 |
-
فتاوى السيستاني على طاولة مجلس الحكم وانبعاث نجف جديدة من حطام سنوات البعث(1 من 2)
فتاوى السيستاني على طاولة مجلس الحكم وانبعاث نجف جديدة من حطام سنوات البعث(1 من 2)
بغداد - حازم الأمين الحياة 2004/03/26
في احد مقاهي النجف. (الحياة)
يقول احد اعضاء مجلس الحكم الأنتقالي انه عندما زار آية الله علي السيستاني في النجف بادره هذا الأخير بأنه لا يريد التدخل في السياسة وان دوره توجيهي وعام. ويضيف عضو المجلس ان الساعة والنصف التي قضاها في حضرة السيد مضت كلها من دون ان يتوقف هذا الأخير عن الأحاديث السياسية المتعلقة بمستقبل العراق.
العراق كله يتحدث اليوم عن دور المرجعية في الحياة السياسية فيه. القوى والأطراف غير المنضوية تحت عباءة هذه المرجعية تشعر ان في اتساع نفوذ المراحع الدينية ما يؤشر على ميل الى دولة دينية في العراق. الأعتراض على الدستور الموقت من قبل القوى الشيعية والدعوة الملحة الى تعجيل موعد الأنتخابات يفسران في هذا السياق ايضاً. هنا تحقيق ميداني من حلقتين يتناول هذه القضية.
الزقاق الضيق المتفرع من شارع الرسول في مدينة النجف والمؤدي الى منزل المرجع الشيعي السيد علي السيستاني بُري اسمنت جدرانه لشدة ما لمسته اجسام العابرين الكثر الى ديوان المرجع. الباب المفضي الى المكتب ايضاً جعلته الأكف التي تدفعه يومياً شديد اللمعان. عابرو الزقاق هذه الأيام ليسوا المراجعين التقليديين فقط, على رغم كثرة هؤلاء, انما ايضاً اصناف مختلفة من السياسيين الجدد في العراق واعضاء مجلس الحكم الموقت, خصوصاً الشيعة منهم, بعدما جعل هؤلاء من المرجعية في النجف فيصل مواقفهم في المجلس. النجف كلها تُعد نفسها لدور جديد. لا يمكن لزائر هذه المدينة الا ان يسجل ما لا يحصى من الاشارات في هذا السياق. فالوضع الأمني الضاغط والتهديد المتواصل باستهداف المدينة لم يحد من حركة عمرانية جديدة تهدف الى تهييء المدينة لدورها الجديد. الفنادق حول الروضة العلوية يُعاد بناؤها وترميمها وتأهيلها حتى تتمكن من استقبال آلاف الزوار يومياً, والطرق المفضية الى المقام, وهي كثيرة وواسعة, جميعها مقفلة امام السيارات, والازدحام الشديد لم تحد منه فتوى السيستاني المتعلقة بحرمة دخول زوار الأماكن الشيعية المقدسة بغير الطرق الشرعية, وهو امر يفعله نحو 15 ألف ايراني يومياً.
النجف مدينة المرجعية الدينية الشيعية التي طغى حضورها في الأشهر القليلة الفائتة على اي حضور آخر في العراق. مقتدى الصدر وتياره الواسع خمدا امام صعود دور السيستاني. الأحزاب الدينية الشيعية القادمة الى العراق بعد سقوط النظام فيه, انخرطت في دعاوى المرجعية, وحوّلت فتاوى السيستاني الى سقف لا يمكن تجاوزه. "العلمانيون" الشيعة في مجلس الحكم, امثال احمد الجلبي واياد علاوي, وجدوا انفسهم امام دارة الرجل في النجف فيستقبلهم نجله السيد محمد رضا, وبعد ساعات من التداول والتشاور يدخلهم الى غرفة والده فيسمعون كلاماً مقتضباً وعاماً ويتوجهون بعده الى بغداد ليشاركوا في مناقشات مجلس الحكم الموقت. الأميركيون حاولوا جاهدين الاجتماع بالرجل, اما الوفود الأخرى كوفد الجامعة العربية مثلاً, فالنجف ومكتب السيستاني هما على رأس قائمة اهدافها من زيارة العراق. هذا ناهيك عن الأمم المتحدة التي لبّت طلب السيستاني بارسال وفد الى العراق لدرس امكان اجراء انتخابات فيه, لكنها, وبحسب مقربين كثر من سيد النجف, خذلت المرجعية بأن أعلنت صعوبة اجراء انتخابات.
لكن لهذا الدور المتعاظم للمرجعية الدينية وجهاً بدأ يتضح, وبدأت تنشأ حوله تحفظات كثيرة. فالعراق يشهد هذه الأيام نقاشات كثيرة ممهدة لتقرير مستقبل الدولة ونوع النظام السياسي فيه, ورجال الدين, وعلى رأسهم السيستاني, يشكلون الطرف الرئيس في النقاش والتداول, والاشارات التي تلتقطها اطراف التجاذب المختلفة توحي بأن المرجعية الدينية هي الطرف المحاور باسم الشيعة, وهي محكومة بموقعها ودورها, وهو ما يثير المخاوف من اتجاه الأمور نحو دولة غير تلك التي تسعى قوى عراقية اخرى اليها, ناهيك عما يسعى الأميركيون انفسهم اليه. فالنموذج الايراني المجاور ليس بطبيعة الحال هو ما جاءت الولايات المتحدة لتُحله محل النظام العراقي البائد. هذا مع استمرار المرجعية الشيعية في تأكيداتها ان دورها التوجيه وليس التقرير, وانها لا تؤمن بولاية الفقيه التي تشكل عصب النظام في ايران.
