تحت عنوان ( حزب الدعوة والنهج المستقل ) كتب طارق الدليمي في صفحة التجديد العربي للدكنور يوسف عبدالله مكي . انقله لتعم الفائدة ، فهي نظرة قد نختلف معها لكن سنستفيد منها .
------------------------------------------
حزب الدعوة والنهج المستقل
النشوء والعلاقات في العراق الحديث
يتحدث الصوفي العظيم السيد أحمد الرفاعي، من شطحاته الرائعة، ودلالاتها المتعددة المحلقة في أجواء متناقضة فيقول: <<فصغيره يفجع وكبيره يوجع>>. هكذا عندما استمع <<مواطنو الشيعة>> إلى التحاق (المجلس الأعلى) ورئيس مكتب المجاهدين فيه بالإدارة الاميركية وسلمها من حافظة النظام معلومات مفصلة وخطيرة عن أسلحة الدمار الشامل. <<فجع>> هذا الجسد الشيعي بانضواء سليل المرجعية السابقة تحت الخيمة الانكلو اميركية. وحين ذهب ابن المرجع السابق (عبد المجيد الخوئي) إلى إيران ليطمئنها بأن الولايات المتحدة لا تبغي شراً بها إذا تعاونت معها في حرب العراق واحتلاله عسكرياً واجهته جماهير الحسينية النجفية في <<قم>> بأسلوب فلاحي قاسٍ. بيد انه حين دخل مع قوات الاحتلال الأجنبي كتب مصيره بدمائه. لكن <<الوجع>> الحقيقي الذي أصاب الجميع، بمن فيهم شرائح من الصفوة من خارج الطائفة وذات الطابع العلماني، حين تناهى إلى آذانهم وهم لا يصدقون ببساطة، أن حزب الدعوة كان قد اجتمع مع المندوب السامي الاميركي (خليل سلمان زادة) في أميركا ولندن قبل العدوان والحرب بأسابيع وأن اجتماعات عديدة أضيفت لاحقاً إلى فاتورة اللقاء والتفاهم وأن الحزب بعد الاحتلال قد وافق على الانضمام إلى سقيفة القوى الأساسية المتعاونة والمتفاهمة مع إدارة بريمر ومنظّرها الأساسي جلال الطالباني. فكيف تمّ ذلك؟ وهل أن هذه الاستدارة التاريخية للحزب تعتبر الذروة في الحصول على صفة <<المواطن الشيعي العالمي>>، أما أنها أيضاً بداية النهاية، أي الوصول إلى المحطة الأخيرة، التحول من حزب التشيع الثوري إلى <<أيقونة>> تاريخية جامدة وباردة. وهل هي الصدف التاريخية التي أوصلت الأجداد السابقين إلى نفس المصير، وضمن حالة تاريخية مشابهة: سلطة سياسية مستبدة وفاسدة، مع غزو أجنبي بربري عارم.
هذا ما آل إليه التشيع العربي في العراق على أثر السقوط الشامل في (قلعة الموت) واحتلال بغداد لاحقاً من قبل المغول بقيادة هولاكو. وهل أن التاريخ يعيد نفسه، الارتجاج الحاد بين نموذج <<المستعصم>> من جهة، ونموذج <<العلقمي>> من الجهة الثانية. وبالرغم من أن العديد من المراقبين وجلّهم من العراق، يكادون يجزمون أن فرص العلقمية الجديدة كبيرة ومفتوحة، إلا أن إيقاع الأحداث يشير إلى عكس ذلك تماماً. فلا يمكن لتاريخ طارئ يعتمد على برزخ ضيق للعلاقة بين تشوهات المستعصم والعلقمي أن تنحني أمامه جغرافية سياسية عريقة وذات امتدادات واعدة دائماً. هل يمكن إعادة <<القراءة>> بصورة معاكسة لمسيرة الأحداث السابقة.
لنحاول جهد الإمكان ونحن نضع الأصابع على جروحنا ونقلب بصبر صفحات مشرقة قريبة، كُتب عليها أن تتحوّل إلى أوراق صفراء تذروها تواطؤ رياح الفشل وأعاصير الأطماع، في بيئة سياسية إقليمية عالمية، عرفت فيها الولايات المتحدة <<كيف تمط أرجلها الدقائق>> وكيف تحيل سلطة العراق (ودولته) ومعارضته (ومجتمعه) إلى قبض ريح وباطل أباطيل.
