منقول من الاخ بحراني ثوري - موقع ملتقى البحرين

هاني فحص: إننا محتاجون في المؤسسة الدينية إلي الخراب الجميل

رؤي - أجري الحوار- علي الديري وفاضل عدنان:

"جاء العصف الجميل ولم يأت الخراب الجميل" أدونيس.

كيف يكون الخراب جميلاً؟كان السيد هاني فحص يترنم بهذا المقطع من قصيدة أدونيس، وهو يسترجع في حديث ودي -لم يشأ أن ندخله في هذا الحوار- تاريخ تكوينه الثقافي في الحوزة العلمية في النجف الأشرف، واصطدام هذا التكوين بنزوعاته الشديدة للخروج علي صلابة المؤسسة. كأنه يقول الخروج علي هذه الصلابة هو الخراب الجميل، أي أن الخراب الجميل فعل يقوم به الإنسان لا الطبيعة، الإنسان بما يملكه من قدرة علي إعادة النظر في تاريخ ذاته ومؤسسته، ومنظوماته الفكرية.إن هذه القدرة تفسر جملة فحص التي يقول فيها بشيء يشبه البوح کيصعب علي أن أكون رجلاً يقينيا.
في هذا الحوار يتحدث إلينا السيد هاني فحص عن الخراب الجميل الذي طال ذاته فأخذ يري من خلاله مؤسسته.



* أما آن لهذه المؤسسة الدينية العتيدة أن يدخلها شيء من هذا الخراب الجميل؟

** إنه في رأيي قد دخلها، ولكن يجب أن يتحول الخراب إلي مشروع. دعونا أولاً نقف علي ثنائية التقليد والتجديد والأصالة والمعاصرة والحداثة والكلاسيك. يجب ألا تبقي هذه الثنائيات علي هذهِ الدرجة من الحدة والتقابل. فالأفضل لها منهجياً مثل كل أنظمة الثنائيات التي نعيشها أن نوطد زواياها بإعادة تدويرها، لنخطط ملعبنا علي جدل بين ثنائيات ذات زوايا مدوّرة، وإلا ستكون القطيعة التي تسدّ الباب المعرفي.تأسيساً علي هذه الإعادة يمكننا أن نفهم التقليد والتجديد بمعني تحقيق المعاصرة الموصولة، في مقابل السكني في الماضي، وفي رأيي أن الماضي أو التراث، هو ما تضيف إليه لا ما تنفيه أو تعيش عليه، مع العلم أن الركون إلي الماضي مريح لأنه سهل الاستدعاء، أما المستقبل فإشكالي ومحاط بالأسئلة، وهي صعبة ومحركة للهروب من المستقبل إلي الماضي. الركون هو اعتداء علي الماضي.إن مشكلة الحداثة في أكثر تجلياتها وتمظهراتها وتعبيراتها، تكمن في أنها قائمة علي السلب أكثر مما هي قائمة علي الإيجاب، فهي قائمة علي معرفة ما لا تريده أما ما تريده فغير محدد. وسلاح الحداثة حتي الآن تبين أنه سلاح أفكار من حيث علاقتها بالواقع ورؤيتها للواقع وتعبيرها عن الواقع وكيفية تعاملها مع الواقع، إضافة إلي أنها علي درجة عالية من التجريد وعلي درجة عالية من الإيحاء بالتماهي مع الآخر. وهذا ما يجعل القوي التقليدية والفكر التقليدي في راحة، فأنت في طريقك نحو الإنجاز أما هو فما عنده منجز، فعنده نص وعنده أنظمة مصالح وعنده أطروحة، وأنت في القطاع الحداثي لا توجد لديك أطروحة... لست أدري فلعل كلامي قاسياً.ولكن، في تقديري إن صحت التسمية، إننا محتاجون في المؤسسة الدينية إلي الخراب الجميل، وجمال هذا الخراب يأتي من الأطروحة التي يهجس بها حتي يتحول الخراب من البشاعة إلي الجمال، وإلا فإن نقد الماضي لا يكتمل إلا بنقد المستقبل الذي أنت معني به، فيجب أن نبحث في هذهِ المنطقة، في الأزمة التي يجب أن نحلها.

