من وحي التفكر: العقل الإيماني الإسلامي...بين حكم الأغبياء و سجن الأذكياء

المهندس غريبي مراد عبد الملك * - « شبكة والفجر الثقافية » - 17 / 3 / 2007م - 6:19 ص
من المآثر في كتاب طبائع الإستبداد: «العافية المفقودة هي الحرية السياسية...و مهرها كثرة الطلاب»

لا داعي للاستفسار: من هم الأغبياء و من يكون الأذكياء ؟ لأنك تعرفهم و تتعامل معهم و تسمع عنهم و تراهم في الفضائيات و في الشارع و تزورهم في المعتقلات و في المصحات العقلية، إنهم صنفان من الناس فيصلهم هو العقل الذي يفكر الناس به في كل تفاصيل حياتهم، لكن قليل منهم من يعلم قيمة العقل عندما يرتبط بالإيمان لينتج قيمة العدالة التي تحكم الذكي و تعقلن الغبي...

هذه المعادلة المفاهيمية، هي وجيز الواقع العربي الإسلامي، حيث في تاريخنا العربي الإسلامي ككل إلا ما عفا الله عنه، شهد تلازما بين الحكم و الجنون و صراعا بين الأغبياء و الأذكياء ، فآل مصير الأمة العربية الإسلامية فيما يخص الرشد السياسي إلى معانقة الاستكبار و الرضا بالضلال و محاربة الهدى و الحق، قد يبدو أنني بالغت في الوصف لكن شهد شهود من أهلنا، بأن العقل الإيماني في التاريخ السياسي العربي الإسلامي لم يشع نوره بعد النبي الأكرم إلا مرات لكنه كان باهتا لأن الأهواء كانت قد تلقفت الأمة بقبضة من حديد لتجعلها إمبراطورية قتل الأذكياء و تحكيم الأغبياء، و هذه المعادلة فيها صراع بين العلم و الجهل أساسا، حيث إشكالية الواقع العربي الإسلامي ليست الثروات أو القوة البشرية و لكنها الصدام بين العلم و الجهل في قبال الحكم ...
هكذا ننتهي إلى أن المأزق العربي و الإسلامي مرهون بإعادة الديكور العام إلى أصالته، هذا بتصور عام و شامل و لكن تفصيلا و إبتداءا الإنسان العربي المسلم بحاجة لإستجمام إنساني بالمعنى الذي يختزن القيمة العقلائية الدالة على الإنسانية فيه و هذا ما يستتبعه التخطيط لتنمية ثقافية عادلة مكفولة بالمثقف الديني التقي النقي المنفتح على مفاهيم الحق و العدل و السلم و الإصلاح و التجديد و الإنسانية و السلام و الثورة الصالحة و الشهادة الخالدة، و المرتكزة بدقة على الفكر الإسلامي و الخطاب الإسلامي و العمل الإسلامي و الإنجاز الإسلامي ...الرشيد، العارف بمسؤوليته في ظل هذا الغباء السياسي المعطل لحركية الإجتماع العربي الإسلامي.

ولكننا أيضا، عبثاً نحاول الخلاص من حكم الأغبياء دون إطلاق الأذكياء من سجن الجنون. لأننا سنزداد التباساً كلما حاولنا التفكير بالخلاص أو الإمساك بمقوماته. لأن إنساننا العربي المسلم لا يعرف أين هو سجن الأذكياء ؟ أهو في الماضي حيث شيد وتشكل ثم ترمم، وعندئذ ينبغي أن يعود إلى الماضي حتى تعود الأمور إلى نصابها أم هو في الحاضر ؟ وإذا كان في المستقبل؟ كيف نستطيع فتح زنزاناته؟

ثم إن مفتاح زنزانات «سجن الأذكياء» ليس مفتاح كمفاتيح الأبواب المادية( الحديدية أو الخشبية)، حيث من الصعوبة والتعقيد والمشاكلة تحصيله، لأنه بالغ التنوع في دلالاته ورمزياته. وهذا ما ينفي الطرح التبسيطي الذي يتم تداوله لمفهوم الإصلاح و الخلاص في المخيال العربي الإسلامي المعاصر. و العربي المسلم حديثا، لم يستطع التعرف على مفتاح حرية الذكاء نتيجة فقدانه لروحانية الزمن الإسلامي مع استغراقه في هوامش الزمن العربي...

