انتفاضة الصدر ومدلولاتها
2004/04/07
عبد الباري عطوان
يبدو، ومثلما تشير معظم الوقائع، ان احتفالات الرئيس الامريكي جورج بوش بالذكري الاولي للحرب في العراق، التي تصادف بعد يومين، ستكون مشوبة بالمرارة والقلق، المرارة من النتائج الكارثية، والقلق مما قد يحمله المستقبل من مفاجآت دموية، ونزيف بشري لقواته، ومادي لخزينته.
تطورات الايام الثلاثة الماضية ـ ونحن نتحدث هنا عن الصدامات التي وقعت بين انصار السيد مقتدي الصدر والقوات الامريكية في مختلف انحاء الجنوب، وسقوط مئات الشهداء من ابناء الشعب العراقي ـ توحي بان حرب التحرير الحقيقية قد بدأت في العراق ـ وهي حرب لن تتوقف قبل خروج جميع القوات الاجنبية، وعودة السيادة الكاملة الي ابناء العراق.
ولعل التطور الابرز، الذي يمكن تحسس ملامحه من خلال متابعة مشهد الصدامات، يتلخص في القول بان السيد مقتدي الصدر قد حسم خياراته وقرر الوقوف في الخندق العربي الاسلامي ومواجهة الاحتلال بالطريقة نفسها التي يواجهه فيها اشقاؤه العرب في المثلث السني، اي بسلاح المقاومة العسكرية وعدم الاكتفاء بالمظاهرات والاحتجاجات السلمية، مثلما كان عليه الحال في الاشهر الاثني عشر الاخيرة التي تلت سقوط بغداد.
فعندما يرفع المتظاهرون صور شيخ الشهداء احمد ياسين والعلم العراقي، الذي يحمل شعار الله اكبر ، ويؤكد زعيمهم السيد مقتدي الصدر انه امتداد لحزب الله وحماس والجهاد الاسلامي، فهذا يدلل علي تعريب الانتفاضة وتكريس الهوية العربية الاسلامية لعراق المستقبل بعد ان حاول اعضاء مجلس الحكم والحاكم الامريكي، الذي استقدمهم علي ظهور دباباته، طمس هذه الهوية، وتغريب العراق، بل وربما ادخاله الحظيرة الاسرائيلية ذليلا، راكعا، طالبا الصفح والغفران لمواقفه الوطنية المشرفة.
السيد الصدر عندما حسم امره وقرر الوقوف في خندق المقاومة والتمرد علي المرجعيات التقليدية لم يكن شابا ارعنا مثلما حاول الكثيرون من انصار الهيمنة الامريكية، الايحاء والغمز من قناة صغر سنه، بل كان في رأينا في قمة الحكمة والوطنية والتعقل، لان الارعن والمتهور هو الذي يقبل بالاحتلال الاجنبي لبلاده ويتعاون معه ويسهل تنفيذ مخططاته.
ثورة السيد الصدر وانصاره احدثت نقطة تحول اساسية مرشحة، اذا ما استمرت، ان تكون واحدة من اهم المحطات في تاريخ العراق الحديث، لانها اكدت مجددا الوجه الوطني لابناء الطائفة الشيعية، واثبتت ان كل مخططات الاحتلال واتباعه في تفجير حرب اهلية بين العراقيين كمقدمة للتقسيم محكوم عليها بالفشل.
العام الاول من الاحتلال الامريكي للعراق كان حافلا بالاخطاء والكوارث، فعلاوة علي اتضاح كذب كل اطروحات اسلحة الدمار الشامل التي استخدمت كذريعة لتبرير العدوان ثبت للعراقيين جميعا ان هذا الاحتلال لم يكن من اجل حريتهم ورخائهم، وانما لكسر شوكتهم وتركيعهم، وانهاء دورهم العربي والاقليمي، وتمزيق وحدتهم الوطنية والترابية.
عراق اليوم بلا كهرباء ولا ماء ولا امن ومنزوع الكرامة، وتحكمه مجموعة فاسدة من المتعاونين مع الاحتلال، يتنافسون علي تكديس الثروات وتعيين ابنائهم واقاربهم في الوظائف الرئيسية، وفضائح هؤلاء باتت تزكم الانوف.
الاخطاء الامريكية الكارثية، الناجمة عن غياب اي تصور عملي مدروس لعراق ما بعد الحرب وفساد معظم اعضاء مجلس الحكم وعمليات القتل اليومية لآلاف العراقيين الابرياء، كلها عوامل ادت الي بزوغ ظاهرة مقتدي الصدر وانتفاضته وانتهاجها نهج المقاومة لتشكل امتدادا للمقاومة العربية الاخري في الفلوجة والموصل والرمادي.
لقد ثبت الان، وبالدليل القاطع، ان الذين يقاومون الاحتلال ليسوا فلول صدام ، كما انهم ليسوا المجاهدين العرب المتسللين عبر الحدود، وانما هم ابناء العراق من سنة وشيعة وبعض الوطنيين الاكراد من اتباع جماعة انصار الاسلام السلفية.
الادارة الامريكية تعيش محنة حقيقية هذه الايام، محنة اقرب الي الهزيمة، ومن شاهد وجه الرئيس بوش، وما شابه من امتقاع، اثناء حديثه المتلفز عن العراق، يدرك جيدا ما نقول، فلم يكن نافخا ريشه مثل ديك الحبش، مثلما كان عليه الحال بعد سقوط بغداد، ثم اين دونالد رامسفيلد وطلته المتغطرسة، واين ديك تشيني، نائب الرئيس الذي يقطر حقدا علي العرب والمسلمين؟
ثم ماذا عن توني بلير، رئيس وزراء بريطانيا الحليف الاوثق لبوش، الذي كذب علي شعبه وبرلمانه واعضاء حكومته عندما نفي ان يكون قرار الحرب قد اتخذ حتي قبل ايام معدودة من بدء الهجوم، وجاء سفيره في واشنطن ليؤكد ان هذا القرار جري اتخاذه بعد عشرة ايام من احداث الحادي عشر من ايلول (سبتمبر) واثناء عشاء خاص مع الرئيس الامريكي. لا شك ان ركبتي توني بلير تصطكان من شدة الرعب مع توارد انباء وصول الانتفاضة الي الجنوب، حيث تتركز القوات البريطانية.
الحرب الحقيقية بدأت في العراق بعد سقوط بغداد وليس قبلها، والقوات الامريكية وكل ذيولها من قوات التحالف الاخري، وكل من جاء علي ظهر دباباتها من المنافي، سيهربون ناجين بارواحهم في ما هو قادم من ايام. وربما لن يسعف الوقت بعضهم للصعود الي ظهر آخر طائرة عمودية امريكية مغادرة، تماما مثلما حدث لآلاف المتعاونين الفيتناميين، والبقية معروفة.