 |
-
إصلاح سياسي وأخر سياحي! -بقلم: فهمي هويدي
إصلاح سياسي وأخر سياحي!
بقلم: فهمي هويدي
الجدل الدائر في دمشق حول الإصلاح السياسي جدير بالرصد والمتابعة. ليس فقط لأن سوريا تهمنا، وعافيتها من عافيتنا، ولكن أيضا لأن ما يجري هناك نموذج لحوار عريض تتردد أصداؤه في انحاء العالم العربي، بدرجة أو بأخرى. الأمر الذي يرشح المشهد السوري لكي يغدو مدخلا للاطلاع على مسار ذلك الحوار وآفاقه.
(1) لست أشك في انك تدرك مدى دقة وحرج الموقف في دمشق، وخصوصا بعد انهيار النظام العراقي وفضح سجل حكم البعث هناك طيلة أكثر من ثلاثة عقود. ولابد انك قرأت التقارير التي تواترت الإشارة فيها إلى ادراج اسم سوريا ضمن قائمة الدول المستهدفة ضمن المخططات الأمريكية لما سمي بـ:«إعادة رسم خرائط« المنطقة. أما لماذا هي مستهدفة، فلست أظن أن المشكلة في طبيعة النظام البعثي القائم هناك، بقدر ما انها كامنة ــ على الأقل بالدرجة الأولى ــ في موقف النظام من التطبيع والعلاقات مع إسرائيل، الأمر الذي يعني ان طبيعة النظام مجرد ذريعة لا أكثر. ولا تنس ان علاقة واشنطون بالنظام البعثي العراقي ظلت جيدة ــ رغم وحشيته المشهودة ــ طيلة سنوات الحرب ضد إيران. لكن الأمر اختلف حين تعارضت المصالح والاهواء، وخصوصا غزوه للكويت في عام .1990 ولئن ارتفعت الأصوات في دمشق بعد سقوط النظام العراقي مطالبة بالإصلاح السياسي وداعية إلى إحياء دور المجتمع المدني، وهو ما جسدته المذكرة الشهيرة التي وقع عليها في الشهر الماضي 200 من المثقفين السوريين، إلا ان ذلك ليس جديدا تماما، لأن تلك المطالب ترددت قبل ثلاث سنوات، عقب وفاة الرئيس حافظ الأسد في يونيو .2000 حيث نشطت آنذاك دعوات التغيير وتمنى كثيرون أن يفتح الرئيس الجديد صفحة جديدة، ملبية لأشواق الانفراج السياسي. وهي الدعوات التي جرى الاحتفاء بها في البداية، ثم واجهت انتكاسة بعد ذلك، دفع ثمنها عدد من أبرز السياسيين والمهنيين والأكاديميين السوريين. إلى أن تجددت الآمال بعد سقوط النظام العراقي، واصبحت الظروف ــ الخارجية على الأقل ــ مهيأة أكثر للاستماع إلى أصوات الاصلاح والتغيير. الظاهر حتى الآن ان ثمة صدى حذرا ومحدودا لتلك الدعوات، تجلي مثلا في القرار الذي اصدرته قيادة حزب البعث في 18/6 الماضي أكد ان دور الحزب ــ قائد الدولة والمجتمع بنص المادة 8 من الدستور ــ هو «التخطيط والاشراف والتوجيه والمراقبة والمحاسبة«، وانه لا دخل «للرفاق« بالعمل التنفيذي اليومي، «بحيث يتم اختيار الأكفأ والأفضل بين المواطنين.. بغض النظر عن الانتماء السياسي«. القرار فهم بحسبانه خطوة باتجاه تخفيف قبضة الحزب على السياسة والإدارة وكان لافتا للنظر ان صحيفة «تشرين« نشرت تعليقا بهذا المعنى (في 9/7)، حيث قال أحد كتابها ــ نبيل صالح «ان الرأي الصائب هو ما يجب أن يقود الدولة والمجتمع. والرأي الصائب ليس حكرا على جماعة أو تجمع أو حزب دون غيره«. وما لفت الأنظار في هذا الكلام ان الثقافة السائدة ظلت تقرر طيلة العقود الأخيرة الرأي الصائب هو ما يصدر عن «الحزب القائد«. وحين يجيء صاحبنا ليقول إن ذلك الرأي ليس حكراً على حزب دون غيره (حتى ولو كان حزب البعث)، فإن ذلك يغدو كلاما جديدا تماما!