لكن لتأكيدات المرجعية ما يضعف من امكان الاطمئنان اليها بحسب قوى عراقية اخرى. فالدور التوجيهي الذي تقول المرجعية انها تلعبه لا تؤكده مواقف كثيرة اطلقتها متعلقة بتفاصيل العملية السياسية, ومنها الاصرار على اجراء الانتخابات في الوقت الراهن, والتحفظات عن فقرات من الدستور. هذا في العام والمعلن, اما في التفاصيل فيؤكد اعضاء كثر في مجلس الحكم ان اجتماعات هذا الأخير محكومة دائماً بفتاوى المرجعية والحدود التي ترسمها للأعضاء الشيعة في مجلس الحكم. ويبدو انه صار من الصعب اقامة الحدود بين رغبات المرجعية وبين دعاوى القوى الشيعية المشاركة في المجلس, اذ ثمة ما يدفع اعضاء آخرين في المجلس الى الاعتقاد بأن تبادلاً للأدوار وتنسيقاً شبه يومي يصعب معه الفصل بين ما تريده المرجعية وبين طروحات الأعضاء الشيعة في مجلس الحكم, وربما جاءت تفاصيل التوقيع على القانون الموقت وما تبع هذا التوقيع من تحفظات اكثر من نصف الموقعين علامة على ذلك, خصوصاً ان فعل التوقيع حصل بعد اجتماعات مطولة عقدها اعضاء خمسة من الشيعة في النجف مع نجل آية الله السيستاني بما اوحى بأنهم جاؤوا الى بغداد حاملين موافقة المرجع على التوقيع.
الأمر الثاني المتعلق بعدم تبني المرجعية الشيعية في النجف لولاية الفقيه والتي تطلق في سياق استبعاد تبني هذه المرجعية للدولة الاسلامية في العراق, يبدو انه ليس ضماناً كافياً للأطراف الأخرى في مجلس الحكم كما للقوى الطائفية الأخرى. فولاية الفقيه بحسب عدد من رجال الدين الشيعة في العراق "هي احدى نماذج الحكم الاسلامي وليست كلها", وقول كهذا لا يعني استبعاد الدعوة الى دولة اسلامية انما استبعاد احد نماذج الحكم الاسلامي, فيما تتفاوت النماذج الأخرى على نحو لم تبلوره القوى الدينية الشيعية في العراق بعد.
والمشكلة ان طغيان مرجعية السيستاني على برامج القوى الشيعية في العراق جعل من الصعب الفصل بين ما تريده هذه المرجعية وما تدعو اليه هذه القوى. انعقاد المطالبات على امور محددة واشتراك القوى الشيعية المختلفة في رفض ما يطرح اليوم أو قبوله, يضعف التفاوتات ويدفع الى الاعتقاد بأن انسجاماً قائماً بين هذه القوى, وان ثمة من يدير الخلافات التي لا تبدو كبيرة امام الاتفاق الكبير مثلاً على الاصرار على اجراء الانتخابات او رفض المادة المتعلقة بحق ثلثي ناخبي ثلاث محافظات في نقض قانون ما. فيبدو والحال هذه ان الفارق طفيف بين ما اكده لـ"الحياة" السيد محمد رضا الغريفي وهو من المقربين من السيستاني واستاذ في الحوزة النجفية لجهة ان المرجعية تريد دستوراً من خلال جمعية وطنية منتخبة تراعي حقيقة ان 95 في المئة من العراقيين هم من المسلمين, وبين ما قاله السيد هادي المدرسي في كربلاء لـ"الحياة" ايضاً من ان الاسلام دين الناس في العراق فلماذا لا يكون دستورهم.
المرجعية الشيعية في العراق دائمة الدعوة الى التمييز بين دورها وبين دور القوى الدينية الشيعية المختلفة, لكن هذا التمييز من الصعب اقامته ميدانياً وعملياً. فزائر السيد علي الواعظ في منطقة الكاظمية في بغداد وهو وكيل حسبي للسيستاني وواحد من القنوات التي تصل بين المرجعية وبين المؤمنين, هذا الزائر سيلاحظ من دون جهد انغماس السيد الوكيل بما يتعدى ما تعلن المرجعية انها تتصدى اليه. فالواعظ وبالتعاون مع رجال دين آخرين في صدد تأسيس جهاز امني يتولى امن منطقة الكاظم وهو يقول ذلك وبيده اوراق قال انها وصلته من النجف وهي عبارة عن استمارات لجمع تواقيع الرافضين للدستور الموقت. ويتحدث الواعظ عن شبابه الذين "ألقوا القبض على عدد من الارهابيين غير العراقيين". ويقيم السيد في زقاق متفرعٍ من الساحة الرئيسة المقابلة لمقام الامام الكاظم, ولا يخفي امتعاضه من الحال التي ادت الى تمكن مفجري المقام في العاشر من محرم من الوصول الى الصحن, ملمحاً الى مسؤولية جهاز الأمن الحالي الذي يتولى حماية المقام, علماً ان جهاز الأمن الذي قال الواعظ انه ليس بالمستوى المطلوب لحماية المرقد هو بادارة السيد حسين الصدر الذي يعتبر ايضاً امتداداً آخر للمرجعية السيستانية في منطقة الكاظم. وقد يكون الواعظ, وهو الوكيل الحسبي للسيستاني, مستقلاً عن المرجعية في ما يتعدى القضايا التي اوكلته فيها والمتعلقة بقضايا الحقوق والزكاة والفصل والزواج والطلاق, لكن الصلة بالمرجعية بالنسبة الى العراقيين الشيعة لا يمكن نظمها وفق هذا التقسيم, واذا كانت هذه الوظائف هي المناطة بالواعظ فكيف خلط بينها وبين استمارات رفض الدستور الموقت؟
فقراء النجف في أسواقها المزدهرة
للتوجس الذي يبديه علمانيو مجلس الحكم من توجه القوى الشيعية نحو دولة دينية ما يسنده من وقائع, فالقرار 137 المتعلق بالغاء القانون المدني للأحوال الشخصية وتحويل القضايا المتعلقة بالزواج والطلاق والارث الى المحاكم الدينية والذي وقعه السيد عبدالعزيز الحكيم خلال فترة ترؤسه مجلس الحكم, تم تمريره على نحو يثير الريبة. فبدلاً من تحويله الى الحاكم المدني الأميركي بول بريمر الذي من المفترض ان يقبل قرارات مجلس الحكم او يرفضها, فوجئ اعضاء مجلس الحكم بأن القرار احيل الى حقيبة القرارات التي ترك تنفيذها الى ما بعد 30 حزيران (يونيو) 2004, اي بعد تسلم حكومة عراقية لا تحتاج الى تواقيع بريمر حتى تطبق قراراتها. ويقول عضو في مجلس الحكم ان كلام زميله في المجلس موفق الربيعي حول ضرورة الاطاحة بالفقرة "ج" من الدستور ينم عن وجود روح اقتحامية تتجاوز الخلاف على هذه الفقرة. ورأى عضو المجلس ان المحور الشيعي هذا مستعد الآن لمفاوضة الأكراد على توسيع الفيديرالية مقابل اعطائهم في مكان آخر.
