نماذج تأريخية من التقارب المذهبي في العراق
واثق الحسني
التقارب بين المذاهب في العراق قديم وموجود منذ البدايات الاولى لوجود الاسلام في العراق، ولقد كان لأئمة اهل البيت(ع) الدور الرائد في غرس بذرة التسامح والتقارب ما بين مذهب اهل البيت وباقي المذاهب الاسلامية الاخرى وتعزيزها وتفعيلها عبر الحلقات الدراسية تلك التي كان ائمة اهل البيت(ع) يقيمونها ويحضرها المسلمون من شتى المذاهب والطوائف للنهل من منبعها الكريم ويغترفون منها القيم والمبادىء النبيلة السامية .
لقد كانت مسألة التقارب المذهبي بين المسلمين وخاصة في العراق من اهم المسائل التي ظلت تشغل بال المسلمين عبر مشاهد التقارب والتلاحم التي كانت موجودة بين المسلمين سنة وشيعة عبر مختلف القرون .
دعا السيد جمال الدين الافغاني المسلمين سنة وشيعة الى الحركة واليقظة والوحدة ونبذ التفرقة فكانت دعوته بداية عصر جديد دخل فيه العالم الاسلامي بعد سباته الطويل.
وهذه الحلقات الدراسية لم تكن يوما ما حكرا لاحد بل ميدانا مفتوحا ومدرسة عظيمة لتعليم المجتمع الاسلامي الاخلاق والتسامح وقبول الاخر والتي جسدها ائمة اهل البيت(ع) في سلوكيات كانت ولا تزال موضع اعتزاز المسلمين جميعا.
لقد كانت مسألة التقارب المذهبي بين المسلمين وخاصة في العراق من اهم المسائل التي ظلت تشغل بال المسلمين عبر مشاهد التقارب والتلاحم التي كانت موجودة بين المسلمين سنة وشيعة عبر مختلف القرون والتي عبرت عنها وجود نماذج تاريخية عن هذا التقارب الذي تجده في سلوكيات رفيعة تعكس حالة التسامح الاخلاقي بين العلماء الذين يعتبرون الارضية التي تقف عليها مبادىء التسامح والتقارب التي وجدت لها تقبلا واسعا وتجسيدا سلوكيا رائعا والذي منه انه في القرن الثاني ظهرت بالتدريج المذاهب الفقهية.
واول شخصية فقهية برزت خارج اطار مدرسة اهل البيت(ع) هو ابوحنيفة (80-150 هـ) وكان معاصرا للامام الصادق(ع)(80- 148هـ) وتلاه مالك بن انس(93-179هـ) وكان ابو حنيفة امام اهل العراق ومدرسته تقوم على القياس والاجتهاد ومالك امام المدينة ومدرسته تعتمد الرواية والحديث، والاثنان كانا على علاقة وطيدة بالامام الصادق(ع) وكلاهما تتلمذا على يديه وافادا منه، نجد اثر ذلك فيما قاله الاثنان عن الامام، وما نقلاه من روايات عن مدرسة اهل البيت(ع).
هذه العلاقة الوطيدة لها مدلولها الكبير، لاننا نعلم ان الامام الصادق(ع) كان يختلف مع هذين الامامين في امور، غير ان الامام لم يركز على هذا الاختلاف ليتحول الى قطيعة بينه وبين من لايرى رأيه، بل كان يرتبط ارتباطا تعاونيا-كما تقتضيه رسالة الاسلام - مع غيره من علماء عصره بما يشترك فيه معهم.
وتذكر لنا كتب المسانيد روايات كثيرة عن العلاقة الوثيقة بين الامام وابي حنيفة ومالك، وما نقل خلاف ذلك فهو نادر وشاذ ومحدود بظروف خاصة. او ضعيف ومجعول.
هذا السلوك الرسالي من الامام الصادق(ع) هو الذي جعل اربعة الاف طالب يلتفون حول الامام الصادق(ع) ينهلون من علومه فيهم كثير من اهل السنة.
وقد كان الشيخ المفيد له اساتذته وتلاميذه يروون من اهل المدينة، منهم علي بن عيسى الرماني(296- 384هـ) من علماء المعتزلة هو الذي سماه بالمفيد وتلميذاه السيد المرتضى علم الهدى(354- 436هـ) وأخوه السيد الرضي(359-406هـ) كانت لهما علاقات واسعة بعلماء اهل السنة، واساتذتهما من علماء السنة بقدر اساتذتهما من الشيعة. وحضر دروسهما ومجالسهما السنة والشيعة معا من العلماء والادباء والشعراء.
