شرح سماحة العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله (دام ظله)
لخطبة الرسول(ص) في استقبال شهر رمضان المبارك.

اغتنموه بالعمل فقد لا نلقاه في العام القادم

نص الخطبة :

رُويَ أن رسول الله(ص) خطب في الأسبوع الأخير من شهر شعبان، فقال:

"أيها النّاس إنّه قد أقبل إليكم شهْر الله بالبركة والرحمة والمغفرة، شهرٌ هو عند الله أفضل الشهور وأيامه أفضل الأيام ولياليه أفضل الليالي وساعاته أفضل الساعات، هو شهرٌ دُعيتُم فيه إلى ضيافة الله وجُعِلتُم فيه من أهل كرامة الله، أنفاسكم فيه تسبيح، ونومكم فيه عبادة، وعمَلُكُم فيه مقبول، ودعاؤكُم فيه مستجاب، فاسألوا الله ربّكم بنيّاتٍ صادقة وقلوبٍ طاهرة أن يوفقّكم لصيامه وتلاوة كتابه، فإنّ الشقيّ مَن حُرِمَ غفران الله في هذا الشهر العظيم، واذكروا بجوعكم وعطشكم فيه جوع يوم القيامة وعطشه، وتصدّقوا على فقرائكم ومساكينكم، ووقِّروا كباركم، وارحموا صغاركم، وصِلُوا أرحامكم، واحفظوا ألسنتكم، وغضّوا عمّا لا يحلّ النظر إليه أبصاركم، وعمّا لا يحلّ الاستماع إليه أسماعكم، وتحنّنوا على أيتام الناس يُتحنّن على أيتامكم وتوبُوا إليه من ذنوبكم وارفعوا إليه أيديكم بالدعاء في أوقات صلواتكم فإنها أفضل الساعات ينظر الله عز وجلّ فيها بالرحمة إلى عباده يجيبهم إذا ناجوه ويلبِّيهم إذا نادوه ويستجيب لهم إذا دعوه.

أيها الناس إنّ أنفسكم مرهونة بأعمالكم ففكّوها باستغفاركم، وظهوركم ثقيلة من أوزاركم فخففوا عنها بطول سجودكم، واعلموا أن الله تعالى ذكره أقسَمَ بعزّته أن لا يعذِّب المصلِّين والساجدين، وأن لا يُروِّعهم بالنّار يوم يقوم الناسُ لربِّ العالمين.

أيّها النّاس مَنْ فطَّر منكم صائماً مؤمناً في هذا الشَّهر كان له بذلك عند الله عتق رقبة، ومغفرة لما مضى من ذنوبه. قيل يا رسول الله: وليس كلّنا يقدر على ذلك، فقال(ص): اتّقوا النار ولو بشقّ تمرة، اتّقوا النار ولو بشربة من ماء، فإن الله تعالى يهب ذلك الأجر لمن عمل هذا اليسير إذا لم يقدر على أكثر منه.

يا أيها الناس، من حسَّنَ منكم في هذا الشّهر خُلقه كان له جواز على الصّراط يوم تزلُّ فيه الأقدام، ومن خفَّف في هذا الشّهر عمّا ملكت يمينُه خفَّف الله عليه حسابه، ومن كفّ فيه شرَّه كفّ الله عنه غضبه يوم يلقاه، ومن أكرمَ فيه يتيماً أكرمه الله يوم يلقاه، ومَن وصَلَ فيه رحِمَه وصلَه الله برحمته يوم يلقاه، ومن قطع فيه رحِمَه قطع الله عنه رحمته يوم يلقاه، ومن تطوّع فيه بصلاة كتب الله له براءة من النّار، ومن أدّى فيه فرضاً كان له ثواب مَن أدّى سبعين فريضة فيما سواه من الشّهور، ومن أكثر فيه من الصلاة عليَّ ثقَّل الله ميزانه يوم تخفّ الموازين، ومن تلا فيه آية من القرآن كان له مثل أجر مَن ختم القرآن في غيره من الشّهور.