الفروق الكثيرة بين ممثلي المرجعية وما يوازيهم في المناطق العراقية المختلفة ليست على كل حال الا وجهاً لغياب الانسجام في الآلة الواحدة. هذا الأمر غير مطروح اليـوم, لأن هذا الانسجام ليس ملحاً في المرحلة الراهنة, فتأجيل الخلاف في التفاصيل تمارسه معظم القوى الشيعية المنضوية تحت عباءة المرجعية, وتمارسه ايضاً قوى دينية شيعية اخرى خارج هذه العباءة كتيار "الحوزة الناطقة" الذي يتزعمه مقتدى الصدر والذي انخرط ممثلوه في حركة رفض الدستـور الموقت تحت السقف نفسه الذي حدده السيستاني. ثم ان الاسـتماع الى ممــثلي هذه القوى يشعرك بأنك حيال اصداء متفاوتة لصوت واحد. جميعهم يريدون الاسراع باجراء الانتخابات وجميعهم يحـملون على الأمم المتحدة ومبعوثها الى العراق الأخضر الابراهيمي ناهيك عن اجماعهم على رفض قضية المحافظات الثلاث, والأهم من ذلك كله اشارتهم جميعاً الى دور للاسلام كنص في تحديد مستقبل الدولة ونوعها.
المتجول في المناطق العراقية المختلفة لا بد له من ان يلمس ان الشيعة يهيئون انفسهم لحكم العراق. انهم الأكثرية وهم يسعون الى تخريج اقل صخباً لغلبتهم, ولكنهم يحثون الخطى في هذا الاتجاه. الاسراع باجراء الانتخابات في الوضع الراهن سيحول دون حصول فرز مختلف للقوى. فالعشائر اليوم منهكة ولا اثر لتيارات علمانية او غير دينية في الجنوب باستثناء جيوب شيوعية واهنة. وحصول الانتخابات سيعني حكماً وصول ممثلي المرجعية او ممثلي قوى منضوية تحت عباءتها, علماً انه سيتاح لهذه المرجعية التخفف من انتمائهم اليها عبر التأكيد انها على مسافة واحدة من جميع المرشحين. فهذا الأمر هو عينه ما يحصل حالياً, اذ يؤكد مكتب السيد السيستاني ان دوره توجيهي وهو لا يتدخل في تفاصيل الحياة السياسية, في حين تتحول دعاويه الى مركز المناقشات داخل مجلس الحكم.
الفراغ الذي خلّفه سقوط النظام في العراق ولم تملأه القوات الأميركية لم يجد امامه في مدن الجنوب الا الأحزاب الدينية في البداية وهي التي بدورها لم تتمكن من الاحاطة بأوضاع هذه المدن فأفسحت بفعل ضغوط السكان للمرجعية الدينية. وهذا ما قد يفسر الى حد ما استعجال الكثير من القوى الشيعية في العراق الانتخابات, فحصولها الآن في ظل تحول هذه الأحزاب مع المرجعية الى الأفق الوحيد المتاح امام السكان لن يعني الا وصول ممثلين يخترقون التراكيب التقليدية الأخرى التي لا اثر لها اليوم في ظل حال الفوضى التي يعيشها العراق, والتي تتجسد في الجنوب بسيطرة كاملة للميليشيات الشيعية على الحواضر المدينية وعلى البادية في الجنوب. وربما جاءت التفجيرات الانتحارية التي استهدفت المراقد الشيعية الدينية لتعزز من حال الانهيار والتبدل هذه ولتجعل من القوى القادمة الى الجنوب العراقي النموذج البديل الذي يرد على مُستهدفي الشيعة في العراق. ففي ظل شعور السكان بغياب حماية قوى التحالف لمدنهم, تعزز ميلهم الى اللجوء الى هذه القوى لتحميهم, وتوظيف هذا الأمر في العملية السياسية لن يتم الا اذا حصلت الانتخابات في أسرع وقت ممكن.
المدن التي تحتضن المراقد الدينية والتي تعرضت اكثر من مرة لأعمال التفجير كالكاظمية والنجف وكربلاء لا تعيش فقط على وقع المآسي التي اصابتها, وانما تشعر بأن ما يجري فيها يمثل نهضة للكثير من اوجه النشاط والحركة. النجف التي شكلت عنواناً لاضطهاد الشيعة من قبل النظام السابق, والتي تراجع دورها الديني خلاله الى ادنى مستوياته منذ قرون, تشهد هذه الأيام نهوضاً للكثير من المرافق. آثار جثوم النظام السابق على صدر المدينة ما زالت واضحة في تقسيم الأحياء وفي الطرق المؤدية الى صحن مرقد الأمام علي. بائع القماش في شارع الرسول يعرف منازل معظم رجال الدين في المدينة, فهم زبائنه, والقماش الذي يعرضه في متجره مخصص للعمائم والجبب. يقول التاجر ان المعممين في المدينة بدأوا بالتزايد وهو امر ضاعف من مبيعاته. البائع الخمسيني زين لهجته بعبارات الترحيب العراقية وشرع يتحدث عن رجال الدين زبائنه وعن منازلهم. الشيخ البهادلي الذي سألنا عن منزله يقيم في حي المعلمين, والبائع يعرف ان هذا الوقت مناسب لزيارته, فهو يعطي دروسه في منزله وبعد وقت قليل يخلد الشيخ الى الراحة ولا يستيقظ قبل الخامسة مساء. الوصول الى حي المعلمين من شارع الرسول يقتضي الوقوف اكثر من ساعة في ازدحامات النجف. الغبار ينبعث من كل الاتجاهات في النجف, فاضافة الى كونها مدينة صحراوية, ثمة مصادر اضافية للغبار في المدينة, ربما كان زحف الصحراء الى الأحياء والمنازل العارية واحداً منها. فأزقة النجف واحياؤها البعيدة نسبياً عن المرقد اشبه بمناطق اخلاها اهلها فمات زرعها وتكاثفت طبقات من الغبار على جدرانها. انها منازل مستقلة ومنتظمة في قطاعات ونواحٍ ولكنها قليلة الحياة. ربما فسر ذلك ما قاله زهير, ابن المدينة, عن ان معظم العائلات النجفية تركت المدينة الى بغداد وحل محلها سكان من عشائر الجنوب, وتحديداً من البصرة والعمارة, هؤلاء الذين كان النظام السابق يمنع انتقالهم الى بغداد. ويضيف زهير انه لم يبق الكثير من النجف القديمة اليوم. فقد كانت مقبرة النجف في السابق مصدر رزق رئيسي لشبكة كبيرة من اهل المدينة, اما اليوم فمعدل الجنائز اليومية لا يتعدى الأربعين جنازة ينقلها الشيعة من مناطق العراق المختلفة الى مقبرة النجف التي يقال انها من اكبر مقابر العالم. وتبدأ رحلة الجنائز في النجف من الكوفة حيث يكون في انتظارها شبان على دراجات هوائية يستوضحون من المشيعين اسم وهوية المُشيع ويحددون معهم مكان دفنه ثم ينطلقون على دراجاتهم فيخبرون الامام المصلي والمُقرئ وحافر القبر وموزعي الشاي والماء ويتقاضون من هؤلاء اجراً يقتطع مما يدفعه اهل الفقيد الذين, بحسب زهير, غالباً ما لا يكترثون بما يدفعونه بسبب فجيعتهم.