والسيد الرضي في كتابه التفسيري(حقائق التأويل) يروي غالبا عن علماء أهل السنة ومتى ما ذكرهم يترحم ويترضى عليهم. والكتاب وحده لايبين مذهب كتابه هل هو سني او شيعي، وحصل هذا الترديد بالفعل لبعض اصحاب التراجم. ومع ان تشيعه ثابت من خلال كتاب(خصائص الائمة) و(نهم البلاغة) وكتبه الاخرى غير ان سلوكه كان منسجما مع سيرة ائمة اهل البيت في التعامل مع من يختلفون معه في بعض الاراء.
ولعل اعظم علماء الشيعة هو الطوسي(385-360هـ) تلميذ الشيح المفيد وتلميذ علم الهدى فوض اليه الخليفة العباسي كرسي علم الكلام وهو اكبر كرسي علمي يومئذ، وكان اكثر من يحضر دروسه من اهل السنة. والشيخ الطبرسي بعد تأليفه (مجمع البيان) يقف على تفسير الكشاف للزمخشري(ت358هـ)، ويرى فيه لطائف لم يحتوها مجمع البيان فيجمع تلك اللطائف في كتاب (الكافي الشافي)، ثم يعمد بطلب من ولده الى الجمع بين كتابي الكافي والمجمع في كتاب(جوامع الجامع).
والطبرسي في الفقه له عمل تقريبي عظيم، فقد هذب كتاب الخلاف للشيخ الطوسي وسماه(المؤتلف من المختلف بين ائمة السلف) والعنوان يحكي ما كان يتحلى به السلف من روح سامية واتجاه وحدوي تقريبي، وهو في ذلك ينهج طريقة الشيخ الطوسي.
اما العلامة الحلي فهو من اكبر العلماء في تاريخ الاسلام حيث يعرض في كتابيه(المنتهى) و(التذكرة) المسائل استنادا الى المصادر الفقهية في العالم الاسلامي. يطرح المسألة ويذكر دليلها من علماء اهل السنة ثم يذكر دليلها من روايات الشيعة، ويعرج احيانا على الدليل بأسلوب علمي هادىء رصين. ويذكر ان العلامة الحلي كان بين اساتذته وتلاميذه علماء من اهل السنة.
وفي العصر الحديث ايضا حمل راية التجديد الاسلامي رجل تقريبي هو السيد جمال الدين الاسد آبادي المعروف بالافغاني.
هذا الرجل على الرغم من نشأته الشيعية ودراساته الشيعية يسلك ما يوهم انه (كان حنفيا ومجتهدا) كما يقول عنه تلميذه الامام (محمد عبده). دعا المسلمين سنة وشيعة الى الحركة واليقظة والوحدة ونبذ التفرقة فكانت دعوته بداية عصر جديد دخل فيه العالم الاسلامي بعد سباته الطويل.
كما ان المراكز الحضارية في العراق قد لعبت دورا كبيرا في التقارب المذهبي فقد اشتهرت بغداد باحتضانها لعلماء كبار من اهل السنة مثل الامام ابي حنيفة النعمان والامام الشافعي (ت 204هـ) قبل سفره الى مصر، والامام احمد بن حنبل(ت 241هـ) والطبري(ت 310هـ) ودواد الظاهري (ت270هـ) وعلي بن الحسين المسعودي المؤرخ وابن النديم صاحب (الفهرست)، وكذلك للعارفين البارزين من امثال الجنيد البغدادي والشبلي في اول نشأته، واضافة الى ذلك فقد كانت بغداد منذ القرن الثاني حتى اواسط القرن الخامس حتى سيطرة طغرل بك السلجوقي عليها سنة 448هـ مركزا لبث علوم اهل البيت(ع) وتعليمها وتعلمها وموطنا لتردد علماء الشيعة الامامية من امثال الكليني والشيخ المفيد والشريف الرضي، والشريف المرتضى والشيخ الطوسي.
وبحسب الروايات التاريخية فقد توجه محمد بن يعقوب الكليني من الري الى بغداد سنة 327هـ فقام هناك بتدريس كتابه النفيس(الكافي) حيث حدّث علماء بغداد به. وقد توفي الكليني في بغداد حيث يوجد له الان مزار يحظى باحترام الناس وتكريمهم.
اذ ان كتاب الكافي يعتبر اول كتاب من كتب الشيعة الاربعة، وقد صدر في بغداد وكان جميع رواته يعيشون في بغداد، كما الف شيخ الطائفة محمد بن الحسن الطوسي المعروف بالشيخ الطوسي كتابيه تهذيب (الاحكام)، و(الاستبصار) وهما: من الكتب الاربعة في حديث الامامية، وقد قام الشيخ الطوسي بتأليف اغلب كتبه ومؤلفاته في الفقه والاصول والحديث في بغداد، كما ان الخطيب البغدادي قد ذكر ايضا في تاريخه بان الشيخ الصدوق قد روى مجموعة من كتبه في بغداد. فيما عاش النواب الاربعة للامام المهدي (عج) في بغداد خلال الغيبة الصغرى التي استقرت زهاء السبعين سنة(من عام 260هـ الى 329هـ) وكانوا مراجع للشيعة وحلقات الوصل بينهم وبين الامام علي(ع) ولا تزال قبورهم موجودة في العديد من مناطق بغداد القديمة.