* دعني أنتقل معك إلي مؤسستك الداخلية، إلي ذاتك التي تكونت في أكثر المؤسسات الدينية تقليدية وعراقة، كيف مسها هذا الخراب الجميل؟

** دعني أطمئنك، فأنا، وإن حاولت أن أكون متزمتاً في كلامي، إلا أن هذا لا يعني أن قناعتي في حركات التحديث سلبية، وأن هاجس التحديث لم يثمر شيئاً، وإلا أكون قد ظلمت نفسي، وألغيت نفسي، فهاجس الحداثة والتجديد اعتراني بمجرد أن فتحت عيني علي المشهد العربي واللبناني والحوزوي.إنني غير محبط وغير آيس فإن كان هناك شيء أشعر أنه قد فاتني، فهو أني يجب أن أكون أكثر واقعية وأكثر تعقلاً، أي أن يكون هدفي وأسلوبي هو تغيير الواقع من داخله وآلياته وقوانينه، والحذر من الإيحاء أن آليات التغير تأتي من الخارج.. أتمني للأجيال القادمة المعنية بهذه المسألة أن تقف عند هذهِ المسألة مليّاً، ولكن هذا لا يعني أني لا أقيم نفسي تقييماً إيجابياً، فأنا وأمثالي من جيل اعتمدنا السؤال وتنكبنا الطمأنينة والتكرار.نحن في تراكمات المرحلة موجودون بوعي داخلي، فليس من الضرورة أن نكون مشروعاً محدداً، لذلك فأعتقد أننا نجحنا. فالواقع تطور والرؤية تطورت بحيث تبين أن موقعنا فيها موجود ولسنا خارجها، والذي أنتم منخرطون في حراكه الآن.إذن تقيمي غير سلبي وفي تقديري أيضاً أن التقليد يحارب الآن في آخر معاركه. وبصراحة شديدة أنا الآن متمسك بالأداء الكلاسيكي للمرجعية في النجف، وبرأيي إنه الآن يشكل ضمانة أمام الغموض الذي ينتظر العراق وينتظر الحوزة، ولكن هذه آخر المحطات. فما بعد السيد السيستاني الإشكالية مختلفة والمرجعية أمام تحد، ونحن نتكلم عن المرجعية النجفية، أما المرجعية في إيران فإنها وصلت كما أعتقد إلي آخر الشوط، فهناك آلية تكون الحدث الإيراني أو المشهد الإيراني، وهي تختلف عن المشهد النجفي.فالمرجعية مستقبلاً إما أن تُقيمُ حالها علي أطروحة جديدة أو أن تنتهي، ولدي شعور بأن النهاية ليست كارثية، ويمكن أن تنقلنا من حالة الاجتهاد الفردي إلي حالة الاجتهاد الجماعي، ونتحول إلي طليعة مجتهدة، بلحاظ أن الاجتهاد مشروط دائماً بتواصل حقول المعرفة المختلفة، ولكن ليس بطريقة إجراء المصالحة، وإنما بطريقة الاختلاف المتكامل بين العلم الديني والعلم المدني، وإلا فالعلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية الدقيقة سوف تتقدم، بحيث تترك العلم الديني وراءها، إذا لم يجدد أدوات معرفته وأنظمتها، واكتشاف ذاته في حقول أخري.

* وهل أنت الآن من المتمسكين بهذه النهاية؟

** إنني لست متمسكاً، وإنما متوقع.

* متوقع ولكنك مدافع عنها كما تقول.

**إنني مدافع عن النهاية. ولست متحمساً، أنا مقرر

* تقول إنك، في وضع العراق الحالي، من أشد المتمسكين بوضع المرجعية الكلاسيكية..

** فهمت مقصدك، إن تمسكي بها سياسي باعتبارها الموقع الحاضن، والأكثر من ذلك لا يوجد بديل لها في العراق، فالتمسك بها وظيفي، للدور الذي تؤديه.

* هناك مراوحات في خطابك ما بين رغبة جموحة في الخراب الجميل الذي يدفعك إلي التحول ومحاولة إنشاء خطاب جديد، وفي الوقت نفسه تجاذب حذر...