أيها الناس، إن أبواب الجنان في هذا الشهر مفتحة فسَلُوا ربّكُم أن لا يغلقها عليكم، وأبواب النّيران مغلقة فسَلوا ربّكُم أن لا يفتحها عليكم، والشياطين مغلولة فسلُوا ربّكم أن لا يسلِّطها عليكم.


شرح الخطبة:



استقبال شهر رمضان

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {شهر رمضان الذي أُنزِل فيه القرآن هدىً للناس وبيِّناتٍ من الهدى والفرقان} [البقرة:183]، {يا أيها الذين آمنوا كُتِبَ عليكم الصيام كما كُتب على الذين من قبلكم لعلّكم تتقون} [البقرة:183]. وها هو الشهر الكريم قد أقبل وبشائره قد هلّت واستقبلتنا مائدة الرحمن، لذا لا بدّ لنا أن نعيش هذا الشهر على ضوء ما تحدث به رسول الله(ص)، في آخر جمعة من "شعبان" بحسب بعض الروايات، حتى ندخل في شهر رمضان دخولاً واعياً تنفتح فيه عقولنا على الله تعالى حتى لا يبقى فيها شيء من الباطل، وتنفتح فيه قلوبنا على الله سبحانه حتى لا يبقى فيها شيء من الشر والحقد والبغضاء، وتنفتح فيه حياتنا على الحق والخير حتى لا نتحرك إلا بالخير وللخير وبالحق وللحق.

غفران الله

وفي هذه المناسبة، رُوي عن رسول الله(ص) أنه قال في الخطبة التي استقبل بها شهر رمضان: "أيها الناس، قد أقبل إليكم شهر رمضان بالبركة والرحمة والمغفرة"، أي أنه جاء محمّلاً بالبركات التي تنمّي أعماركم وأجسادكم وأموالكم وكل طاقاتكم، وبالرحمة التي يفيضها الله عليكم فيعطيكم من رحمته بحجم جوده وكرمه وهو الجواد الكريم الذي لا حدّ لعطائه، وبالمغفرة التي ينظر الله فيها إلى عباده وهم يدعونه ويبتهلون إليه ويصومون شهره ويتلون كتابه، فيقول لهم: قد غفرت لكم فاستأنفوا العمل من جديد.

"أفضل الشهور"

ويتابع الرسول(ص): "شهر هو عند الله أفضل الشهور وأيامه أفضل الأيام ولياليه أفضل الليالي"، ونحن ضيوف الله في هذا الزمن كله، فالله عندما أوجدنا دعانا أن نعيش الضيافة في نعمه التي تفيض علينا صباحاً ومساءً، ولكن ضيافة شهر رمضان هي ضيافة خاصة يختصّ الله فيها عباده بالبركة والرحمة والمغفرة، وإنّ لله في كل ليلة في هذا الشهر عتقاء من النار.

"هو شهر دعيتُم فيه إلى ضيافة الله وجُعلتم فيه من أهل كرامته"، فعندما تدخلون الشهر تدخلونه ولكم كلّ كرامة الله في إيمانكم وإسلامكم وتقواكم وعملكم الصالح. فانظروا كيف هي هذه الكرامة، وكيف هي هذه الرحمة، فأنت تتنفس، لأن ضرورة حياتك تقضي أن تتنفس، ولكنك عندما تتنفس في شهر رمضان لتهبط أنفاسك أو تصعد فإن "أنفاسكم فيه تسبيح"، فأنت تسبّح وأنفاسك أيضاً تسبّح وذلك عندما يسبّح عقلك، وعندما يسبّح قلبك ومشاعرك وعيناك في الكون، وعندما تسبّح أذناك وهي تسمع فرح الأشجار والشلالات والأنهار والطيور وكل هذه الموسيقى الإلهية التي جعلها الله في هذا الكون من أجل أن تدخل الفرح في قلبك، موسيقى لا إشكال فيها لأنها الموسيقى الإلهية التي لم تتلوّث بغرائز البشر ولا المعاني الأخرى.

"ونومكم فيه عبادة"، وأنتم إذ تنامون لترتاحوا، فإن الله يجعل نومكم عبادة، لأن الإنسان الذي يشغل نفسه بعبادة الله فإن نومه يكون عبادة، فبالنوم يقوى على العبادة ويتجدّد نشاطه، ولذلك فإن نومه هو نوم عباديّ في معناه، وفي منطقة اللاشعور التي يخرج فيها الإنسان أثناء نومه من دائرة الحسّ ليعيش عالماً جديداً يلتقي فيه الناس وينفتح على الأكوان ويختصر فيه المسافات.

