولة. وسوف يؤدي القتال الأخير في لبنان إلى مفاقمة هذا التوجه، لأن حزب الله كسب بعدم المعاناة من هزيمة كاملة، بينما خسرت إسرائيل بعدم تحقيق انتصار كامل، وهي نتيجة ستزيد من جرأة حزب الله والذين يقلدونه.
تاسعاً: سوف يظل الإرهاب، الذي يعرف بأنه الاستخدام المتعمد للقوة ضد المدنيين لتحقيق أهداف سياسية، سوف يظل ملمحاً من ملامح المنطقة، وسوف يحدث في المجتمعات المنقسمة على نفسها، مثل العراق، وفي مجتمعات تسعى فيه الحركات الراديكالية إلى إضعاف الحكومة وتلطيخ سمعتها، وسوف يزداد الإرهاب تطوراً ويظل أداة تستخدم ضد إسرائيل وضد تواجد الولايات المتحدة والقوة الأخرى الخارجية.
عاشراً: إن الإسلام سوف يملأ، وبشكل متزايد، الفراغ السياسي والفكري في العالم العربي ويوفر أساساً لسياسات أغلبية سكان المنطقة، فالقومية العربية والاشتراكية العربية أمور من الماضي، والديمقراطية تنتمي إلى المستقبل البعيد في أحسن الأحوال.
والوحدة العربية شعار وليست حقيقة، وقد تعزز تأثير إيران والحركات المرتبطة بها، وتعقدت محاولات تحسين العلاقات بين الحكومات العربية وإسرائيل وأمريكا. وفي الوقت ذاته، فإن التوترات بين السنة والشيعة سوف تزداد في كل أنحاء المنطقة، مما يسبب مشكلات في الأقطار ذات التنوع الاثني والعرقي.
حادي عشر: من المحتمل أن تظل الأنظمة العربية تقليدية وتصبح حساسة دينياً ومناهضة لأمريكا بشكل أكبر، وستكون مصر والسعودية في المقدمة، فمصر التي تشكل حوالي ثلث سكان العالم العربي، قد طبقت بعض الإصلاحات الاقتصادية البناءة لكن سياساتها فشلت في التمشي معها، وعلى عكس ذلك فإن النظام يبدو وكأنه ينوي قمع العدد الضئيل من الليبراليين في البلاد، ويقدم للشعب المصري خياراً بين المستبدين التقليديين والإخوان المسلمين وتكمن المخاطرة في أن المصريين سوف يختارون الطرف الأخير في يوم من الأيام، ليس لأنهم يؤيدونه بشكل مباشر بل لأنهم ازدادوا ضجراً من الطرف الأول، ومقابل ذلك قد يتخذ النظام مظاهر خصومه الإسلاميين في محاولة اختيار إغرائهم، في عملية النأي بنفسه عن الولايات المتحدة، وفي السعودية فإن الحكومة والنخبة السعودية تعتمدان على استخدام عائدات الطاقة الضخمة في احداث تغيير في البيئة المحلية والعمل على ضبط التوازن والاستقرار الداخلي (الإسلامي والليبرالي).
وأخيراً: فإن المؤسسات الإقليمية ستظل ضعيفة، تتخلف عن تلك المؤسسات في أماكن أخرى، فالمنطقة المعروفة جيداً في الشرق الأوسط، وهي الجامعة العربية، تستثني أقوى دولتين في المنطقة، إسرائيل وإيران، فالصدع العربي الإسرائيلي الدائم سيظل يستبعد مشاركة إسرائيل في أية علاقة إقليمية مستدامة، كما أن التوتر بين إيران ومعظم الدول العربية سوف يحبط ظهور التوجه الإقليمي، وستظل التجارة في الشرق الأوسط متواضعة لأن عدداً قليلاً من الدول تعرض سلعاً وخدمات يريد الآخرون شراءها على نطاق كبير وسوف يتوجب أن تأتي السلع المصنعة المتقدمة من أماكن أخرى، وسوف يصل عدد قليل من فوائد التكامل الاقتصادي العالمي إلى هذا الجزء من العالم، رغم الحاجة الملحة لها.

أغلاط وفرص:
ومع أن الملامح الأساسية لهذه الحقبة الخامسة للشرق الأوسط الحديث غير جذابة إلى حد كبير، فيجب ألا يكون هذا سبباً للاعتماد على القضاء والقدر، فكثير من الأمور قضية درجات، فهنالك فرق أساسي بين شرق أوسط يفتقر إلى اتفاقيات سلام رسمية وشرق أوسط يتصف بالإرهاب والعنف بين الدول والحرب الأهلية، بين مكان يضم إيران قوية ومكان تهيمن عليه إيران، أو بين مكان ذي علاقة قلقة مع الولايات المتحدة ومكان حافل بكراهية البلد. كما أن الوقت ذو أثر، ويمكن أن تدوم الحقب في الشرق الأوسط لمدة قرن أو لفترة قصيرة تصل إلى عقد ونصف العقد، ومن الواضح أن من مصلحة أمريكا وأوروبا أن تكون الحقبة الناشئة قصيرة قدر الإمكان- وأن تتلوها حقبة أكثر لطفاً.