** دعني أقدم لك نفسي.. إنني أفجر أطروحتي ثم أستدل عليها... فأنا أولاً تجريبي، فلا يوجد عندي مشروع أريد تحقيقه، وأحد المؤثرات في تجريبيتي أساسياته، والأمر الثاني أني ابتدأت حياتي وما زلت حتى الآن أقرب إلي السياسي منه إلي المفكر. إنني رهين نمط من العلاقات الشعبية والأهلية التي أستورد منها الأسئلة وأعيد تصديرها إليها، فإذن في تقديري الحالي، يصعب علي أن أكون رجلاً يقينياً. الشك هو قريني.. لا أستطيع أن أتعامل بالإطلاق والتعميم، فإذا رأيت السلب فإني أحاول أن أري الإيجاب، وإذا رأيت الضرورة أحاول أن أري الحرية أيضاً، بمعني أن قطعياتي قليلة، لذلك يعجبني الكلام عن الخراب الجميل، ولكني في لحظة الانخراط في التخريب أتردد، لأن أي ظاهرة ثقافية ما لم تتبلور سياسياً تؤول إلي الاستهلاك، وأي ظاهرة سياسية لا تتجوهر في ظاهرة ثقافية لا تنتج. ولكن هناك فارقاً بين أي ظاهرة سياسية وثقافية، فليس بالضرورة أن تستتبع الظاهرة السياسية ظاهرة ثقافية مطابقة، وليس بالضرورة أن تستتبع الظاهرة الثقافية ظاهرة سياسية بنفس الوتيرة. إنني مشغول بهذه الجدلية (الظاهرة السياسية والظاهرة الثقافية). ويأتي ترددي واقتحامي وتراجعي في نفس الوقت من هذا القلق الذي يمنعني من المغامرة، ويمنعني من أن أصوغ أفكاري بشكل موضوعي تماماً، وأري أن الذاتي أكثر إضاءة من الموضوعي، وسؤالي الشديد والملح هو: هل دائماً هناك موضوعي حقاً؟ فإذا كان هناك موضوعي حقاً، فلنعزل الشعراء والفنانين وأهل الذوق وأهل السر عن مجري التاريخ، لأن التاريخ لا يصنعه من يحتلون المشهد، فالتاريخ الحقيقي يصنعه من يكمنون في أعماق المشهد. يعني ليس ديغول من يصنع تاريخ فرنسا، بل فوليتر وأركون، أنا في رأيي هؤلاء هم سرّ التاريخ.

* هذا النفس يعطي إشارة إلي أن خطابك يتقاطع مع كل هؤلاء الخارجين علي مؤسساتهم السياسية والدينية والثقافية وأنساقها الاستبدادية، وفي الوقت نفسه، تبدو أيضا في جزء من ذاتك مشوباً بالخوف والحذر، فكيف تعيش هذه التوازنات (الخروج علي و الخوف من) في سياق مجتمعك هذا؟

** في لحظة ما يدخل العمر والمحيط والتجربة في منهجية التفكير والعمل. في شبابي كانت حساباتي قليلة، الآن المطلوب مني التدقيق أكثر، لذلك انتهيت إلي ثلاثية التوسط والاعتدال والتسوية، أنا وسطي. وإذا أردنا أن نعرف الثورية بمعناها الحقيقي، فهي الواقعية العقلانية التي تغير الواقع بأدواته، والوسطية هي شرطها؛ لأنها تتيح لك أن تري ما حولك وتتيح لك أن تكف عن الاقتناع بأنك تمتلك الحقيقة كاملة ودائمة، وتتيح لك أن تكتفي بالاقتناع أنك تمتلك جزءاً من الحقيقة والجزء الآخر عند الآخر، ولذلك تحتاج إلي الحوار معه حتي توسع المشترك الحقيقي بينك وبينه فتتسع الحقيقة، وهذا يعني أنك تعترف بالآخر، وهذا يتطلب منك أن تعتدل، والاعتدال هو العدل الذي يقوم علي معرفة الحقيقة، وكونك معتدلاً وكونك وسطياً يعني ألا تري حقاً مطلقاً وباطلاً مطلقاً أيضاً.إذن ماذا تفعل؟ تعتمد التسوية مع ذاتك ومع الآخر، مع ما تعرف، ومع ما تعتقد، ومع ما لا تعتقد، وما يعتقده الآخر، مع ما تتوقع وما يتوقعه الآخر. بدون تسوية يخرب كل شيء، تخرب أصغر بنية إلي أعلي بنية. والتسوية هي التنازل المتبادل عما تعتقده حقاً لك، وهو تنازل مشترك، وإلا ستصل عملياً إلي تحصيل ما تعتقده، بعنف ضد الآخر.لو كان إلغاء الآخر تحقيق للذات، فأنا أوافق عليه، ولكن إلغاء الآخر هو في حقيقته إلغاء الذات، فالآخر شرط الذات معرفياً ووجودياً. إذن يجب أن تسعي للتسوية وتفكيك الصورة النمطية عن نفسك وعن الآخر، وهذا التفكيك يجب أن يصل إلي وعي الآخر حتي يساعده علي تفكيك الصورة النمطية عن نفسه، ويدخل هذا التفكيك في وعيك أيضاً. وهذا جدل الحياة.

