القوات العربية في العراق: دواعي الانتشار وشروطه

كثيرا ما تكون التقارير الصحفية المفبركة والمجهولة المصدر والمنسوبة لدبلوماسيين عرب، أو مصدر مسؤول أو مصادر خاصة، هي بالونات اختبار لاستطلاع النوايا والتوجهات أو محاولات استدراج لمناطق الغرق وبؤر الموت، كما هو حادث مع صحيفة نيويورك تايمز هذا الأسبوع والواشنطن بوست الأسبوع الماضي في مقال نواف العبيد.

والقصة كما يدركها «المراقبون» أن تقرير «بيكر ـ هاملتون» والذي لم يخرج عن كونه رؤى سياسية لتصحيح مسار السياسة الخارجية الأمريكية، دفع بالإدارة الأمريكية إلى البحث عن طوق نجاة من أزمتها الطاحنة، فلم تجد في دفاترها البالية سوى طرح أجندة مشبوهة قديمة حاولت ترويجها مرات عديدة كلما اشتد السعير العراقي، وتقضي بإرسال قوات عربية إسلامية لتكون غطاء لاحتلال أنجلوأمريكي، لكنها مع ظهور التقرير الأخير تحورت مهامها لتصبح غطاء انسحاب شكلي مع بقاء السيطرة الأمريكية، وتكون مهمتها الحفاظ على أيتامها في الحكومة العراقية العميلة. لذا لم تكن مفاجأة ما نشرته صحيفة «نيويورك تايمز» الأربعاء الماضي ونسبته لدبلوماسيين عرب ومفاده «أن السعودية أبلغت الإدارة الأميركية بأنها قد تقدم دعماً مالياً لعراقيين من طائفة معينة في أي حرب ضد طائفة إسلامية أخرى، إذا ما سحبت الولايات المتحدة قواتها من العراق وأنها.. وأنها.. الخ.

انتهى التصريح المجهول المصدر مخلفاً وراءه لكاتبه دوائر من الغموض، فالنفوذ الإيراني يسيطر على الوضع بالعراق وأميركا نفسها اعترفت به وأجرت جولات عديدة من المفاوضات للحفاظ على أرواح جنودها هناك، الملاحظة الثانية أن أميركا شاركت بنفسها في هدم إستراتيجيتها المعروفة باسم الاحتواء المزدوج لإيران والعراق، وسواء كان ذلك باستدراج عملاء إيران في العراق لإتاحة الوقت أمام المشروع النووي الإيراني، أم لأطماع أمريكية في نفط العراق، فالمحصلة واحدة وهي خسائر بقيمة 400 مليار دولار تصل الى تريليونين في بعض التقديرات، وعدد من القتلى لم يكشف بعد عن رقمه الحقيقي.

الملاحظة الثالثة أن الحديث عن مخاوف من مذابح للسنة في حال الانسحاب هو إقرار بأمر واقع بالفعل والمذابح متبادلة وجارية بين السنة والشيعة والاحتلال لعب دورا مفضوحاً في تكريسها. ومع ذلك فقد يكون التقرير توخى في المقام الأول إيجاد مخرج لأميركا من مأزقها في العراق.. وهذا من حق واضعي التقرير.

فالخطط الأميركية تجاه إيران تجعل الساحة العراقية مرشحة لتكون قاعدة الانطلاق في المواجهة المحتملة مع إيران، وإن وجود قوات عربية في العراق لضبط الأمن يسهل على القوات الأمريكية التحرك نحو الهدف الإيراني، كما يجعل القوات الأمريكية في مأمن من انقلاب القوى الموالية لإيران واستهدافها في العراق، خاصة مع إدراك إدارة بوش أن قواتها في العراق ستكون صيداً سهلاً للميليشيات العراقية المتحالفة مع إيران، إذا ما انفجر الصراع الإيراني ـ الأمريكي، سياسياً أو عسكرياً.