نشأ الحزب منذ البدايات الأولى في أحضان المسحوقين ومستضعفي <<السواد>> الغابر منذ أكثر من عشرات القرون، تربّى في مزارع التمرد الأولى وسباخ العصيان القرمطية وأهوار المتاريس البدائية لصاحب الزنج في <<المختارة>> الباسلة في بطائح الجنوب.
وبعد التجليات الأولى، تحايلت قياداته الشابة على أقانيم ثلاثية في الفضاء الشيعي الرحب، المرجعية وقوتها في المراكز الدينية المهمة، البازار (وهو عملياً القسم الأساسي من الطبقة الوسطى المدينية) وفعاليته الخاصة في المدن الرئيسية والعاصمة بغداد، والقبلية ذات السطوة الريفية المطلقة.
وفي نهاية الستينيات، سجّل الحزب انتصاره الأول على هذا المثلث الصارم، وكانت الأضلاع المتجانسة المتصارعة ترنو بأبصارها نحوه من منطلقات مختلفة. أرادت المرجعية أن تجعله أداتها الجديدة في ظل تنامي السطوة الطائفية العارفية، وصعود العلمانية الطوائفية البعثية. وكان البازار الذي تحمل الكثير من ضغوطات المرجعية، وناء كاهله بتردداتها السياسية وانحرافاتها المتكررة، قد وجد ضالته في عصبة من الشباب المنفتح الواعي لذاته المذهبية، والرامي إلى إعادة الاعتبار للمذهب الذي بدأ يواجه الانحلال والضمور. أما القبلية المتسلطة في الريف، فقد قبلت به رغماً عنها، وذلك لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من قوتها الزائلة.
ومنذ طلائع نشاطاته كان الحزب ملتزماً بشكل لا واعٍ بأساليب البلشفية الكلاسيكية في العمل والتنظيم والدعاية. لقد تجاوز بسرعة مرحلة <<ما العمل>>، ليدخل بثقل ورصانة إلى حقبة <<خطوتان>>. وكان الغموض السائد حول هويته الاجتماعية أمام قوى ذات ماضٍ ليس بالبسيط، هو الذي خدمه جدياً في بناء تنظيمه الحديدي. لقد استفاد من حالات عديدة ذات طابع سياسي اجتماعي، وتمتلك أبعاداً محلية وإقليمية. ففي نهاية الستينيات وبعد الفشل الذريع لرأسمالية الدولة المعوقة وخطط الدكتور الكينزي خير الدين حسيب في الاشتراكية الرشيدة، تنامت الحركة العمالية في بغداد والمدن الرئيسية، وكانت قياداتها الاتحاد العام الذي تسيطر عليه الحركة الاشتراكية بقيادة هاشم علي محسن محل الدليمي ورمزهم المهم المغدور فؤاد الركابي، مع الحركة الجديدة الصاعدة للحزب الشيوعي بعد الانتكاسة الدموية في العام 1963. لكن الفراغ الهائل الذي أحدثته سنوات الانحسار السابقة في الجسم العمالي، والذي لم تتمكن الحركات المذكورة من املائه بالشكل المطلوب، هو الذي دفع أقساماً مهمة من جماهير العمال والكسبة إلى الانضواء تحت ظل الحزب الصاعد الدعوة. وكانت ملاحظة مهمة، هي التي قرأت ذلك في المشاريع الكبيرة ولا سيما التي تعود ملكيتها إلى فعاليات شيعية معروفة. لكن الحزب الذي بدأ ساعده يزداد قوة وجسارة تنبّه مبكّراً إلى ألاعيب المرجعية وتردّد وخوف البازار وغدر القبلية الأمية. لذلك حاول التركيز على جهوده الخاصة وأن يمدّ نسيجه إلى الجماهير والاعتماد على صفوته المقاتلة الدينية والمدنية. لذلك لم يحاول الإغراق في السلوكيات السياسية التي اتجهت إليها بعض أطراف المرجعية، وقسم لا بأس به من البازار. وحين تمّت صفقة 17 تموز 1968، كان الحزب في أشد حالات الضيق السياسي والتبرّم التنظيمي. وسرعان ما تبخّرت كل أحلام الأجنحة المتواطئة مع البعث حين أُلقي بها خارج السلطة بلا رحمة. عندها قرر الحزب أن ينزل إلى الشارع ويلتصق مع الجماهير التي بدأت تزداد