شارع الرسول المفضي الى المرقد.
سنوات البعث في النجف اتت على الكثير من علامات العيش في المدينة وعلى وظائف لطالما اضطلعت بها. التجاذب في المؤسسة الدينية بين المراجع العرب والمراجع من اصل ايراني يبدو اليوم ضعيفاً, ومن اهم علامات ضعفه الاجماع على مرجعية السيد علي السيستاني, وهو ايراني الأصل, مع استمرار بعض وجوه هذا الاصطفاف الذي ربما مثل قطبه العربي المرجع السيد محمد سعيد الحكيم, وربما ايضاً مثّل مقتدى الصدر نوعاً آخر من هذا الانقسام. ولكن يبدو ان النفوذ الايراني في المؤسسة النجفية غالباً ما كان راجحاً. فنفوذ رجال الحوزة مستمد اساساً من حجم الحقوق التي يجمعونها, اي الخمس والزكاة, وفيما كان المراجع الايرانيون يتلقون الحقوق من المؤمنين الايرانيين الأثرياء, كان المراجع الشيعة يتلقون حقوقهم من ابناء العشائر العربية الساكنة في جنوب العراق وهي عشائر فقيرة قياساً بالايرانيين. ويتحدث احد شيوخ العشائر في الجنوب عن دور رجال الدين النجفيين في رعاية العشائر العربية في الجنوب, فيقول: "غالباً ما ترتبط العشيرة برجل دين نجفي يزورها اكثر من مرة في السنة ويقيم في ضيافتها لأيام واحياناً لأسابيع, فيزوج الرجال من النساء ويفض خلافات الأهل ويوزع الارث, ونعطيه اجراً من غنمنا, وهو غالباً ما يترك غنمه في قطعاننا, وهي من اهم الغنم ونسميها غنم الشيوخ". وعندما تأتي العشائر الجنوبية الى النجف لزيارة المقام يقوم رجل الدين هذا باستضافتها لأيام في دارته التي غالباً ما تخصص غرف منها لاقامة الضيوف.
المقاهي في اسواق النجف تشبه الى حد كبير ديوانيات المشايخ. الشاي هو الصنف الوحيد الذي يقدمه النُدل النجفيون, ورواد المقاهي هم من ابناء المدينة الأصليون. صورة عبدالكريم قاسم في المقهى الى جانب صور المراجع الشيعية. "اهالي النجف تظاهروا بالأمس بسبب الاختناقات المرورية", قال حسين وهو شاب كان يجلس في المقهى الكائن في الشارع المؤدي الى الصحن. التظاهر هنا في النجف صار من وسائل التعبير العادية, ثم ان الناس لا يحتاجون الى الكثير ليتظاهروا, فالشارع هنا مزدحم اصلاً بهم ولا ينقصهم الا لافتة صغيرة, ومن ينادي بمطالب جديدة. يمكن ملاحظة فروق ما بين السكان الأصليين واهالي اقصى الجنوب المختلطين في الأسواق المجاورة للمرقد. وسام شهيد, مدرس, يقصد المقهى كل يوم في ساعات بعد الظهر, يقول: "ان الدستور الموقت يضعف من هيبة الدولة. فالعراق لم يألف النظام الفيديرالي ونحن تواقون لأن نرى بلداً يتمتع بمركزية قوية". ويضيف: "لكننا لا نريد دولة على النموذج الايراني". والى جوار وسام يجلس رجل من عشيرة الفتلاوية, وهي من كبريات العشائر النجفية, يدعى تركي قال انه ينتمي الى الحزب الشيوعي العراقي ويعمل كما معظم ابناء عشيرته في زراعة الرز. اعتبر الفتلاوي ان قرار مجلس الحكم بما يخص الدستور الموقت قرار صائب, والسيد السيستاني ليس ضده, فعندما زاره اعضاء مجلس الحكم قبل توقيعهم عليه قال لهم: "على بركة الله". واضاف "الحقيقة ان دور رجال الدين متعاظم هذه الأيام, وهم يرغبون بنظام على النموذج الايراني, والكثير منهم على علاقة مع الايرانيين".
وتبدو قضية الوجود الايراني في النجف واحدة من القضايا المتداولة على اكثر من صعيد, اذ تعتبر السياحة الدينية في المدينة مصدراً رئيساً لاقتصادها, ويصل كل يوم الى العراق نحو 15 ألف زائر ايراني معظمهم يدخلون بطريقة غير شرعية, في حين اكد مسؤول في وزارة الداخلية لـ"الحياة" ان عدد الذين يخرجون من العراق من هؤلاء الزوار اقل من هذا الرقم بكثير, مما يعني ان آلافاً من الايرانيين استقروا في العراق. وعدد الزوار تناقص بعد الفتوى التي اصدرها السيستاني اثر تفجيرات كربلاء والكاظم والكاظمية بحرمة الدخول الى الأراضي العراقية بغير الطرق الشرعية. ويبدو ايضاً ان زوار المراقد الدينية من الايرانيين يخالطهم زوار ايرانيون آخرون. ويقول صحافي عراقي يعمل في الجنوب: "ان هؤلاء الزوار ثلاثة انواع: حجاج اولاً, وعصابات تجارة المخدرات ثانياً, وعناصر من الاستخبارات الايرانية ثالثاً". ويضيف: "استحدثت الاستخبارات الايرانية مراكز لها في بعض مناطق الأهوار المقابلة لمنطقة همت الايرانية وفي منطقة الكحلاء والمدينة والمشرح, وانشأوا منظمة محلية تدعى منظمة "ثار الله" وهي تعتبر واجهة من واجهات الاستخبارات الايرانية".
