[align=center]

الحرية والنظر

[mark=CC6600]هل تشل مقولة العقاب الاخروي حركة الابداع الفكري؟![/mark][/align]

[align=center]الشيخ حيدر حب اللّه [/align]

[align=justify]كيف تشاد البناءات العقدية؟ وهل يجب على النظر العقلي ان يراعي النص في تشييد هذه البناءات؟ وكيف يمكن التوفيق‏بين الوصاية النصية ومبدا النظر في العقديات؟ اسئلة تواجه الفكر الديني عموما، والاسلامي سيما في مرحلتنا الراهنة خصوصا، ذلك انها تلامس شرعية النظر العقلي‏والاجتهاد الفردي في العقديات بالدرجة الاولى، ومن ثم لابد من تقديم اجوبة لها، نطل من خلال بعضها على الموضوع‏هنا باختصار شديد كالعادة.

1 المدخل الاشكالي في هذا الموضوع هو: هل يمكن تطبيق ثقافة تربوية في مجال النظر العقلي العقدي تقوم على‏مفهومي الثواب والعقاب، او ان ذلك يمثل شللا في روحه لحركة النظر وارعابا من نتائجها؟ ولكي تتم ملامسة الجواب عن هذه الاشكالية، لابد بداية من التاكيد على ان مبدا الثواب والعقاب يصح تمريره هنا، اذاما كان نظرنا الى مقدمات الفعل العقلي، اي الى العدد والادوات التي تم توظيفها او استنزافها في عملية النظر مقدمة لبلوغ‏الحقيقة العقدية، فان نظام الثواب والعقاب من شانه ان يحد من عمليات الاستعجال او الابتسار، وان يقلص من الاندفاعات‏غير المنطقية او المماحكات العقلية غير المدروسة، وهو امر نخمن انه ايجابي، لسلامة النظر العقلي، والرقي به نحوجودة‏افضل واداء اكثر ملاءمة.

ان ملاحقة مقولة العقاب الاخروي، للباحث الديني في هذا المستوى من مسالة النظر، ليست امرا سلبيا حينما يتم توظيفها لتحسين نوعية النشاط المعرفي محافظة قدر الامكان على عناصر الامانة والهدوءوالتروي والعقلانية، ان توظيف هذه النظم الدينية، عنيت الثواب والعقاب: الثواب على بلوغ الحق، والعقاب على خطئه..لكي تجود النشاط المعرفي، يبقى ضرورة يحتاجها الدين والعقل معا.

2 لكن انذار الباحث الديني بالعقاب الاخروي نتيجة تسرعه ولا عقلانيته في ممارسة النظر العقلي.. لا يعني تطبيق‏المقولة عينها في مجالات اخرى.. ولكي نقرا هذا الموضوع جيدا ينبغي ان نعرف انه من الضروري تقديم ضمانات للباحث‏الديني في بحثه، والا احجم عن البحث وقتلنا بذلك مناشط التفكير، وشلت بفعلتنا حركة الفكر الديني. ولتقريب هذه‏الفكرة نحاول استحضار مقولة الحجية التي وظفها علماء اصول الفقه، وذلك حينما قالوا: ان الفقيه حينما يقوم بوظائفه‏البحثية بامانة عالية فانه يملك ضمانات تبعده عن العقوبة الاخروية وتجعل لديه حصانة على تقدير ان يكون قد اخطا،ان‏معنى هذا الكلام ان الفقيه قد انطلق في بحثه الفقهي من ضمانات تسعفه على افتراض ان يكون قد اخطا في استنتاجاته،ولهذا قيل قديما:

للمجتهد اجر ان اخطا واجران ان اصاب، بعيدا عما سجل على هذه الجملة الاخيرة من اعتراضات.

ان هذه الضمانات المؤمنة من العقاب هي التي اقلعت بحركة الاجتهاد الفقهي، وشكلت احدى صمامات الامان التي تهيي‏الظروف لانبعاث حركة الاجتهاد وانطلاقتها، ولو اننا افترضنا ان الفقيه سينذر بعقاب لو اخطا حتى بعد قيامه بواجباته‏العلمية لما وجدنا مثل هذا الحراك الفكري في المجال الفقهي مثلا.

وما نريد اثارته هو تعميم هذا المنطق على الاجتهاد الكلامي بقسميه القديم والجديد، لان عدم تعميمه سيقتل حركة الفكرالكلامي، كما هو الحاصل في غير مجال، وعملية التعميم هذه ليست اعتباطية، بل ينبغي لها ان تقوم على بناءات فلسفية‏ومنطقية مدروسة، فنحن لا نريد هنا ابداع مقولات فلسفية من العدم، بقدر ما نريد تنظيم هذه المقولات التي يتواجد اغلبهابين اظهرنا في ميادين متفرقة، ومن ثم اعطاؤها دورا اكبر واكثر فاعلية، اذ ما دام الانذار بالعقاب على الخطا الاجتهادي‏الكلامي ماثلا امام الباحث الديني فلا يجدر انتظار الكثير من الابداع منه.

3 ولكي نتفهم الموقف الديني المتحفظ، انطلاقا من ان اعطاء ضمانات يعني شرعية الاديان والمذاهب كافة، او يعني‏عبثية الديانات الحقة او غير ذلك مما وجدناه عند جماعة من كبار العلماء والمنظرين من امثال الوحيد البهبهاني(1205ه) والشيخ عبداللّه البحراني وغيرهما، من الضروري‏التركيز على الفرق بين مسالة الحق والباطل، ومسالة الثواب‏والعقاب، فان يكون الانسان معذورا عند اللّه تعالى امر يختلف تمام الاختلاف عن كونه محقا او مهتديا لا ضالا سبيل‏الصواب، والخلط بين هاتين الثنائيتين ادى ويؤدي الى حصول التباس، فارسال الرسل، وبعث النذر، وسن الشرائع، واللطف‏بالعباد هو علاوة على انجائهم من عذاب اللّه تعالى... للبلوغ بهم مراقي الكمال، والاخذ بايديهم لخير الدنيا والاخرة،وما هو صلاحهم وكمالهم في هذه الحياة، وهي امور تكوينية، اذ شاء اللّه تعالى ان لا تجري الامور الا باسبابها، فمجرد ان‏يكون الانسان معذورا في تناوله مادة سامة لا يجمد من تاثير السم على بدنه بما قد يؤدي الى قتله.

وهذا ما نقصده هنا، فان العذر الذي نتكلم عنه لا يصير غير الاسلام اسلاما، ولا يجعل غير الديانة الحقة مؤديا اليهاوموصلا للغرض فيها، غاية ما في الامر ان الملتبس عليه الامر غير معاقب.

4 لكن التباس الامر لا يجدر استغلاله لصالح توسعة غير منطقية، ومن هنا نحب، في هذه العجالة، توظيف الثنائي‏الكلامي الفقهي، القديم‏ الجديد، الا وهو ثنائي القاصر والمقصر، فالقاصر لا يعاقب بحكم العقل على خلاف الحال مع‏المقصر، وهذا امر لا يناقش فيه عادة وغالبا، انما النقاش يقع في وجود القاصر في المجال العقدي كما هي الحال في‏المجال الشرعي ام ان المجال العقدي لا يتحمل فرضية كهذه ابدا او الا نادرا.

واذا رجعنا الى مواقف العلماء وجدنا تيارين رئيسيين يتجاذبان هذا الموضوع بدءا ربما من الجاحظ (255ه) وحتى‏العصر الحاضر، فتيار يحاول في اثارته للموضوع ان يجعل القاصر محصورا في دائرة الصبيان والمجانين والعجزة، ممن‏لا تسعفهم الحيلة للبحث والنظر ما دامت امكاناتهم محدودة عقليا و..

[align=center][/align]

ونجد هنا نصوصا لامثال المرجع السيدالخوئي(قدس‏سره) (1413ه) تكاد تقترب من هذا الراي، اما التيار الاخر فهو يعتقد بان القاصر ليس فقط موجودا في‏المجال العقدي على الخلاف ممن نفاه بالكلية بل هو الحالة الغالبة في الاجتماع الانساني، وقد نقل مضمون هذا الكلام عن‏الشيخ بهاء الدين العاملي (1031ه) حتى سببت له هذه الفكرة على ما يقول الخوانساري (1313ه) في روضات ‏الجنات مشاكل و..

[align=center][/align]

واكاد اعتقد بان الامام الخميني (1409ه) هو ابرز شخصية في هذا المجال، اذ لديه نص يعد من اقوى‏النصوص في هذا المضمار، فهو يقول: اكثرهم [الكفار] الا ما قل وندر جهال قاصرون لا مقصرون، اما عوامهم فظاهر،لعدم انقداح خلاف ما هم عليه من المذاهب في اذهانهم، بل هم قاطعون بصحة مذهبهم... والقاطع معذور في متابعة قطعه‏ولا يكون عاصيا وآثما، ولا تصح عقوبته في متابعته، واما غير عوامهم فالغالب فيهم انه بواسطة التلقينات من اول الطفولية‏والنشوء في محيط الكفر صاروا جازمين ومعتقدين بمذاهبهم الباطلة..;(المكاسب المحرمة 1/200).

وكما اشرنا، ينص الخوانساري على طعن بعض العلماء بالبهائي لقوله:ان المكلف اذا بذل جهده في تحصيل الدليل، فليس‏عليه شي اذا كان مخطئا في اعتقاده، ولا يخلد في النار (روضات الجنات‏7/ 67).

5 ورغم هذه النصوص القاطعة يذهب بعضهم الى تصور ان هذه المقولة مقولة غربية، اتتنا من النزعات البروتستانتية،ومن مدارس التعددية الدينية المعاصرة مع جون هيغ وامثاله، وانما تعمدت ذكر نصين لفقيهين بارزين ليعلم ان الفقه نفسه‏قادر على تحمل مثل هذا الراي، مع اعتقادنا بالنزعة الفلسفية والعرفانية للشيخ البهائي و الامام الخميني(قدس‏سره).

اذن، فمن الضروري وعي التراث جيدا لملامسة اشكاليات حساسة من هذا النوع، وعدم الاستعجال الصادق احيانا في‏التعاط‏ي مع هذه الموضوعات، ولو اردنا سرد الاراء سيما آراء الفلاسفة والعرفاء لطال المقام كثيرا.

ان هذه المقولة تمثل ضمانة، تعلن ان من يطلب الحق صادقا ويبذل الجهد المعقول في السعي خلفه، ثم لا يبلغه او يناله،معذور في الجهل بالحق، من دون ان يعني ذلك اعطاء العذر مطلقا، فنحن لا ننكر وجود المقصر، ولا غض الطرف عن‏المخالفات العملية لا اقل للعقل العملي كالظلم والقتل بغير الحق و... يجب ان تدرك المسالة بجميع جوانبها، الامر الذي لامجال لافاضة الحديث فيه في هذه الصفحات المحدودة.

6 ويكاد التعجب يمتلك الانسان من اعتقاد بعضهم بان الناظر الذي لا يبلغ الحق مقصر، وشاهد ذلك انه لو لم يقصر لبلغه،ان هذه الفكرة ذات صبغة ايديولوجية بحتة، تتجاوز وقائع الامور، لصالح ايديولوجيا مسقطة، اذ من هو الذي برهن على‏هذا الامر؟! وهل كل العقديات يجري عليها هذا القانون؟! وما معنى ارتهان شرعية النظر بصحة النتائج؟! اليس في ذلك‏تفريغا لحرمة التقليد في اصول الدين؟! وهل تحتجب الفطرة لعامل الذنب البشرى فقط ولا تحجبها ظروف قاهرة على‏الانسان كالبيئة والمحيط؟!...

ان دراسة ظروف الناس، من حيث القصور والتقصير، امر لا يرتبط بالنتائج العلمية التي خرجوا بها بقدر ما يرتبط بادائهم‏العملي ونواياهم الداخلية، بل كيف يمكن رهن الثواب والعقاب باصابة الحقيقة وعدم اصابتها، فان الاصابة امر غيراختياري في حد نفسه فكيف يرهن العقاب بما لا يرجع الى الاختيار؟! واما التشكيك المستمر في النوايا فهو مشكلة يجب‏حلها من جذورها النفسية والعقلية.

7 وبهذه الضمانة تنطلق الافكار لتدرس العقديات بحرية امينة وصادقة، لا حرية منفلتة وعشوائية تبنى على التعسف‏والابتسار، وعبر هذا الطريق يحيا الاجتهاد الكلامي، وتخف وطاة القلق والخوف المانعين عن الابداع والانتاج، وايضا تبنى‏بذلك عقديات برهانية، لا على الطريق المعتزلية المتشددة، وانما على طريقة تستوعب امكانات الانسان، اذ لا معنى‏لمطالبة الباحث اليوم بدراسة جميع الديانات والملل وجميع البراهين والادلة، فهو امر لا بالمقدور لشخص واحد ولابالمستطاع للشعوب، بل ولا بالمطلوب على مستوى العقل العملي.

ويبقى ان نرسم تصوراتنا بدقة جميعا لا يستثنى من ذلك احد، حتى لا ننتج افكارا تقتل مجتمعاتنا او تسير بها نحوالانحراف التام.

وهكذا تبقى مقولة العقاب الاخروي فاعلة تربويا في مجالاتها المنطقية، تبني الروح وتهذب النفس وتشيد الاخلاق‏الحميدة.
[/align]