بيريزهم

Gmt 200 2007 الإثنين 5 فبراير


الشرق الاوسط اللندنية



مأمون فندي

شيمعون بيريز، الذي زار الدوحة الأسبوع الفائت، هو شيمعون بيريز ذاته، بشحمه ولحمه، الذي قام بحرب «عناقيد الغضب» ضد لبنان في ابريل (نيسان) عام 1996.

سيمور هيرش، الصحافي الأميركي اليهودي في مجلة «النيوركر»، الذي كان المصريون القومجيون ينتقدونه على أنه صهيوني مناصر لإسرائيل، هو سيمور هيرش ذاته الذي دعته مؤسسة هيكل للصحافة لتدريب الصحافيين المصريين، فأصبح فجأة في عيون القومجيين في القاهرة نصيرا للقضايا العربية.

الطائرات الأميركية، التي تقاتل في سماء العراق وتلعن صباح مساء، هي الطائرات الأميركية ذاتها التي تنطلق من قاعدة العديد في قطر. فكيف تكون طائرات صديقة في سماء قطر، وما ان تعبر الخط الفضائي الوهمي للحدود في سماء العراق حتى تصبح طائرات إمبريالية معادية؟!

عزمي بشارة، المواطن الإسرائيلي وعضو الكنيست، الذي أقسم مرتين على ولائه لدولة إسرائيل، هو بطل عروبي مقاوم، بينما الوزير العربي في اسرائيل غالب مجادلة، وهو إسرائيلي أيضا، يخوّن دونما تردد. فكيف يصنف من هو إسرائيلي بحكم القسم والقانون على أنه عروبي مقاوم أو على أنه خائن؟ أم أن للمواطنة الإسرائيلية خطا وهميا أيضا، مثل الخط الوهمي الذي تعبره الطائرات الأميركية من قطر إلى العراق؟!

إشكاليات المواطنة، التي تخلقها ازدواجية الجنسية في المثال السابق، تنطبق على كثير من الصحافيين ومقدمي البرامج العرب، الذين يحملون جنسيتين، حتى على بعض وزراء الدول العربية، الجميع هنا بلا استثناء، أدوا قسم الولاء والعهد على المواطنة الصالحة أمام أعلام دولهم الجديدة، التي اختاروا الانتماء إليها بملء إرادتهم، فكيف يخوّن مثلا مقدم برنامج يحمل الجنسية البريطانية أو الأميركية، ضيفه إذا ما أعلن هذا الضيف موقفا مواليا لبريطانيا أو أميركا، ومغايرا للتيار التعبوي الذي تنتهجه قناة المقدم؟ ترى هل نستطيع بدورنا كمشاهدين أن نقول ان المقدم خائن للقسم والدولة التي سعى جاهدا بلا شك للحصول على جنسيتها؟ أهي ازدواجية في الجنسية أم ازدواجية في الشخصية؟

من هم المتحكمون بهذه الخطوط الوهمية التي تبرر وتدين، تكرم وتخون، تبرئ وتجرم، تقاطع وتستضيف، تمانع ولا تمانع...؟ من هم المتحكمون في جعلنا نقبل زيارة بيريز إلى عاصمة عربية واستقباله هناك كصديق حميم، ونقيم الدنيا ولا نقعدها لمجرد شائعات تحدثت عن لقاءات عربية ـ إسرائيلية بغرض التفاوض؟ من هم المتحكمون في جعلنا نرى سيمون هيرش صهيونيا مرة، ومناصرا للعرب مرة أخرى؟ من هم المتحكمون في جعلنا نصدق أن طائرة أميركية محملة بالقنابل تكون صديقة على جانب وهمي من الحدود في دولة عربية وعدوة في الجانب الآخر لدولة عربية أخرى؟ من هم المتحكمون في جعلنا نصفق للأمير، الذي يعطي بيد من سخاء للمقاومة الإسلامية في جنوب لبنان، ويصافح باليد الأخرى، بسخاء أيضا، عدو هذه المقاومة؟ من هم المتحكمون في إصدار صكوك الوطنية والتخوين، حتى قبلنا أن نعلق على صدر عضو الكنيست الإسرائيلي بشارة وسام الوطنية، ونرجم الوزير الإسرائيلي مجادلة بحجارة التخوين؟

هؤلاء المتحكمون، الذين صنعوا الخطوط الوهمية، التي تصنف وتقيم الأفراد والأحداث والجماعات والدول وفق مصالحهم، تحركهم ثلاثة عوامل أساسية: غياب المعايير المحددة والصارمة، والعلاقة بين الميليشيات الإعلامية وميليشيات القتل، وآيديولوجية الاصطفاء.

