 |
-
طلق العصافير
قصة قصيرة
طلق العصافير
صالح السعود
وشت أوراق الأشجار على جانبي الطريق المعبد المؤدي إلى قريته بمقرب الخريف إذ بدأت ألوانها تكسو صفرتها النحاسية . فاضت عليه أمواج الهم ، وعاد يتطلع إلى السماء وراح يسير باتجاه بيته عبر إطلال الطريق التي كانت بالأمس معبدة .. لماذا جرفوا الإسفلت ؟ ألا يعلمون أنا كسوناه من عرق جباهنا ؟ .. لا عليك دعهم يفعلون ، فأنهم سيعمرونه رد عليه رفيقه مستخفا ..
ولكن هذا الأمر مضى عليه ثلاثة أعوام .. صبرا جميلا وبالله المستعان يا رجل تمدد على سريره وطوح ساقيه فوق حافته ، وراح مستغرقا في عالم النوم ، هذا المحيط الغريب المثير الذي لا قرار له ، طفا من أعماقه حثيثا وهو يصارع كابوسا لئيما ، كان مثل سباح يغالب الأمواج ليجعل من زوجته الغريقة المثقلة بحملها الأول تطفو على سطح الماء حين فتح عينيه رأى منارا شاحبا غائم الملامح ، يمثل أمامه في الظلام كان وجه أمه العريض .. استيقظ يا ولدي ، عليك أن تنهض إن زوجتك قد ضربها الطلق . قذف بدثاره جانبا ونهض متثاقلا يترنح .. يبدو انك لم تستيقظ بعد .. فاني لا أرى سوى شخص يمشي أثناء نومه .. لقد استيقظت . الجملة خرجت من فمه في صورة تثاؤب حاد النبرة ، خرج إلى فناء الدار كان الهواء شديد البرودة ، ناولته أمه عباءته السوداء ذات بطانة من فراء الغنم ، بدا بداخلها ينعم بالدفء تعالت صرخات المرأة ، أمه هرولت مسرعة إلى داخل الغرفة فز مسرعا باتجاه كومة الحطب المركونة بزاوية باحة البيت ، حمل حزمة من أغصان أشجار الرمان اليابسة ودلف إلى غرفة الزوجة ، كسّر الأخشاب وجعلها في كومة في قلب موقد النار الذي يتوسط الغرفة أضرم النار ، تصاعدت خيوط الدخان داكنة تتلوى مما جعل الغرفة وكأنّ عنكبوتا هائلا نسج بيتا عظيما في داخلها ، سالت دموعه وأحس بحرقة في عينيه راح يموّهها بأنامله التي اصطبغت بسواد الفحم والرماد ، دنا من زوجته .. جثا بالقرب منها لامس رأسها راسما قبلة على جبينها المتصبب عرقا ، ترطبت شفتاه اليابستان بالعرق المتصفد من جبهتها ثم نهض خارجا من البيت لا يقوى على شئ سرت القشعريرة في جسده عندما لامس الهواء البارد ، في السماء الشرقية أشرقت بعض النجوم المتفرقة هنا وهناك ، أما النجوم الغربية فذابت أنوارها في ضوء القمر المكتمل الذي تربع جلال فوق قمم أشجار النخيل مثل أكليل من الصقيع الأبيض ، ضوء صبغ البساتين النائمة والطرق الترابية الندية بلون الفضة ، بينما هامات أشجار السدر والكالبتوس تخترق سواد الأفق المائل بالزرقة ، وبين الحين والأخر كان يتردد نباح كلب لا يلبث أن يصمت .. خطا بثلاث خطوات على التراب ، تطلع إلى الأفق البعيد عله يرى سيارة قادمة ، اطرق يائسا ، عاد إلى الوراء قليلا ، وجلس في ظلال الشجرة الكثيفة المتجردة الأوراق ، كان ظل الشجرة يمتد فوقه مثل أطلال سقف قديم ، فلم يبصر شيئا سوى خطوط من ضوء القمر تخلل الفروع الجرداء ، ثم دار ببصره إلى داره القديم المتعب ، توالت على سمعه صرخات زوجته من بعيد وقعت على مسمعه كأصوات زجاج نفيس يتهشم ، وبدا له البيت مختلفا ، بدا رماديا تخطه الظلال ، نحيلا ، وحيدا ، بائسا لكــّن هاجس انتظار سيارة ما صرفه عنه ، بينما ظلت لفائف السجائر لا تفارق شفتيه اليابستين .. برد الجو ونشطت الرياح ، اختفى