فقراً وغضباً. لقد عم الانتشار أكثر في المدينة ليلبي نداءات قوى اجتماعية أصبحت بلا قيادة عملياً بعد أن خذلتها الزعامات اليسارية منها (الشيوعي الرسمي) بتحالفها مع النظام القائم، وتمكن من أن ينفذ إلى مناطق مهمة في الريف أيضا بعد الفشل الذريع لتجربة الكفاح المسلح للقوى اليسارية الواعدة (القيادة المركزية). وبكون الريف عملياً كان مرتعاً لمرتزقة المرجعية وبقايا حثالات السراكيل (الصوباشي بالتعبير المستعمل في بلاد الشام)، وحيث أن الريف العربي (لا سيما الشيعي) يخلو من المرتكزات والمؤسسات الدينية (الجوامع وبعض الحسينيات المتباعدة) وعلى عكس الريف الكردي الذي يكتظ بالتكايا والخانقاه، ملاذ الدراويش للتأمّل والصلاة. وكانت هذه القبائل العربية الأصول، والمتشيّعة قريباً (لاسيما ربيعة، زبيد، دليم الفرات الأوسط، بني تميم) تتوق إلى منقذ خاص يرتبط بوشائج مباشرة معها ومع طموحاتها وآمالها. ولقد تعمقت نشاطات الحزب أيضاً بفضل الفشل الحاد للحركة السياسية والدينية في إيران في منتصف الستينيات في مواجهة الشاه وحكمه المستبد.
وحاول الحزب بنشاطاته المتعددة والجريئة أن يعوض عن العقل التآمري الموسمي للمرجعية مع الخذلان المتردد للبازار، والضعف البنيوي للقبلية المتأخّرة. هكذا اخترق الحزب الحزام الاجتماعي لهذه الأقانيم الثلاثية، ووصلت نشاطاته وفرص توسعها إلى القمة بين العامين70 و71. في تلك الآونة توفّي المرجع <<محسن الحكيم>>، واستلم <<أبو القاسم الخوئي>> المنعزل بدله قيادة المرجعية. لكن هذه الأعوام شهدت أيضاً انحساراً في الحالة الاقتصادية الريفية، فالجفاف الذي هاجم المنطقة لاسيما الفرات الأوسط، كان بسبب انخفاض مياه الفرات بعد إنشاء سوريا لسدّ الفرات في الطبقة، والابتزازات التركية وسياساتها المائية الهوجاء في السيطرة والتحكم على ينابيع هذا النهر الطويل في مساره. لقد أدّى ذلك إلى إلحاق الضرر بالملايين من الفلاحين المعدمين، وتراكمت هذه الاحتقانات لتصل إلى ذروتها في العام 1974، مسببة حالة من الهياج الاجتماعي العفوي العام. وقاد الحزب بشجاعة هذه الفعاليات، لكن الحصيلة كانت هجوماً دامياً من السلطة، وإعدام قيادات مهمة منها <<الشيخ عارف البصري>>. وتكررت هذه الأحداث العام 1977، وتطورت المواجهات إلى عمل سياسي جماهيري شامل في المناطق الأساسية للفرات الأوسط، وانتقلت إلى قلب بغداد في <<مدينة الثورة أو صدام رسمياً>> والحصيلة الجديدة إبادة المئات من الكوادر، واغتنام مجموع <<باقر الحكيم>> الفرصة للتسلّق لقيادة هذه الانتفاضة، بعد أن كان قد أوكل إليها من قبل السلطة للتدخل والمعالجة والتهدئة. وبعدما فشلت هذه الانتفاضة رافقتها إجراءات صارمة ونهج جديد في التعامل من قبل السلطة مع الحركة الإسلامية عموماً والدعوة خاصة. وما زاد في الطين بلة أن الحالة السياسية في إيران بدأت تدخل في مسارات جديدة وتمكنت <<الخمينية>> من السيطرة على البلاد، محققة نصراً كبيراً (للتشيّع السياسي) لم يحدث منذ قرون. وكانت الخمينية في تجاوزها <<التقية>> وفي إهمالها <<الغيبة>> وفي التزامها بولاية الفقيه قد حفرت طريقاً جديداً لكل الحركات الإسلامية المعاصرة وفي مقدمتها حزب الدعوة. وبالرغم من أن الحزب لم يكن حاسماً في موقفه السياسي الديني من مسألة ولاية الفقيه لكنه استفاد من الموضوعة تكتيكياً لكي لا ترد عليه تهمة عدم الإيمان بذلك علناً.
