البصرة مدينة تاريخية تعتبر من المدن التي تأسس فيها النحو العربي وعلوم اللغة المختلفة. بمعنى أنها مدينة حضارية وبمرور سريع على كتاب الجاحظ تستطيع أن تكتشف كيف أن البصرة كانت تعيش في إنسجام وتسامح لا نجده في أية مدينة أخرى.

الذي يحدث يعتبر نتيجة لعملية الهندسة الإجتماعية التي نفذها النظام الزائل في العراق على وجه العموم والبصرة على وجه الخصوص. حيث من المعروف أن البصرة تتمتع ببعض الصفات تجعلها مؤهلة للخضوع لتلك الهندسة الإجتماعية منها أنها تحتوي على بنية متعددة ثقافياَ وإجتماعياَ وطائفياَ وهي بنية تعتبر في كثير من الأحيان ميزة إلا أنها في هذه الحالة عكس ذلك.
وضع البصرة كمدينة حدودية بين الكويت جنوباَ وبين إيران شرقاَ جعلها تتجاذب بين تأثيرين لا يمكن التقليل من شأنهما، التأثير الإيراني وإمتدادانه، والتأثير السني العربي الوافد من الجزيرة العربية، والذي يشوبه الكثير من فكر التعصب والتطرف والتكفير.

وضع البصرة كمنطقة حدودية ودخول العراق في حرب مع إيران جعلها تعيش أجواء وجود جيش وقواعده بشكل مستمر، حتى أن المدينة بكافة مفرداتها تحولت إلى ثكنة عسكرية كبيرة.

وضع البصرة كمدينة تمتلك تاريخاَ وحضارة جعل فيها طبقة كبيرة نسبياَ من المثقفين الإسلاميين الشيعة العرب مقارنة بغيرها من المدن. هذا الوضع جعل شهية النظام وقواه الأمنية الوحشية مفتوحة لإستئصال هذه الطبقة بكل وحشية ممكنة. حتى أننا نلاحظ أن عائلات شيعية عربية قد أستؤصلت بالكامل أو هجرت إلى مناطق أخرى بفعل ظروف الحرب والإرهاب البعثي. ورغم أنني لا أمتلك إحصائية دقيقة عن عدد الشهداء الذين قدمتهم البصرة في طريق الإسلام ضد النظام البعثي، إلا أن المقابر الجماعية والمستوى الذي نراه عند متابعتنا لواقع البصرة نستطيع أن نؤكد أن مئات الألوف من الأبرياء من أبناء البصرة قد ذهبوا قرابين في سبيل الإسلام.

البصرة لم يحصل بها أي تطوير إقتصادي أو إنشائي على مستوى البنية التحتية. وظلت تعاني كثيراَ بفعل عوامل الحصار ونقص الخدمات والفقر.

البصرة كانت من أول المدن التي إنتفضت ضد النظام في شعبان 1411 وبالتالي فقد كانت تمثل مدينة عنيدة في وجه النظام.

هذه العوامل وغيرها أدت إلى أن تكون البصرة مكاناَ إستعمل النظام فيه كافة أساليبه في الهندسة الإجتماعية.
وكان أحد هذه الأساليب إستقدام شيوخ دين من مناطق بعيدة جداَ عن البصرة مثل سامراء والفلوجة والرمادي وغيرها. وتسليم بعض المساجد اليهم. وقد تم تنسيق جيد بين هؤلاء الغرباء عن المنطقة ووافدين عبر الحدود من الكويت والسعودية وقطر والإمارات من الذين كانوا يقدمون إلى العراق في فترة الحصار وقبلها على شكل تجار ومسؤولين وعمال إغاثة. وبهذا تظافر رأس المال السلفي الوهابي مع الجهل القادم من مناطق الفلوجة والرمادي والإرهاب البعثي بأجهزة المخابرات والأمن. هذه الحالة ولدت ضغطاَ ليس فقط على الوجود الشيعي في المدينة بل إمتد ليشمل الوجود السني الأصلي في المدينة من الذي رفض التعامل مع السلطات في مسعاها هذا لتغيير البنية الإجتماعية البصرية المتسامحة والأليفة.

النتائج كانت وخيمة، ولم يمكن ملاحظتها في ظروف تعتيم أمني وإعلامي مطلق، وبدأت تبرز إلى السطح في ظروف إنعدام الأمن والفوضى. إذ تم كسب الكثيرين من أبناء الطائفة السنية إلى هذا المذهب المتعصب والتكفيري في مدينة يمثلون هم فيها أقلية. وتم تحريك هؤلاء الشباب في أوضاع تضخيم للذات الطائفية ضد الأكثرية في المنطقة، وما تجولهم بللبسهم الذي اصبح رمزاَ إلا دليل على تحركهم في أثارة التوتر والإحتكاك..
وهي أحداث ممكنة الوقوع,
ورغم أن الكثيرين يوجهون الذي يحدث على أنه مؤامرة أميركية صهيونية إلا أنني أعتقد أن الذي يحصل هو نتيجة حتمية للذي فعله النظام بسبب سياساته التي خلقت قنابل موقوتة في وجه تطور المجتمع العراقي نحو الحضارة والحرية والإستقلال ، وبعيداَ عن نظرية المؤامرة إن الذي يحدث إنما يتحمل مسؤليته النظام وأساليبه في تغيير التركيبة الإجتماعية في العراق. وربما يستفيد المحتل البريطاني والأميركي من ظروف الواقع الجديد الذي خلقته تجارب النظام فيما يحقق الفائدة القصوى في مشروعهما في العراق.

كعلاج مبدئي تتطلب المسألة وقفة من وجهتين

الوجهة الأولى هو إنشاء مصالحة وطنية على مستوى العراق ومستوى المناطق تبنى على أساس أن الكثيرين من أبناء الطائفة الشيعية تعرضوا إلى الإبادة وليس فقط الإضطهاد من قبل نظام طائفي إستخدم الطائفية كسلاح. بمعنى نريد إدانة واضحة وصريحة من قبل إخواننا السنة في العراق لكل الجرائم التي أرتكبت بحق الشيعة والإعتراف أن هناك تمييزاَ واضحاَ كان يصدر ضدهم من قبل النظام وأجهزته التي كان يقودها ويديرها السنة.

الوجهة الثانية التحرك وبقوة وحزم لإعلان أن الذي يوحد العراقيين هو الإسلام كدين واحد والعراق كوطن واحد. بمعنى أن يكون الإنتماء للوطن هو الأولوية الأولى قبل الإنتماء والولاء للطائفة