البدايات الأولى للطرح الأمريكي بإرسال قوات عربية للعراق، جاءت بعد نجاح قوات التحالف الدولي بقيادة أميركا، في دخول بغداد في التاسع من أبريل 2003، وإسقاط نظام صدام حسين، سعت لفرض سيطرتها على مجمل الأوضاع الداخلية في العراق، ولكنها اصطدمت بالعديد من التحديات السياسية والأمنية الداخلية والإقليمية، التي انعكست على معدلات الأمن والاستقرار التي تمتعت بها قواتها، وحدت من قدراتها على فرض السيطرة على الأوضاع الأمنية في مناطق العراق المختلفة.

ومن هنا تعددت الأفكار والأطروحات الأمريكية للتغلب علي هذه التحديات، وبرز في إطار هذه الأطروحات نشر قوات عربية في العراق وتحديداً في المناطق السنية التي تشهد العديد من الاضطرابات جعلت من الصعب السيطرة عليها.

وقد مرت فكرة نشر قوات عربية في العراق في تطورها بالعديد من المراحل، كانت الأولى في أغسطس 2003، والثانية في أغسطس 2004، والثالثة في يناير 2006، ويمكن تناول هذه المراحل على النحو التالي:

الأولى: في 12 أبريل 2003 أعلن وزير الخارجية البريطاني جاك سترو إن احتمال إرسال قوات مصرية إلى العراق يمكن أن يتحقق في المستقبل إذا توافر له شرطان، أولهما إقدام أمريكا على إجراء خفض ملموس لقواتها في العراق، الأمر الذي يفرض التعويض عن ذلك، وثانيهما قبول الشعب العراقي بكل طوائفه دخول قوات مصرية إلى أراضيه، كما أشار بأن الحاجة ستكون إلى أكثر من (15) ألف جندي مصري، وسيشارك مصر عدد من الدول العربية الخليجية وربما قوات لدول لم تشترك في الحرب مثل فرنسا.

وفي الأول من أغسطس 2003، ترددت تقارير إعلامية عربية وغربية تشير إلى أن مصر والأردن والسعودية والكويت والمغرب وقطر تستعد للمشاركة بنحو 30 ألف جندي في قوات «حفظ السلام» في العراق، والتي دعيت 50 دولة للمساهمة فيها، وأعلنت 15 منها حتى الآن عزمها على المشاركة، وذكرت مصادر دبلوماسية بريطانية أن دولا عربية أبلغت واشنطن موافقتها على المشاركة في قوات «حفظ السلام» الدولية في العراق، التي من المتوقع أن يصل تعدادها في نهاية المطاف إلى أكثر من 100 ألف جندي.

وخاصة بعد رفض الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان، اقتراحين فرنسي وروسي بأن تكون تلك القوات أقل من 50 ألفا، حيث أعلن أن الأمم المتحدة التي ستشرف على تلك القوات «ليست مستعدة لأن تصاب بأي انتكاسة أو هزيمة في العراق» وأنه لن يوافق على إرسال أقل من 100 ألف جندي وألفي دبابة وآلية و300 طائرة هليكوبتر ومعدات أخرى».

الثانية: أغسطس 2004: ناقش وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل فكرة إرسال قوات من بلدان إسلامية إلى العراق مع وزير الخارجية الأميركي كولن باول ورئيس الوزراء العراقي إياد علاوي خلال زيارتهما إلى المملكة (28/7/2004).

وأعلن باول وعلاوي أنهما لن يطلبا من جيران العراق المشاركة في هذه القوات، وأعرب علاوي عن مساندته لهذا الاقتراح، ودعا علاوي العالمين العربي والإسلامي إلى رص الصفوف لمساعدة بلاده.

وفي ختام المباحثات، أعلن وزير الخارجية السعودي (1/8/2004) انه قد يتم إرسال قوات إسلامية إلى العراق لتحل مكان القوات المتعددة الجنسيات بقيادة أميركا، وقال الفيصل: «لإرسال قوات إسلامية من الضروري توفير متطلبات» خصوصا «أن تكون بديلا لقوات التحالف المتواجدة حاليا وليس إضافة لها».