لقد تم تأسيس المدرسة النظامية المعروفة من قبل الوزير (نظام الملك) وزير السلطان السلجوقي سنة(463هـ) في بغداد، وقد اصبحت هذه المدرسة فيما بعد نموذجا لجميع المدارس في العالم الاسلامي ومركزا لتربية الكثير من العلماء من مختلف الجنسيات وظلت على هذه الحال قرونا طويلة، ثم أفلت شمسها فحلت محلها المدرسة المستنصرية التي ما زالت بنايتها قائمة، وقد ادت هذه المدرسة نفس الدور الذي قامت به المدرسة النظامية في نشر الثقافة والعلوم الاسلامية.
وبناء على تلك الحقائق والمعطيات فانه يمكن القول عموما بان بغداد قد كانت مدينة التقريب بين المذاهب ومهد التفاهم والتعامل السليم لعلماء المسلمين وائمتهم، وهذا ما يمكن تلمّسه بوضوح من خلال كتاب الفهرست لابن النديم الذي كان على اتصال مع كافة علماء المذاهب الاسلامية. كما ان الشريف الرضي في كتابه(حقائق التأويل) يذكر باعتزاز اتصاله بمشايخه من اهل السنة وتبجيله لهم وترحمه عليهم.
ويوجد في بغداد اليوم مرقدا الامامين موسى الكاظم وحفيده الامام محمد الجواد(ع) وكذلك يوجد في ضواحيها مراقد الكثير من علماء الشيعة الى جانب مرقدي اثنين من ائمة المذاهب المعروفة عند اهل السنة: وهما الامام ابو حنيفة، واحمد بن حنبل، وهناك مرقد عبد القادر الجيلاني امام الطريقة القادرية والتي تعتبر من اكثر الطرق الصوفية رواجا في العالم الاسلامي، فضلا عن مراقد علماء آخرين من اهل السنة، وهذا مؤشر على حسن التجاور والتعايش بين الطائفتين ويؤكد وجود علاقات علمية وثقافية بين المسلمين ففي كتاب(حقائق التأويل في متشابه التنزيل) للشريف الرضي كما ذكرنا نجد احتراما وتقديرا كبيرا من قبله للعديد من مشايخ اهل السنة وتبجيله لهم وترحمه عليهم، وبالرغم من ان بغداد قد شهدت بعد الاطاحة بالدولة البويهية ومجيء السلاجقة المتعصبين مواجهات ومصادمات علمية وفكرية حادة اسفرت عن اشتباكات دامية اكثر حدة وعنفا، وتعرض الشيعة في بغداد في اواخر العصر العباسي الى العديد من المذابح والتي كان اخرها ما حدث في العام 654هـ عندما احرق مرقد الامام موسى الكاظم(ع) وتعرض الاف الشيعة في الكرخ الى مذابح واسعة قام بها ابن الخليفة المستنصر نفسه، الا ان ذلك لم يحل دون قيام الخواجة نصير الدين الطوسي، وهو شيعي امامي المذهب وكان مرافقا لهولاكو اثناء احتلاله لبغداد بالتشفع لعدد كبير وضخم من اهل السنة في بغداد ومنع قيام جنود هولاكو بالتعرض لهم بالقتل، بل ان الكثير من اعيان الشيعة ممن حصلوا على الامان من هولاكو، اصبحت بيوتهم مأوى للعديد من العوائل السنية التي لجأت اليها طلبا للامان وهربا من سيوف جنود هولاكو التي لم تكن تفرق بين سني وشيعي.

هذا التنوع واحتضان ارض العراق لمراقد ستة من ائمة اهل البيت(ع) ودار الامام الحجـة (عج) ومكان غيبته والتي تحظى باحترام وتعظيم جميع المسلمين من اهل العراق، فضلا عن وجود الحوزة العلمية التي مر عليها اكثر من الف سنة في النجف الاشرف والتي قدمت الالاف من الفقهاء والمتكلمين والمحدثين والادباء والشعراء والكتاب وتأليف الاف الاثار العلمية في شتى العلوم والتي لا تزال تشكل موضع اعتزاز العراقيين وفخرهم. بالاضافة الى ذلك فاننا نجد مدن العراق مزدحمة بمئات المساجد والحسينيات والمدارس والجامعات الدينية سواء اكانت سنية أم شيعية متجاورة جنبا الى جنب تعكس وحدة العراقيين وتسامحهم واحترامهم لبعضهم البعض.