إنه العقل الإيماني الحامل لروحانية الزمن الإسلامي الضامن للذكي حقه و الرفيق بالغبي المقهور و القاهر للغبي الغوي، هو سبيل الخلاص من حكم الأغبياء ...

رحم الله المصلح عبد الرحمن الكواكبي حين كتب في كتابه طبائع الإستبداد :"و أنت أيها الشرق الفخيم رعاك الله، ماذا دهاك؟ ماذا أقعدك عن مسراك ؟أليست تلك الأرض ذات الجنان والأفنان، ومنبت العلم و العرفان، و سماؤك تلك السماء مصدر الأنوار، ومهبط الحكمة و الأديان، و هواؤك ذاك النسيم المعتدل، لا العواصف والضباب، و ماؤك ذاك العذب الغدق ، لا الكدر و لا الأجاج؟...رعاك الله يا شرق ... ماذا أصابك فأخل نظامك، و الدهر ذاك الدهر ما غير وضعك و لا بدل شرعه فيك؟ ألم تزل مناطقك هي المعتدلة، و بنوك هم الفائقون فطرة و عددا؟ أليس نظام الله فيك على عهده الأول، و رابطة الأديان في بنيك محكمة قويمة، مؤسسة على عبادة الصانع الوازغ. أليست معرفة المنعم حقيقة راهنة أشرقت فيك شمسها، و أيدت بها عز النفس، و احكم بها حب الوطن و حب الجنس ؟...رعاك الله يا شرق، ماذا عراك و سكن فيك الحراك؟"[1]

في نفس السياق ،ربما يكون من الضروري التأكيد، أنّ مفهوم العقل الإيماني التي قد نأخذه كمفهوم توفيقي للتعامل مع الظاهرة العربية الإسلامية المعاصرة هو غير ما ذهب إليه ياسر جاسم قاسم، حيث نختلف معه في المدخلية المنهجية لتحليل الظاهرة الدينية و في درجة انسجامها و تعاملها مع الأزمات و صياغتها للحلول و النهوض بالتنمية كمفهوم ذا أفق ايجابي شامل، ناهيك عن النسبية في العلاقة بين العقل الإيماني الإسلامي و ظاهرة العنف .

إنَّ القضية التي حاولت مناقشتها باقتضاب و معالجتها في هذه المداخلة السريعة، هي أنّه من الضروري للذكاء الإسلامي، أن يؤسس مشروع إسلامي شامل يرتكز على عقل إيماني منفتح، بحيث يملك القائمون عليه وضوح رؤية الواقع والأشياء، فلا تكون الدوغمائية الإسلامية مغلقة و مشتتة في مواجهتها للغباء و الجهل السياسي الضاغطٍ و المستبد بالواقع العربي الإسلامي. إنني أعتقد أنَّ التوازن في التفكير الإسلامي، بين ما هو امني وسياسي، وما هو فكري وثقافي، هو الذي يضع هذا التفكير في إطاره الصحيح...

بالكاد إلى الآن لم أستعرض حقيقة إشكالية الظاهرة العربية الإسلامية، ولم أتبيّن ماهية تحليلها بعمق، وإنما ألمحت فقط إلى أصل الأزمة.. حيث تحرير الأذكياء من سجن الأغبياء يحتاج منا...تأصيلا لمفهوم العقل الإيماني المفقود في التفكير العربي الإسلامي المعاصر...

[1] طبائع الإستبداد و مصارع الاستعباد ص158، عبد الرحمن الكواكبي ، دار النفائس2003 .
باحث و كاتب إسلامي جزائري