وأوضح أن هذه القوات لن ترسل إلى العراق، إلا في حال قدمت السلطات العراقية طلبا واضحا بذلك على أن تكون بإمرة الأمم المتحدة»، وقال «الطلب يجب أن يأتي من الحكومة العراقية وبدعم كامل وظاهر من فئات الشعب العراقي، وان تعمل هذه القوات تحت مظلة الأمم المتحدة»، وتابع «يجب أن تكون الأمم المتحدة مسؤولة عن العملية السياسية في العراق، بما في ذلك إجراء انتخابات لاختيار الحكومة الجديدة».

الثالثة (يناير 2006): بدأت هذه المرحلة في أعقاب الانتخابات البرلمانية التي شهدها العراق، وتعددت في إطارها التحركات الدولية والعربية، لوضع الفكرة موضع التنفيذ، وكانت البداية في هذا التوجه مع إعلان الرئيس الأمريكي جورج بوش خلال خطابه بالأكاديمية البحرية الأمريكية (أنابوليس بولاية ماريلاند)، نوفمبر 2005، ما سماه «الاستراتيجية القومية للنصر في العراق»، والتي جاء فيها أن القوات الأمريكية ستتمكن من الانسحاب مع تولي القوات العراقية الأمن تدريجيا.

كما أعاد التأكيد في خطابه عن حالة الاتحاد (يناير 2006)، عن عزمه تخفيض القوات الأمريكية في العراق من 17 لواء إلى 15 لواء بحلول الربيع المقبل.

وهنا تعددت التقارير حول ان إدارة الرئيس الأميركي جورج بوش، تسعى لإقناع بعض العواصم العربية بالتجاوب مع طلب رسمي لإرسال قوات أمن عربية إلى العراق للمساعدة في حفظ الأمن والاستقرار في العراق والحد من الخسائر المتزايدة في صفوف هذه القوات.

وذكرت هذه التقارير أن هناك مساعي أميركية لحث بعض الدول العربية على تشكيل قوة تدخل عربية في العراق على غرار قوة الردع العربية التي تشكلت من عدة دول عربية برئاسة سورية، إبان الحرب الأهلية السابقة في لبنان.

واعتبرت أن وجود هذه القوات من شأنه إقناع بعض الأوساط العراقية بالتخلي عن مقاومتها وتحاشي وقوع صدام عربي عراقي، واعترفت المصادر بأن الإدارة الأميركية تواجه صعوبات في إقناع حلفائها التقليديين في المنطقة العربية بالاستجابة لمساعيها في هذا الصدد، موضحة أن هناك مخاوف من أن يرفض الرأي العام العربي التورط في حرب لخدمة المصالح الأميركية.

وفي إطار هذا التطور يمكن رصد عدة أسباب كانت وراء تحرك الإدارة الأمريكية لنشر قوات عربية، وتوريط دول عربية في العراق، ومن ذلك:

* تخفيف الضغط على القوات الأمريكية في المدن العراقية: فالإدارة الأميركية ترغب في وجود قوات من دول عربية وإسلامية حليفة تسندها وتعاونها في حفظ الأمن في العراق، لكي ينصرف الجيش الأميركي إلى بناء قواعده العسكرية الدائمة في مناطق بعيدة عن المدن، ولكي تكون هذه القوات في مقدمة المواجهة مع العراقيين الرافضين للاحتلال.

* الإعداد للعمليات القادمة ضد إيران: فالخطط الأميركية تجاه إيران تجعل من الساحة العراقية مرشحة لتكون قاعدة الانطلاق في المواجهة المحتملة مع إيران، وإن وجود قوات عربية في العراق لضبط الأمن يسهل على القوات الأمريكية التحرك نحو الهدف الإيراني، كما يجعل القوات الأمريكية في مأمن من انقلاب القوى الموالية لإيران واستهدافها في العراق، وخاصة مع إدراك إدارة بوش أن قواتها في العراق ستكون صيداً سهلاً للميليشيات العراقية المتحالفة مع إيران إذا ما انفجر الصراع الإيراني ـ الأمريكي، سياسياً أو عسكرياً.

