لغز «العصائب»







استقصاء «الأسبوعية»
برز اسم «عصائب اهل الحق» في العام 2007 مع حادثة اختطاف البريطانيين الخمسة من داخل مبنى وزارة المالية العراقية وسط بغداد في ظروف وصفت بـ«الغامضة» و«المريبة»، واستمرت كذلك حتى كشف النقاب عن صفقة سياسية عقدتها «العصائب» لتسليم المختطفين ومن ثم المشاركة في العملية السياسية.

لكن وصول أربعة من البريطانيين الخمسة جثثاً الى السفارة البريطانية في بغداد فتح باب الاجتهاد حول حدود الصفقة المبرمة، والجهة التي أبرمتها ومضمونها الحقيقي. وفي تزامن مع كشف الصحافة البريطانية عن معلومات جديدة حول المختطفين وظروف اختطافهم، تحاول «الأسبوعية» الاقتراب من اللغز.
عملية الاختطاف تمت في العام 2007 وفي وضح النهار. يومذاك كان التدهور الأمني على أشده، وكانت عناصر الميليشيات متغلغلة داخل الأجهزة الأمنية العراقية التي كانت توجه اليها الاتهامات بتنفيذ عمليات اغتيال وخطف واسعة شملت مسؤولين في الحكومة ضمن ما يعرف بـ«فرق الموت». وقد اقتحم أكثر من 40 مسلحا يرتدون ملابس الشرطة العراقية إحد مباني الوزارة في شارع فلسطين وسط العاصمة بغداد، واختطفوا بيتر مور الخبير المالي البريطاني وأربعة من حراسه.
أصابع الاتهام وجهت عند تنفيذ عملية الاختطاف الى التيار الصدري وجيش المهدي، إلا أن الشيخ صلاح ألعبيدي القيادي في التيار الصدري، نفى الاتهام ووصفه بالباطل ولا أساس له من الصحة. وأكد المتحدث باسم الكتلة النائب احمد المسعودي في اتصال مع «الأسبوعية» إن «التيار الصدري بريء من التهم التي حاول البعض إلصاقها به مستغلين مواقف التيار الثابتة إزاء القوات الأجنبية «الاحتلال» في العراق كونها تفتقد الشرعية لوجودها في البلاد، مما شجع بعض الاطراف التي تريد إعادة ترتيب أوراقها بعدما فشلت في الحفاظ على مكاسبها الانتخابية من خلال التلاعب بالحقائق وتوجيه التهم للتيار الصدري.
وأضاف: نحن لم ولن نتفاوض مع الأميركيين أو البريطانيين وإذا كان البعض يتعكز في اتهاماته لنا على قضية إطلاق بعض قيادات ومشايخ التيار الذين كانوا يقبعون في سجون الاحتلال , فإني أرى أنهم لم يصيبوا أهدافهم، كون المفرج عنهم من الصدريين كانوا قد اعتقلوا بسبب توجهاتهم السياسية وانتمائهم الى التيار، (في إشارة إلى حسن سالم من كبار قيادات التيار المفرج عنهم أخيرا).
قائد أميركي بارز أشار بعد الحادثة إلى وجود صلة بين إيران ومجموعة مسلحة في العراق، الفريق أول ديفيد بتريوس قال إن جهودا مكثفة بذلت للبحث عن المجموعة التي ارتدى بعض أعضائها ملابس للشرطة واختطفوا حوالي 40 رجلا من ضمنهم الرهائن البريطانيون الخمسة من وزارة المالية العراقية، وأكد أن منفذي العملية تلقوا تدريبا في إيران كما تلقوا تعليمات وأسلحة من إيران، وإن التورط الإيراني في هذه العملية اكبر مما كنا نعتقد في السابق».
