"بلاك ووتر" والأمن الأسود في أرض الذهب
"كلاب الحرب" يحرسون 300 دبلوماسي اميركي بعقد قيمته 800 الف دولار سنويا
شؤون سياسية - 30/09/2007
باريس\ بغداد \ الملف برس
ما زالت حادثة النسور وتداعياتها القانونية ، تتفاعل في وسائل الاعلام الدولية ، تحت عنوان "رماة بغداد المأجورون"، باتريس كلود، موفد صحيفة "لوموند" الفرنسية إلى بغداد، أجرى تحقيقاً حول "بلاك ووتر"، وعملها في العراق، اشار فيه الى الأساليب القميئة التي يتعامل بها حراس بلاك ووتر مع المدنيين العراقيين ، ويكشف فيها تفاصيل حادثة النسور .
يبدأ الصحفي الفرنسي تحقيقه بحوار بين اثنين من الحراس:
ـ "حسناً أيّها الرفاق، أريد أن أقتل أحداً اليوم.
ـ أحسنتَ! ولكن لِمَ اليوم بالذات ؟
ـ هاي! هاي! إني ذاهب في إجازة غداً، إجازة طويلة".
في ذلك اليوم، وعلى طول "طريق الموت" الذائعة الصيت، البالغة 16 كيلومتراً، والتي تربط وسط المدينة بمطار بغداد الدولي، راح المدعو جاكوب ك. واشبورن وزملاؤه من أفراد فريقه يبحثون عن هدف. "طلباً للسلوى" لا أكثر، كما يسر أحدهم فيما بعد لموفدي صحيفة "واشنطن بوست" الذين تمكنوا ببراعة من وصف وقائع هذه الحملة القاتلة التي جرت في أحد أيام شهر آذار.
لم يطل بهم الوقت حتّى شاهدوا سيارة أجرة عتيقة تسير متباطئةً وعلى مسافة لا بأس بها وراء السيارة رباعية الدفع المصفّحة التي يستقلّها أفراد الفريق الأربعة. فمنذ بداية الاحتلال أدرك العراقيون الذين ينتقلون بعربات ذات محرّكات أنه لا ينبغي لهم الاقتراب لا من العربات العسكرية ولا من قوافل السيارات رباعية الدفع ذات النوافذ القاتمة والتي في الغالب لا تحمل لوحات تسجيل، سالكة طرقات البلاد بأقصى سرعتها.
وينقل كلود عن سائقه العراقي :"لا أحد يعلم من بداخلها" يقول أحمد س. ، مردداً. فقد تكون شخصية، محلية أو أجنبية، مع مرافقين من "رعاة البقر" الذي لا يترددون في إطلاق نيران بنادقهم. أو قد يكونوا أفراداً من وحدات النخبة النظامية أو شبه النظامية التابعة لوزارة الداخلية في مهمّة مطاردة "إرهابيين". أو قد يكون من بداخلها أحد الوزراء أو زعيم حزب أو عشيرة الذين يتجولون برفقة "رماتهم" الخاصين. فمن لم يتعرض يوماً لأن يوقَف عنوةً عند تقاطع طرق تحت تهديد السلاح المصوب نحوه من قبل عناصر مدججين بالسلاح، عراقيين أو غير عراقيين، في زي نظامي أو بثياب مدنية، غير أنهم في عجلة من امرهم للخروج من نقاط الازدحام، من لم يتعرض لمثل هذا الموقف يوماً هو بالتأكيد الشخص الذي لم يزر بغداد منذ مدّة طويلة.
ويتابع كلود سرد الحوار بين حراس بلاك ووتر بالقول :"أبطئ سيرك!" يأمر واشبورن المدعو شاين ب. شميت، الذي يقود العربة. الأربعة ينتمون إلى تلك الفئة من المرتزقة التي كان يطلق على أفرادها فيما مضى لقب "كلاب الحرب" وباتوا اليوم يسمون "مقاولون عسكريون". نظارات سود، سماعات آذان على غرار رجال الاستخبارات، سترات واقية من الرصاص، مسدسات متدلية من الأجناب، جميع هؤلاء من قدماء العسكريين أو رجال الشرطة. إنهم متوجهون إلى المطار لمواكبة شخصية مهمّة من هناك.