* تصاعد المقاومة العراقية: في ظل استمرار الانفلات الأمني في البلاد، وفشل المزاعم الأمريكية حول إعادة إعمار العراق، وهو الأمر الذي طرح على الإدارة الأمريكية ضرورة الانسحاب من العراق، مع محاولة ترتيب الأوضاع بما يضمن بقاء حلفائها في الحكم، وخاصة بعد إقرار البنتاجون أن العمليات العسكرية التي استهدفت القوات الأمريكية في العراق عام 2005 وحده بلغت نحو 34 ألفا و181 عملية، بواقع 97 عملية في اليوم الواحد.

* تعديل الاستراتيجية الأمريكية في العراق: فقد كشفت مصادر عراقية أن تعديلا جديدا أضفى على الاستراتيجية الأميركية المتبعة حاليا في العراق، يقوم على تركيز جهود قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة على حماية وتأمين بعض المدن والمناطق وجعل الحياة وظروفها أفضل هناك بدلا عن التركيز على اصطياد وتعقب المتمردين، وتسعى هذه الاستراتيجية إلى التأكيد على أن النجاح سوف ينتشر ببطء بطريقة تشابه انتشار بقعة الزيت على مساحة من الأرض، وبذلك يمكن أن ينحسر الدعم الذي يحظى به المتمردون.

* العوامل الداخلية الخاصة بالحزب الجمهوري وانتخابات الكونجرس التي جرت في نوفمبر 2006 وأثمرت عن اكتساح الديمقراطيين للكونجرس بمجلسيه.

* بحث الولايات المتحدة عن انسحاب مشرف من العراق يحفظ لها وجودا عسكريا ثابتا في العراق بقواعد محددة المواقع، ويضمن سيطرتها علي النفط العراقي، فالنصر سيكون من دون معنى، إذا تم الخروج من دون تحقيق هذين المكسبين، بجانب بناء هيكل، ولو شكلي، للنموذج الديمقراطي الذي روجت له الولايات المتحدة في العراق.

* الخسائر البشرية والمادية الهائلة للولايات المتحدة، نتيجة الحرب على العراق، تتراوح ما بين (1 ـ 2) تريليون دولار وهو رقم فلكي هائل». وفي مقابل هذه الاعتبارات، نجد أن طرح مشروع إرسال قوات عربية إلى العراق، وتدخل عدد من الدول العربية الفاعلة في النظام الإقليمي العربية بجدية، في الأزمة العراقية، يثير العديد من التساؤلات: حول واجبات هذه القوات، وأين ستتمركز، وموقف شعب العراق منها، والمدة المقررة لانسحاب قوات الاحتلال، ومدة بقاء القوات العربية في العراق، وماذا سيكون موقف هذه القوات من القوات العراقية؟

وأياً كانت الإجابة عن هذه التساؤلات، تأتي أهمية التأكيد على أن القوات العربية إذا ذهبت إلى العراق يجب أن تذهب ضمن مشروع عربي هدفه إنهاء الاحتلال، وتحت قيادة الأمم المتحدة وضمن جدول زمني لانسحاب قوات الاحتلال، وإلا فسوف ينظر إليها هي أيضا باعتبارها قوات احتلال. وأن يتم التمهيد لهذه الخطوة بحملة إعلامية مكثفة موجهة إلي الشعب العراقي بالأساس، يستعان فيها بالقيادات الشعبية العراقية، وليس القيادات الرسمية فقط، لأن تعايش هذه القوات سيكون مع الشعب وليس مع المسؤولين.

* كاتب واعلامي سعودي