النتائج 1 إلى 2 من 2
  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jun 2005
    المشاركات
    732

    افتراضي حديقة الإنسان: كان شيوعياً! أحمد مطر

    في واحدة من مقالات كتابه (سأخون وطني) كان الساخر الراحل (محمد الماغوط) قد وصف تجربة لقائه الأول، بالشاعر العراقي «بدر شاكر السياب»، الذي كان ضيفا على مجلة «شعر»، وذلك عندما كلّفه «يوسف الخال» صاحب المجلة بمرافقة الشاعر الضيف خلال تجواله في بيروت.

    في تلك المقالة روى الماغوط أن السيّاب كان يتحرك عشوائيا بخفة الطفل ونزقه، فهو إذ يكون إلى جانبه في لحظة، يراه في اللحظة الأخرى قد تجاوزه منجذبا إلى شيء ما، وإذ يحرص الماغوط على أن يلازمه كظله، خشية أن يتيه في الزحام، يجد أنه قد اختفى فجأة، ليعثر عليه داخل أحد المحال، ولا يكاد «يستخرجه» من المحل حتى يضيع منه ثانية، ليكتشف أنه قد اختفى بإحدى الحافلات التي لا يعلم إلى أين تمضي!

    ويختم الماغوط مقالته بالقول إن السياب، على ما يبدو، قد دخل الحزب الشيوعي بنفس الطريقة!

    ولو أن الماغوط كان حيا، الآن، وتيسر له أن يقرأ كتاب «كنت شيوعيا» الذي تضمن المقالات «الاعترافات» التي كتبها السياب عام 1959 في جريدة «الحرية» البغدادية، عن تجربته في الحزب الشيوعي العراقي، لأضاف إلى تعليقه الأخير في المقالة، جملة مكملة تقول: «وأظنه بالطريقة نفسها قد خرج من الحزب الشيوعي»!

    ففي تلك المقالات القديمة التي ظلت مخبوءة طيلة نصف قرن، والتي أعدها للنشر أخيرا «وليد خالد أحمد حسين»، لتصدر في أواخر العام الماضي عن دار الجمل بألمانيا، يبدو لنا، بجلاء، جانب الإنسان العادي والعشوائي الشاعر الكبير.

    فعلى الرغم مما يطبع المقالات من لغة سليمة، وما تحمله من معلومات وتفاصيل طريفة وممتعة جدا، وعلى الرغم مما أراده لها كاتبها من رصانة وموضوعية، فإنها تعرض في معظم أجزائها، صورة الطفل الغاضب المثقل بالخيبة، الذي لا يوفر، في سورة غضبه، أي شيء أو أي شخص، ولا يتورع عن التقاط كل الحجارة التي بمتناوله، ليقذف بها زجاج واجهة المغضوب عليهم. ولولا ممانعة الجريدة في نشر بعض أقواله، كما ينبئنا هو في تضاعيف المقالات، لكان الأمر أكثر فداحة وأشد إضحاكا.

    على أن هذا الوصف، وإن بدا سلبيا للوهلة الأولى، هو في المحصلة النهائية السمة الاساسية التي أبقت تلك المقالات حية وطرية، ووفرت من خلالها نافذة جيديدة لرؤية ومعرفة شخصية الشاعر، إذ ليس هناك من هو أكثر قدرة على الكشف أو الفضح من طفل غاضب!

    ما يستوقفنا في مقالات «كنت شيوعيا» هو أنها، على الرغم مما يطبعها من نوازع الضغن والغيظ الشخصي، تشير، بوضوح وبراءة، إلى أبرز الآفات التي تنتاب علاقات العمل الحزبي لدينا بصفة عامة، وإلى أسباب تنافر العلاقة بين الثقافي والحزبي بصفة خاصة.

    وعلى رأس هذه الآفات: الارتباط الأيديولوجي الأعمى بجهة خارجية حتى لو كانت مصالحها مغايرة تماما لمصلحة الوطن، والدعوة إلى الحرية قولا... وممارسة الدكتاتورية فعلا حتى ضمن النطاق الحزبي الضيق، وتحويل الحزب إلى صنم... فبدلا من أن يكون وسيلة للانتقال يصبح هو المحطة، وهو بهذا لا يتقدم على شأن الشعب والوطن فقط بل إنه يغسل رابطة الدم بالدم، فيتعادى الأهل ويتناحرون تبعا لأولوية الولاء لأيديولوجية الحزب، ثم تأتي الطامة الكبرى المتمثلة في جور الكم على الكيف... فمن أجل «توريم» الخاصرة العددية للحزب، تتسرب إلى العمل السياسي أعداد هائلة من الطفيليات التي تكتسح في صعودها أكثر المنتمين ثقافة وشرفا ونزاهة، معتمدة في تقدمها على أسبقية الانتماء، والجرأة على تنفيذ أقذر الأعمال.

