تقديس الخصوصيات
يلاحظ على الحركات المتنامية في العالم العربي إسلاميةً كانت أو قومية أو وطنية تأصيلها لذهنية تقديس الخاص على حساب القضايا الإسلامية الكبرى.
تغييب العنوان الإسلامي عن القضايا الكبرى
سئل العلامة المرجع، السيد محمد حسين فضل الله، في ندوته الأسبوعية: عن السبب في استمرار التقديس للذهنية الإقليمية أو الطائفية أو المذهبية لدى الكثير من الحركات الإسلامية أو القومية أو الوطنية؟
فأجاب: "ثمة مشكلة تضرب جذورها في صميم حركتنا السياسية والدينية والاجتماعية مع اختلاف تعابيرنا السياسية أو الدينية أو الفكرية في العالم الإسلامي والعربي، وتتمثل في هذا الإخلاص إلى حد التقديس للدوائر الصغيرة على حساب الدوائر الكبيرة، وفي هذا الاستغراق اليومي بالاهتمامات الخاصة لهذه الحركة أو تلك الحالة والارتقاء بالخصوصيات الذاتية إلى المستوى الذي تأكل فيه هذه الخصوصيات العناوين العامة للأمة، حتى تلك التي قد تمثل مصير الأمة في حاضرها، أو في مستقبل قضاياها الرئيسية أو في تطلعات أجيالها.
لقد استطاعت هذه الخصوصيات في كثير من نماذجها ومن خلال الذهنية السياسية أو الفكرية التي تكمن خلفها، أن تلغي الكثير من الاهتمامات العامة لحسابها الذاتي، الأمر الذي حرّك الوعي في المسألة الإقليمية في مقابل القومية أو في مواجهتها، وتحركت المذهبية في مقابل الإسلامية، وانطلق العنوان الطائفي أو الديني على حساب العنوان الإنساني العام، بكل ما يحمله هذا العنوان من قيم جاءت الرسالات لتحتضنها ولتؤكدها على مستوى العالم.. وقد أنتج لنا هذا الواقع حركات أو شخصيات أو نماذج سياسية وفكرية واجتماعية وحتى دينية تعيش في نطاق هذه الدوائر الضيقة لتفقد روحية الحركة وإمكانية العطاء على مستوى الدوائر الواسعة.
وقد اصطدمنا في واقعنا الإسلامي أو العربي بهذه النماذج التي تنكّرت للأمة في قضاياها من خلال انغلاقها في زواياها الخاصة أو في ارتدادها سياسياً إلى هذه الدوائر لمجرد اصطدامها ببعض السلبيات أو بعض التحديات التي شعر هؤلاء بأنها قد تربك بعض أوضاعهم من حيث أنها ستقلق راحتهم وتجعلهم يدفعون بعض الأثمان السياسية، ولذلك فضلوا العودة إلى دوائرهم الذاتية سالمين، لينكفىء في حركتهم المشروع الكبير ولتعود المسألة إلى حجمها الفردي أو الجماعي الخاص بعيداً من قضايا الأمة في اجتماعها العام.
وتكمن المشكلة الكبرى التي نعيشها في هذه الأيام تكمن في هذه الذهنية التي تتجلى نتائجها بشكل واضح في المسألة الفلسطينية، وتتمثل في تنكر العالم العربي لهذه القضية ومحاولة التحرر منها، لا السعي لتحريرها من قبضة إسرائيل ودوائر الاستكبار الصهيوني والعالمي. وقد دفع الشعب الفلسطيني في السابق الأثمان الباهظة لهذا التنكر حتى في الوقت الذي وضع فيه الحكام العرب هذه القضية في العنوان الكبير لحركتهم أو لسلوكهم حتى على مستوى قضاياهم الداخلية، لأنهم أرادوا أن تكون المطية التي تطيل أعمارهم السياسية في الحكم فعملوا على إبعاد هذه القضية عن اهتماماتهم الحقيقية وتركوا الشعب الفلسطيني يتخبط بآلامه وجراحه، ثم سعوا لطعنه في الظهر في علاقاتهم العلنية بعد علاقاتهم السرية مع إسرائيل، وكل ذلك تحت عنوان السعي لحل القضية الفلسطينية. ولا تزال هذه المسرحية تتوالى فصولاً حتى مع شارون وفي عز حالات جنونه، الأمر الذي أعطاه دفعة سياسية وأمنية جديدة لكي يواصل لعب دور الوحش في المنطقة من خلال جرائمه في فلسطين المحتلة التي لن تكون جريمة اغتيال الشيخ أحمد ياسين هي الأخيرة في هذا المسلسل الذي حظي بالتغطية الأمريكية المباشرة وبالتغطية العربية في كثير من المواقع بطريقة غير مباشرة.
إننا لا نريد أن نحصر المشكلة في حركة الأنظمة مع تأكيدنا على الخطورة الكبرى التي تكمن في هذه اللعبة التي تديرها الأنظمة من خلال تنكرها للقضايا الكبرى لحساب قضيتها الصغرى المتمثلة في إطالة أمد حكمها، فثمة معوقات كبرى لحركة الأمة العامة تكمن أيضاً في بعض الذهنيات المذهبية التي بدأت تتحرك في مواجهة القضية الإسلامية العامة، بحيث لا تهتم بقضايا العالم الإسلامي إلا في نطاق خصوصياتها الذاتية، أو ربما نلاحظ ذلك أيضاً في بعض الحركات القومية التي استغرقت في نطاق البلد الذي تسيطر عليه أو تتحرك فيه من دون الالتفات إلى البلدان الأخرى على أساس الكثير من الحساسيات التي أسقطت في السابق عنوان الوحدة العربية، كما أبعدت القومية من خلال اصطدامها بالقطرية، هذا مع عدم إغفالنا للعامل الاستكباري العالمي الذي وضع الوحدة، أي وحدة، في نطاق الممنوعات العالمية وخصوصاً إذا كانت تتحرك في الساحة العربية والإسلامية.
ونحن في الوقت الذي لا نستثني بعض الإسلاميين من ملاحظاتنا على أدائهم في هذا الجانب لانشغالهم عن الساحة الإسلامية العامة في تحدياتهم المصيرية واستغراقهم في بعض المشاكل المحلية الداخلية، نرى بأن المسألة باتت تحتاج إلى حركة كبرى على مستوى الأمة كلها للتصدي لهذه الذهنية التي تعمل لتغليب الخاص على العام وللاستغراق في العنوان المحلي على حساب العنوان الإسلامي أو العربي، لأن الاستمرار في هذا الخط سوف يصل بنا إلى تقديم بعض النماذج الاستكبارية كبدائل أو كحلول على مستوى المنطقة أو على مستوى المشاكل السياسية التي يعيشها هذا البلد أو ذاك، وتلك هي الطامة الكبرى التي بدأت ملامحها تظهر في أكثر من موقع لتفسح في المجال لأمريكا لتطل برأسها من أكثر من ثغرة، وليس ما يجري في العراق اليوم ببعيد من ذلك".
ماهو تعليقك؟