واشبورن (29 عاماً)، الجندي السابق في سلاح مشاة البحرية الأميركي، هو قائد الفريق. يتقاضى 600 دولار في اليوم الواحد. بدين، موشوم الساعدين، طوله 190 سنتمتراً، حليق الرأس وذو لحية صغيرة. يضع العملاق القادم من أوكلاهوما، بندقيته الرشاشة الـ "أم 4 "، التي يستخدمها الجنود الأميركيون النظاميون ـ بين المقعدين. "حسناً، دعه يقترب قليلاً، سوف أرديه بمسدسي ". سائق سيّارة الأجرة رجلٌ عجوز. ويبدو أن بصحبته راكباً. ولكن ما الفرق ؟ فمنذ غزو آذار عام 2003 تحوّل العراق إلى "غرب الفيافي". بين الهجمات بالسيارات الملغّمة والعمليات الانتحارية والمجازر الطائفية والصراعات العشائرية وهفوات الجيشين الأميركي والبريطاني وحلفائهما، يسقط في كل شهر، وبحسب الظروف ما بين 1200 و3000 مدني عراقي ضحايا أعمال عنف على أرضهم. فتح واشبورن الباب من جهته وانبطح فوق المقعد، ماداً ذراعه إلى الخارج. تقترب سيّارة الأجرة، فيصوّب الرامي باتجاه الهدف.
رشقة رصاص تخترق الزجاج الأمامي. تنحرف سيارة الأجرة عن الطريق وتتوقّف عند جنبها الأسفل. "رمية موفّقة!" يصيح شميت مبتهجاً. لن يعرف أحد إذا ما قُتِل العراقيان أم لا، إذا ما أصيبا بجروح، إذا نجيا من الموت. معظم العراقيين باتوا يتجنبون التقدم بشكاوى، قنوطاً من واقع حالهم ولكثرة ما يتعرضون له يومياً من التجاوزات والهفوات وأعمال السطو المسلّح والقتل والنهب والاغتصاب والاختطاف على أنواعها. لِمن يشتكون ؟ فالشرطة التي تسيطر عليها الميليشيات الشيعية هي عبارة عن جهاز فاسد. والقضاء لا يعمل. أما الحكومة والوزارات اللائذة بحمى السفارتين الأميركية والبريطانية في "المنطقة الخضراء" ذائعة الصيت، فتكاد تكون عاجزة عن توفير الحماية لذات نفسها. ولا تتعدّى سلطتها محيط العشرة كيلومترات مربّعة التي هي مساحة "المنطقة" المذكورة، على حد قول صحيفة اللوموند الفرنسية .
وسبق لمحللو الاخبار في وكالة الملف برس ان ثبتوا ملاحظة مهمة على التقارير التي تكتب من صحفيون اجانب حول الاوضاع العراقية ، وما فيها من اراء مسبقة حول الاوضاع في العراق وحاجة الحكومة الحالية او من يتبعها الى بث علام مقابل يثبت الحقائق اولا ويتعامل مع الاحصاءات والارقام الرسمية ، كبديل عن استخدام الصحافة الغربية مثل هذه الانطباعات المسبقة .
ويتابع كلود في تحقيق اللوموند قائتلا " ما كان قيض لوقائع "حملة " جاكوب ك. واشبورن أن تتضح للعلن لو لم يشعر أحد أفراد الفريق، وهو فيدجيّ يدعى إيسيريلي ناوكيكيدي، بـ "الغثيان" لأنّه شاهد "مثل هذا الأمر يتكرر مراراً"، ولو لم يتخذ قراره النهائي في الاستقالة من عمله والتحدث إلى الصحافة. فواشبورن وزميلاه الآخران موظفون في شركة "ترايبل كانوباي"، وهي إحدى الشركات العسكرية الخاصّة الـ 177 التي تعمل ( حالياً ) في العراق، الذين ينكرون الرواية بأكملها، قد طردوا من عملهم ولم يمثل أحد منهم أمام القضاء.
منذ آذار سنة 2003 ، أصر الجيش الأميركي على مثول بضع مئات من جنوده أمام المحاكم بتهمٍ لا يمكن أن توصف إلاّ بالنذالة، ومنها 64 قضية قتل. لكن العجيب أن أياً من هؤلاء المرتزقة البالغ عددهم 48 ألفاً، ومن الجنسيّات كافّة التي تقيم في العراق اليوم، لم يمثل أمام محكمة على الإطلاق. صحيح أن الكونغرس الأميركي قد صوت بالفعل، سنة 2006، لصالح إقرار قانون يُخضع، نظرياً، "المتعاقدين ( المقاولين ) العسكريين" لمعايير السلوك نفسها المفروضة على الجيش الأميركي، غير أن "إدارة الرئيس بوش لم توضح إطلاقاً أساليب تطبيقه"، يقول بيتر سينغر، الباحث المتخصّص في "معهد بروكينغز ".
وقد أوضح تشارلز ل. شيبارد، ثالث زعران حملة واشبورن، قائلاً: "عندما كنّا نطرح السؤال على رؤسائنا كانوا يجيبوننا بألاّ نشغل بالنا في أمورٍ كهذه، وأن العراقيين يسعون وراء قتلنا، وطردنا من البلاد في أنصاف الليالي". طبعاً ليس جميع المتعاقدين من طينة واحدة، ولكن كم منهم استبعد أو نال جزاءه ؟ لا أحد يعلم. ففي العراق الذي استحال غابةً لا تخضع لأي قانون، الأفضل تسليحاً والأوسع ثروة والأوفر نفوذاً، هو الذي يفرض معاييره.
هل سنتمكن ذات يوم أن نعرف لِمَ وكيف قُتِلَ 28 مدنياً عراقياً ظهر يوم الأحد 16 أيلول الجاري، في وسط بغداد، على يد "متعاقدين أمنيين" كانوا يواكبون عدداً من الدبلوماسيين الأميركيين ؟ إنّ شركة "بلاك ووتر"، إحدى ثلاث "شركات عسكريّة خاصّة " ـ إلى جانب "داين كورب" و "ترايبل كانوباي" ـ التي فازت بعقدٍ كانت عرضته وزارة الخارجية (الأميركية) لحماية دبلوماسييها الثلاثمائة المقيمين في العراق (وعلى رأسهم السفير رايان كروكر الذي لا يغادر مقره إطلاقاً من دون حرسه البريتوري)، تؤكد من جهتها أن العاملين معها "تعرضوا لإطلاق نار قبل أن يردوا على النيران بالمثل".
عقب تحقيق أولي صرّح نوري المالكي، رئيس الوزراء العراقي، أنه لا يصدق هذه الرواية. وأنّه "ضاق ذرعاً بالأخطاء المتوالية التي يرتكبها "مرتزقة أجانب في حقّ مدنيين أبرياء"، وأنّ الحادثة هي "السابعة" التي تؤخذ على شركة "بلاك ووتر"، وأنه أمر بتعليق (صلاحية) رخصتها وعملها، وأن ما يزيد على الألفِ من العاملين لحسابها في العراق سوف "يُبعدون" تمهيداً لعملية مراجعة شاملة لأنشطة جميع "الشركات العسكرية الخاصّة " العاملة في العراق. بمضي 24 ساعة، وإثرَ اتصال هاتفيّ أجري مع وزيرة الخارجية كوندوليسا رايس، وعقب "اعتذارات " ووعود بإجراء "تحقيق جدي مشترك" حول الحادثة، جرى التراجع عن تعليق الرخصة وطرد العاملين في الشركة من العراق.