(2) لم يكن ذلك هو الصدى الوحيد. وانما هاجمت بعض الصحف القريبة من دوائر السلطة دعاة الإصلاح والتغيير، في ثنايا نقدها للأوضاع القائمة. نشرت صحيفة «النور« الناطقة باسم أحد اجنحة الحزب الشيوعي تحليلا قالت فيه إن «الكثير الكثير من أبناء الشعب يقلقهم أمران. الأول ان الحديث عن التحديث والتطوير هو أكثر من فعل التحديث والتطوير في وقائع الحياة اليومية. والثاني ان الإدارة الأمريكية ومن يتأثرون بها أو يأتمرون بأمرها، جعلوا أنفسهم دعاة التغيير الجذري، داخل الوطن السوري.. وعلى نطاق العالم العربي«. في الوقت ذاته أصدرت زعيمة جناح آخر للحزب الشيوعي ــ وصال بكداش ــ بيانا انتقدت فيه دعاة التغيير، وقالت إن: قوى اليمين الرجعية تشن هجوما على التحالف بين القوى الوطنية والتقدمية في البلاد.. وهي تتستر بشعارات زائفة ومطالب وقحة أبرزها حل الجبهة الوطنية التي تشكلت في عام 1972، في أحزاب ناصرية وشيوعية بقيادة البعث«. ونقلت صحيفة «الحياة« على لسان وصال بكداش قولها إن بيانها يتوجه بالدرجة الأولى إلى «أولئك الذين يتحدثون عن المجتمع المدني بضبابية شديدة«. واستطردت مضيفة «نحن مجتمع مدني وليس مجتمعا عسكرياً«! (11/7). إذا تغاضينا عن الخطأ في مقابلة المجتمع المدني بنظيره العسكري، في حين ان المقصود بالمدني في الخطاب السياسي هو المجتمع التعددي (الديمقراطي) في مواجهة المجتمع الشمولي، فإن المتابع لما تنشره الصحف السورية يلاحظ أموراً ثلاثة في تعاطيها مع ملف الإصلاح السياسي، هي: { إنها تشارك بحذر شديد في الحوار الدائر حول الإصلاح، على نحو وصفه تقرير مراسل «الحياة« في دمشق بأنه «محاولة لسحب بساط النقاش« الصاخب حول الموضوع، الحاصل على وسائل الإعلام العربية من ناحية، وفي الشارع السوري بطبيعة الحال. ويتجسد ذلك الحذر في «السماح بجرعات اضافية من الجرأة في نشر قرارات سياسية اصلاحية والتعليق عليها«. وقرار قيادة البعث والتعليق عليه اللذين سبقت الإشارة اليهما نموذجا لذلك. { إن الهجوم على دعاة الإصلاح السياسي ركز على اتهامهم بأنهم متأثرون بالتوجهات الأمريكية ومؤتمرون بأوامرها. وهي حجة تستمد قوتها من الادعاءات الأمريكية التي استصحبت غزو العراق واحتلاله، رافعة شعارات الديمقراطية والتحديث وما إلى ذلك. ومن إعلان الإدارة الأمريكية عن تخصيص 40 برنامجا لتعزيز الإصلاحات في العالم العربي، رصد لها مبلغ مائة مليون دولار. (البرنامج تشرف عليه اليزابيث تشيني ابنة نائب الرئيس الأمريكي التي تخرجت من جامعة شيكاغو عام 96، وهي معينة الآن في منصب نائبة مساعد وزير الخارجية لشئون الشرق الأوسط). ولعلك لاحظت ان التهمة ذاتها وجهت إلى الطلاب المتظاهرين في طهران، الأمر الذي يضعنا أمام مفارقة لا تخلو من طرافة، تتمثل في أن الادعاء الأمريكي بالدفاع عن الديمقراطية المشكوك فيه، أصبح يستخدم سلاحا لضرب التوجه الديمقراطي الحقيقي في دول المنطقة. { الملاحظة الثالثة ان خطاب الإصلاح السياسي يتحرك في حدود الأوضاع القائمة، دونما محاولة لتغيير إطارها العام. فقيادة حزب البعث وضعت «سقفا« للإصلاح، احتفظ في ظله الحزب بدور الولاية العامة على المجتمع (التخطيط والإشراف والمراقبة والمحاسبة). وهذه لا تختلف في مضمونها عن ولاية الفقيه في النظام الإيراني، أو ولاية العسكر أو القبيلة أو الأسرة في انظمة أخرى. وبدا ان المطلوب ليس فقط أن يتحقق الإصلاح المنشود في ظل الهياكل والمؤسسات القائمة، وانما أيضا من خلال الرموز الموجودة. وهي ذات الرمز التي تولت مقاعد الصدارة في ظل النظام الشمولي المطلوب تجاوزه.