أجواء رمضان الطيبة

"وعملكم فيه مقبول، ودعاؤكم فيه مستجاب"، هذا هو جوّ رمضان، فماذا نصنع بهذا الجوّ، وكيف نتحرك فيه؟

ويأتي الجواب: "فسلوا الله بنيّات صادقة"، إذا اطّلع الله على عمقها، يرى منكم الصدق كلّ الصدق، وأنتم تناجونه وتعبدونه"وقلوب طاهرة"، طهّروا قلوبكم من الشرّ ومن الحقد والعداوة والبغضاء، فليكن قلبك في نقاء الثلج وبياض الصبح قلباً مفتوحاً على الله يحب عباد الله ليعمل معهم، ويحب الذين يختلفون معه ليهديهم، ويحبّ الذين يتفقون معه على البرّ والتقوى ليتعاون معهم.

"أن يوفّقكم لصيامه"، والصيام هو هذه الحركة الروحية التي تعيشها في عقلك ليصوم عن كل أفكار الشر التي تعيشها في قلبك ليصوم عن كل عاطفة الشر، والصيام الذي تعيشه في جسدك ليصوم عن كل حركة الشر وأحاسيسه. فالصيام الذي يريده الله منا في شهر رمضان هو الصيام الصغير الذي يعدّك إعداداً روحياً وإرادياً من أجل الصوم الكبير، لأن هناك صوماً عن الطعام والشراب وبعض الشهوات في شهر رمضان، ولكن هناك صوم العمر كلّه في أن تصوم عن الخمر والقمار والزنا والكذب والسرقة والظلم والاستكبار وعن كلّ محرم.

"وتلاوة كتابه"، أن تتلو القرآن من حيث أنك مسلم، فأن تكون مسلماً يساوي أن تكون قرآنياً، وأن يكون القرآن عقلك وقلبك وإحساسك وشعورك وبرنامجك وحركتك في نفسك وفي علاقتك بالحياة وبالإنسان الآخر، وفي كل مواقفك وكل ما تتحرك فيه.

إن قراءة القرآن في شهر رمضان انطلقت أولاً من أنّ هذا الشهر أخذ قيمته من خلال نزول القرآن فيه، وأخذ القرآن موقعه الزمني من خلال نزوله في شهر رمضان، فكان هناك تفاعل بين القرآن في كل معانيه وروحيته وبين شهر رمضان فيما أودعه الله فيه، فكان القرآن رمضانياً في كل روحانية رمضان، وكان رمضان قرآنياً في كل روحانية القرآن وكل معانيه، فنحن بحاجة إلى أن ندخل بين هذين الخطين بين رمضان والقرآن لنعيش رمضان في القرآن ونعيش القرآن في رمضان، فإذا أردتم أن تعيشوا مع القرآن فإن عليكم أن تعيشوه في شوارعكم وفي بيوتكم وفي نواديكم وفي كل ساحات صراعكم، لأنّ للقرآن كلمة في ذلك كلّه. وهذا هو الذي يجعل لتلاوة كتاب الله في شهر رمضان معنى يتصل بثقافتك وإحساسك وإيمانك وبحركتك في الحياة.

ويصل(ص) إلى تحذيرنا بأن لا نكون من الأشقياء، فيقول: "فإن الشقيّ من حُرِم غفران الله في هذا الشهر العظيم"، لأنه موسم المغفرة، حيث تتضاعف فيه المغفرة، وهو الشهر الذي يُعتِق الله فيه في كل ليلة ما شاء من النار، فعلينا أن نعدّ أنفسنا إعداداً روحياً إلهياً لنقرُب إلى الله أكثر، ولنحصل على رضوانه أكثر.