الرهائن الخمس، وبحسب الحكومة البريطانية لم يتبق منهم سوى واحد فقط هو الخبير مور نفسه فقد تسلمت السفارة البريطانية في بغداد جثتي الرهينتين في حزيران (يونيو) الماضي، وهما جيسون كريسويل، المنحدر من غلاسكو، وجيسون سويندلهيرست من سكيميريديل، وتزامن ذلك مع إطلاق سراح قياديين في ميليشيات شيعية من بينهم ليث الخزعلي شقيق قيس الخزعلي زعيم ما يعرف بـ«عصائب أهل الحق»، غير أن مسؤولين عراقيين أكدوا أن عملية إطلاق سراح القياديين كانت جزءا من المفاوضات التي أجرتها الحكومة العراقية مع الخاطفين لإطلاق سراح الرهائن البريطانيين.
قيادي في عصائب الحق أكد من جهته ان الحكومة البريطانية وفت بوعودها في إقناع الجانب الأميركي بإطلاق سراح كل من أدرج ضمن قائمة وقال: كنا نريد إطلاق سراحهم ومعظمهم من قيادات العصائب ويبلغ عددهم عشرة وهم: ليث الخزعلي (أبو سجاد) شقيق الأمين العام للتنظيم الشيخ قيس الخزعلي المعتقل هو الآخر، موضحا انه سيتم الإفراج كذلك عن حسن سالم ورحيم ألشموسي وسعد سوار والقيادي في حزب الله علي موسى دقدوق الذي اعتقل مع الشيخ الخزعلي قبل عامين.
وقد أعلن الجيش الأميركي في 22 آذار (مارس) 2007 عن اعتقال عدد من الأشخاص للاشتباه بتورطهم في قتل وخطف خمسة جنود أميركيين في كربلاء في كانون الثاني (يناير) من العام ذاته، مؤكدا اعتقال الأخوين الخزعلي وآخرين في الحلة والبصرة.كما اعلن في مطلع تموز (يوليو) 2007 عن اعتقال علي موسى دقدوق الملقب بحميد محمد جبور اللامي في العشرين من آذار (مارس) الفائت، وهو قيادي في حزب الله جاء إلى العراق بإيعاز وتغطية من فيلق القدس التابع للحرس الثوري في إيران. وأوضح أن قيادة حزب الله اللبناني أرسلت في العام 2005 دقدوق إلى إيران للعمل مع فيلق القدس على تدريب متطرفين عراقيين. والشقيقان الخزعلي، خصوصا قيس، من الكوادر السابقة في جيش المهدي وقد كان المتحدث باسم مقتدى الصدر خلال معارك النجف مع الأميركيين في آب (اغسطس) 2004. وأكد القيادي أن الشيخ الخزعلي يدير المفاوضات مع الأميركيين من معتقل كروبر قرب مطار بغداد ويتصل بمساعديه وعائلته عبر هاتف خاص كاشفا انه «سيكون آخر من سيطلق سراحه بحسب طلبه شخصيا».

الرواية من مصدرها
«الأسبوعية» التقت أحد القياديين المنشقين مؤخرا عن عصائب أهل الحق، والذي قال ان ما تحدثت عنه وسائل الإعلام عن ظروف عملية الاختطاف بعضه صحيح والبعض الأخر خاطئ تماما، ورغم ذلك فهناك تفاصيل خفية عن الجميع بما في ذلك الاطراف المفاوضة.
وقال المصدر الذي فضل عدم الكشف عن اسمه واكتفى بلقبه بـ«ابو قاسم» إن «الجماعات الخاصة» انشئت بأوامر مباشرة من زعيم التيار السيد مقتدى الصدر، وكانت الغاية منها أن تكون نواة الجناح العسكري للتيار وتنظيم عملية «مقاومة المحتل». لكن هذه الجماعات، والحديث لـ«ابو قاسم»، انقسمت على نفسها وابتعدت عن التيار الصدري، وقاد الانقسام حينها أكرم ألكعبي احد مساعدي الصدر، والتحق به فيما بعد محمد طبطبائي ومؤيد الخزرجى، وأصبحت الجماعات عبارة عن مشروع منفصل عن التيار الصدري، فتغيرت مصادر تمويلها كما الادارة والتخطيط. المصدر كشف أيضا أن بعض الاطراف الرسمية تبينت إن القوات الأميركية ستقوم بإطلاق سراح ليث الخزعلي شقيق قيس الخزعلي زعيم الجماعة السابق والمعتقل حاليا، لعدم ثبوت أية تهمة ضده أو على قيامه بأعمال عنف، فالأميركيون كانوا يعرفون تماما ان الخزعلي يقف وراء اختطاف جنودهم في كربلاء.