ولضمان هذا فإن على صانعي السياسة الأمريكية أن يتجنبوا غلطتين، مع اغتنام فرصتين، فالغلطة الأولى يمكن أن تكون المغالاة في الاعتماد على القوة العسكرية، فبينما تعلمت أمريكا بثمن باهظ في العراق، وكما تعلمت إسرائيل في لبنان، فإن القوة العسكرية ليست الترياق والدواء الشافي لكل شيء فهي ليست مفيدة أبداً ضد ميليشيات منظمة بشكل فضفاض ومسلحين ذوي تسليح جيد، يتقبلهم السكان المحليون، ومستعدون للموت من أجل قضيتهم كما أن تنفيذ ضربة وقائية للمنشات النووية الإيرانية لن يحقق فائدة كبيرة، فأي هجوم قد لا يفشل فقط في تدمير كل المرافق، لكنه قد يؤدي أيضا بطهران إلى إعادة بناء برنامجها بشكل سري أكثر ويجعل الإيرانيين يحتشدون حول النظام، ويقنع إيران بالانتقام (على الأغلب من خلال وكلاء لها) ضد المصالح الأمريكية في أفغانستان والعراق، وقد يكون الانتقام ضد أمريكا.
وسوف يؤدي الهجوم إلى زيادة تثوير العالمين العربي والإسلامي، وإلى إيجاد مزيد من الإرهاب والنشاط المناهض لأمريكا، كما أن العملية العسكرية ضد إيران يمكن أن ترفع سعر النفط إلى معدلات عالية جديدة، مما يزيد من فرص حدوث أزمة اقتصادية عالمية وركود عالمي، ولكل هذه الأسباب، فإنه لا يجب التفكير باستخدام القوة العسكرية إلا كملاذ أخير.
ويمكن أن تكون الغلطة الثانية، الاعتماد على ظهور الديمقراطية لتهدئة المنطقة، ومن الصحيح أن الديمقراطيات الناجحة لا تميل إلى شن الحرب، فيما بينها ومن سوء الحظ أن إيجاد ديمقراطيات ناضجة ليس مهمة سهلة أبداً، حتى وإن نجحت الجهود في نهاية المطاف فإن ذلك يحتاج إلى عقود، وعلى المدى القصير فإن على الحكومة الأمريكية أن تواصل العمل مع كثير من الحكومات غير الديمقراطية، فالديمقراطية ليست جواباً للإرهاب، أيضا، فمن المقبول ظاهرياً أن الشبان والشابات الذين يبلغون سن الرشد أقل احتمالا من أن يكونوا إرهابيين إذا كانون ينتمون إلى مجتمعات توفر لهم الفرص السياسية والاقتصادية، لكن الأحداث الأخيرة توحي بأنه حتى الذين ينشأون في ديمقراطيات ناضجة مثل بريطانيا، ليسوا محصنين أمام جذب الراديكالية، فالحقيقة الماثلة في أن حماس وحزب الله قد حققوا نتائج جيدة في الانتخابات ثم نفذوا هجمات عنيفة، يعزز الرأي بأن الإصلاح الديمقراطي لا يضمن الهدوء، كما أن الدمقرطة ذات جدوى ضئيلة عند التعامل مع راديكالية لا تحمل برامجهم أي أمل في الحصول على تأييد الأغلبية، فالمبادرات الأكثر جدوى يمكن أن تكون أعمالاً ترمي إلى إصلاح الأنظمة التربوية وتشجيع التحرر الاقتصادي والأسواق المفتوحة، وتشجيع السلطات العربية والإسلامية على المجاهرة بما لديها بطرق تنزع الشرعية عن الإرهاب وتلحق العار بأنصاره، وتخاطب الشكاوى التي تحفز الشباب والشابات والتي تدفعهم إلى الأخذ به.
وفيما يتعلق بالفرص التي يتوجب اغتنامها، فإن الفرصة الأولى تتمثل في التدخل بشكل أكبر في شؤون الشرق الأوسط بأدوات غير عسكرية، وبالنسبة للعراق فبالإضافة إلى أية إعادة نشر للقوات الأمريكية وتدريب الجيش والشرطة العراقيين، فإن على أمريكا أن تؤسس منتدى إقليميا لجيران العراق ( تركيا والسعودية على وجه الخصوص) والأطراف المعنية الأخرى المماثلة التي ساهمت في إدارة الأحداث في أفغانستان بعد التدخل فيها في عام 2001، والقيام بذلك سوف يتطلب بالضرورة إشراك إيران وسوريا، حيث يتوجب إقناع سوريا، التي يمكن لها أن تؤثر على حركة المقاتلين إلى العراق والأسلحة إلى لبنان، بإغلاق حدودها مقابل فوائد اقتصادية (من الحكومات العربية وأوروبا وأمريكا)، والتزام بإعادة البدء في محادثات حول وضع هضبة الجولان، ففي الشرق الأوسط الجديد، هنالك خطورة بأن سوريا قد تكون مهتمة بالعمل مع طهران أكثر منه مع واشنطن، لكنها انضمت إلى التحالف بقيادة أمريكا خلال حرب الخليج وحضرت مؤتمر مدريد للسلام في عام 1991، وهما مؤشران يوحيان بأنها قد تكون منفتحة على التعامل مع أمريكا في المستقبل.