ويؤكدالصحفي الفرنسي ،إنّ شركة "بلاك ووتر" العسكرية الخاصة ـ بعقدها الحالي البالغ 800 ألف دولار سنوياً مع واشنطن، وعديد مرتزقتها البالغ عشرين ألفاً، بالاضافة لامتلاكها عشرين طائرة وطوافة في مخازنها في كارولاينا الشمالية ـ تعتبر "أقوى الجيوش الخاصة في العالم" بحسب جيريماي سكاهيل مؤلّف كتاب: "بلاك واتر: نشأة أقوى جيوش المرتزقة" (منشورات ناشيونال بوك، أفالون). أريك برينس، الواسع الثراء ومالك "بلاك وات" هو أحد أكبر الممولين لحملات إدارة بوش الانتخابية. ونفوذ هذا المسيحيّ الأصوليّ كبير جداً. لكن الحقيقة أنّ ما يحول دون قدرة القضاء العراقي على مقاضاة من شاركوا في مجزرة يوم الأحد المذكور، هما، في الأقلّ، سببان اثنان. السبب الأوّل هو القرار الذي استصدره بول بريمر، حاكم بغداد الأميركي، قبل 48 ساعة من رحيله في حزيران عام 2004، وهو القرار الذي لم تكلّف أي حكومة عراقية نفسَها عناء إلغائه او تعديله: وهو المرسوم 17 الذي يمنح جميع العاملين المدنيين الذين يعملون لحساب أي فرع من فروع الإدارة الأميركية في العراق، الحصانة التامّة التي تحول دون مثولهم أمام القضاء المحلي.
والحال، وهنا السبب الثاني، أن الحكومة الأميركية، بمختلف فروعها، أي من وزارة الخارجية إلى وزارة العدل إلى وزارة الداخلية والسي آي إي والأف بي آي، ومختلف الوكالات الفدرالية المولجة بمهمة إعادة إعمار العراق، ومعها البنتاغون الذي يستخدم نحو 7800 "مرتزق" لحراسة مخازنه وتصليح معداته وحماية قوافل مؤنه وعتاده وتدريب جنود ورجال شرطة عراقيين بموجب عقود، وحراسة السجون واستجواب المساجين ـ والجميع يعلم أن عدداً من هؤلاء المرتزقة كانوا متورطين بفضيحة التعذيب في "أبو غريب " ولم يقدم أي منهم للمحاكمة ـ، قد استخدمت 137 ألف "متعاقد ( عسكري ) " من بينهم 21 ألف أميركي للعمل في العراق. وثلث هؤلاء من "الجنود" الذين يخوضون حرباً في السر، حرباً خفية، هي حربهم الخاصّة.
يبلغ عديد الجيش النظامي المنتشر ميدانياً في العراق نحو 168 ألف جندي. غير أنّ الرأي العام الأميركي والمعارضة الديموقراطية ترغبان في إعادة "الاولاد" إلى الوطن في أقرب مهلة ممكنة. وقد وعد قائد القوات الأميركية في العراق، الجنرال دايفد بتريوس، بأن التعزيزات التي أرسلت، على وجه السرعة، في حزيران المنصرم والمؤلفة من 30 ألف جندي، سوف تُسحب من العراق تدريجاً مع حلول العام المقبل.
ولكن هل يذكر أحدٌ ما كان يردّده باستمرار وزير الخارجية (الأميركي) السابق، كولن باول، الذي طلب في الماضي مثيلي العدد الحالي من القوات لغزو العراق، وكان يردد باستمرار أيضاً عبارته الشهيرة: "لم نمتلك يوماً العديد الكافي لضمان استقرار البلد، فكيف نمتلك ما يكفي لإعادة إعماره". وحدهم الـ 48 ألف عامل في مجال الأمن "الشخصيّ"، كما درج العراقيون على تسميتهم، يشكلون ما يزيد على الفرقتين العسكريتين. ولا يحسبنّ أحدٌ أنّه يمكن استبدالهم بوحدات نظامية. فالعراق سوف يبقى لردح آخر من الزمن "أرض الذهب" في عيون المغامرين المشتغلين في مجال الأمن.
المصدر : الملف برس - الكاتب: الملف برس
اُحبك يا عراق الحسين اُحبك يا عراق امير المؤمنين