* كيف تعيش هذا الجدل في مؤسساتك أنت؟

** إنني لا أعيشه في مؤسساتي، وإنما أطمح إلي تأسيسه في مؤسساتي، لأن مؤسساتي مشكلتها الأساسية تكمن في أن التعدد فيها مرتبط بالوحدة، فهي لا تقرّ بالتعدد، وإنما تعتبر نفسها واحدة، والاختلاف هو الخروج علي الواحد. والواحد غير المتعدد إذا انقسم من الصعب رأبه، لبنان ذاب 25 سنة ولكنه قادر علي الالتئام، لأنه متعدد.المؤسسة في أصلها، هي مشروع مصادرة، هي اختزال، هي إلغاء، حتى الآن نحن تختزلنا طوائفنا، فالدولة جماعات وليست أفراداً.إذن أين أمارس تعددي واختلافي؟ الآخر يفسح المجال لي، ويعتبرني إضافة نوعية إلي سياقه، أي حيوية جديدة في سياقه، وعند الآخر تتفجر أسئلتي، ولا يطلب مني التنصل من ذاتي حتي يقبلني، بالعكس التنصل يفقدك اعتبار الآخر لك، الآخر يريدك كما أنت تذهب إليه، وتقبلهُ كما هو، كلما اتسعت مساحة الاختلاف، أصبحت حاجة الآخر إليك وحاجتك إلي الآخر أكثر إلحاحاً، وتلبيتها تصبح أيسر، لأنها تشكل عامل تجدد وتجديد، مشكلتنا في الجماعة؛ إن الجماعة اختزال.

* مقولة التوسط التي تعيشها أنت، وتري في نموذجها النظري نموذجاً لما تعيشه أنت. أنا أري التوسط هي فكرة مجازية من خلالها، تري واقعك في هذا الكون بكل التباساته وتناقضاته واختلافاته، بأناه وآخره، مقولة التوسط هي مقولة نسبية، وقد تكون تطرّفاً بالنسبة لشيء ما، ولكنها بين شيئين متطرفين قد تبدو وسطية. أحياناً يبدو التوسط، وكأنه شيء سكوني كما يبدو في فكرة البندول الذي هو دائماً في الوسط، ولكن وسطه هو الموت وعدم الحركة، وعدم الفاعلية، فكيف تجنب وسطيتك من هذه المخاوف البندولية؟


** يكمن معني الوسطية عندي بالاعتدال، ويتبلور بالتسوية، إن تيار الاعتدال القائم علي التوسط والذي يشتغل بالتسوية، لا يجوز أن يكون تياراً تصالحياً، ويجب أن يتحول إلي مشروع ويجب أن يكون قوياً، فالاعتدال إذا كان ضعيفاً لن يؤثر. إن الاعتدال يجب أن يتحول إلي الوجود، فهو ليس تنصلاً من الموقف، وهو مشروع أطروحة في نفس الوقت وهو مشروع بديل. إضافة إلي ذلك، مسألة النسبية، أكاد أن أقول إننا يجب أن نكون نسبيين في كل شيء، وقناعتي هي أنه ليس هناك إلا مطلق واحد، هو الله، وحتى هذا المطلق هو مطلق بلحاظ كونه غيباً أما بمعرفته فهو خاضع إلي معرفة نسبية، لذلك فالمقدس معرفته غير مقدسة. فحتى القداسة ليست مطلقاً.

* أنت كيف تعيش وسطيتك التي تحدثت عنها وسط هذه الأحزاب، ووسط هذه الانتماءات والتعصبات المنتشرة في خطاب التشيع والتسنن؟

** إن وسطيتي تنبع من كوني أري الواقع والحقيقة مركبة، لا أراها بسيطة، فأنا مضطر لأن أتوسط، حينها التوسط لا يبرر نفسه فيما يتوسط بينه، والتوسط هو منهج يبحث عن مكانه في الآخر، لا يشترط علي الآخر، وإنما يشترط علي نفسه. كل ما زاد التقابل الحاد بين الجماعات التي نعيش معها زادت الحاجة إلي التوسط وإلي الاعتدال.

* حسناً هذه إجابة نظرية، كيف تمارسها أنت في علاقتك بالتالي: حزب الله، أمل، إيران، المرجعية الدينية التقليدية، المرجعية الدينية المتفتحة كمرجعية فضل الله، الحوار الإسلامي المسيحي؟

** هذا سؤال صعب، وربما لأول مرة أسأل هذا السؤال بهذه المباشرة... إن وعيي المفارق له ضئيل، أنا أمارسه أكثر مما أعيه، يعيش في داخلي قناعةً متكونة.حزب الله وحركة أمل وفضل الله، أمارس نقدي تجاههم بالمودة الناقدة، والمودة إذا لم تثمر نقداً، تصبح نفاقاً يقود إلي الخطأ، لا يوجد أحد معصوم، والنقد إذا كان يخلو من المودة يصبح تقويضاً وعبثاً وتجاوزاً للحقائق والوقائع. أنا أمارس نقدي واختلافي من خلال وسطيتي. بمعني أنني لا أستطيع أن أري أي أحد باطلاً مطلقاً، أو خطأ مطلقاً. إنني تكونت بموقع سياسي كأنه مقابل حركة أمل، حتى لا يجد شخص في الماضي صعوبة في أن يصنفني عدواً لحركة أمل، وأنا في نفس الوقت، قريب جداً من السيد موسى الصدر، ولكن لم أستطع أن أكون في فريق عمله، والسبب أنه أكثر تجريبية مني وأكثر واقعية مني، وأنا مثاليٌ إلي حد ما، والمثالية أوصلتني إلي أن يكون أسلوب حياتي وتفكيري مشوباً بشيء من اليسارية بمعناها الرومانسي لا الواقعي. فكانت علاقتي بحركة أمل تقوم علي مركب من القطع والوصل ومن الرفض والقبول، وهذا الرفض والقبول له زمان. بمعني أن موقفي غير دائم وليس معقداً متحجراً، إنه متحرك مع الحدث، فإذا تعرضت حركة أمل إلي ظلمٍ ما فسوف أكون إلي جانبها.أما تقييمي لنفسي، فأنا رجل وطني، ولا يوجد عندي مشروع إسلامي، ولقد تأسست من الأصل علي هذا الموضوع، وموسى الصدر حينما أسس حركة أمل كانت هناك أسباب شيعية في التأسيس، وهناك أسباب وأفكار وطنية، فالبعد الوطني في حركة أمل هو موضوع قبول مني، هذا البعد وهذا المشروع وضع في تاريخ معين. أما تاريخ حركة أمل اللاحق للإمام الصدر فتاريخ إشكالي، أعتقد أن تاريخ الحركة مع الإمام الصدر من ناحية التعاطي معه أسهل مع ما بعد الأمام الصدر، فقد أصبح أكثر إشكالية، والآن أكثر إشكالية من الثمانينيات. إذن موقفي من حركة أمل لم يكن في لحظة من اللحظات نهائياً، أضف إلي ذلك أن لدي وجدان وإحساس بالمسئولية وإشكالية واقعية.يمكنني أن أكتب قائمة بكل مبررات ومسوغات رفضي لحركة أمل وضرورة محاربتها، ولكن أين أضع الشيعة في لبنان؟ فليس لديّ مشروع بديل فأنا أضع خراباً علي خراب. هذهِ المشكلة تجعلني متوتراً وفي نفس الوقت لا أستطيع أن أغامر مع حركة أمل الآن. علاقتي بحزب الله أيضاً مرت بمراحل، ففي فترة من الفترات كنت في طهران مع الثورة الإيرانية، وبقيت هناك ثلاث سنوات، تحولت فيها إلي إسلامي بالمعني المعتاد، اكتشفت بعد أن كنت متنصلاً من وطنيتي وعروبتي، تكويني ووعي انتمائي إلي وطني، وحينما عرضت ما اكتشفت علي الإسلام والشريعة لم أجده خارجهما وغير مدان فعدت إلي لبنان لبنانياً عربياً من دون أن أحمل المشروع القومي وهو في رأيي مشروع فاشل ويختلف عن العروبة بوصفها عنصراً مكوناً في هويتنا المركبة..فهنا بدأت أعي لبنانيتي، وبدأت اقرأ لبنان والقضية العربية قراءة جديدة، وأنا منحاز إلى فلسطين خلال هذهِ الفترة من الأول إلي الآخر، وذهبت إلي حركة فتح التي لم تكن حزباً، ولم تلزمني بشيء وكنت أتناقض معها وأعبر عن تناقضي معها علناً ولا أحاسب عليه، فرخاوة حركة فتح أتاحت لنا أن نبني علاقة بالمسألة الفلسطينية بكامل راحتها وحريتها، ولدينا نقد على التجربة ككل، ولم تكن علاقتي بحركة فتح موجهة ضد أي آخر ولكن واسطة مع فلسطين، فأنا أعتبر وما زلت أن فلسطين رافعتنا الحضارية، ورأيي الآن أكثر واقعية من الماضي في طريقة التصرف معها.عندما قدمت من إيران قدمت معتدلاً في اللحظة التي ابتدأ فيها الانقسام يتبلور بين حركة أمل وحزب الله، حاولت وسعيت أن يؤجل الانفجار أو نلغيه ما استطعنا، وعندما انفجر وقفت في الوسط وتحملت تبعاتها من الاثنين، بمعني ظلمني حزب الله وظلمتني حركة أمل، قبل الانفجار تصالحت مع حركة أمل وتصالحت مع حزب الله وكنت جزءاً من عملية التقريب بين قواعد حزب الله وحركة أمل، ولما احتدمت المعارك، لم يتحملني حزب الله، فقد كان حزباً فتياً وناشئاً ومقاوماً وأيديولوجياً وإيران ... الخ. حزب الله لا يقبل بنصفك يريدك كلك، حركة أمل كانت ترضي بما تعطيها، أما حزب الله فيريد أن يصادرنا بالكامل فاشتبكت العلاقة، والعلاقة أيضاً لم تكن مستقيمة مع حركة أمل، كانت جدلية، الوسطية والاعتدال يفضيان بك إلي هذا الشكل. إنني لم أكن أرضي أن يشتم حزب الله أمامي. أكثر من ذلك اشتغلت أمنياً، فكلما عرفت أن هناك خطراً علي عنصر من حركة أمل فعلي حزب الله يحميه والعكس كذلك. سيارتي وحتى زوجتي عملت معي بهذا العمل، وكنا نهرب الناس من مكان لآخر ونهرب أسلحة ووثائق للاثنين، ونحمي كل منهما من الآخر، هذه تبلورات الاعتدال. في لحظة تصالح الاثنين، ولكن هل تعرف كيف تبلور اعتدالي وتوسطي؟! تبلور عندما ترشحت للنيابة ضد الاثنين بعد أن بذلت جهداً غير عادي لجمع الاثنين، وعندما اجتمعا ترشحت وحاربني الاثنان وصوّت لي الاثنان.. يعني قرار الحركة لم يكن ملزماً وقرار الحزب لم يكن ملزماً.. هذه إشكالية التوسط في فهم الناس له. ولذلك نحن في موضع خلاف، وهذا يعني أنني في مجلس واحد يمكن أن أُشتم ويمكن أن أعتبر عظيم العظماء، هذه إشكالية التوسط، فالمتطرف لا يستطيع أن يراك في الوسط يراك في الطرف الآخر. وحزب الله استقامت العلاقة معه عندما تصالح مع أمل، بدأ يلتفت ونحن كنا علي رأسه أيضاً في هذه الالتفاتة، فوسع خطابه السياسي وأصبح أكثر مرونة بحيث انعكست هذه المرونة علي المقاومة إيجابياً، لأنه انسجم مع مقتضيات اتفاق الطائف والعيش المشترك ووحدة البلد. في هذه اللحظة، كنا منخرطين في الحوار المسيحي الإسلامي فساعدنا في 1993و1996م علي كشف النبض اللبناني الوطني الوحدوي حول المقاومة، هذه المقاومة ذاقت حلاوة قبول الآخر له، فحسنت خطابها وأصبح أكثر مرونة، أما معي فلم يكونوا مرنين ولم يستوعبوني، ولكن فرحت لتحولاتهم وانفتاحهم، فأصبحت أكثر مودة لهم وأكثر قرباً منهم.الآن أنا مع حركة أمل أشتغل علي تأسيس منهاج ثقافي لتثقيف حركة أمل؛ فهؤلاء أبناؤنا ولا يجوز تركهم، لكنا في الحقيقة نعاني من صعوبات مذهلة. ولقاءاتي مع حزب الله الآن أسبوعياً، لأننا نريد استيعاب المرحلة القادمة في العراق، آذان حزب الله الآن مفتوحة للآخر.هذه تجربتي بمفاهيمها للاعتدال والوسطية، وهذه تجلياتها وهذه مصادرها أيضاً، إنها مركبة علي أنه لا يوجد حق مطلق ولا باطل مطلق، وأن تغيير الواقع بأدواته ومن داخله وليس من خارجه، وأن الحقائق مركبة من مستويات وعناصر متعددة، وإذا برزت بعض العناصر في لحظة ما علي حساب عناصر أخري، فلا يعني أن بروزها دائم. فلكل لحظة تاريخية وضعيتها، لذلك نحن ندرك عناصر هويتنا ونقيم أهميتها في كل زمن بشكل مختلف.