إن إيران قضية أصعب، لكن حيث أن تغيير النظام في طهران ليس تصوراً على المدى القريب، ويمكن أن تكون الضربات العسكرية ضد مواقع نووية في إيران، أمراً خطيراً ولأن الردع غير موثوق به، فإن الدبلوماسية هي أفضل خيار متاح لواشنطن، فعلى الحكومة الأمريكية أن تفتح وبلا شروط مسبقة محادثات شاملة تخاطب برنامج إيران النووي، ودعمها للإرهاب والميليشيات الأجنبية، ويجب أن يعرض على إيران سلسلة من الحوافز الاقتصادية والسياسية والأمنية، ويمكن السماح لها ببرنامج ريادي محدود جداً لتخصيب اليورانيوم، طالما وافقت على عمليات تفتيش مفاجئة ومتفق عليها، ويمكن لمثل هذا العرض أن يكسب تأييداً دولياً عريضاً، وهو شرط أساسي إذا أرادت أمريكا مساندة لفرض العقوبات أو تصعيد الخيارات الأخرى إذا فشلت الدبلوماسية. إن الإعلان عن بنود مثل هذا العرض يمكن أن يزيد من فرص نجاح الدبلوماسية ويجب أن يعرف الشعب الإيراني الثمن الذي سيدفعونه نظير السياسة الخارجية الراديكالية لحكومتهم وفي ضوء قلق الحكومة في طهران من ردة فعل عامة عكسية فإن من الأرجح أن تقبل العرض الأمريكي.
وتحتاج الدبلوماسية أيضا إلى إحياء في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، الذي ما يزال القضية التي تشكل الرأي العام ( وتثوره) في المنطقة أكثر من غيرها، ويمكن ألا يكون الهدف في هذه المرحلة جمع الأطراف في كامب ديفيد أو في أي مكان آخر، بل البدء في إيجاد الظروف التي يمكن فيها إعادة البدء في الدبلوماسية بشكل مفيد، ويجب على أمريكا أن تفصح عن تلك المبادئ إذا رأت أنها تشكل عناصر تسوية نهائية، بما فيها إيجاد دولة فلسطينية تستند إلى خطوط 1967، ( ويمكن تعديل الخطوط لحماية أمن إسرائيل والتعبير عن التغيرات السكانية ويمكن تعويض الفلسطينيين عن أية خسائر تنجم عن التعديلات)، وكلما كانت الخطة سخية ومفصلة ازداد الأمر صعوبة أمام حماس لرفض التفاوض وتفضيل المجابهة، وتمشياً مع هذا النهج، يجب على المسؤولين الأمريكيين أن يجلسوا مع مسؤولي حماس مثلما فعلوا مع قادة سين فين، الذين قاد بعضهم الجيش الجمهوري الايرلندي، ويجب عدم النظر إلى مثل هذه الأحاديث المتبادلة على أنها مكافأة للأساليب الإرهابية بل كأدوات تحمل إمكانية جعل السلوك يتمشى مع السياسة الأمريكية.
وتضم الفرصة الثانية عزل أمريكا لنفسها قدر الإمكان عن عدم الاستقرار في المنطقة، ويمكن لهذا أن يعني الحد من استهلاك النفط في أمريكا، واعتمادها على موارد الطاقة في الشرق الأوسط، وهي أهداف يمكن تحقيقها بتقليص الطلب (وذلك مثلاً بزيادة الضرائب عند المضخات – يقابلها تخفيضات ضريبية في أماكن أخرى – وتشجيع السياسات التي تعجل في استخدام مصادر بديلة للطاقة)، ويجب على واشنطن أن تتخذ خطوات إضافية لتقليص تعرضها للإرهاب، فكما هي الهشاشة أمام المرض فإن الهشاشة أمام الإرهاب لا يمكن القضاء عليها بشكل كامل، لكن يمكن ويجب بذل ما هو أكثر لحماية الوطن الأمريكي على أحسن نحو، والإعداد الأفضل لتلك المناسبات الحتمية التي سينجح فيها الإرهابيون. إن تجنب هذه الأغلاط واغتنام تلك الفرص يمكن أن يساعد، لكن من المهم إدراك أنه لا يوجد أية حلول سريعة أو سهلة للمشكلات التي تمثلها الحقبة الجديدة، وسوف يظل الشرق الأوسط جزءاً مضطرباً ومسبباً للاضطراب لعقود قادمة، وهو أمر كاف جداً لأن يحن المرء إلى الشرق الأوسط القديم.



بقلم: ريتشارد هاس
رئيس مجلة العلاقات الخارجية
عن مجلة فورين افيرز
عدد تشرين الثاني (نوفمبر) كانون الأول (ديسمبر) 2006


http://www.al-majalla.com/ListTahqeeq.asp?NewsID=54