(3) إذا خرجنا من الدائرة السورية، ونظرنا إلى الساحة العربية، فسيلفت أنظارنا لأول وهلة ان رايات الإصلاح السياسي المرفوعة في مختلف العواصم، وسنجد أن هناك ثلاث مستويات للتعاطي مع الموضوع. مستوى مستهجن ومرفوض، ينطلق من اليأس مما هو قائم، والمراهنة على التدخل الخارجي لفرص الإصلاحات، وذلك حاصل في عدد محدود من الأقطار قمعت فيها النخبة السياسية خلال ممارسات استمرت لسنوات طالت، ألغيت فيها السياسة تماما. وكنت قد أشرت في حديث سابق إلى بعض المواقع على شبكة الانترنت التي أعربت عن تلك المراهنة، ولم تجد غضاضة في انتظار قوات بوش لتغيير ما هو قائم، وليكن بعد ذلك ما يكون. المستوى الثاني تبني الاصلاحات بدرجة أو بأخرى، ودخل اليها من باب الانتخابات الحرة (الكويت أحدث نموذج لذلك، وهو ما حدث أيضا في البحرين والأردن واليمن والمغرب) ــ وهذا المستوى مقبول بصورة نسبية، من حيث انه يتجاوز حدود اليأس ويوفر للناس أملا في امكانية تطوير الممارسة وتحقيق المشاركة التي تستدعي المجتمع وقواه السياسية، وتقيم جسور الثقة والتفاهم بين السلطة والمجتمع. المستوى الثالث يبعث على القلق حقا، لأنه لا يجهض محاولة الإصلاح الحقيقي كما في النموذج الأول، ولا يفتح الباب لاحتمالاته كما في النموذج الثاني، ولكنه يمارس نوعا من الالتفاف على الإصلاح، ويسوّق ما يمكن ان نسميه «وهم الإصلاح«. هذا الالتفاف يتخذ صورتين في الأغلب. بمقتضى الأولى تقام المؤسسات الديمقراطية ثم تفرغ من وظيفتها، بحيث تتوافر الهياكل والأبنية وتغييب المشاركة والمساءلة وتلغي فكرة التداول. وهو ما يعتبر عنه بعض الباحثين بقولهم انه بمثابة فصل للديمقراطية عن الليبرالية، بمعنى أن تبقى اللافتة الديمقراطية مرفوعة، في حين تستبعد قيمها وتعطل قوانينها. الصورة الثانية تتمثل في التركيز على الفروع دون الأصول في المشهد الديمقراطي. والأصول التي أعنيها هي الحريات العامة والمشاركة والمساءلة والتداول، أما الفروع فهي إفرازات تلك الأجواء المتمثلة في المنظمات الأهلية، وما يسمى بمؤسسات المجتمع المدني التي تعني بحقوق الإنسان أو المرأة أو غير ذلك. وهي الأنظمة التي لا تكون فاعلة أو ذات جدوى، إلا في أجواء ديمقراطية حقيقية. إن شئت فقل إن الديمقراطية هي «الحصان« بينما تلك الإفرازات بمثابة العربة أو العربات التي يجرها، والتركيز على الأخيرة دون الأولى هو بمثابة وضع للعربة أمام الحصان! في هاتين الصورتين يفتقد الإصلاح السياسي الجدية. ولذلك وصفته في مقام آخر بأنه إصلاح «سياحي«، يقصد به المسايرة والتجمل وسد الخانات لا أكثر. والفرق الجوهري بين ما هو سياسي وما هو سياحي في الاصلاح، أن الأول يخاطب الداخل في حين ان الثاني يخاطب الخارج، بحيث يبدو وكأنه محاولة لملء بيانات «استمارة« الاصلاح. على نحو يوحي بأنه استيفاء لاستحقاقاتها، لتقديمها الى من يهمه الأمر. في الوقت الذي تظل الأوضاع المطلوب تغييرها مستمرة كما كانت، دون ادنى تغيير.