وبعدها التجأ الحزب وبصورة منهجية خاطئة فوراً إلى تجديد أساليب عمله نحو الكفاح المسلح في المدينة والريف. إن هذه الانتقالية المفاجئة في أساليب العمل وفي ظل الدولة المستبدة القائمة، وبعد الانحسار الشعبي الواسع، والتوجّه الحاد <<للحرب الأهلية الصامتة>> تواً نحو الحدود، وانعكاس ذلك بحرب دامية بين العراق وإيران، كل ذلك دفع الحزب إلى مآزق سياسية عديدة على المستويين الاستراتيجي والتكتيكي.
###.###
<<الحزب المحلي>> والمواطن العالمي
كان الخطأ الاستراتيجي الأول لحزب الدعوة هو انضمامه تحت لواء المجلس الأعلى بقيادة محمد باقر الحكيم، وارتباط المجلس بالأجهزة الإيرانية وعلاقة الحكيم وأتباعه بالقرار الإيراني من جهة وصلاتهم المتنافرة في الجهة الثانية، خاصة إذا أخذنا في الاعتبار العلاقة الأسرية بين الحكيم وأخيه الأكبر السيد مهدي الحكيم وصلات الأخير الخطيرة مع مراكز إقليمية وعالمية متنوعة ومهمة.
أما الخطأ الاستراتيجي الثاني، فهو تبنيه مقولة الحرب واصطفافه مع النظام الإيراني وبأن ذلك هو الحاسم في إسقاط النظام والوصول إلى الحكومة الإسلامية المنتظرة. أما الخطأ الثالث، فهو تجمده العقائدي في تحالفاته السياسية وعلاقاته التنظيمية مع <<خارج الديني>>. ولم يكن بيان التفاهم المشترك في عام 1980، مع الحزب الشيوعي العراقي، إلا ورقة هشة وذات طابع سري، ليس لها أي مدلول حقيقي أو تأثير سياسي مباشر وفعال ومنتج. ولم يتمكن هذا البيان من تجسير الهوة العميقة بين الحزبين، وكانت منهجية الحزب السياسية مرهقة وغير قادرة على الإبداع والخلق حيث كان شعاره: إذا لم نتفق على الأصول فمن المحال أن نتفق على الفروع.
وحين تراكمت عوامل التآكل واتضحت نتائج الفشل سارع الحزب إلى الاستدارة بصورة حادة في أساليبه الكفاحية. هنا حدث التباس غير عادي في هذه الحقبة الجديدة. وتشير بعض الوثائق إلى أن الحزب انتقل فعلياً من مستوى الكفاح المسلح إلى ميدان تبني موضوعة الانقلاب العسكري. لكن وثائق أخرى تشير إلى عكس ذلك، والمهم لدى بعض المحللين الموقف الأخير، الذي يتجلى برسالتين بعثت بهما قيادة حزب الدعوة الإسلامية إلى مجلة <<ميدل إيست كورنتس>> ونشرت في مجلة الغد اللندنية العدد 13 أيار 1982 السنة الخامسة، حيث يتنصل الحزب من التهمة التي وجهتها إليه المجلة البريطانية، بكونه ينسق مع تنظيم (الجبهة الوطنية الإسلامية) من أجل القيام بانقلاب عسكري في العراق. والمجلة المذكورة أشارت إلى أن أحد أقطاب الانقلاب هو العسكري المعروف فاضل العساف، الذي قام بالاتصال مع ريتشارد آلن في أوائل آذار 1981 وهو مستشار (ريغان) للشؤون الأمنية مع موظف كبير آخر في وزارة الخارجية الأميركية. وكان الوسيط لهذا اللقاء سياسياً عراقياً ابن أحد قيادات العهد الملكي، وكان له دور مع الدكتور ناصر الحاني في انقلاب 17 تموز، وهو اقتصادي مهم ويملك شركات طيران محلية معروفة في الولايات المتحدة، وقد تم شراء صفقة أسلحة بمبلغ ثلاثة ملايين دولار من أجل تنفيذ الانقلاب المطلوب. ومن الضروري أن نركز على الرد الرسمي للحزب لنشير إلى مناقبية هذا الحزب في حينها. وذلك من خلال تثبيت رسائله إلى المجلة البريطانية المذكورة واستنكاره لكل ما كتب. تقول رسائل الحزب <<إن الاتفاق الذي تم في إحدى العواصم العربية والذي أسفر عن تشكيل ما يسمى بالجبهة الوطنية الإسلامية لا علاقة له بحزب الدعوة الإسلامية. إننا نؤمن بصحة موقفنا وبضرورة انضمام كل الفصائل العراقية المختلفة تحت راية الإسلام، عقيدة وتشريعاً، وأسلوباً في العمل من أجل الكفاح ضد الشركات الأنكلو أميركية وعميلها صدام وزمرته المأجورة. إننا نعتقد أن عدونا قد أعد البدائل لتحل محل صدام في حالة اغتياله أو عجزه عن مجابهة الحركة الإسلامية ممثلة بطليعتها المناضلة، الدعوة الإسلامية، وهذه البدائل العميلة ذات الاتجاه الطائفي أخذت تباشر عملها ليس داخل العراق فقط، وإنما خارج العراق على شكل حركات معارضة أو شخصيات عسكرية متقاعدة، أو هاربة لا تمتلك لها رصيداً شعبياً حقيقيا>>. أما الرسالة الثانية فجاء فيها <<نود أن نؤكد هنا أن رأي الكادر المتقدم لحزبنا المناضل هو نفسه كما تعلمون في ردنا إليكم، هناك محوران سياسيان لتغيير الوضع في العراق، أولهما المحور السعودي الخليجي، ويضم هذا المحور مجموعة من الضباط السنة وبعض البعثيين من الموصل، وثانيهما هو المحور الذي ترعاه ليبيا وتسنده بأموالها ويضم مجموعة من أمثال اللواء العساف، وهذان المحوران في نظرنا يخدمان المخطط الأنكلو أميركي ويكرسان التبعية الاقتصادية للغرب. هناك بعض الأوساط المشبوهة أخذت تجري اتصالات مع هذين المحورين، ويدفعها لذلك نزواتها التسلطية وتنمرها ونزعتها الإقليمية المقيتة!!>>.
من الواضح أن كل البنيان العملاق الذي أنجزه الحزب في تلك الفترة قد تهاوى كالكارتون المزيف. إذ كان الخطأ الاستراتيجي الرابع هو سكوته عن (معركة الفاو) واحتلالها ومضاعفات ذلك سياسياً وطائفياً في العراق بالذات. لقد تم احتلال الفاو وتحريرها من قبل الولايات المتحدة!! ولكن بأدوات إيرانية مرة، وعراقية مرة أخرى. وكان الخطأ الاستراتيجي الخامس هو رفضه للتعبئة الشعبية المستقلة وإصراره على خطابه الطائفي الضيق وعدم انتقاله الضروري إلى حالات جديدة من الإعلام والتنظيم والنشاط اليومي. ناهيك عن انه لم تنشأ، ولم يشجع الحزب ذلك، كتلة ثقافية إسلامية مستقلة من نمط علي شريعتي ومهدي بازركان في إيران. أما الخطأ الاستراتيجي السادس فهو إهماله الساذج لأحداث الكويت المفصلية واندفاعه التكتيكي المضلل في الدفاع عن الانتفاضة التي أسندتها الإدارة الإيرانية وجرت الكوارث والويلات على الشعب العراقي والطائفة الشيعية المجاهدة. إن هذه الأخطاء المكدسة كانت هي المناخ الملائم للانشقاقات المتكررة في الجسم التنظيمي للحزب، وهي التي اضطرته، بعد فوات الأوان، إلى الخروج من مظلة المجلس الأعلى والابتعاد عن تأثيرات الدولة الإيرانية وأجهزتها الأمنية والسياسية. وإذا كان انسحاب الشهيد الصدر الأول من الحزب هو الباب الذي ولج منه للالتصاق مع إيران الثورة، فإن خروج القيادات الملائية (الحائري، العسكري، الكوراني، الآصفي) هي النافذة التي ساعدته على التنصل من دائرة ضغوط إيران الدولة. وعندها تمكن أيضا من التخلص من العديد من الكوادر التي هي عمليا إما متعاطفة مع محمد باقر الحكيم أو تمثل مصالحه الشخصية والسياسية داخل صفوف الحزب.
وبالرغم من أن الحزب حاول المستحيل من اجل إعادة الاعتبار إلى حالته السياسية النموذجية، وطاقته التنظيمية الفريدة، وذلك بنسج صلات جديدة مع المرجعية المقاتلة للصدر الثاني، لكن هذه المحاولات أصابها الإخفاق أيضاً. فقد تكالبت قوى عديدة على مجابهة هذا الخطر الداهم الجديد المتنامي. وبات الجميع، وتظافرت سراً وعلناً جهودهم (الولايات المتحدة، السلطة القائمة، والمجلس الأعلى) ينظرون بخوف وقلق نحو هذه الظاهرة الجديدة المتدفقة. وحين اغتيل الصدر الثاني، تنفس هؤلاء الصعداء وتراجع الحزب إلى الوراء، حينها كان الكل ينتظر اللحظة المناسبة لاصطياده. في فترة زمنية قياسية وفي أقل من سنة مؤخراً بدأت مراسيم حفلة الصيد البرية هذه. أدخل هذا الحزب إلى المطهر الانكلو سكسوني، وشرحوا له أبعاد الحلم الأميركي بتشريع دستور جديد يحفظ للطائفة حقوقها التاريخية!! ونجح الأميركيون في أن يقصموا ظهر الحزب ويدفعوه إلى الحديث عن أهمية الاستفادة من إسقاط النظام بالقوة العسكرية الأميركية، وأن يلتقط الحزب من خلال جماهيره بعض حصائل العدوان والاحتلال، مستفيدين من الأزمة القيادية في هرم الحزب، مع وجود كتل عديدة موازية للجسم الأساسي (جماعة أبو ياسين، مجموعة أبو عقيل، جند الإمام). من يقرأ التصريحات الدورية للدكتور <<الجعفري>> الناطق الرسمي للحزب يُصَب بالغثيان. هل يمكن أن يفرض دوار شخص على حزب، ودوار حزب على شعب. قبل عشرين عاماً، كتب <<جوستورك>> دراسة فذة حول حزب الدعوة في مجلة <<ميريب>> وقبل أشهر التحق هو مع لجان البيت الأبيض تحت دعاوى رفض العمليات الاستشهادية وضرورة التصدي للإرهاب الدولي الأصولي. بعدها بمدة قصيرة أضيف الحزب إلى فاتورة الممتلكات التي يجب النيل منها في المنطقة. هل يتحقق للاحتلال ما لم ينجز في ظل مقاومة النظام المستبد السابق. هل يخضع الجميع لنفس القانون الفيزيائي المذهل؟ حين تسير كتيبة من البشر وبإيقاع خاص موحد نحو جسر معين للعبور، عليها أن تبدل في إيقاعها من أجل الحفاظ على حياتها، فقد يتعرض الجسر إلى الانهيار. هل يغير الآن هؤلاء إيقاعهم من أجل صيانة أرواحهم أم من أجل الحفاظ على جسر العولمة الأميركي ومنعه من الانهيار لا سيما أن الإدارة الأميركية يبدو أنها قد تدخل في ممر <<النقد الذاتي>> بعد العدوان والاحتلال، وتحت ضغط العمل السياسي الجماهيري والعسكري المقاوم ضدها يومياً. وحين تصر معظم مجموعات الدراسات والتحليل وأهمها: (مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية العالمي انطوني كوردسمان، مركز بيكر أدوارد جيرجيان) على أن الحرب والاحتلال قد يؤديان إلى انتصار عسكري باهر، ولكن بعد ذلك إلى هزيمة سياسية نكراء.
طارق الدليمي
2003-08-19