الشخصية العراقية بين أغنية البرتقالة وذبح الرهائن

كتابات - سلمان الشمس

من يذهب الي الباب الشرقي، يستوقفه منظر محير، فثمة (جنابر) تبيع أقراص أغاني البرتقالة والرمانة.. أجساد ملونة ملتهبة تتلوي بفرح غامر وأثواب زاهية وموسيقي راقصة، والي الجوار (جنابر) أخري تبيع أقراصاً تصور ذبح الرهائن تصويراً كاملاً لعملية النحر وقص الرأس وقطرات الدم ورجفات الحياة الأخيرة وصرخة الأم المفجوعة تدوي من بعيد وذهول طفلة ظلت تنتظر عودة أبيها وقت الغروب.. مالذي يتملكك في تلك اللحظة؟ هل ترقص مع البرتقالة أم تشيح بوجهك بعيدا، مخيفاً رغبة عارمة بالبكاء؟.. ذاته الشخص الذي اشتري قرصا للأغاني قد يشتري قرصا يصور عملية الذبح.. يعود الي بيته المصون حاملا دما ولحنا.. أي تركيبة مزدوجة هذه؟

وبعد هذا ما معني أن نكون (خوش ولد) وولد عشائر، واصحاب حضارة عمرها خمسة الاف سنة، ما معني التبجح بالطيبة والنخوة والشهامة، الي متي هذا الإصرار علي لغة التوافق والتراضي؟ أليس مكاشفة المريض بعلله أجدي نفعا من السكوت والتغاضي؟ من يقوم بهذه المكاشفة اذا كان المثقف والاكاديمي وذوو الاختصاص لاهين بسارتر والحداثة، يغذون نرجسيتهم علي (تخوتة) مقهي الشابندر..؟ وبعد هذا كله ما قيمة رحيل صدام اذا كان كل واحد يحمل صداما بداخله؟.. ألم يتسبب نظام صدام في تعميم أنماط معينة من السلوك، ظلت سائدة حتي بعد اختفائه؟.. كيف لنا أن نفسر كل عمليات السلب والنهب والخطف والقتل وتفشي الرشوة والمحسوبية علي أعلي المستويات؟.. هل استطاعت الأطراف المعارضة سابقا، والتي بدأت تتولي المناصب الآن، التخلص من أسر السلوك الصدامي أم أنها تكرره الآن بالتحيز للطائفة وتقريب الأهل والأحبة؟.. لماذا ظل أخيار صدام هم أخيار العهد الجديد.. ومقاولو صدام هم مقاولو إعادة الأعمار.. ومديرو صدام هم أصحاب القول والفصل؟.. بعدما نجحوا بركوب الموجة والانتماء الي أحد أحزاب السوبر ستار.. وظل من همش في زمن صدام مهمشا يبحث عن لقمة العيش؟

أية قيمة للحكم علي صدام وأنت تواجهه كل يوم عشرات المرات مع الشرطي مع القاضي مع الطبيب أو سائق الأجرة.. أليس من الأفضل مكاشفة الشعب العراقي بعلله وعيوبه بدلا من اللهجة التوافقية السائدة في وسائل اعلامنا بأننا شعب طيب وأن من يسرق ويقتل هو نفر ضال وأننا شعب عمره خمسة الاف سنة وأن أمهاتنا خير من يعد التشريب والباميا؟.. ما الذي حدث حقا؟ كيف يستمتع انسان بلحن أغنية ومناظر الذبح سوية؟ ما الذي حدث للنفس المطمئنة التي تمارس الطقوس الدينية اليوم حتي تسرق غدا؟ كيف لك أن تكون مناضلا حين تكون بخيلا علي مدينتك بحملة تنظيف؟ ما الذي جري؟ لسنا مؤهلين للاجابة عن كل هذه الأسئلة، ولكنها محاولة للمكاشفة والمصارحة، محاولة لتجاوز عقدة الخوف والمجاملة.



