نشرت جريدة الشرق الاوسط مقالا بقلم :


جابر حبيب جابر

«العائدون من العراق» أو «العراقيون العرب» اياً كانت التسمية التي سيستقر عليها المتخصصون في الجماعات الاسلامية فان انظمة المنطقة ومجتمعاتها ستنسيها يقيناً الظاهرة الجديدة ظاهرة الافغان العرب، فإذا كانت تلك حدثت في منطقة نائية وقصية جغرافياً ومتمايزة حضارياً ومختلفة لغوياً وفقيرة مادياً، فان الموجة الجديدة تحدث في بلد مفصلي وفي قلب المنطقة مندمج مع جواره حضارياً ومتماثل قيمياً وممتد عشائرياً، لا يعيقه حاجز اللغة، الامر الذي يسهل من عملية التنقل والاختفاء والتأثر والتأثير والتنافذ في الافكار، بلد يتوافر على موارد مالية كبيرة تسمح بالتمويل الذاتي لا بل انه بات وفقاً لبعض التقارير يمول فروع القاعدة الدولية، فضلاً عن ان هذه الموجة نشأت وتتحرك في بيئة حاضنة وملاذات آمنة شاسعة جغرافياً وكبيرة سكانياً حجمها يقارب دولة عربية متوسطة.


لا ريب ان العراق اجلاً ام عاجلاً لابد من ان يتجه الى واحد من السيناريوهات التالية، والتي عند اي منها فان فكر ومقاتلي الجماعات الجهادية سيرتد على دول المنطقة حيث ستنتشر ظاهرة وتكتيكات وعقائد المحاربين فيه الى مناطق تبدأ من جواره ولا تنتهي بأوساط الجاليات المسلمة في اوروبا، فالعراق بعد زمن ليس بالقصير سيتجه الى الاستقرار وبسط سيطرة الحكومة المركزية على كامل اقليمها والذي سيفضي اليه عامل الزمن والتراكم بازدياد قدرة وسلطات القوات العراقية وتململ البيئة الحاضنة وانقلاب عشائرها ولفظها للجماعات المسلحة ولمنهجها، فان ذلك سيدفع الجماعات الارهابية باتجاه الهجرة الجماعية.

والسيناريو الثاني، ان يتحول العراق الى دولة فاشلة مفككة بسلطة مركزية هشة وضعيفة وبامراء حرب وإرهاب وميليشيات يقتسمون النفوذ والموارد مناطقياً، عندئذ ستتحول البلاد الى بؤرة للعنف والإرهاب وجنة آمنة ودولة قاعدة ومنصة انطلاق لقوى التطرف. والاحتمال الثالث الذي ارجحه هو ان تظل حالة العراق وسطية بين المشهدين السابقين، اي تنامي قدرة وسلطة الدولة من دون ان تصل الى تصنيف الدول المستقرة، وسيكون قدرها ان تتعايش مع حد معين من عمليات الارهاب وبقاء مزمن لجيوب متفرقة عصية على يد وسلطة الدولة بما يماثل معدلات العنف التي مرت بها الجزائر وكولومبيا وغواتيمالا والبيرو وسيريلانكا والسودان.

والرابع هو اتجاه العراق نحو الفيدراليات التي ستكون غالباً حدودها متطابقة مع حدود المكونات المجتمعية والتي ستتشكل ليس استجابة بدرجة اساس لدواعي ادارية بل كحل أخير لا مفر منه لمشكل العنف المزمن الذي من اهم مسبباته العجز عن التشارك في السلطة، لذلك يعود المخرج بتجزئتها بما يجعل كل اقليم يحكم من اهله، وهذا ما سيحرم تنظيم القاعدة بالقطع من التحرك او الوجود في ساحة اقاليم الوسط والجنوب وكردستان نظراً للتناقض المجتمعي والأيديولوجي والسياسي فعند ذاك ستحكم القاعدة وحلفاؤها من قوى التشدد قبضتها على مناطق تواجدها التقليدي في غرب العراق وشمال وسطه، وهي مناطق مثلت تربة خصبة لأفكارها والتي ستكون بحدودها المفتوحة على اربع من دول جوار العراق كثقوب الجبنة لتسلل الارهابيين وقاعدة خلفية لهم.