والوجود الايراني الكثيف في النجف وكربلاء مصدر آخر للتوجس غير الشيعي في العراق, اذ يشير عدد من المسؤولين العراقيين الجدد الى هذا الوجود بصفته اشارة الى تواطؤ قوى عراقية مع التيارات المتشددة في ايران, تلك التي ترى ان من واجبها دعم مشروع دولة مشابهة للنموذج الايراني. وربما جاءت فتوى السيستاني القاضية بحرمة دخول الايرانيين بصفة غير شرعية الى مدن العتبات المقدسة, مطمئنة لهؤلاء, لكنها لم تبدد المخاوف من الطموحات الى دولة دينية ولكن على غير النموذج الايراني
http://www.daralhayat.com/special/fe...txt/story.html
*·~-.¸¸,.-~* وبَشــــــــِّـــــــــــــــــر الصـــــــــــــــابرين*·~-.¸¸,.-~*
[align=center]  [/align]
-
موت متبادل في بغداد... وعقارات كربلاء الأغلى في العالم على رغم المأساة(2 من 2)
موت متبادل في بغداد... وعقارات كربلاء الأغلى في العالم على رغم المأساة(2 من 2)
بغداد - حازم الأمين الحياة 2004/03/27
لافتات رفض الدستور على مدخل كربلاء
الملصق العملاق الذي وضعته قوات التحالف في ساحة التحرير في منطقة الكرادة في بغداد يبدو غير واقعي الى حد يبعث على الخوف. فالملصق عبارة عن صورة تضم ثلاثة عناصر من رجال الشرطة العراقية, شديدي الأناقة, تقف بينهم شرطية مبتسمة ومتفائلة. ألوان الملصق بيضاء وكحلية ووجوه عناصر الشرطة مضاءة على نحو يبرز الأسنان الشديدة البياض. في وسط الملصق كتبت عبارة من المفترض ان عناصر الشرطة هؤلاء هم من قالها: "نحن سنشارك في بناء مستقبل العراق". لكن الملصق الكبير هذا يظهر غير منسجم مع ما تضمه ساحة التحرير والجدران المواجهة لها من عشرات اللافتات السوداء التي كتبها عناصر حزب الدعوة الاسلامي, والمجلس الأعلى للثورة الاسلامية في العراق, وانصار الحوزة الناطقة, والتي تفاوتت بين تذكّر مصرع الإمام الحسين وبين الاعتراض على الدستور الموقت, اضافة الى اخرى تضم نعوات لأشخاص قضوا في تفجيرات الكاظم وكربلاء. ومصدر الخوف الذي يبعثه عدم الانسجام يكمن في ما يرمز اليه من تنافر بين الساعين في مستقبل هذا البلد.
وكما مدن الجنوب, لا تخلو بغداد من سيطرة مشهدية للقوى الدينية, خصوصاً الشيعية منها. فاللافتات السوداء منتشرة على معظم جدران المدينة, وهذا الأمر مترافق مع حديث عن فرز سكاني لم يسبق أن شهدته المدينة. فالأقليات الشيعية في المناطق السنية باشرت نزوحاً نحو عمقها الطائفي والعكس صحيح ايضاً.
ويبدو ان المناطق في بغداد بدأت تكتسب ملامح عامة وفقاً للقوى المسيطرة فيها. فمنطقتا الثورة والشعلة, وهما من المناطق التي تسكنها عشائر نازحة من الجنوب يسود فيها تيار مقتدى الصدر, اما منطقة الكرادة, وهي في وسط بغداد وتقيم فيها غالبية شيعية من الطبقة المتوسطة, فتنتشر فيها مكاتب ومراكز المجلس الأعلى للثورة الاسلامية في العراق وفيلق بدر, علماً ان هذه المنطقة تضم ايضاً منازل قيادة المجلس الأعلى وتحديداً منزل زعيمه السيد عبدالعزيز الحكيم الذي يقيم في منزل طارق عزيز على ضفة دجلة. وفي منطقة الكرادة ايضاً تقع فنادق كثيرة يقيم فيها الحجاج الايرانيون الموسرون. حزب الدعوة ليس جزءاً من هذه التقسيمات المناطقية, اذ يعتبر هذا الحزب في الأوساط الدينية الشيعية حزباً نخبوياً ناشطاً في اوساط اساتذة الجامعة والموظفين وأصحاب المهن الحرة العليا. النخب العليا الشيعية في منطقة المنصور وغيرها مرتبطة بالمرجعية التقليدية التي لا يضعف تأثيرها ايضاً في المناطق التي تتوزع النفوذ فيها الأحزاب الأخرى.
ويبدو ان القوى الدينية زاحفة الى المؤسسات العامة في بغداد, اذ يتحدث الشباب العراقيون عن اقلية متدينة وحزبية امسكت بالحياة الجامعية وحولت الكليات الى ما يشبه حسينيات ومساجد. ويبدو ان نفوذ هذه الأحزاب يتعدى الطلاب الى ادارات الكليات التي نجح الأعضاء الشيعة في مجلس الحكم في ايصال عدد من مناصريهم الى ادارات عدد منها. يقول علي وهو طالب في جامعة المستنصرية ان رئيس هذه الجامعة محمد طاهر البكاء, خصص في الأيام العشرة الأولى من شهر محرم قاعة في الجامعة وحوّلها الى مجلس حسيني واستقدم مقرئ عزاء اليها, وفي هذه المناسبة ايضاً استضافت الكلية عدداً من الدعاة الذين قام أحدهم بتقريع الطلاب لعدم ارتدائهم القمصان السوداء في عاشوراء. مجلات الحائط في الكليات تحولت مساحات لنشر فتاوى السيد علي السيستاني وتصريحات مقتدى الصدر. وأشار علي الى ان نفوذ الذين يطلقون على انفسهم "شباب الحوزة", وهم من انصار السيد السيستاني, هو الأقوى في الكليات.