المسخ والتشويه

يتعرض الانسان في ظل الأنظمة التسلطية الي نوع من المسخ والتشويه.. هذا المسخ والتشويه يأتي من روافد عدة من الضغوط النفسية الهائلة التي يتعرض لها المواطن في ظل الأنظمة الدكتاتورية.. الخوف من المرض من البطالة من الشرطي.. كل هذه وغيرها ضغوط نفسية يتعرض لها المواطن بشكل يومي متواصل، هذه الضغوط تأخذ شكلا تراتيبيا، من فوق الي أسفل، رأس الهرم يضغط ويضطهد الوزير، الوزير يضغط علي المدير العام، المدير علي الموظف.. سلسلة من الاضطهاد والاستعباد تلف نسيج المجتمع بشكل درامي حتي نصل الي أضعف حلقة في هذه السلسلة، المواطن البسيط الذي لا يجد، ربما، أحدا يضطهده ويفرغ عليه آلامه المكبوتة غير أفراد اسرته..

في ظل الدكتاتورية

طالما الدكتاتور في سدة الحكم يعمد قسم من الناس الي الانكفاء نحو الذات والابتعاد عن السلطة ورموزها.. اللهم ابعدنا عن الحاكم والحكيم.. بهذا الدعاء يبدأ يومهم وينتهي.. بينما يميل أغلب الناس الي التماهي وتقليد الحاكم في أسلوب معيشته وكلامه والفاظه وحتي طريقة مشيته.. مظاهر التماهي متعددة ومجالاته متنوعة نجدها لدي كل من سنحت لديه الفرصة كي يمارس سلطة علي أناس دونه أو أضعف منه وهي في أبسط مظاهرها تبدأ بذلك التعالي الذي يمارسه الفقير تجاه الأفقر منه والبائس تجاه من هو أشد بؤسا. علي مستوي الادارة نجد الموظف يتعالي علي من هم دونه وعلي الناس، الخدمات التي يقدمها الي المواطن تعتبر منة وليس واجبا تمليه عليه وظيفته، علي مستوي ممارسة السلطة (الشرطة والأمن) يتخذ تقليد الحاكم أفصح صوره.. الشرطي يتعالي ويشتط علي المواطن البائس بينما يرضخ لصاحب الجاه.. يتحول الشرطي الذي كان مستضعفا ومقهورا قبل دخوله سلك الشرطة من انسان مهدد الي انسان مستبد يصب كل حقده المتراكم علي الناس المستضعفين في حالة تامة من التنكر لانتمائه الأصلي أنه يفرض القهر ويمارس المهانة بنفس القدر الذي عاني منه سابقا.. التماهي مع الدكتاتور يمتد الي الملبس وطريقة المشي حتي لهجة الدكتاتور.. ولأن خطاب الدكتاتور كذب ونفاق ووعود معسولة بالتقدم والرفاه والعزة والكرامة.. الدكتاتور يكذب والجماهير تكذب وتخادع حين تدعي الولاء والاخلاص.. الكذب المتبادل بين الحاكم والمواطن يعمم علي كل العلاقات، كذب في الحب والزواج، كذب في الصداقة.. في ادعاء الرجولة.. في المعرفة.. كذب في الايمان. مثلما يكذب المسؤول علي المواطن، يكذب رجل الشرطي حين يدعي حرصه علي تطبيق النظام ومثلهم يكذب التاجر علي الزبون فتتحول التجارة الي براعة وشطارة في الاستغلال.. هكذا يتحول عالم الديكتاتورية الي عالم زيف وتضليل ويصبح لزاما علي كل واحد أن يلعب اللعبة وويل لذي النية الطيبة. يتحول كل مواطن، حسب الفرصة المتاحة، الي ديكتاتور صغير.. في بيته في عمله في علاقاته.. لم يعد هناك صدام واحد، كل شخص يحمل في داخله صداما.