(4) لقد تعامل البعض مع عنوان الاصلاح السياسي باعتباره «صرعة« الموسم، تم الترويج لها بعدما جرى في 11 سبتمبر. حيث قامت الآلة الدعائية الأمريكية بتبني تلك الدعوة وتسويغها لأسباب ليست خافية. ولعله في ذلك اشبه بصرعة «التعددية« التي اطلقت عقب انهيار سور برلين في اوائل التسعينيات، وما استتبعه من سقوط الأنظمة الشيوعية في أوروبا الشرقية وانهيار الامبراطورية السوفيتية. آنذاك - لعلك تذكر - ظلت التصريحات السياسية والأبواق الإعلامية تطنطن بشعار التعددية التي اعتبروها فريضة الوقت وتأشيرة الانخراط في مسيرة التاريخ. لأن الريح كانت قوية آنذاك، فقد كان من الصعب معاندتها او اغلاق الأبواب دونها. كما ان الولايات المتحدة لم يكن لها فضل فيما جرى، ولذلك كان متعذرا اتهام دعاة التعددية بأنهم متأمركون. ولذلك تراوحت المواقف إزاءها بين مستويين اثنين. فمن ناحية حاولت بعض دول العالم الثالث ان تنخرط في المسيرة الجديدة. ففتحت الباب للتعددية السياسية، وأجرت في ظلها انتخابات برلمانية، اسفرت عن انهاء احتكار السلطة وميلاد انظمة جديدة (وهو ما حدث في بعض الدول الافريقية). وتبنت دول أخرى نهج الالتفاف والاحتيال، فسمحت بقيام عدة احزاب سياسية، ووضعت لذلك شروطا مكنتها من التحكم في الإجازة والمنع. الأمر الذي مكنها من الامساك بمفاتيح شرعية الحراك السياسي. واجرت انتخابات عامة (كانت نتائجها معروفة سلفا). حتى بدا أمام العيان انها استوفت الاشتراطات اللازمة للانخراط في «الصراعات« السائدة، في حين ان كل ما فعلته انها غيرت من «ديكور« المسرح السياسي، وقدمت ذات الفيلم القديم بإخراج جديد. من ثم فقد بقيت العناصر الأساسية في المشهد - احتكار السلطة بوجه اخص - دون ادنى تغيير! ومازلت اذكر ان الابواق الاعلامية في إحدى دول المغرب العربي ذهبت الى ابعد من ذلك. فقد عمدت آنذاك الى المزايدة على الجميع، قائلة ان النظام القائم سبق الجميع الى فكرة التعددية، وانها في حقيقة الأمر «ولدت في بلادنا«.ولست انسى انني كنت وقتذاك في زيارة لإحدى الدول الخليجية، وذهبت الى صلاة الجمعة، فوجدت الخطيب يقرأ خطبته من ورقة مكتوبة (علمت لاحقا ان الخطبة تعدها الوزارة المعنية ثم توزعها على جميع المساجد)، ولفت نظري انه تطرق الى التعددية مشيدا بها، لكني فوجئت بأنه كان يقصد تعدد الزوجات.
(5) ان معاندة الإصلاح السياسي والتملص منه قد تمر لبعض الوقت، رغم انها بمثابة معاندة لحركة التاريخ تحاول إيقاف عجلته، لكن ذلك موقف يتعذر احتماله او استمراره طوال الوقت. بل انه ليس في مصلحة استمرار الأوضاع القائمة ذاتها. وقد رأينا في النموذج العراقي الثمن الباهظ الذي دفعه النظام حين تخلى عنه المجتمع ووقف صامتا - وشامتا أحيانا - وهو يراه يتهاوى ويندثر. أما الالتفاف حول الاصلاح السياسي بتفريغه من مضمونه او بالقفز فوق اصوله والتركيز على افرازاته وفروعه، فهو خطر من نواح عدة. اولها انه يعمق من أزمة الثقة بين السلطة والمجتمع الذي لن تفوته المفارقة بين ما يسمع وما يرى على أرض الواقع، وثانيها انه يدفع السلطة الى زيادة الاعتماد على الخارج دون الداخل. اذ طالما ان التجمل واسترضاء الخارج هو الهدف، فإن «القبلة« في هذه الحالة ستختلف جذريا، بحيث يغدو الخارج في هذه الحالة هو سند البقاء والانصياع ومصدر الشرعية. أما ثالثة تلك الأخطار فهي ان التطلع الى الخارج من شأنه ان يرتب التزاما تلقائيا بأجندته واهتماماته، الأمر الذي يحدث خللا في اولويات العمل الوطني، بحيث تتراجع هموم المجتمع الحقيقية (الفقر والأمية والتخلف مثلا) وتتقدم مقتضيات التجمل ومحاولات الاسترضاء لاستيفاء القائمة الطويلة من شرائط القبول والاعتماد. وذلك كله ليس قدرا مكتوبا، لكنه اختيار.
ضوابط المشاركة
- لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
- لا تستطيع الرد على المواضيع
- لا تستطيع إرفاق ملفات
- لا تستطيع تعديل مشاركاتك
-
قوانين المنتدى
|
 |