اما شارع المتنبي الذي يعتبر سوق الكتاب في بغداد, وبعدما كان الكتاب الشيعي فيه مضطهداً وممنوعاً, تحول اليوم الى الكتاب الأول في هذا الشارع, وهو ايضاً كتاب مدعوم من مؤسسات ايرانية اقامت اكثر من مرة ومنذ سقوط النظام معارض لها في بغداد. لكن بعض الكتب الشيعية المعروضة في شارع المتنبي تعكس ايضاً خلافات لا بد لها من ان تتحول الى ازمات فعلية في حال آل الحكم الى هذه القوى. اذ يبدو ان تيار مقتدى الصدر سائر في اتجاه الخصومة مع المرجعية السيستانية عبر نشر مناصرين له. اكثر من كتاب يتعرض لهذه المرجعية على طريقة السرد البوليسي لوقائع اغتيالات المراجع الشيعة في العراق ويتساءل كاتبوها عن سر نجاة السيستاني منها. ولعل الكتاب الأبرز على هذا الصعيد "السفير الخامس" لكاتبه عباس الزيدي الذي كان احد وكلاء السيد محمد صادق الصدر والد مقتدى. واللافت ان غلاف الكتاب يضم اولاً صورتين لكل من السيدين محمد صادق ومحمد باقر الصدر, وفي الجزء السفلي منه سلسلة مترابطة من الصور لصدام حسين وتوني بلير مجتمعاً بالسيد عبدالمجيد الخوئي, وصور للسيستاني وللسيد محمد باقر الحكيم. ويقال ان مقتدى امر بسحب هذا الكتاب من التداول في العراق عند شعوره بأن ذلك يمثل تعرضاً لما يجمع عليه الشيعة في العراق.
الاجتماعات بين رجال دين من السنّة ونظراء لهم من الشيعة دورية في بغداد, وهي لا تهدف الى تنسيق المواقف في القضايا العامة, فهذا امر اصعب من ان تحققه اجتماعات, وانما الى معالجة قضايا الانتهاكات المتبادلة التي تتعرض لها الأماكن الدينية والتي يبدو انها مستمرة على نحو متزايد في العاصمة العراقية.
السيد هادي المدرسي.
في مكتب هيئة العلماء المسلمين في الأعظمية يتولى شبان تسجيل ما تتعرض له مساجد السنّة وأئمتها يومياً. ويقول عضو مجلس شورى هيئة العلماء الشيخ حسن النعيمي: "الحوادث منظمة ومقصودة وتستهدف الخيرين من اهل البلد والشخصيات العلمية, وهي ليست حوادث اعتباطية. المستهدفون شخصيات معروفة كالشيخ ضامر الضاري الذي قتل قبل ايام. اذ جاء شخصان الى المسجد وسألا عنه ولما لم يجداه توجها الى منزله وقتلاه ما إن خرج من المنزل". واضاف: "نحن نتهم اولاً الأميركيين والاستخبارات الاسرائيلية بالتعاون مع جهات مجاورة وخونة وعملاء في الداخل. هناك اتصالات بين عقلاء السنّة والشيــــعـــــة لتــــــدارك هـــــذه المـــــواقـــــف وللحيلولـــة دون حصول نزاعات طائفية".
السيد جواد الخالصي احد الوجوه الشيعية التي تنشط في بغداد للحد من اعمال العنف هذه ولكشف ملابسات ما يجرى. والخالصي شخصية مستقلة الى حد ما, فيما يؤكد اعضاء هيئة العلماء المسلمين انهم لا يجرون اتصالات مع اي احزاب شيعية اخرى. وكما للسنة مظالمهم كذلك للشيعة ايضاً, اذ يتحدث السيد علي الواعظ وكيل السيستاني في منطقة الكاظم عن اغتيالات لوجوه شيعية كان آخرها اغتيال السيد كاظم موسى الغريفي البحراني, وهو بحسب الواعظ رجل دين شاب لا يتدخل في السياسة وشقيق السيد علاء الغريفي احد وجوه الحوزة الدينية في النجف. وكما يتهم السنة جهات خارجية بالوقوف وراء اغتيالات علمائهم, يتهم الشيعة ايضاً جهات من خارج العراق بذلك. ويقول الواعظ الذي اسس جهازاً امنياً في منطقة الكاظم: "القينا القبض على ثلاثة اشخاص هم سوداني وسوري وأردني. الأردني اسمه نضال ابراهيم سالم جاء الى منطقتنا حاملاً بطاقة مزورة للهلال الأحمر العراقي.
هؤلاء كانوا ينوون القيام بأعمال ارهابية في منطقتنا". علماً ان تعبير "ارهابي" تعبير شائع جداً في الوسط الشيعي ويستعمله معظم رجال الدين للتدليل على الأعمال التي تستهدف مناطقهم.
هذه الوقائع اليومية والمقلقة ليست جوهر ما تنشط الجماعات العراقية للتصدي له, وإن ظهر ذلك في المشهد الخارجي لقلقها. الأحداث مأسوية من دون شك, لكن العراقيين مستعدون على ما يبدو لمزيد من النزف في مقابل انتزاع الجماعات مواقع جديدة لها في الدولة المقبلة. ميدانياً, ستلاحظ ان اجراءات اتخذت بناء على هذه الأحداث, وان اجهزة امن محلية انشئت في هذا الصدد, وسواتر اسمنتية ارتفعت في محيط المنشآت الدينية, لكنك ستشعر ايضاً انهم يرصدون امراً آخر. فالسنّة العرب مثلاً يرفضون النقاش في موضوع الدستور, ويعتبرونه صناعة اميركية جملة وتفصيلاً, لكن صمتهم, وعدم انخراطهم في حركة رفض البنود المتعلقة بالفيدرالية الكردية وبالفقرة (ج) الشهيرة في العراق هذه الأيام, اراح الأكراد الى حدٍ ما.