جوع في قبال جوع

بعد ذلك ينتقل الرسول(ص) للحديث عما يريدنا أن نستوحيه من هذا الشهر فيخاطبنا قائلاً: "اذكروا بجوعكم وعطشكم جوع يوم القيامة وعطشه"، لأن الله علّم رسول الله في القرآن أنّ اليوم الآخر هو الذي يجعل الإنسان يملك ضميراً روحياً ووعياً مسؤولاً، لأنّك وأنت تتحرك في حياة ليس فيها حساب لا بدّ أن تعمّق معنى الحساب في نفسك. فلا بد وأنت لا ترى الله في حسّك، أن تعمّق ربوبية الله في عقلك وموقفك أمام ربك: {اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً} [الإسراء:14]، {يوم يقوم الناس لربّ العالمين} [المطففين:6]، {وقفوهم إنّهم مسؤولون} [الصافات:24]، {يوم لا تملك نفسٌ لنفسٍ شيئاً والأمر يومئذٍ لله} [الانفطار:19]، {يوم تأتي كلُّ نفسٍ تجادل عن نفسها} [النحل:111].

فالذين يختصرون موقفهم في يوم القيامة ويختصرون جوعهم وعطشهم هم الذين تخفّفوا من أثقال معاصيهم، وهم الذين انفتحوا على طاعتهم لربّهم.

"واذكروا بجوعكم وعطشكم فيه جوع يوم القيامه وعطشه" {يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون إلا من أتى الله بقلبٍ سليم} [الشعراء:88]، {يوم يفرّ المرء من أخيه* وأمّه وأبيه* وصاحبته وبنيه* لكل امرىءٍ منهم يومئذٍ شأنٌ يُغنيه} [عبس:34ـ37]، اذكروا ذلك لتخففوا عن أنفسكم قسوة الجوع، فأنتم لا تتحملون جوع يوم ولا عطش يوم، فكيف تحملون جوع وعطش يوم مقداره ألف سنة مما تعدّون وأكثر من ذلك كما في آية أخرى.

واذكروا ـ بعد ذلك ـ الفقراء والمساكين والجائعين الذين لا يشبعون، لا لأن هناك مانعاً شرعياً من الشبع، ولكنهم لا يجدون ما يأكلون أو يشربون.

"وتصدّقوا على فقرائكم ومساكينكم"، فإن الصدقة تدفع البلاء، ويقول الإمام علي(ع): "سوسوا إيمانكم بالصدقة"(1)، فإن الصدقة تربّي لكم إيمانكم وتحميه، وليست الصدقة كما استهلكها الناس بأن تحمل ليرة لتعطيها هذا الشحّاذ أو ذاك، بل أن تدرس ظروف هذه العائلة وتلك وهؤلاء {يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفّف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافاً} [البقرة:273]، أن تتصدق بالصدقة التي تحلّ المشكلة للفقير ولو آنياً أو تخفّف من ثقلها عليه.

ثم إنّ هذا المجتمع فيه الكبار والصغار، فالكبار قد يصادرون الصغار ويحتقرونهم، والصغار قد لا يحترمون الكبار، لذلك أيها الصغار إذا كان هناك كبار في مجتمعكم من آبائكم وأمهاتكم، أو غير آبائكم وأمهاتكم "وقّروا كباركم"، والتوقير ليس أسلوباً شكلياً، بل أن توقر عقله الذي استطاع أن يقوى في التجربة، وقّر تجربته وقِدَمه في الإسلام وكل هذا التاريخ الذي عاشه وربما شارك في صنعه.

فيا أيها الصغار: لا تنظروا إلى الكبار نظرتكم إلى جيل يتلاشى ولا يملك حيويتكم وعنفوانكم وأحلامكم وطموحاتكم، لأنه جيل بدأ يودّع الحياة قليلاً قليلاً، ولكن انظروا إلى الكبار على أنهم تاريخكم الذي شاهدتموه والذي تتحسسونه، وأنهم جزء من مسيرة الأمة وحركة التاريخ، وجزء من التجربة الغنية، فربما تكون جامعياً ولا تستطيع أن تحصل على ثقافة هذا الكبير الذي صنع ثقافته من خلال تجربته فيما صنعت ثقافتك من خلال تجارب الآخرين.

"وارحموا صغاركم"، لا تعنّفوا الصغار ولا تعتبروهم كمية مهملة أو شيئاً لا فكر له، فقد تجد في صغيرك الكثير من الفطرة الصافية التي لا تملكها أنت، لأن فطرتك قد تكون تلوّثت بالكثير من وحول الواقع الذي تعيشه.

"إنّ قلب الحدث كالأرض الخالية"(2)، إنه يستقبل الحياة ولديه قابليات وإمكانيات، فارحم نقاط ضعفه ودرجة نموّه، وارحم أحلامه ولا تتعسّف في إسقاط أحلامه، وارحم آلامه وحاجته إلى اللهو واللعب، وحاول أن تجنّبه مشاكل اللهو واللعب... وارحمه وعلّمه بما يبني شخصيته.. ارحمه وحاول أن تعطيه من عقلك عقلاً.. فلا تفرض عليه عقلك ولا عاداتك، فلقد قال الإمام علي(ع): "لا تقسروا أولادكم على أخلاقكم فإنهم ولدوا لزمان غير زمانكم"(3).

ثم مجتمعك الصغير، الخلية الأولى التي تنفتح فيها على المجتمع الكبير، وهو مجتمع أرحامك الذين أراد الله أن تصلهم ولا تقطعهم، "وصلوا أرحامكم"، وذلك بأن تعطيهم المحبة والصلة حتى ولو آذوك وتعسفوا معك وقطعوك، لأنك تتعلم بذلك أن تصل الناس من غير أرحامك، إنها المدرسة الأولى للصلات المتمثلة في رحمك.



حصاد الألسنة

"واحفظوا ألسنتكم"، ففي الحديث الشريف: "إنما يكبّ الناس على مناخرهم في النار حصائد ألسنتهم"، وقد قال النبي(ص) مما روي عنه لبعض أصحابه الذي طلب منه أن يدلّه على طريق يدخل به الجنة: "احفظ لسانك إلا عن خير"، ولذلك لا بد لنا أن نعرف بأن كلماتنا قد تصنع مشكلة وقد تصنع حلاً، وقد تثير حرباً وقد تصنع سلماً، وقد تحرّك خيراً وقد توقظ شراً، لذلك لا بدّ لنا أن ندرس كل ما نتحدّث به، وهناك لفتة رائعة للإمام علي(ع) وقد رأى شخصاً يتكلم دون أن يدقّق فيما يتكلّم، قال له: "يا هذا إنك تُملي على كتابيك كتاباً إلى ربك"(4)، أتعرف ماذا تصنع؟ إنك لا تحسّ بمعنى الكلام، وإن هناك كاتبين يكتبان ما تقول {ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد} [ق:18]، فأنت في كل كلمة تقولها إنما ترسل رسالة إلى ربك فانظر ماذا تكتب في الرسالة وانظر ماذا تحمل الرسالة إلى ربك، لأنك مسؤول عن كل كلماتك ولأنّ رعاية الله لك تنطلق من حساب هذه الكلمات.

"وغضّوا عمّا لا يحلّ النظر إليه أبصاركم، وعمّا لا يحلّ الاستماع إليه أسماعكم"، فلا تنظروا إلا إلى ما يحل {قل للمؤمنين يغضّوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم* وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهنّ ويحفظنَ فروجهنّ} [النور:30ـ31]، ولا بد أن يعيش الإنسان مسؤولية السمع لأنه نافذة تطلّ على العقل وتحمل إليه المواد الخام التي تنطلق من الكلمات، فاعرف ماذا تحمل لعقلك، هل تحمل إليه كلمات يحبها الله أو كلمات يبغضها الله.

التوبة النصوح

"وتحنّنوا على أيتام الناس يُتحنّن على أيتامكم"، احملوا مسؤولية الأيتام، فقد يكون أولادكم أيتاماً في المستقبل، فإذا كان التحنّن على الأيتام هو طابع المجتمع من خلال حنانك أنت وحنان الاخرين، فسوف تنتقل المسألة إليك فيتحنّن الناس على أيتامك.

