 |
-
تراجيديا الكتـــاب العراقـــي - سهيل نجم
[align=justify]

[mark=CCCCCC]تراجيديا الكتاب العراقي[/mark]
سهيل نجم
19 July, 2008
إعتماداً على مبدأ الشفافية، وحرصاً على المصلحة العامة لسيادة أجواء صحية في الثقافة العراقية اليوم سنثبت هذه الملاحظات راجين أن نحسن فهم المقاصد الحقيقية التي ليس الغرض منها النقد الشخصي والذاتية المريضة بل النقد البناء الساعي إلى التنبيه إلى الأخطاء وكشف السبل الكفيلة بتجاوزها. لقد عانى الكتاب العراقي ويعاني اليوم من الغربة فهو في جانب كبير منه ليس في داره ويعاني التغرب إذ يضطر إلى طرق أبواب كان يجهلها ويعاني كذلك الاغتراب إذ وقع ضحية سماسرة الكتب الذين استغلوا ظرفه الخاص وهو فضلاً عن ذلك يعاني الهجرة القسرية منذ زمن طويل ولايزال وليس من محاولة جادة، حتى الآن، لإطفاء كل هذه المعاناة، إنه، في الخلاصة، حاله كحال الإنسان العراقي، والمثقف تحديداً، الذي ظل يعاني من هذه الأمراض دونما علاج شاف وناجع.
يهمنا هنا متابعة شأن الكتاب الثقافي، فشأن الكتاب المدرسي له همومه الخاصة وقد عقدت عنه الندوات والدراسات وطرح شأنه حتى في مجلس النواب بينما لايزال شأن الكتاب الثقافي مقصياً عن اهتمام مجلس النواب والحكومة والدولة بأكملها، وكأنه لا يمثل عصارة الفكر العراقي ووجهه الحضاري.
من المعروف أن الكتاب العراقي الثقافي ظل محتكراً، فيما يخص نشره وطباعته والرقابة عليه، من قبل دور النشر الرسمية الممثلة بمؤسسات وزارة الثقافة العراقية كدار الشؤون الثقافية ودار المأمون للترجمة ودار ثقافة الأطفال ودار الثقافة الكردية. ولعل ضمور دور النشر الأهلية وعدم توفر الدعم الأولي لها كي تقف على قدميها لتساعد في العمل النبيل في نشر الثقافة الأصيلة والحرة يعد مثلبة من مثالب العهد الاستبدادي المقبور الذي قوض حرية الثقافة ونشرها، من بين أمور كثيرة، من خلال حصر نشر الثقافة بيد الدولة-الحكومة، للأسباب المعروفة في احتكار المعلومة أو حجبها عن الناس، والغريب أن تستمر هذه المثلبة بعد أن تداعت أركان ذلك العهد الاستبدادي.
ولا يخفى الدور الإيجابي الذي قامت به المؤسسات الرسمية من نشر لمفاصل الثقافة العراقية وفتحها كذلك لمنافذ واسعة على الثقافة العربية والعالمية خصوصاً من خلال ما أصدرته دار الشؤون الثقافية من عيون الأدب العراقي المعاصر في الشعر والرواية والنقد والدراسات الفكرية والتاريخية، ناهيك عن بعض كتب التراث المختارة وما أصدرته دار المأمون من كتب مترجمة في مختلف صنوف المعرفة حققت فيها الشهرة الواسعة عربياً في حسن اختياراتها وتميز مستواها الثقافي وكذلك ما أصدرته دار ثقافة الأطفال من كتب كانت السباقة فيها على صعيد الدول العربية خصوصاً في اهتمامها بنشر كل ما يخص ثقافة الطفل التربوية والعلمية والصحية.
لكننا من الحق أن نقول أن المسؤولين الحزبيين في هذه المؤسسات، وبتوجيه مقصود ومدعوم من "القيادة العليا"، قد عملوا على تكريس اتجاه واحد ومعروف للثقافة وأقصوا كل الاتجاهات الأخرى التي تخالف اتجاههم الأحادي المقفل على الفكر السطحي والتعصبي زاعمين زيفاً أنهم يمتلكون الحقيقة وحدهم وعلى الآخرين اتباعهم بقطيعية ألفوها ما تسبب في فرض الهجرة على الكتب العراقية التي تمثل تلك الاتجاهات الفكرية التي تخالف التوجه البعثي وأدى ذلك، كما أسلفنا، إلى غربة هذه الكتب في عواصم عربية وغربية ومن ثم اغترابها، إذ تحتم أن تقع ضحية استغلال دور النشر العربية وجشع أصحابها الذين أثروا على حساب مؤلف الكتاب العراقي. ومثلما تسببت السياسة الهمجية للنظام الاستبدادي في قتل وموت الكثير من العراقيين في قبور جماعية ونفيهم وللعراقيين في ذلك قصص وحكايات وذكريات حقيقية لا تنتهي كذلك ثمة الكثير والكثير من القصص والحكايات اذ قتلت هذه السياسة الكثير من الكتب العراقية المهمة في قبور جماعية أو أحرقت وعانت من المنفى والضياع. هل يجدر بنا الحديث عن الكتب التي أجهضت وهي بعد في أذهان كتابها وحتى عن أحلام الكتب التي وئدت وهي لم تزل رؤى؟ أتذكر هنا حلم (أو وهم) صديقنا الزاهد - الصعلوك جا ن دمو وهو يكثر الحديث على الرواية التي ينوي كتابتها ولا يحتاج إلا لغرفة يعتزل فيها مع نفسه.