من رحم هذا النسيج المخلخل يلد المعارض، ولطول الصراع مع الديكتاتور فان المعارض (وبدون وعي) لا يجد أمامه نموذجا سلوكيا غير نموذج الدكتاتور وتجاوزاته العديدة لذلك نجده يكرر نفس علاقات التبعية والتزلف والتعالي والوساطة والتحيز للطائفة والعشيرة وذوي القربي.. إنه لا يكاد يقتنع في دخيلة نفسه بشعارات العدالة والمساواة والديمقراطية التي ينادي بها، نري دليلا علي ذلك في رغبة المعارض في أن يحيي حياة الديكتاتور من حيث الترف ومظاهر الوجاهة ووسائل الرفاه كلما سنحت الفرصة لذلك. حتي مكاتب الأحزاب هي نسخ معدلة لمكاتب حزب البعث الصدامي، ومثلما كان المواطن يمر بمكاتب حزب البعث خائفا، يمر الآن بمكاتب الأحزاب وكأنها سفارات أجنبية لا تعنيه من قريب أو بعيد.. ولو كانت هذه الأحزاب قريبة من المواطن بعيدة عن الشعارت وقامت مثلا بحملات تنظيف أو حملات لتنظيم المرور أو غير ذلك لوجدت نفسها في حال أفضل ولتقلصت الهوة التي تفصلها عن الناس.

أن شيوع التماهي (التقليد) بالمتسلط سلوكيا ونفسيا يحمل أشد الأخطار علي عملية التغيير الاجتماعي، إنه ايديولوجية مضادة تماما، فبدلا من تقويض العلاقات السابقة (السيد ــ التابع) واحلال الأخاء نلاحظ بروز سادة جدد ومتسلطين جدد..



في غياب الدكتاتورية

لحظة سقوط الدكتاتورية، ستشهد تفجرا مذهلا للعدوانية المتراكمة التي سبق الحديث عنها ويأخذ الأمر شكل الاستباحة الكاملة للممتلكات العامة وممتلكات الآخرين.. كل شيء ملك صدام، حين يهاجم ويخرب المواطن الممتلكات العامة فإنه يهاجم رموز المتسلط، المواطن في ظل التسلط يشعر بالغربة في بلده، فهو لا يملك شيئا، كل شيء هو ملك السلطة، حتي الخدمات اذا قدمت له تقدم كمنة أو فضل أو مكرمة.. هل أحس المواطن في عهد صدام أن عمود الكهرباء أو الرصيف ملكه؟ في غياب السلطة يحس المواطن المقهور أن له الحق في التعويض عما أصابه من حيف مزمن.. إنه السلوك ذاته الذي كان يمارسه الدكتاتور وأعوانه من قبل.. إن بنية المجتمع في ظل الدكتاتورية تقوم أساسا علي السلب والنهب.



عورات المجتمع والفرد والأحزاب

لقد كشف سقوط الدكتاتورية عن عورات المجتمع والفرد والأحزاب والسياسات.. دونما استثناء بل كشف عن عمق التشوه الذي أصاب المجتمع العراقي.. كنا نمتلك أخلاقيات محددة، سائق الأجرة، التاجر، الموظف.. لكل من هؤلاء وغيرهم كانت هناك أخلاقية وطريقة معينة للتعامل مع المواطن.. هذه الأخلاقيات لم يعد لها وجود.. الأخلاق الصدامية هي الشائعة كل حسب موقعه. نحن هنا لا نريد أن نطلق أحكاما نهائية، ولكن لا أحد يستطيع أن ينكر أننا ازاء شخصية عراقية انتهازية، وصولية، قاسية، عنيفة، أنانية، مرعوبة وقصيرة النظر.. هذه حقيقة تتطلب الرجوع الي علي الوردي، تتطلب من الكتاب والباحثين ترك أبراجهم العاجية.. تتطلب من وسائل الاعلام والفضائيات التي تتحدث بنكهة عراقية خصوصا مكاشفة ومصارحة المواطن بحقيقة ما يعانيه وأن تبتعد عن المجاملة سوف لن يمثل هذا أية اساءة للكبرياء الوطنية بقدر ما يمثل محاولة لوضع اليد علي الجرح لعلنا نشفي..

القران الكريم وصف الانسان بالظلم طبعا كلا حسب سطوته اللهم لا تسلط علينا من لا يرحمنا...

( إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا)