حديقة الإنسان ..شيطاننا الأوغندي!
بقلم : أحمد مطر :
من بين أبرز الطغاة الذّين التقاهم الصحفي الإيطالي ريكاردو أوريزيو، ونشر وقائع لقاءاته معهم في كتابه المميّز (حديث الشّيطان) يبدو شيطاننا الأوغندي (عيدي أمين) نسيج وحده شكلاً ومضموناً، ذلك أنّ هذا المخلوق العجيب الذي اشتركت ليبيا والسّعودية في تخليصه من مصيره المحتوم، قد كان مرعباً ومضحكاً في الوقت ذاته، ممّا جعله تجسيداً حياً للقول المأثور عن (شرّ البليّة)، ولعلّ أكبر ما في هذا البلاء من شرّ هو أنّه أبي، كغيره من شياطين هذا الزّمان، إلاّ أن يتلفّع بعباءة إسلامنا العظيم، ليدنّسها بأفعال يكاد يبرأ منها الشّيطان الرّجيم نفسه.
كان هذا الرّجل ملاكماً، خاض النّزالات في الحلبة قبل وبعد تولّيه الرئاسة. فعقب إطاحته (ميلتون أوبوتي) بانقلاب عسكري، اختار نفسه بنفسه للمنتخب الأولمبي الأوغندي، وخاض عدّة نزالات مع عدد من المتبارين الذين هُزموا جميعاً شرّ هزيمة!.
وبالرّغم من أنّه كان مجرّد عريف طبّاخ، فقد رقّي نفسه بعد الانقلاب لرتبة (جنرال) وأعلن أنّه (الرّئيس الوحيد الذي علي اتصال مباشر مع الله)!.
ومن مظاهر عبقريته أنّه كان يطرد وزراءه، ويُطلّق زوجاته أيضاً، عبر خطابات مُتلفزة!.
وعندما شكا أحد وزراء المالية من أنّ خزائن الحكومة فارغة، انفجر أمين غاضباً: إذا لم يكن لدينا مال فالحلّ سهل جداً: يتعيّن عليكم أن تطبعوا نقوداً جديدة!.
فانحني الوزير وغادر الغرفة، ثمّ فرّ إلي لندن، وبذلك أنقذ جلده.
وعندما اتُهم بالفساد لم يُنكر ذلك، بل أجاب: إنّ إدارة دولة تشبه إدارة عمل تجاري ضخم، إذ يتعيّن عليك أن تمنح نفسك راتباً لائقاً!.
أمّا شغفه بالدبلوماسية الدّولية فقد عبّر عنه بحديث إلي راديو كمبالا، حيث قال: ليس هنري كيسنجر، علي ما يبدو، رجلاً بالغ الذّكاء. إذ أنّه لا يأتي أبداً إلي كمبالا لكي يستشيرني فيما يخصّ القضايا الدّولية!.
أمّا أطرف وصلاته الفكاهيّة فقد كانت عندما زار لندن فجأة في عام ،1971 دون إبلاغ السّلطات البريطانيّة. وعندما دُعيا إلي مائدة الغداء مع الملكة في اليوم التالي، كما ينصّ البروتوكول، سألته الملكة بتهذيب عن سبب زيارته المُفاجئة، فقال دون تردّد إنّه جاء للتسوّق.. ففي أوغندا، يا صاحبة الجلالة، يصعب العثور علي زوج من الأحذية من مقاس أربعين !.
ويبدو أنّ هناك مَن أفهمه بأنّ زيارات الدّولة تتطلّب أخذ العلم مسبقاً. لذلك فقد أذاع راديو كمبالا في عام 1975 أنّ قصر باكنغهام تلقّي الرسالة التالية من عيدي أمين:
(عزيزتي الملكة.. أنوي الوصول إلي لندن في زيارة رسميّة في الرّابع من أغسطس هذا العام، وإنني أكتب في هذا الوقت لتقومي بجميع التحضيرات اللاّزمة لإقامتي، بحيث لا يُلغي أيّ شيء مهم. أنا مهتم بالطعام بوجه خاص، لأنّني أعلم أنّكم تعانون أزمة اقتصادية. كما أودّ أن ترتّبي لي زيارة إلي اسكوتلندا وإيرلندا وويلز، كي ألتقي بزعماء الحركات الثّورية الذّين يُناضلون ضدّ قمعكِ الإمبريالي)!.
وحين لم يكن في زيارات رسمية، كان أمين يتسلّي بكتابة البرقيات، وقد دخل كثير من برقياته حوليات التاريخ الدبلوماسي.
كتب إلي ريتشارد نيكسون أثناء أزمة ووترغيت: (إن كانت بلادك لا تفهمك، تعال إلي بابا أمين الذي يحبّك. أُقبّلك علي خدّيك.) وقد ذيّل البرقية بالنصيحة التالية: (عندما يكون استقرار الأمّة في خطر فإنّ الحلّ الوحيد هو أن تسجن قادة المعارضة)!.
وإلي الحكومة الإسرائيليّة خلال حرب رمضان: (آمركم بالاستسلام)!.
وإلي الأمين العام لرابطة دول الكومنولث البريطانية: (نظراً لنجاح الثورة الاقتصادية في أوغندا، أؤكّد لكم أنني المرشّح المثالي لقيادة الكومنولث بدل بريطانيا التي تعاني أزمة اقتصادية خطيرة)!.
وإلي الحكومة التركية عقب غزو قبرص مباشرةً: (أطلب رؤية خططكم العسكرية وفيلم عن عملية الإنزال، لأنّها ستكون ذات فائدة يوم يهاجم جيشي جنوب أفريقيا)!
وإلي كورت فالدهايم أمين عام الأمم المتّحدة.. وضابط الحرب السابق: (أعبّر عن دعمي لشخصيّة أدولف هتلر التاريخية، الذي شنّ الحرب بغية توحيد أوروبا، وكانت غلطته الوحيدة أنّه خسرها)!.
وقبل أن ترسل تلك البرقيّة ببضع ساعات، أذاع راديو كمبالا بياناً للرئيس عيدي أمين يُعلن فيه أنّه علي وشك بناء تمثال لهتلر!.
ألا تذكّرنا تلك العبقريات بأمور ما لعباقرة ما، لا يزالون يصعدون فوق جماجمنا، لبناء التماثيل لأمثاله؟!.
بعد سقوط هذا العبقري مباشرةً اكتُشفت رؤوس خصومه المقطوعة محفوظةً في ثلاّجات مقر الرئاسة!.
كما اكتشف مقتل ما لا يقل عن ثلاثين ألف إنسان خلال فترة حكمه التي استغرقت تسعة أعوام تقريباً.
وماذا كانت عقوبة ذلك الجزّار المجنون؟
لقد كانت: لقبَ (حاج) وراتباً متّصلاً لرحلة حجّ مديدة، بدأت بسقوطه من قيد الحكم، وانتهت بسقوطه من قيد الأحياء.
كان أوريزيو قد سأل عيدي أمين علي الهاتف:
- هل تشعر بالنَّدم؟
فأجاب: كلاّ.. أشعر بالحنين فقط.
- إلامَ؟
- إلي الوقت الذي كنت فيه ضابط صفّ أقاتل ضدّ الماو ماو في كينيا.. كنت قويّاً مثل ثور.. كنت جندياً جيداً في الجيش البريطاني. ولدت في عائلة شديدة الفقر، ولذلك تطوّعت هرباً مِن الجوع.
إنّ هذا الحنين المفرط الذي يبدو غريباً انبعاثه من نفس مقفرة من المشاعر الإنسانية، يعيد إلي أذهاننا المثل الشعبي المشهور (تموت الدّجاجة.. وعينها علي المزبلة)، إذ يبدو أنّ شعوره بالجوع، بعد السقوط المخزي، قد أنساه كلّ ما يتعلّق بكرسي الرئاسة ورتبة الجنرال، ولم يُبقِ في ذهنه سوي شيء واحد: هو مطمح العودة إلي رتبة العريف الطبّاخ!.
و مراد النفوس أصغر من أن تتعـــــادى فيه و أن تتفــــانى