* بقي فضل الله والدعوة. كيف كانت وسطيتك مع هؤلاء؟ وكيف صاغت مفاهيمك للوسطية والاعتدال علاقتك بهما؟

** مارست نقدي علي حزب الدعوة، فرُد عليّ بالاتهام بأنني عميل وصهيوني مرة، وعميل عراقي مرة أخري، وضد الإمام الخميني، ومتآمر علي إيران، وغير مسلم وغير شيعي وغير حوزوي. كل ذلك لأنني قررت أن أري حزب الدعوة في واقعه. أنا الآن أري حزب الدعوة إيجابياً، وأنا لا أنكر نضاليته بلحظة ما ولو لم يعجبني. اتجاه حزب الدعوة الآن متجدد، وقد قرأت له نصوصاً تكاد أن تكون علمانية وعلي درجة من اللبرلة، وأتمني من حزب الدعوة أن يجدد نفسه دائماً، فأنا إن لم أكن حزبياً فهذا لا يخولني إن ألغي الأحزاب، فالأحزاب مجتمع مدني في النهاية.* ومع السيد فضل الله؟** أري أن الخلاف بين السيد فضل الله وحزب الله حول المرجعية والسلطة، فليس بينهما خلاف فكري. الخلاف المنهجي الذي يقوم علي اختلاف الأفكار، يمكننا أن نجده بين حزب الله والشيخ محمد مهدي شمس الدين رحمه الله، فهذا الرجل يقول بولاية الأمة علي نفسها، ويقول بالدولة المدينة والمجتمع، ويقول ويقول أمور أخري. أما السيد محمد حسين فضل الله فقد تعاطي مع فروع معينة، وهو لم يؤسس لها، وإنما أعاد تظهيرها، وتعاطي مع المسألة وكانت نائمة، وعندما استيقظت لم يكن هو من أيقظها، لأنها أيقظت عقدة المعاكسة عند حزب الله علي مستوي سياسي. إنهم برأيي يحاولون أن يضعوا السيد فضل الله في موضع الخطورة الفكرية وذلك لوجود خلاف سياسي، وخلاف نظام مصالح. فأحمد الكاتب فتك بمسلمات، وأنا لا أشتمه، ولكن الردود عليه خفيفة، وذلك بسبب عدم تطلعه إلي موقع المرجعية خلاف السيد فضل الله

ماهو تعليقك؟

----------------------------------------------
السيد هاني فحص.

مواليد عام 1946 في جبشيت في جنوب لبنان.

خريج جامعة النجف الأشرف في العراق.

يتعاطى البحث والكتابة ويطل على السياسة من موقع فكري.

شارك في المقاومة الفلسطينية عن كثب.

كان على علاقة مبكرة مع الثورة الإسلامية في إيران منذ أوائل السبعينات.

يكتب في عدة صحف ودوريات عربية.

له أحد عشركتاباً، أهمها:

في الوحدة الإسلامية والتجزئة.

ملاحظات في المنهج، المسرح.

التهويد الثقافي.

الحوار في فضاء التوحيد والوحدة.

الشيعة والدولة في لبنان.