وإذ تتم المناقشات والدراسات لإعادة المهجرين والمنفيين من العراقيين نقول هل ثمة في الأفق ما يدل على وجود برنامج لإعادة الكتاب العراقي من منافيه؟ هل ثمة برنامج لإعادة إحياء ما تم حرقه أو منعه من تلك الكتب؟ أليس في إحياء تلك الكتب وعودتها إلى الوطن إنعاش للثقافة العراقية الحرة؟ ونتساءل أيضاً هل يضع المسؤولون عن دور النشر الرسمية اليوم ذلك في حساباتهم أو خططهم، إن كانت هناك خطط!؟
إن المراقب لما يجري من نشر للكتاب العراقي من دور النشر الرسمية يجده يتسم بغياب التخطيط أو البرمجة إذ ليست هنالك خطة لدى أي من تلك الدور في النشر، وتكتفي كل دار بما يردها من مخطوطات من المؤلفين أو المحققين أو المترجمين. بينما من المفترض أن توجد لجان من المختصين يضعون برامج مدروسة في تكليف الكتاب والمترجمين لتوفير الكتاب الثقافي المتميز الذي يلبي الحاجة الفعلية في نشر ثقافة علمية وأدبية رصينة. فضلاً عن ذلك هنالك إشكالية تأخر صدور الكتاب. إذ قد تبقى المخطوطة أربع سنوات أو خمس في انتظار دورها في الطباعة والنشر على الرغم من البت بشأن الموافقة على نشرها من الناحية الفنية. والمحظوظ من ينشر كتابه في سنة أو سنتين. ناهيك عن الضعف الواضح في إخراج الكتاب ما يقلل من اجتذابه للقارئ وعليه فهناك حاجة إلى مواكبة التطورات الحديثة في إخراج الكتاب وطباعته.
ومن المشكلات الكبيرة، إن لم تكن من المآسي، هي حقوق المؤلف والمترجم. ثمة تعامل مجحف إلى حد كبير بشأن تلك الحقوق. من المؤكد أن الكاتب العراقي لا يعول على أن يعيش من كتبه ومؤلفاته مهما أصدر من أعمال حتى وإن نالت أعماله الجوائز، فالتعامل البيروقراطي أدى إلى إهمال الأساليب المتبعة في الدول المتقدمة في تسويق الكتب والمؤلفين والدعاية لهم أو التعريف بهم عبر وسائل الإعلام المختلفة والإنترنت. فمن يتخيل اليوم أن أجر ترجمة الصفحة في دار المأمون لا يتعدى النصف دولار! هذا إذا كان الكتاب المترجم من النثر، إذ يحسب أجر الكلمة أربعة دنانير، ولكم أن تتخيلوا مدى الإجحاف لو كان الكتاب المترجم من الشعر!؟ أذكر أن حقوق ترجمة كتاب قصائد الشاعر محمود البريكان إلى الإنكليزية الذي ترجمه الدكتور شهاب أحمد تعادل مائة دولار فقط! أليس هذا دافعاً كافياً لتهجير الكتاب وطرده إلى خارج العراق حين تكافئه أصغر دور النشر الأهلية في دمشق وعمان وبيروت ما بين خمسة أضعاف إلى عشرة أضعاف في أقل التقديرات؟ هذه هي لوائح تقدير حق الترجمة في الدور الرسمية ولم تتزحزح مع علمي بالجهود الكبيرة التي بذلت والتي تبذل في سبيل تغييرها ولكن، للأسف الشديد، تصم الآذان حين يتعلق الأمر بحقوق المؤلف والمترجم وكأنهما لا يستحقان غير (بخشيش) بسيط يشتريان به الحلوى لعيالهما وهما ليسا بحاجة للمصادر الحديثة ليزيدا من عمق معرفتهما ولا ليؤمنا اساسيات حياتهما كي يبدعا أكثر. أعتقد أن مأساة الكتاب العراقي تحتاج إلى حلول مدروسة من لدن الحكومة والدولة عموماً، وهي في ظني في بعض جوانبها أكبر من مسؤولية المدراء العامين لدور النشر، فعلى سبيل المثال أن المبالغ المرصودة لطباعة الكتب ونشرها في دار المأمون هي أقل بكثير من أية دار نشر صغيرة في الدول المجاورة، وعليه فمن الطبيعي أن لا يتجاوز ما يصدر عنها من كتب سنوياً الخمسة كتب! ترى هل تكفينا هذه الكتب الخمسة في أن نتخذ موقفاً من الثقافة العالمية ونتعرف إلى أي التخوم قد وصلت؟ هل هذه هي نافذتنا على الثقافة في العالم؟ أنا على يقين تام أن أياً من هذه الكتب المترجمة الخمسة لم يصدر حديثاً! نتساءل ألا يعد الاهتمام بالترجمة من المقاييس الأساسية في قياس مدى تحضر الأمم؟ وهل لنا أن نسنتحضر هنا أسطورة الزمن الذي كان يوزن فيه الكتاب بالذهب؟
الشيء المثير أنه على الرغم من ضعف الحقوق التي يتلقاها المؤلف والمترجم العراقي من دور النشر الرسمية (الوحيدة) نجد أن الكثيرين منهم يواصلون تقديم المخطوطات لها، ربما بسبب دوافع وطنية يؤثرون من خلالها كسب القليل على أن يغربوا أنفسهم وكتبهم في الخارج، لكنهم يصطدمون مرة أخرى بتعثر النشر وتأخره لأسباب كثيرة من أهمها قلة التخصيصات الحكومية لطباعة الكتب القليلة التي ترد.