القمر خلف سحابة سوداء طويلة معتمة ، عاد راجعا إلى بيته ، دخل غرفة زوجته كانت مستغرقة في إغفاءة بعد أن عانت من ضربات الطلق ، ولم يبق من النار في موقدها سوى الرماد وبعض أطراف الأغصان الجافة ، عاد خارجا من الغرفة ذارعا باحة البيت جيئة ورواحا خرج إلى خارج البيت نظر إلى الشمال حيث امتدت سلسلة السحب الداكنة وتجمعت في شكل سهل سماوي معتم .. يا الهي لقد غامت السماء وأظلمت يحسن بي أن أعود .. فتح باب البيت ، صرت صريرا موحشا واجهته صيحات عنيفة تنبعث من غرفة زوجته .. صاحت به أمه .. ما لي أراك كالحمار متسمرا .. تحرّك .. افعل شيئا .. أن المرأة ستموت .. خرج على وجهه لا يقوى على شئ ، برق سماوي شديد قد أعمى بصره ، أعقبه رعد هائل الانفجار ، وراح المطر ينهمر مدرارا . تخبط في خطواته الثقيلة وهو يشق طريقه حثيثا إلى بيت جاره ، الذي يبعد ميلين عن داره ، راح يعدو وسط السيل العارم من المطر كأرنب مذعور يحس بأنفاس كلب مسعور يجد بأثره ، جرى عبر الحفر الطينية والأشواك البرية والشجيرات الحادة المسننة وحتى الأسلاك الشائكة ، وصل إلى الطريق المفروش بالقير وزاد من سرعة جريه حتى تقطعت أنفاسه وبات عاجزا عن العدو وشهقاته أخذت تتوالى مسرعة وأمسى عاجزا عن التنفس بصورة طبيعية ، تعرّق رغم البرد الشديد ، كبا على وجهه تلمّس جبهته ثمت سائل دافئ انساب من جبهته .. نهض بتثاقل واستأنف العدو حيث يقبع بيت الحاج ((صگب)) وأخيرا وجد نفسه أمامه .. رجل ناهز الستين من عمره يتكأ على عصا معكوفة رحب به مشدوها .. اخبرني يا رجل ما وراءك .. أرجوك ساعدني .. أن زوجتي ستموت .. احتاج إلى سيارتك .. هرع الرجل إلى داخل بيته ثم عاد مسرعا .. ناوله مفتاح تشغيل المحرك ، جلس خلف المقود ثم انطلق كالسهم نحو هدفه ، ازداد المطر بالانهمار ، تجمعت المياه الموحلة وملأت الشارع ، زاد من سرعة السيارة بينما الماء والوحل اخذ يتناثر على جانبي الطريق ، اقترب من داره بصعوبة بالغة ، ترجل منها وهرول باتجاه البيت ، حمل زوجته بعد أن لفّها بدثار سميك وأجلسها بهدوء بينما أمه احتضنتها على صدرها ، وانطلق باتجاه المدينة ، لازالت السيارة تسير مسرعة عبر طريق معبد تحول فجأة إلى طريق موحل ، انزلقت السيارة يمنة ويسرة ، وفي حفرة طينية مغمورة بالماء علقت السيارة وغاصت أطرها ، ازَّ محرك السيارة وهدر ولكن لا فائدة وبينما المرأة العجوز تحتضن كنتها شعرت ببرودة جسد المرأة صاحت بوجهها .. فاتن .. حبيبتي أجيبيني .. ولكن لا جواب .. لمست كتف ابنها وقالت بنبرة ممزوجة بالحزن .. يا محمد أن الأمر قد انتهى .
صعق في مكانه وشرع بالبكاء ، صيحاته امتزجت وصرخات طيور النورس التي حامت فوق المكان وثمة لوحة حديدية متشبثة بالأرض على جانب الطريق قد اعتلاها الصدأ تقول ..
يقيم مجلس محافظة ................. بإنشاء مشروع تبليط طريق ..................
بطول 8 كيلو متر وبكلفة ...................... دينار عراقي وإشراف مديرية طرق وجسور ................... مدة العمل 150 يوم ، الجهة المنفذة ....................؟
الكاتب صالح السعود
ضوابط المشاركة
- لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
- لا تستطيع الرد على المواضيع
- لا تستطيع إرفاق ملفات
- لا تستطيع تعديل مشاركاتك
-
قوانين المنتدى
|
 |