الخطاب الديني في الفضائيات


gmt 23:32:00 2009 الأربعاء 23 ديسمبر



أوان الكويتية


هشام العوضي
لو أننا قمنا بإعداد قائمة من العناصر، أو السمات التي تكوّن الخطاب الديني في الفضائيات، لشملت قائمتي مفردات مثل: الفردية، والروحانية، والدنيوية، والإنسانية. وقبل أن أشرح علاقة هذه المفردات بالخطاب الديني على الفضائيات، دعونا نحرر أولا ما قد يلتبس في ذهن الناس ونقول إنه مهم أن نفرق بين الدين وبين الخطاب الديني. فالأول من عندالله، والثاني من عند أفهام وتعبيرات البشر، وبالتالي يقبل النقد والتحليل. ثانيا الخطاب الديني، مثل أي خطاب، يتأثر بالزمان، والمكان وفي هذه الحال بطبيعة وسيلة الاتصال (أي التلفزيون).
الفضائيات صارت أهم وسائل نشر «الثقافة الجماهيرية»، والثقافة الجماهيرية بطبيعتها تستهدف الكم، وليس الكيف، وتتسم بالتبسيط (التسطيح أحيانا) فيما تقدمه من برامج أدبية وموسيقة ورياضية ودينية بالتبعية. ولأن الثقافة الجماهيرية تستهدف الكم، تصبح الصورة أهم من الفكرة، والجذب بالإثارة فوق الإقناع بالمنطق. ومع أي حالة جماهيرية، تجلب الفضائيات معها ثقافة التسويق، فتصبح الفواصل الإعلانية، وتأمين رعاة لتكلفة البرنامج، أهم أحيانا من البرنامج نفسه.
والخطاب الديني، شاء أم أبى، عندما يدخل التفلزيون، لا بد أن يتعرض إلى الضغوط نفسها التي تتعرض لها نتاجات الأدب والفن والموسيقى والرياضة من تبسيط وتسويق و«سلعنة». ولا بد أن يعاد تنميطه بما يتواءم مع معطيات وطبيعة الثقافة الجماهيرية. وما ذكرته من الفردية، والروحانية، والدنيوية، والإنسانية هي بعض عناصر الخطاب الديني، بعد عملية التنميط هذه. ولنقل كلمة مختصرة في هذه العناصر:
أولا الفردية، وهي مقابل مفهوم الجماعة الذي ساد الخطاب الإسلامي بوضوح منذ الستينيات. فمع ظهور الحركات الإسلامية، وكتابات سيد قطب تحديدا، كان هناك تركيز في الخطاب الإسلامي على أهمية الجماعة في التغيير، وسادت بين جيل هذه الفترة أن الجماعة أهم من الفرد، وأن المتوقع من الفرد أن يطيع قيادة الجماعة في المنشط والمكره.. وكتب قطب عن «المفاصلة الشعورية» بين الجماعة المسلمة وبين الجماعة الكافرة أو الجاهلية..الخ الخطاب الديني التلفزيوني يركز بصورة عكسية على الفرد، ومن هنا تسود من ضمن مفرداته جميع ما له علاقة بأدبيات تنمية الذات، من صقل للمهارات، وتحسين للأداء.
ثانيا: الروحانية، وهي قريبة جدا من الطرح الصوفي الذي يركز على كل ما له علاقة بتهذيب النفس. ومن هنا تحظى الموضوعات العاطفية بالجذب ولاسيما بين شريحة النساء، وجميع من يريد أن يتدين بالمفهوم العصري على مستوى فردي، لا على مستوى جماعي (حركي)، وعلى مستوى وجداني لا يتناطح مع السلطة. فالصدامات الدموية التي ميزت علاقة الإسلاميين بالأنظمة العربية في الثمانينيات والتسعينيات، زهدت الجماهير، وأخافتهم أحيانا، من التعاطي في «السياسية» التي لاتزال في بلداننا ملفا أمنيا لا سياسيا.
ثالثا: الدنيوية، فلم تعد أطروحات الآخرة -وملحقاتها من الموت، وعذاب القبر، والاستشهاد- سائدة كما كانت في الثمانينات، بالتأكيد خلال حرب أفغانستان والانتفاضة الفلسطينية، وإنما صار التركيز على الدنيا وملحقاتها من عمارة الأرض (التنمية بتعبير الخطاب الديني العصري). وصار الخطاب الديني، من أجل أن يندمج مع الثقافة الجماهيرية، أكثر إبهاجا وتلوينا، على وزن برنامج ديني اسمه «لوَّن حياتك»، وبرامج أخرى كلها حيوية مثل «صناع الحياة»، و «عيش حياتك» و«الحياة حلوة»، و«أحلى حياة». وبعدما كان جيل الثمانينيات يشعر بتأنيب الضمير من أن يأنس بالدنيا، يحقق كتاب «استمتع بحياتك» أعلى المبيعات بين جيل الألفية الثانية.
وبالتأكيد يتواءم هذا التحول من الآخرة إلى الدنيا مع متطلبات النزعة الاستهلاكية التي تسود الثقافة الجماهيرية، باعتبار أن المشاهدين في نهاية الأمر هم زبائن لما يعرض في الدعايات، وفي البرامج التي تحث على تلوين الحياة بمتع الدنيا. وبالتأكيد، مكّن التركيز على مباهج الحياة رجال المال من سلعنة المنتج الديني، كما نرى مثلا في البيزنيس الرائج لبيع رنات موبايل المنشدين، وقرّاء القرآن ومفسري الأحلام.
رابعا: الإنسانية، بمعنى أن الخطاب الديني صار منفتحا على الآخر، مقارنة بأدبيات «الولاء والبراء» التي كانت تميز أجيال الستينيات وصاعدا. فمع فشله في وقف مد العولمة، لم يعد واقعيا أن يستمر الخطاب الديني في عزلته، إذا أراد أن يتحول إلى ثقافة جماهيرية تبث من الفضائيات. ومع الانفتاح لم يعد عيبا أن يعبر المسلم العصري عن إعجابه بستيفن كوفي، مؤلف «العادات السبع»، ولم يعد خافيا بأن نجوم الفضائيات في البرامج الدينية، هم من أكثر الناس إطلاعا على المترجمات حول الإبداع، وفن التأثير، ومهارات التسويق (المرادف العصري للدعوة والتبشير) والإبداع (المرادف العصري للاجتهاد)، والبرمجة العصبية (nlp) والتنويم المغناطيسي والعلاج بخط الزمن..الخ
ولم يعد استشهاد الخطاب الديني بحالات التفوق حكرا على أسماء الأولين، مثل النووي والغزالي وابن تيمية، وإنما صار أيضا يشمل توني بوزان، صاحب نظرية الخريطة الذهنية، وأنتوني روبينز مؤلف «أيقظ قواك الخفية»، وروندا بايرن، مؤلفة «السر». وصار شائعا أن تجد الشافعي يذكر إلى جوار ستيفن كوفي، مادام كلاهما يعبر عن حال النجاح، باعتبارها حالة إنسانية لا دينية.
بقي أن نتساءل عن مستقبل الخطاب الديني في الفضائيات، وهو تساؤل مرتبط أكثر بمستقبل الثقافة الجماهيرية في بلداننا بعد 20 سنة من الآن. اعتقادي في اختصار أن التفجر التكنولوجي سيطيل من أمد الثقافة الجماهيرية، ويوسعها في المجتمع، على حساب الثقافة الجادة، وهذه قضية أخرى تحتاج لمناقشة.