القوى الشيعية بدورها ادخلت المآسي التي نتجت من التفجيرات التي استهدفت المناطق الشيعية في سياق يهدف الى تعزيز حضورها في هذه المناطق, وهي الآن توظف هذا الحضور في عملية التجاذب حول الدستور. فالحملة الشيعية على الأمم المتحدة لا تقتصر على تصريحات من هم في رأس الهرم المرجعي, وانما يخوضها ايضاً المشايخ المحليون, اولئك الذين يتولون تحصين المساجد وتحويل اتجاهات السير ويشرفون على رفع السواتر الاسمنتية. وطبعاً, فإن مصدر الحنق الشيعي على الأمم المتحدة هو اعلانها صعوبة اجراء الانتخابات في العراق بعد طلب السيستاني منها رأياً يحسم الخلاف حول موعد الانتخابات, وهذه القضية قد تبدو بعيدة من هموم المشايخ الميدانيين, لكنك ستشعر انها في صلب توجهاتهم.
ومن الواضح ان مسألة لجوء المرجعية الى الأمم المتحدة وما نتج منه من خيبة شيعية استدخلت في سياق التجاذبات حول ارجحية توجيهات النجف او عدمها. فهذا رئيس تحرير جريدة "الحوزة" التابعة لتيار مقتدى الصدر, علي الياسري يغمز من قناة ما اقدم عليه السيستاني لجهة اللجوء الى الأمم المتحدة لتحديد مستقبل العراق ويقول: "اننا من الأساس خالفنا هذا التوجه وقال السيد مقتدى ان لنا تجربة مرة معها, فأين كانت الأمم المتحدة خلال ارتكاب صدام حسين جرائمه. لقد تحولت الأمم المتحدة الى جهة يقتصر عملها على اعطاء مشروعية للغطرسة الأميركية". وتيار الصدر في العراق اقل حرجاً من غيره لجهة مطالبته بدولة تقودها الحوزة الدينية. ويقول الياسري: "لماذا يخاف هذا الذي يخاف من الاسلام, فالاسلام في العراق اسلام تطور وانفتاح, ومسألة الحكم الاسلامي تخص الشعب دون غيره. النموذج الايراني الذي يتحدثون عنه هو احد نماذج الحكم وليس كلها, ونحن لا نرى الآن انه يناسب الشعب العراقي, ولكن, فليتركوا الأمر للشعب وهو يقرر".
وربما كان اكثر الأصوات وضوحاً في الدعوة الى دولة على هذا النمط, تلك التي تسمعها في كربلاء والتي يطلقها آل المدرسي. انهما السيدان الشقيقان محمد تقي وهادي المدرسي وهما مسؤولا منظمة العمل الاسلامي التي تتمتع بنفوذ واسع في كربلاء.
اسماء البلدات والمدن في الطريق من بغداد الى كربلاء ارتبط معظمها بأحداث قريبة, وبدل ان تردك هذه الأسماء الى المناطق نفسها, تردك الى ما سمعته او قرأته من احداث. اليوسفية واللطيفية اولاً, وهما ناحيتان سنيتان لطالما شهدتا اعمالاً عسكرية ضد الأميركيين, ثم بعدهما تأتي الاسكندرية التي لم يمض وقت طويل على تفجير مركز كبير للقوات الايطالية فيها, وبعدها منطقة المسيب التي جاء على ذكرها محمد سعيد الصحاف في مؤتمراته الصحافية اثناء الحرب. انها الصحراء نفسها التي تحدث الصحاف عن "تقطيع جسد الأفعى الأميركية" فيها, وفي هذه الفترة الربيعية يبـــدو القصـــب المتجمع حول مستنقعات دجـلة حــالك الخضرة. والى جانب المستنقعات المائية مساحات ملحية بيضاء تغني ألوان الصحراء. المنازل الاسمنتية الجديدة والمرتجـلة في منطقة المسيب سيجت بجدران من القصب ومن قضبان النخيل. لطالما سيصادفك على الطرق السريعة بين المدن العراقية مشهد يتكــرر. رجال بأثوابهــم العربية يحملون غالونات البنزين متوجهين بها الى سياراتهم العتيقة المركونة على جانب الشارع.
تلوح مدن العتبات المقدسة في العراق للقادمين اليها مرسلة ذلك البريق الأصفر الناتج من انعكاس الشمس على القـبــب المذهبة للمراقد. من الواضح ان ازدهـــار كربلاء يفوق ازدهار النجف. الأسواق فيها اكثر تنظيماً واكتظاظاً. فمن المعروف في العراق ان الكربلائيين يفوقون النجفيين في خبراتهم التجارية والسياحية, وذلك لسببين: الأول الفارق بين البيئة البدوية لسكـان النجف, والبيئة الفلاحية والزراعية لسكان كربلاء, ثم ان نسبة كبيرة من اهل كربلاء هم من اصول فارسية, وبالتالي يفضل الحجاج الايرانيون الذين يزورون المراقد الدينية قضاء معظم اوقاتهم في كربلاء.
هذا الأمر عاد بعد سقوط النظام ليتكرر, فلافتات الكثير من المحال التجارية في كربلاء مكتوبة بالفارسية, والعملة الايرانية متداولة بين التجار. وخلافاً لسكان مدن العتبات الأخرى ابدى الكربلائيون عدم رضاهم على فتوى السيستاني بتحريم دخول الزوار من خارج العراق الى المراقد بغير الطرق الشرعية. ويقول جعفر محمد عضو المكتب السياسي لمنظمة العمل الاسلامي: "من الخطأ ان نقفل الحدود لنمنع الزوار من القدوم الى مدن العتبات. ففرض الأمن يتم بوسائل اخـرى. وفي الأمس نظمنا مؤتمراً حضــره السيد هادي المدرسي والكولونيــل البولنــدي واتفقنــا على تقسيم كربلاء الى مناطق في اربعينية الحسين, حتى تسهل مراقبة المشـــاركـــين في الاحتفاليــة الذيـــن نتوقــع هذا العـــام ان يبلــغ عددهم نحو اربعة ملايين".
