بركات الأمريكان على عمائم آخر زمان
كتابات - علي حامد عبد الحسين
اشتدت الحملة على اصحاب العمائم منذ اعتلاء المقبور صدام عرش السلطة سنة 1979 ، وصار ارتداء العمامة من الشبهات ، فخلعها اصحابها ورموها كما رماها الشاعر الجواهري في الكناسة من قبل وإن اختلفت الأسباب ، وامتد الأمر الى اصحاب الكشائد وسواها من أغطية الرأس التي قد يزعج اعتمارها السلطة ، وخفّ الأمر قليلاً قبيل سقوط الصنم الصدامي رغم خشية الناس من أهل العمائم ، وعدّوا أكثرهم من وكلاء الأمن والمخابرات الذين يجب تجنبهم ، وعلى كل الأحوال استسلم الجميع للقدر المحتوم ببقاء السلطة الغاشمة جاثمة على الصدور ، وليس هناك في داخل العراق أو جواره قوة قادرة على تخليصهم منها ، وبلغ الأمر حداً بالدعاء بانتصار اسرائيل على العرب ووصولهم الى بغداد والقبول بزعامة شارون ، وكان مثل هكذا حديث يصرح به الأصدقاء فيما بينهم ، ويدور في المجالس الخاصة ، وهو يمثل مدى ما بلغته حالة اليأس والقنوط التي سيطرت على النفوس ، وجعلت اصحابها يتمنون هكذا أمنيات غريبة .
وجاء اليوم الذي اجتاح فيه الأمريكان العراق ، واسقطوا بجيوشهم الجرارة وماكنتهم العسكرية الهائلة الصنم الصدامي ،وهزموا قواته ، وبعثروا انصاره ، وطاردوا فلوله ، فخرجت العمائم المتخفية من كل حدب وصوب ، وامتلأت الشوارع بها ، وصار اصحابها يذكروننا بتشبيه الشاعر لهم من قبل بمزرعة البصل ، ولكنهم هذه المرة كانوا اسرع من غيرهم في اقتحام مرافق الدولة العراقية والممتلكات العامة ، ووضع ايديهم عليها والمباشرة بنهبها ومصادرتها لحسابهم الخاص ، وصداع رؤوس المواطنين المساكين بالخطب الرنانة والمحاضرات الفارغة ، وتهديد المعترضين ، وتصفية المعارضين لهم ، ولم يسمحوا لغيرهم بالظهور على الساحة السياسة ، ومن غامر بالظهور فجّروا بيته وأحرقوا مكتبه ، وان لم يرتدع ( اضطروا ) الى اغتياله ( والتخلص من شره ) .
ولهذا السبب فقط صدّ الناس عن الأمريكان بعد فرحهم بقدومهم إليهم وترحيبهم بهم ، وكرهوا اليوم ( الأسود ) الذي رؤوا فيه وجوهم بعد أن تمنوها وحلموا بها زمناً طويلاً ، وعدّوا يوم وصولهم تحريراً ويوماً ابيض في حياتهم ، وأعلنوه عيداً وطنياً لهم ، ثم سرعان ما تدهورت الأوضاع وساءت الأمور حتى انحدرت الى ما انحدرت اليه بسبب أصحاب تلك العمائم المزيفة ، وما جرّوه على البلاد والعباد من ويلات ، فصاروا نعم الشركاء والخلفاء لصدام في الفساد والخراب الذي اجتاح كل شبر من أرض العراق .
ولعل سائل يسأل من أين جاء اصحاب العمائم هؤلاء ، والى من ينتمون ، ومن هي مرجعياتهم ، ومن كان السبب في ظهورهم وتسلطهم ، ولو دقق في المسألة قليلاً ، لوجد منبعهم من دوائر الأمن والمخابرات وبقية الأجهزة القمعية السيئة الصيت أو من وكلائها أو من بيوت أهلها وحواضنهم وخريجي السجون أو من المتشبعين بثقافة البعث الإجرامية والسائرين على دربها الأعوج ، أما مرجعياتهم ؛ فهي القديمة ذاتها ، وان طالت اللحى واستبدل الزيتوني بالعمة والجبة أو الشروال ، ودليل ذلك لمن فقد الدليل ما يستخدمونه من خطاب هتافي وأناشيد نارية وتهديدات واساليب قمعية وحتى المفردات اللغوية والمصطلحات الرنانة التي مازالت تصم الأسماع وتثير الإشمئزاز ، ولكن الأعجب من كل هذا ان أغلب الناس مازالوا يواجهونهم بالخوف نفسه الذي جبلوا عليه بالإمس وبالتملق والمداهنة والتصفيق والمديح الكاذب كي يتجنبوا شرّهم ويأمنوا غدرهم دون الإنتباه الى ان ذلك سيعطي مردوداً عكسياً، وسيزيد المجرمين عتواً وطغيانا وتطاولاً عليهم .
أما الجواب الأهم فهو لولا قدوم الأمريكان وحربهم على صدام لما ظهرت تلك العمائم المزيفة ، ولا تسلطت على البلد ، واستأثرت بالإمتيازات ، ولا دخل اصحابها المجالس والبرلمان ، ولا تمكنوا من سرقة أموال الشعب الجائع والإستمتاع بها ، ولا بددوا المتبقى من ثرواته المنهوبة ، ولا استهانوا بحياة وكرامة ابنائه المهدورة ، ولا تحكموا بمصير البلاد والعباد وأوصلوا الأمور الى حدّ الفجيعة والكارثة الشاملة ، ولا حدث ما حدث لنا من قتل وتهجير وفساد وفوضى ، ولا زادت نارنا حطباً ومأساتنا ألماً .
فيا أصحاب العمائم القذرة هذا هو زمنكم الأغبر ، تمتعوا فيه كما تشاؤون ، وزيدوا غنائمكم من معاناتنا ، وامتيازاتكم من حرماننا ، وتأكدوا اننا قد يئسنا من أي خير فيكم ولم يعد لنا أدنى أمل في صحوة ضمائركم ، ولكن لا نريد سوى تذكيركم ان كل ما بلغتموه من رفاهية و ( نغنغة ) ، وكنزتم من أموال ، وهربتم منها الى الخارج ، وما اضفتم من أملاك وضياع وقصور ، وحزتم من امتيازات باطلة هي من بركات الإمريكان عليكم ولا غيرها ، فاتركوا ادعاءكم الكاذب بمعاداتهم ، وانتبهوا لخطأكم ان كنتم لا تعلمون ! .. أوليس من المفارقة الساخرة تحريضكم وقيامكم بالإنتقام الأحمق من فقراء أبناء جلدتكم الذين اضطرتهم الظروف للإنخراط ضمن أجهزة الشرطة وقوات الجيش أو عملوا كمترجمين مع فرق الإعمار والمنظمات الإنسانية ، وقد قدموا الكثير مما استطاعوا تقديمه ، وكانوا كلهم أخلص منكم لبلدهم ، وافضل منكم لشعبهم رغم انهم لم ينتفعوا كما انتفعتم يا أصحاب عمائم آخر زمان ببركات السادة الإمريكان !!