"وتوبوا إليه من ذنوبكم"، {وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون" [الشورى:25]، وفي آية أخرى: {ويحب التوابين} [البقرة:222]، و{توبوا إلى الله توبة نصوحاً} [التحريم:8]، وقد ورد أن "التائب من الذنب كمن لا ذنب له"(5)، "يخرج الإنسان بالتوبة كيوم ولدته أمه ويقال له استأنف العمل من جديد".
"وارفعوا إليه أيديكم بالدعاء في أوقات صلواتكم فإنها أفضل الساعات"، لا تشغلوا أنفسكم عن صلاتكم بكل فكر، لأنها معراج روح المؤمن، ولا معنى لأن تعرج روحك إلى الله وهي في جولة سياحية حول العالم أو في جولة اجتماعية حول كل أوضاع المجتمع أو في جولة غرائزية حول كل أحلامك الغرائزية وشهواتك. "ينظر الله عز وجل فيها إلى عباده ويجيبهم إذا ناجوه ويلبيهم إذا نادوه ويعطيهم إذا سألوه ويستجيب لهم إذا دعوه".

"أيها الناس إن أنفسكم مرهونة بأعمالكم ـ وأعمالكم هي التي تحرّرها من النار وتعتقها منها ـ ففكوها باستغفاركم ـ فلا تتركوا الاستغفار في أي موقع ـ ظهوركم ثقيلة من أوزاركم فخففوا عنها بطول سجودكم واعلموا ـ وهذه هي البشارة لكل المصلين والساجدين ـ اعلموا أن الله أقسم بعزّته أن لا يعذّب المصلين والساجدين وأن لا يروّعهم بالنار يوم يقوم الناس لربّ العالمين".

ضرورة تحسين الخُلُق

ثم يتناول رسول الله(ص) في خطبته جانباً اجتماعياً يتصل بأخلاق بعض الناس الذين "يحمّلون الدنيا جميلاً" إذا صاموا، فإذا دخل إلى البيت، مثلاً، يشتم زوجته أو ولده لأنه صائم ولا يتحمّل إزعاجاً؟! فيقول(ص): "أيها الناس، من حسّن في هذا الشهر خُلُقه كان له جواز على الصراط يوم تزل فيه الأقدام ـ فإذا كانت أخلاقك طيبة مع عائلتك وجيرانك وموظفيك وكل الناس من حولك فإنك تجوز يوم القيامة على الصراط، وتحسين الخُلُق يحتاج إلى تهدئة أعصاب وسعة صدر ـ ومن خفّف فيه عما ملكت يمينه ـ عن موظفيك أو عمّالك أو زوجتك وأولادك وعن كل من كان تحت يمينك، بحيث تملك أمره وعمله ـ خفّف الله حسابه، ومن كفّ فيه شره كفّ الله عنه غضبه يوم يلقاه، ومن وصل فيه رحمه وصله الله برحمته يوم يلقاه، ومن تطوّع فيه بصلاة كتب له براءة من النار، ومن أدى فيه فرضاً كان له ثواب من أدّى سبعين فريضة فيما سواه من الشهور، ومن كثّر فيه من الصلاة ثقّل الله ميزانه يوم تخفّ الموازين، ومن تلا فيه آية من القرآن كان له أجر من ختم القرآن في غيره".

اغتنموا هذا الشهر بالطاعة

ويختم رسول الله(ص) حديثه فيقول: "ألا إن أبواب الجنان مفتّحة فسلوا ربكم أن لا يغلقها عليكم، وأبواب النار مغلقة فسلوا ربكم أن لا يفتحها عليكم ـ من خلال أعمالكم السيئة ـ والشياطين مغلولة فسلوا ربكم أن لا يسلطها عليكم".

هذا شهر رمضان في أجوائه الروحية والاجتماعية الإنسانية والعبادية، فاغتنموه، فلعلنا لا نبلغ شهر رمضان الآخر لأن الإنسان لا يدري متى يأتي أجله، إن شهر رمضان هو الموسم ومن خسر في الموسم فهل يربح في موقع آخر؟ لا تستعدّوا لشهر رمضان بما تختزنونه من طعام، بل افرشوا له مائدة الروح في قلوبكم ومائدة الخير في حياتكم، لعل الله تعالى ينظر إلينا وقد انفتحنا عليه ليعطينا خير الدنيا والآخرة.

والحمدلله رب العالمين