من الواضح لزائر كربلاء ازدهار المدينة على رغم ما اصابها بعد تفجيرات العاشر من محرم. الزوار الايرانيون يملأون الأسواق, والمساومة على السلع بين الباعة العراقيين والمتسوقين الايرانيين امر يمكنك سماعه وتحديده بفعل اختلاط اللغات واللهجات. ايجار المنزل في المنطقة القريبة من المرقد بلغ قيمة خيالية في العراق, اذ يقول تاجر انه يتجاوز 1500 دولار, وهو رقم لم يكن ليسمع به اهل كربلاء قبل ذلك. اما اسعار العقـارات في هذه المنطقة فيقول الكربلائيون انه الأغلى في العالم, اذ يبلغ ثمن متــر الأرض في محيـــط المرقد نحو عشرة آلاف دولار بحسب ما قال جعفر محمد الذي اضاف: "بعد سقوط النظام ازدادت الحركة السياحية, وتحسن الوضع الاقتصادي للبعض. ارتفعت اسعار العقارات فازداد الغني غنى والفقير فقـــراً. على صعيد البنى التحتية للمدينة لم يطـــرأ اي تحسن. الاحتلال يحافظ على وضعه الأمني وترك الناس للدفاع عن انفسهم. لم يسمحوا لنا بحمل السلاح ولم يوفروا أبسط الأجهزة لكشف الارهاب".
من اسواق مدن العتبات في العراق. (الحياة)
مرقد الإمام الحسين في كربلاء محــاط بعدد كبير من النوادي الحسينية, والمنشآت الدينية الرديفة والمكملة. ومحاط ايضاً بعدد من الفنادق التي باشر اصحابها ورشات الترميم واعادة البناء, وهي حال جميع المناطق المحيطة بالروضات الشيعية. رجال الشرطة في كربلاء يجولون بلباسهم المدني وأسلحتهم وسط الزوار, والباعة الفقراء ينظرون في وجه كل غريب محاولين التمييز بين ما اذا كان زائراً مؤمناً ام من اولئـك الرجال المفخخين, ولكن لا يبدو ان للأمرين نتائج تذكر. فلا رجال الشرطة هؤلاء يمكنهم منع من يريد الوصول الى المدينة من الوصـول, ولا تلك الوجوه الخائفــــة يمكنهـا ان تردع احداً.
هادي المدرسي: الأكثرية ستعطي الأقليات ضعفي حقوقها
للسيد هادي المدرسي عشرات المؤلفات التي ركنت في غرفة المكتب الاعلامي لمنظمة العمل الاسلامي. والمدرسي ايضاً رئيس رابطة علماء الدين (الشيعة) والرجل الثاني في منظمة العمل الاسلامي بعد شقيقه السيد محمد تقي. "الحياة" التقته في النجف وكان هذا الحوار السريع:
ما هو وجه اعتراضكم على الدستور الموقت؟
- انه حقل من الألغام, فالحكومة الموقتة يجب ان تهدف الى اجراء الانتخابات وليس الى التشريع. اما ان يستغل الأمر في دستور موقت يوصي على الدستور الدائم, فهذا مخالف للشرائع. في الدستور الموقت هذا توصيات ملزمة للدستور الدائم. مثلاً طفل يؤخذ رأيه في امر ما ويوقع عليه ثم يُلزم عندما يكبر بتوقيعه هذا. اضافة الى وجود مجموعة من البنود التي لا توافق عليها الأكثرية في العراق. مثلاً المادة 60 من هذا الدستور المتعلقة بالمحافظات الثلاث تجعل من 10 في المئة من العراقيين يتحكمون بـ90 في المئة, وأول بنود الديموقراطية تتمثل في ان تحكم الأكثرية الأقلية.
لكن الانتخابات مسألة من الصعب اجراؤها بحسب رأي الأمم المتحدة ايضاً؟
- من الممكن اجراء الانتخابات. كانت الظروف اصعب في بيروت بعيد الحرب وحصلت الانتخابات. في صربيا ايضاً والصومال. الانتخابات تهدف الى وقف الصراعات الداخلية. سماحة السيد السيستاني لم يطلب وساطة الأمم المتحدة في الانتخابات فقط, وانما طلب منها ان تلعب دوراً وان تقدم الحل. هل الأخضر الابراهيمي اعرف من الشعب العراقي بنفسه, وكيف امكن اجراء انتخابات في شمال العراق في ايام صدام ولا يمكن اجراؤها في الجنوب. الأمم المتحدة لم تقم بدورها كما طلب السيد السيستاني.
لكن اطرافاً كثيرة تتوجس من الالحاح في تعجيل موعد الانتخابات؟
- نحن لا نطالب بدولة تحرم الأقليات من حقوقها. فقد قلت سابقاً ان للأقليات ان تحدد حقوقها وسنعطيها ضعفها, اما ان تمنع الأكثرية من حقوقها بحجة ضمان حقوق الأقليات فهذه ليست ديموقراطية. نحن لا نسعى الى فرض نظام سياسي على الشعب العراقي, فيجب ان يكون للناس حق انتخاب نظامهم السياسي. اما في ما يرتبط بالجانب الديني, فالاسلام دين الناس في العراق, فلماذا لا يكون دستورهم. ونقول للذين يسعون الى الغاء الاسلام في العراق: هل تمكن جورج بوش من الغاء الاسلام في اميركا حتى تتمكنوا من الغائه في العراق؟
هل تعتبرون التجربة الايرانية نموذجاً يجب احتذاؤه؟
- اولاً التجربة الايرانية واحدة من التجارب وليست المحور والميزان, وثانياً ما دمنا فتحنا باب الاجتهاد فيعني ان للمجتهدين الحق في البدائل المختلفة, وثالثاً الاسلام دين واسع يرتبط بالزمان والمكان ومصالح الناس, ثم انها مشكلة المتخوفين من نوايانا وليست مشكلتنا. لا يجوز لنا ان نبدل بمصالحنا واهدافنا بناء على مصالح الآخرين. انا منسجم مع نفسي وأتطلع الى نظام اجتماعي منسجم مع ثقافتي. نحن لا نريد تغيير الأميركيين, وفي ما نلتقي يمكن التعاون وفي ما لا نلتقي لا نلتقي, وأعتقد ان التاريخ من صنع الله وليس من صنع البشر وان كان يجري على ايديهم. فالتاريخ سبق ان خرج من ايدي السوفيات وقبلهم من ايدي الأتراك العثمانيين
*·~-.¸¸,.-~* وبَشــــــــِّـــــــــــــــــر الصـــــــــــــــابرين*·~-.¸¸,.-~*
[align=center]  [/align]
ضوابط المشاركة
- لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
- لا تستطيع الرد على المواضيع
- لا تستطيع إرفاق ملفات
- لا تستطيع تعديل مشاركاتك
-
قوانين المنتدى
|
 |