الا ان المعول عليه ان تشكل ظاهرة فتح الاسلام، والتي مر خمسون من مقاتليها من العراق وتدربوا على قتال الجيش اللبناني فيه، جرس انذار وعلامة بارزة على هذا الانتشار العكسي لمحاربي وفكر القاعدة، والتي استغلت هشاشة الوضع اللبناني والتقاطعات السياسية العميقة فيه وما تتيحه الديمقراطية من ثغرات وما تفرضه من كوابح وتكبيلات على نوع ومدى وسرعة المعالجات، كما استغلت وجود الوكلاء المحليين الجاهزين للتوظيف الاقليمي. هذه المجموعة التي نقلت نماذج مصغرة وبسيطة لما تلقته وما طبقته في مختبرات العراق الارهابية من تقنيات ومهارات وتكتيكات واستخدام الوسائل الالكترونية للتعبئة والإرشاد والتوجيه والتدريب، ناقلة فكرها وأسلوبها المستهدف تعطيل وتقويض آليات انتظام الحياة، ومعممة منهجاً اصولياً ظلامياً متطرفاً لاغياً ليس لرأي الاخر المختلف بل حتى لوجوده هادفة لصياغة مجتمع وفقاً لمشيئتها.

فهل كانت انظمة المنطقة ممن اسندت الارهاب او تواطأت بالسكوت غير مستشعرة لخطر هذه الظاهرة أو الممكنات المرجحة لارتدادها عليها وبأن يصبح العراق بيئة مصدرة للارهاب وحافزاً لخلق فوضى اقليمية تنتعش وتتكاثر فيها الاصوليات العنفية المتشددة، ام ان ذاكرتها مثقوبة ونسيت تجربة العائدين من افغانستان، أم ان هذه الظاهرة اوجدت ووظفت كورقة من بعض دول الاقليم او مثلت مسرباً للتخلص من جماعات العنف عندها بإيجاد ساحات جهاد بعيدة تستنزفهم، او انها اضطرت لذلك لممالئة شارع مأزوم كاره للامريكان وخشية من استثارة القوى الدينية عندها، الامر الذي دفعها لمعيارية مزدوجة فاضحة موصفة ما يجري في العراق جهاداً وفي ما عداه في اي بقاع العالم ارهاباً، ام ان الامر ينطوي على بعد اهم وهو ان هذه الظاهرة نميت ودعمت للتلويح بها امام الغرب بأنها ستكون بظلاميتها ووحشيتها البديل اللائح والمتاح عن الانظمة وهذا ما يفرض على الغرب ان يرتد ويتراجع عن مطالبه بالإصلاح بل تجعله حتى يحمي بقاء الانظمة.

وأخيرا لا يمكن تجنب مرارة ان العراق ارض العذابات والحزن الازلي لم يبق عنده ما يضار سواء ان اقام فيه الارهابيون ام رحلوا، وبغداده غرة الزمان ادمنت التفجيرات والتناثر اليومي لأشلاء احبتها والتي سرعان ما تلملمهم وتطوي احزانها وتعاود حياتها، مدينة الالف ليلة وليلة باتت تنام عند الغروب، جمجمة العرب تفر منها العقول، اناسها يخادعون الموت، كيفوا حياتهم وقدموا ساعاتهم البايولوجية ، فأعراسهم تزف عند الظهيرة وأمسياتهم الادبية والثقافية جعلوها اصبوحات، ومسرحهم على ندرته بات يبدأ صباحاً وينفض عند الظهيرة، لا امل باستثمار قادم او دورة اقتصاد عاجل تدور، ادمنا الخراب، لكن ماذا عن الذين ادمنوا الاستقرار عندما ترد بضاعتهم اليهم؟.

* نقلا عن صحيفة "الشرق الأوسط" اللندنية