صفقة إطلاق سراح المعتقلين وصفها ابو قاسم بانها «كبيرة جدا» حدثت بين جميع الأطراف المعنية الأميركية والبريطانية والعراقية. وبنود الصفقة لا تقف عند إطلاق سراح الرهائن وإطلاق سراح المعتقلين وإلقاء السلاح، بل ان الصفقة حسب المصدر تذهب الى استخدام طرف معين ضد أطراف اخرى.
وفي العودة الى تفاصيل الاختطاف يقول «ابو قاسم» أنها تمت بشكل «متقن جدا» وباستخدام آليات تابعة لوزارة الداخلية ومنتسبين أيضا مع أشخاص من خارجها، ووصلت أوامر إلى السيطرات التي كانت في المنطقة لقطع الطريق ووضع الحواجز من دون ان يعلم المسؤولون شيئاً عن المهمة التي ستنفذ. دخل الخاطفون المبنى واختطفوا الفريق البريطاني وخرجوا متوجهين إلى مكان ما داخل بغداد، حيث تم تحويل الرهائن الى جهة أخرى تملك آليات رسمية أيضاً، ومن هناك نقلوا فورا الى خارج بغداد، وفي خلال اقل من 48 ساعة اخرجوا من العراق برا، من دون أن يحدد الدولة التي اخرجوا اليها.
أضاف ابو قاسم: ان اثنين من المختطفين اللذين سلمت جثتيهما مؤخرا انتحرا لأن المحيطين بهما وضعوهما في بيئة تساعد على ذلك. في المقابل فاننا نلمس عدم استجابة الحكومة البريطانية لمطالب المختطفين، وهنا كان لا بد من حركة لحثها على الاستجابة. وفعلا تم إطلاق سراح مجموعة أولى من معتقلي «العصائب» وتحدثوا عن إطلاق سراح مجموعة ثانية، ومن أطلق سراحه حتى الآن ليس بأهمية قيس الخزعلي، لكن الاتفاق هو على مور نفسه، هذا مقابل هذا.
الخزعلي يرفض
ويوضح المصدر المذكور ان قيس الخزعلي لم يطلق سراحه حتى الآن، ليس كما أشيع لأنه يدير المفاوضات مع الأميركيين، بل لأنه يرفض الخروج إلا بعد إطلاق سراح جميع المعتقلين من إتباعه. وعن موضوع علي دقدوق القيادي اللبناني في العصائب واعتقاله بصفته تابعاً لحزب الله والحرس الثوري الإيراني، قال: هذا الأمر خاطئ تماما، فدقدوق لا علاقة له بحزب الله من قريب ولا من بعيد، كل ما في الامر انه في تلك الفترة حضر بعض العرب وأعربوا عن أنهم يحملون الروح الجهادية، وكانوا يقولون بأننا من قيادة الحركة الفلانية أو حزب الله كي تناط بهم مناصب ويصبحوا آمرين لا تابعين. وهناك أيضا مكاسب أخرى، كما أن العصائب اختارت جهات لتمويلها بعيدة عن الأنظار، وقد يكون جزء من التمويل ايرانياً، لكن الأمانة العامة العصائب عراقية ومعظم عناصرها مقيمون في إيران، وهناك خمسة أو ستة هم يشكلون قيادة العصائب».