من الناحية الأخرى تبذل أموال غير قليلة في وزارة الثقافة على طباعة مجلات تسمى (ثقافية) لم تنجح أغلبها لا إلى جذب القارئ العراقي ولا إلى جذب حتى المثقف العراقي للعمل في تحريرها أو التواصل معها بما يمس بالفعل هموم واحتدامات الثقافة العراقية التي تحفل، وخصوصاً في هذه المرحلة، بتمفصلات وصراعات في الهوية والوجود نحن أحوج ما نكون اليوم إلى تفكيك خطاباتها كلها والوقوف عند كل ما يعيد بنائها على وفق هويتها العراقية الأصيلة. إن الموضوعية تدفعنا إلى القول أن مجلات وزارة الثقافة لم تجار ولم ترق، من الناحية الفكرية والمعرفية، إلى مستوى المجلات الأهلية العراقية التي ظهرت بجهود شخصية من مثقفين حصلوا على الدعم اليسير من هنا أو هناك يحملون الدافع الوطني والحقيقي لثقافة ذات معرفية عالية وعميقة بعيداً عن التسطيح والمجاملة. وأدعو هنا إلى مقارنة موضوعية بين مجلتي"الأقلام" و"ثقافتنا" الرسميتين من جهة ومجلة "مسارات" من الجهة الأخرى؛ ومقارنة مجلة "المأمون" بمجلة "جدل"! إن المجلات الرسمية يعلوها الصقيع من ناحية سخونة (الحالة العراقية)، وهي في الغالب تجميع مواد ونصوص ولا تملك ستراتيجية فكرية تسير على وفقها. وبالنتيجة خلقت عزلة واضحة بين هذه المجلات والقارئ، لتزداد بذلك فرص خمودها بعد فرصة تعثر توزيعها وتكدسها على الرفوف والمخازن، وهذه هي الإشكالية الكبيرة الأخرى في (تراجيدية) الكتاب
العراقي.
فعلى مدى السنوات الخمس الماضية لم نلحظ لدى وزارة الثقافة الجهد الواضح في حل مشكلة توزيع الكتاب. وظلت المطبوعات القليلة بعيدة عن القراء بينما تصل الصحف إلى أبعد الأماكن! أسائل المسؤولين هنا كيف تأتى أن تصل مجلة "العربي" الكويتية بصحبة "العربي الصغير" في أكثر زوايا بغداد، وقد يكون الأمر كذلك في المحافظات، بينما لا نجد مجلا ت الوزارة كالأقلام والمأمون وغيرها حتى في الأكشاك مقابل بناية الوزارة؟ وإذا كانت وزارة الثقافة قد شغلت نفسها في بداية عهدنا الجديد بمناقشة مشكلة توزيع الكتاب ونشره فقد سكتت تماماً في السنوات اللاحقة عن الكلا م المباح متقاعسة عن أهم واجباتها وأهم ما يمكن أن تقوم به، حسب تقديري، وهو نشر الثقافة- عبر نشر الكتاب-.
إن عمل الحكومة الناجح في بسط الأمن واحترام القانون ومكافحة الإرهاب والتطرف لا يتعزز فقط بالبناء الاقتصادي وخلق فرص العمل، بل أيضاً في نشر القيم الثقافية العليا وآن الأوان لطي صفحة تجاهل أهمية الكتاب الثقافي وبالتالي تجاهل أهمية الثقافة وإقصاء دورها الأساسي في تأسيس الكيان الاجتماعي والسياسي المعافى.
[/align]
ضوابط المشاركة
- لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
- لا تستطيع الرد على المواضيع
- لا تستطيع إرفاق ملفات
- لا تستطيع تعديل مشاركاتك
-
قوانين المنتدى
|
 |