    وعلى هذا فإن السياب لو عاش أكثر، وتكررت طريقته العشوائية في التعلق بالحافلات الحزبية، لقرأنا له اعترافات كثيرة متماثلة برغم اختلاف الأحزاب، من قبيل (كنت بعثيا) أو (كنت قوميا) أو (كنت إسلاميا)، وذلك لأن أحزابنا، على اختلاف أسمائها وشعاراتها، تجري كلها مجرى (شهاب الدين وأخيه).

    ولقد رأينا، منذ عقود طويلة، ولا نزال نرى اليوم، أمثلة حارقة على وضع الانتماء عموما والبعد الزمني للانتماء خصوصا، شرطا للتقدم في الدرجة أو (المنصب)، دون التريث، ولو قليلا، أمام الكفاءة الشخصية أو الموهبة أو المؤهل أو الخبرة، بحيث يصبح للمضمد، تبعا لذلك، مسؤولا عن الطبيب، والجندي مسؤولا عن الضابط والأمي الجاهل مسؤولا عن المثقف!

    وبالعودة إلى مقالات الكتاب، سنرى بجلاء صورة لهذه الآفة الأخيرة، المدمرة، حين نعلم أن السياب المثقف والشاعر الموهوب، والمتعلم تعليما عاليا، قد وقع في فترة هروبه إلى الكويت، في أواخر الأربعينيات، تحت وطأة مجموعة من الشيوعيين الهاربين، مثله، ممن جعلوه خادما وضيعا يختص يكنس المكان وغسل الأواني وترتيب الفرش، ونصبوه هدفا لإهاناتهم وسخرياتهم، يقودهم في ذلك (مناضل) غاية خبرته في الحياة أنه كان يشتغل (سائق رافعة)، وغاية مؤهلة للتفوق على السياب وغيره أنه شارك في قتل وسحل الشاب البصري (أنس طه) الذي صنفه الحزب عدوا للشيوعية!

    وقد وصف السياب شعوره بالمهانة والذلة بقوله: «لقد أنيطت بي أعمال من شأنها أن تحطم كبريائي الطبقية كأفندي»!

    ونلاحظ، هنا، بذهول حدة شعور الرجل بالغيرة على موقعه «الطبقي» الرفيع، وهو الهارب أصلا إلى حيث تلك الأعمال، وإلى حيث أؤلئك الناس، بسبب أيديولوجيته الرافضة للفوارق الطبقية!

    ما الذي أثار فيه هذا الشعور الغريب الذي يفترض أنه قد أماته في ذاته؟!

    لقد أثارته محنة خضوع الثقافة والموهبة لسلطة الأمية المؤسسة على قدم الانتماء الحزبي والقدرة على تنفيذ الفظائع. وذلك أبسط مؤشر على ما تزرعه تلك الآفة اللعينة من عوامل الدمار في بناء الأحزاب وفي أرواح المحازبين.

    وحسبنا مثلا على ذلك... هذه الصورة المضحكة والمؤلمة معا، مما رواه السياب عن علاقته المتوترة بذلك المناضل سائق الرافعة:

    «في ذات يوم، حين بلغ السيل زبى نفسي، وكنت أتناقش مع لفتة محمد الذي أخذ يهاجمي بادئا بجملة «أنتم الأفندية... أنتم أبناء الطبقة البتي برجوازية، ونحن الكادحين... نحن أبناء الطبقة الكادحة» لم أتمالك نفسي فصحت به: تعال حاسبني، أينا الأفندي وأينا الكادح؟ أينا البتي برجوازي وأينا الفقير؟ إنك تتقاضى راتبا أكثر من راتبي، وتلبس ملابس خيرا من ملابسي، وتنام على فراش أحسن من فراشي، وتقوم بأعمال أهون مما أقوم به... إنك لا تكنس ولا تغسل الأواني القذرة فأينا البرجوازي وأينا الفقير؟ وإذا كنت تعتبرني برجوازيا لأنني لم أنحدر من طبقة فقيرة، فأنت إذن من أذناب الطبقة الحاكمة لأن أباك شرطي»!

    وهناك صورة أخرى لا تقل إضحاكا وإيلاما، يعرضها السياب عند حديثه عن فلّاح أمي جلف اسمه (عبداللطيف)، إذ يقول إنه منذ بدء انتسابه للحزب قد طلب من رفاقه، باصرار، أن يسموه «لتفينوف»، فكان بذلك - كما أرى أنا - أول فلاح (بصراوي) يتعمد باسم روسي... فتأمل!

    ومن مكارم هذا الـ«لتفينوف» التي يذكرها السياب أنه أحرق كوخه في القرية مدعيا أن القوميين المتآمرين هم الذين أحرقوه، فجمعت له تبرعات لتعويضه بلغت ثلاثمئة دينار، مع أن أغراضه التي احترقت لا تساوي أكثر من خمسين دينارا. ثم إنه كان يجمع التبرعات للحزب فيسلخ جلود الفلاحين سلخا في سبيل جمعها، ناثرا عليهم الوعود بتوزيع البساتين عليهم عندما يأتي الشيوعيون للحكم حتى إذا جمع عشرة دنانير أو أكثر لم يصل إلى الحزب منها سوى دينار واحد!

    ومن مآثر «لتفينوف» أنه يوم اندحار فرنسا في الحرب، جلس يبكي على ساحة القرية «أهي... أهي.. انكسرت فرانسة»، وحين سأله العابرون عن سبب بكائه على فرنسا، أجابهم بأن زوج اخته يشتغل بتجارة التمور، وأن فرنسا هي التي كانت تستورد التمور العراقية في ذلك الوقت!

    وفي النهاية فإن «لتفينوف» هذا، الذي كان ندا عنيدا للشاعر المثقف، قد أصبح بعد زمن وجيز معتمدا للحزب الشيوعي في قضاء أبي الخصيب... موطن السياب!

    تلك لمحات يسيرة مما حواه الكتاب من صور آثار هذه الآفة غير أن هناك صورة مبكرة يرسمها السياب لآفة تصنيم الحزب التي يتعادى، في ظلها، أبناء الأسرة الواحدة، فيتنازعون في واقعهم اليومي، ويتنابزون على صفحات الصحف، بالغين الدرك الأسفل في التراشق بالشتائم والفضائح، مثلما جرى بين السياب نفسه وشقيقه الأصغر «مصطفى» بعد نشر الحلقات الأولى من سلسلة «كنت شيوعيا»... وذلك وغيره من المضحكات المبكيات يستحق أن تفرد لعرضه مساحة خاصة.

    * شاعر عراقي- تنشر بالاتفاق مع جريدة
    http://www.aljarida.com/AlJarida/Article.aspx?id=54896
    «الراية» القطرية
    و مراد النفوس أصغر من أن تتعـــــادى فيه و أن تتفــــانى

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jun 2005
    المشاركات
    732

    افتراضي حديقة الإنسان: شؤم التنافر... والتوافق أيضا!

    يبقى كتاب «كنت شيوعيا»، وثيقة مهمة لا غنى للقارئ عن الاطلاع عليها، خاصة أن الفصول الأخيرة منه تبتعد عن موضوعات الشجار والفضح، لتعرض لنا موقف السياب الشاعر من تيارات الأدب العالمي الأصيل، حتى لو كانت مغايرة إيديولوجياً للفكر الشيوعي الذي كان يعتنقه.

    من ضمن ما حواه كتاب «كنت شيوعيا» الذي ضم مقالات الشاعر بدر شاكر السياب المنشورة في جريدة «الحرية» البغدادية عام 1959، هناك واقعتان يرويهما الشاعر تشيران إلى الآثار السلبية التي يتركها العمل الحزبي على العلاقات بين أبناء الأسرة الواحدة. وقد جرت إحدى هاتين الواقعتين بين الشاعر شخصياً وشقيقه الأصغر مصطفى، وهي مما يثير العجب والضحك والألم معا.

    فبعد نشر الحلقات الأولى من مقالات السياب التي نقد فيها الحزب الشيوعي نقداً عنيفاً، تطَّوع ـ أو طُوِّع ـ شقيقه الأصغر مصطفى لكتابة مقالة في جريدة أخرى، سخر فيها من شقيقه الأكبر، واتهمه بالجور والكذب والتحامل على الحزب. وبلغ في مقالته حد التنابز بلغة طفولية فجة، تتكئ على صورة الشاعر في طفولته عندما كان يبكي كلما قال له الأطفال «بكى، بكى، بكى»!

    وعلى الرغم من أن الشاعر قد أبدى أساه لوصول الأمور إلى هذا الحد المريع الذي يرغمه على خوض مواجهة مع شقيقه الأصغر، وعلى الرغم من منطقية رده على شقيقه، فإنه لم يلبث أن تخلى عن وقاره، وراح يردح لشقيقه على الموجة نفسها من التنابز النزق الذي يطبع أي مشاجرة بين طفلين.

    يقول السياب: «طلعت علينا صحيفة وطنية! بمقال كتبه أخي مصطفى شاكر السياب، عنوانه «أتّهم أخي»، وقد قرأت ذلك المقال وأنا مشفق على كاتبه، أخي الأصغر، وقد وجدته ـ شأن كتابات الشيوعيين ـ مليئاً بالمغالطات. وتساءلت في نفسي: أيليق بي أن أرد على تلميذ في الصف الرابع الثانوي، لو أنني لم أُفصل من عملي لكنت اليوم أستاذه؟ ثم وجدت أن هذا التلميذ الفاشل ليس شخصا اعتياديا، فهناك رابطة تربطني به لا سبيل إلى ذكرانها أو تناسيها، وهل هناك رابطة أقوى من رابطة الدم، عند غير الشيوعيين على الأقل؟

    قال الكويتب بعد مقدمات أغرقها بدموعه، وملأها بارتعاشات يديه، شأن الكتابات التي يكتبها المراهقون المتأثرون بـ«عبرات المنفلوطي» المغرقة في دموع العشاق والبائسين، إنه وجد نفسه في معركة حتمية فرضتها عليه، وعليه أن يخوضها إلى جانب القوى الوطنية!!

    ثم يقول الكاتب حفظه الله ووفقه حين يتقدم إلى الامتحان للحصول على شهادة الصف الخامس الثانوي: «فلستُ بحاجة إلى فضح ما جاء به كاتب المقال (يعني أخاه الشاعر) من أكاذيب وحوادث نمقها بخيال شاعري، فالحوادث التي ذكرها وجعل من نفسه شاهد عيان لها -إن صحت هذه الافتراءات- قد حدثت في أعوام لم يكن فيها الكاتب غير طفل يبكي متى ما ذكر الأطفال كلمة «بكى، بكى، بكى»، وأظنه لا ينكر ذلك».

    ويتوقف الشاعر هنا، ليتساءل بحرقة يسندها منطق الأمور: «أرأيت العبقرية الشيوعية؟ إني لا أتذكر، لأنني لم أكن غير طفل صغير، غير أن الرفيق مصطفى -الذي يصغرني بأربعة أعوام- يتذكر جيدا طبعا أنني كنت طفلا أبكي متى ما ذكر الأطفال كلمة «بكى، بكى، بكى»، حيا الله الذاكرة الشيوعية. لا يعجب أحد لهذه المعجزة، فالشيوعيون -كما دلت الحوادث- عباقرة وذوو ذاكرات قوية... فقد أصدروا ذات يوم منشورا باركوا فيه إسقاط اليهود لجنسيتهم العراقية ونزوحهم إلى إسرائيل للخلاص من الاضطهاد، ثم ما لبثوا بعد بضعة أيام -وكأن الناس نسوا منشورهم الأول- أن أصدروا منشورا آخر شجبوا فيه الهجرة إلى إسرائيل، وقالوا إن على اليهود البقاء في أماكنهم وخوض النضال إلى جانب القوى الوطنية الشريفة»!

    وعند هذه النقطة، يبدأ العد التنازلي، لدى السياب، لانطلاق صاروخ النزق الطفولي العابر للرصانة، فإذا به يعيّر أخاه بمثل ما عيره به وبالطريقة نفسها:

    «إن كاتب المقال وضع أمام عينيه مرآة وراح ينقل منها تفاصيل صورته المنعكسة عليها، ثم ينسبها إلي. فمن الذي أسرف في اللذة؟ إنني لا أريد أن أذكر ما يعرفه أخ عن أخيه، فليس من الصالح أن ننشر على الناس غسيلنا القذر.

    يقول الكويتب عني: «حتى وجد في أحضان الحركة الوطنية الأمّ التي افتقدها، واليد التي تنتعشه من الشعور بالنقص الذي برز في نفسه خلال حياة الطفولة».

    من هو المُبتلى بالشعور بالنقص أيها «الكشكول»، وهذا هو اللقب الذي كنا نطلقه عليه يوم كان طفلا وكان يبكي لسماعه أشد البكاء.

    لقد ماتت أمك وأنت طفل رضيع عليل، فنشأت محروما من عطف الأم، تبكي لكل لوم -لا نهرة- يوجه إليك مفكراً بأنك ما كنت لتلقى هذا اللوم لو كانت أمك موجودة.

    وكان رأسك ولايزال -وإن أخفاه الشعر- طويلاً، فكنا نعيرك بذلك حتى تبكي. وكان الخدم والفلاحون وأهل القرية جميعا ينادونك بهذا اللقب المحبب إليهم وهو «أبو راس الطويل»... فأيٌّ هو الذي يمكن أن يُبتلى بالشعور بالنقص؟ الأخ الأكبر الذي ليس أعور ولا أعرج ولا مصابا بأي عاهة... أم الطفل الصغير العليل الذي ماتت أمه، والمبتلى برأس طويل؟!

    لقد كنت أنا طفلا صغيرا، فليس معقولاً، كما تزعم أن أتذكر الحزب اللاديني وأعماله، أما أنت الذي تصغرني بسنوات أربع فتتذكره جيداً، لأنك قلت متحدثا عن هذه الأشياء «فهذا ما سأتطرق إليه في المستقبل ليرى القارئ الكريم الفرق بين ادعاء مسموم وقول بريء»... إنني أنصحك بأن تنصرف إلى الدراسة، لتستطيع المشاركة في امتحان البكالوريا للصف الخامس الثانوي والنجاح فيه... يا مصحح التاريخ. ولك مني ألف سلام»!

    أمام هذا الفاصل النضالي المدهش بين الأخوين، ضحكت قليلا، وتحسرت كثيرا، غير أن الواقعة الثانية التي ذكرها السياب في إحدى مقالاته، عن مفارقة أخرى بين شقيقين شيوعيين قد دفعت حسرتي بعيدا، وتركتني أضحك على راحتي... ومازلت أضحك.

    ففي حديثه عن الظروف والأسباب التي قادت إلى القبض على الرفيق (فهد) زعيم الحزب الشيوعي العراقي، روى السياب قصتين عن القيادي الشيوعي (حسين الشبيبي)، والقصة الأولى هي التي تعنينا في هذا المجال.

    يقول السياب: «في عام 1945، على ما أتذكر، أصدر حسين الشبيبي كتابا أعتقد أنه عن الجبهة الوطنية الموحدة. وكان حسين عضوا في الحزب الشيوعي العراقي، المفروض فيه أنه حزب سري، والمفروض في قادته أن يتكتموا ولا يخلفوا وراءهم أثرا يكشف عنهم... من خطّ أو صورة. ولكنّ الرفيق حسين يريد أن يشتهر، يريد أن يعرفه الناس... يريد أن يسير في شارع الرشيد فيقابله العشرات من الناس بالتحايا. إن أحسن طريقة للتعريف بشخصه هي أن ينشر صورته على الملأ، حتى إذا مر بهم عرفوه وسلموا عليه، وقالوا «هذا هو المناضل العظيم».

    وهكذا كان، فنشر صورته الكريمة على غلاف ذلك الكتاب، وكان أخوه «محمد علي» الذي استطاع حسين أن يبلشفه، يشبهه كل الشبه... وحين افتضح أمر محمد علي وارتكب بعض ما يوجب إلقاء القبض عليه، راحت الشرطة تطارده في كل أنحاء العراق. ولم يكن لدى الشرطة من دليل يسترشدون به لمعرفة محمد علي إذا رأوه، غير صورة أخيه حسين المنشورة في ذلك الكتاب «الوطني»، فكنت ترى أفراد الشرطة السرية والعلنية يحملون بأيديهم نسخا من الكتاب المشؤوم، ناظرين إلى الصورة التي في غلافه وإلى وجوه العابرين»!

    وها نحن قد رأينا، من خلال هذه القصة الواقعية، أن التنافر في الولاء الحزبي بين الإخوة، ليس أكثر شؤما من توافقهم فيه!

    ويبقى كتاب «كنت شيوعيا»، برغم كل شيء، وثيقة مهمة لا غنى للقارئ عن الاطلاع عليها، خاصة أن الفصول الأخيرة منه تبتعد عن موضوعات الشجار والفضح، لتعرض لنا موقف السياب الشاعر من تيارات الأدب العالمي الأصيل، حتى لو كانت مغايرة إيديولوجياً للفكر الشيوعي الذي كان يعتنقه. وهو في هذا السياق يقدم لنا، ضمن موضوعات كثيرة قراءة واسعة وجميلة لرواية (1984) للكاتب الإنكليزي الشهير جورج أورويل.

    * شاعر عراقي، تنشر بالاتفاق مع جريدة «الراية»

    الاسلوب الذي تعامل به الاخوان السياب و اخوه هو عين ما نشاهده هذه الايام في هذه الشبكة الموقرة
    و مراد النفوس أصغر من أن تتعـــــادى فيه و أن تتفــــانى

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
 
شبكة المحسن عليه السلام لخدمات التصميم   شبكة حنة الحسين عليه السلام للانتاج الفني