وأكد المصدر أن بعض قادة التيار ممن يرفضهم مقتدى يلجأون فورا الى الجماعات الخاصة،، ومنهم عبد الهادي الدراجي وحسن سالم، وقد خرجت جماهير مدينة الصدر مؤخرا في تظاهرة رددت «كلا كلا أعوان الظالم، عبد الهادي وحسن السالم»، وهي عملية تسقيط لهم وهو السلاح الوحيد للتيار لحسر قاعدتهم، كي لا يتكلموا باسم مكتب الصدر .
وعن المفاوضات الجارية بين العصائب والحكومة، قال إن من يديرها هو سلام المالكي باعتبار انه يملك علاقة بأكرم ألكعبي، ورغم أن سلام يقول انه لا يمثل التيار أو العصائب لكن كلامه غير صحيح، فمن غير الممكن أن يتكلم باسم العصائب من دون إن يكون منها.

العصائب والانتخابات
وعن أهداف الحكومة العراقية التي تبنت المفاوضات مع العصائب، قال المصدر ان الحكومة لم تدخل المفاوضات من أجل عيون المختطفين أو خوفا على العصائب، بل هي أرادت أن تضرب عصفورين بحجر واحد. ومن بين اهدافها ترتيب المستقبل السياسي القريب عبر سحب البساط من تحت أقدام التيار الصدري وشقه إلى عدة مكونات عبر تفاوضها مع بعض المكونات، وهنا تتشتت القاعدة الجماهيرية المؤيدة للتيار. والدليل ان المفاوضات كانت قائمة على أساس سحب العصائب للدخول في تحالف مع مكون معين في الانتخابات المقبلة، مقابل إطلاق سراح قياداتهم وإنهاء موضوع ملاحقة الآخرين بموجب القانون في حال وجود تهم ضدهم، وضمان إنهاء الطرف المسلح في الشارع العراقي، وفي المقابل التقليل من قوة التيار الصدري واضعاف قاعدته، عبر العصائب التي ستقوم باستمالة بعض قادة التيار، وهذا ما تمت بموجبه اتفاقية مع الحكومة، خصوصاً وان العصائب تحتاج الى هذا الأمر لأنها متورطة في الكثير من الأمور.
ويكشف المصدر عن أمر خطير آخر، وهو أن خطوات تمت بين الحكومة والعصائب خلاصتها تفاهمات على دخول العصائب الانتخابات المقبلة وتخصيص مقاعد برلمانية لبعض قادتها.

هل تورط مسؤولون؟
وسائل الإعلام البريطانية كانت قد اشارت الى تفاصيل عن تورط جهات حكومية عراقية حينها بحادثة اختطاف البريطانيين الخمسة وقتلهم أيضا.
لكن مستشار الأمن القومي العراقي السابق موفق الربيعي، الذي يمتلك معلومات تفصيلية عن مجريات الأمور في الساحة العراقية وتحديدا بعد إحداث العام 2006، أكد في تصريحات نقلتها وسائل اعلام بريطانية، أن خطف خبير مالي بريطاني من داخل مبنى وزارة المالية العراقية في بغداد في العام 2007 جاء لعرقلة وضع برنامج إلكتروني لمكافحة الفساد المالي والإداري في الوزارة كان الخبير في صدد الانتهاء منه، مضيفا إن بيتر مور كان يعمل على برمجيات «سوفت وير» لجعل وزارة المالية وزارة تتعامل بالكومبيوتر على أن تتم عملية نقل الأموال عبر الحاسوب، وتحويل المعاملات المالية من ورقية يمكن التلاعب بها إلى معاملات برمجية كومبيوترية يصعب تزييفها أو التلاعب بها، وكان هذا بدعوة من وزارة المالية التي طلبت من المؤسسات البريطانية مساعدتها لجعلها وزارة تعمل بالكومبيوتر في التعاطي مع البنوك، وبالتأكيد فإن المعاملات الكومبيوترية أقل قابلية للفساد والتجاوزات المالية من المعاملات الورقية.



--------------------------------------------------------------------------------