في العالم العربي اليوم نفتقر إلى المؤسسات العلمية، التي تضع المعايير الصارمة، التي تقيم الدرجات العلمية. وبغياب مؤسسات كهذه، توزع الشهادات العليا من (دكتوراه وانت نازل) على الناصية، فتفرض على دنيانا العلمية والثقافية وجوها غير مؤهلة، وليست لدي مشكلة في الشهادات التي لا تخضع للمعايير العالمية المحترمة، ولكن أن يخلع برنامج فضائي على «واحد خالي شغل» درجة علمية عالية، فهذا خطر جدا، لأن شرعية المعرفة تتأتى من الثقة التي يضعها المشاهد في القناة، فالمشاهد مقتنع بأن صاحب «الدكتوراه العرفي» يمتلك من المعرفة والمعلومات ما يجب تصديقه، لأن القناة اختارت هذا الشخص، بل وسيتكرر وجهه في أكثر من برنامج وأكثر من مؤتمر. الشهادة المزيفة والتكرار يمنحان هؤلاء الضيوف الدائمين أو العاملين في المنابر الإعلامية ثقلا زائفا وسلطة معرفية ستشكل الوعي العام، وهنا تكمن المصيبة.

العامل الثاني هو العلاقة التكاملية بين الميليشيات الإعلامية والميليشيات التي على الأرض، فصاحب الرأي المختلف، فردا كان أو جماعة أو دولة، تشوه صورته إعلاميا أولا، فهو كافر أو خائن أو الاثنان معا، حسب التوجه الآيديولوجي للميليشيا الإعلامية.. ويواجه إرهابا إعلاميا بكل معنى الكلمة، إرهابا يخلق جوا من العدوانية تجاه هذا الآخر (الفرد، الجماعة، الدولة)، ويمهد بتحريض بطيء ومستمر لموته غير المعلن (خلافا لرواية ماركيز الشهيرة). ولا أرى قتل فرج فودة، وطعن نجيب محفوظ، واختفاء رضا هلال، وإثارة القلاقل والفتن في دول مستقرة، إلا ضمن هذه العلاقة التكاملية بين الميليشيات الإعلامية التي تكفر وتخون وتبرر للميليشيات التي على الأرض القتل.

أما آيديولوجية الاصطفاء، فهي قريبة من عقلية الاختيار في العقيدة اليهودية التي يصطفي فيها الرب قومه، وبالضرورة في ثنائية الرب ـ الشيطان، سيكون الآخرون من نصيب الشيطان، لذلك لا تجد جماعة الرب غضاضة في قتل جماعة الشيطان. وهذا ما اتفق عليه علميا على أنه «العنف الثقافي». عقلية الاصطفاء أيضا هي عقلية جورج بوش: (إما معنا أو مع الإرهاب)، التي تبنتها الميليشيات الإعلامية في العالم العربي، فأصبح شعارها: (إما معنا أو مع الأميركان)، وبالنتيجة وفقا لهذا الشعار، تكون الدول المعتدلة مع الأميركان، ويكون المثقفون المعتدلون مع الأميركان أيضا.. فيقال ان الكاتب الفلاني أميركي، ولا يقال ان عزمي بشارة إسرائيلي!

آيديولوجية الاصطفاء تفرز تبريرات تناسبها على الدوام، فينتقل بيريز من خانة «مجرم حرب» إلى خانة الصديق.. ويفرز المال اللبناني إلى مال نظيف ومال ملوث.. وتحلق الطائرة الأميركية وفق خط الاصطفاء الوهمي متأرجحة بين الترحيب بها كطائرة مسالمة جاءت لحمايتنا وبين إدانتها كجزء من عالم الإجرام الدولي الذي جاء لتقويضنا.

ورغم أن إعلام الاصطفاء نجح في المراوغة في فرز العالم بين خانتين: معنا أو مع الأميركان، إلا أنه يجد نفسه أحيانا محاصرا ومتورطا بمواقف تستدعي أسئلة محرجة، كسؤال وجهه وليد جنبلاط في برنامج حواري في إحدى قنوات الاصطفاء، حول ما هو موقف المقاومة الإسلامية في جنوب لبنان من «أمير المقاومة» الذي استقبل بيريز بحفاوة؟.. الزعيم الدرزي ما زال ينتظر الإجابة، ونحن معه في الانتظار. فهل سيجيبنا إعلام الاصطفاء أم سيخرج لنا بحيلة أخرى تقول ان بيريزهم (أي بيريز الدوحة)، هو غير بيريز عناقيد الغضب؟!