بين الصادق ومقتدى الصدر
عبدالله خليفة
حين عــُرضت الخلافة، خلافة الدولة الكبيرة من إيران إلى المغرب، على الإمام جعفر الصادق وهو في المدينة، وقد أحضرها مبعوث داعية العباسيين في الكوفة أبوسلمة الخلال، فإن الإمام لم يرقص فرحاً لهذا الشرف السياسي الكبير، وبأن يكون الخليفة على كل هذه الأصقاع الإسلامية !
كان بإمكانه أن يذهب ويغامر باتباعه من المؤمنين المضحين، ولكنه حرق رسالة أبي سلمة، ورفض أن يكون زعيماً في دولة لم يؤسسها، وأن يركض نحو المجد السياسي مضحياً بأرواح الناس لأجل مطمع شخصي ! ومن هذا الزمن كان التقليد النضالي الشيعي بالدرس والبحث وتأسيس دولة العقل لا دولة السلطان والركض وراء الشهوات والأموال. في فقه الإمام جعفر الصادق نرى هذه الرؤية الإنسانية لنتائج الثورات والوثوب إلى السلطات على الحياة، وبضرورة توخي الحذر الشديد من تفجير هذه العواصف التي أسمها الثورات لما ينتج عنها من حروب ضارية وكوارث اقتصادية ومآسٍ إنسانية. ولهذا ظل الإمام جعفر على كثرة المريدين وعجز العصر عن إنتاج شخصية قيادية بمستواه الأخلاقي حذراً من دعوات الوثوب إلى السلطة وإعلان الحرب والثورة، متوجهاً إلى البحث والدرس. إن هذه الطبيعة الإنسانية هي جزء من التراث النبوي والعلوي، ومن الاهتمام الشديد بالحياة البشرية والخوف على الإنسان الفرد، فنجد إن الإمام زين العابدين وهو يعود إلى منزله يفاجئ بكارثة كبرى في هذا البيت، حيث قام الخادم العبد بدون قصد بالقضاء على ابن الإمام زين العابدين، وكان هذا العبد في حالة يرثى لها من الخوف والرعب حين دخل عليه الإمام، فما كان من الأخير إلا أن توجه إلى هذا العبد ونسي ابنه الميت، وقال له : اذهب أنت حر ! كان خوفه على الحياة البشرية ممثلة في هذا العبد المرعوب ناسياً أبنه الفقيد ! إن الاهتمام بالحياة الإنسانية والمحافظة عليها والنضال لأجلها كان جزءً من تراث الأئمة، ولهذا كانت الثورة الحسينية وكان الوعي بعدئذٍ بمخاطر العمل السياسي، وخاصة ذروته : الثورة. وصار الفقه الجعفري يبحث عن الإجماع الكبير للأمة، وأن يكون التغيير السياسي تتويجاً لهذه الإرادة، لا عمل مغامراً كالطوفان يأخذ في جريانه الفوضوي حياة البشر وكأنهم مجرد أدوات للزعيم . ومن هنا كانت الثورات الجعفرية الكبرى في التاريخ الحديث: الثورة لتحرير إيران من المغول، والثورة الإيرانية الشعبية، تتويجاً لإرادة شعبية ساحقة. ونجد في هذا العصر بخلاف ذلك، حيث يركض بعض الزعماء الدينيين نحو السلطة، حتى لو كان ذلك عبر مغامرات خطرة محفوفة بأسوأ العواقب على المقربين وأفراد الطائفة، وتعريض الكوادر السياسية وكل العمل الفكري والسياسي الذي تكون خلال عقود، إلى الخطر والسحق. هذا ما يفعله السيد مقتدى الصدر عبر محاولته للبروز، ولكن ذلك يدور ليس من خلال شخصه فقط، بل عبر حشد من المؤمنين به، والمنتمين إلى نهجه. بل لم يكتفِ بذلك بل عرض الأماكن الدينية للخطر ولمغامرة الحرب التي كان من الممكن أن تدمر هذه المزارات المقدسة. إن عمل فئة صغيرة من أجل الوثوب للسلطة وجر بقية الناس لعمل محفوف بأوخم العواقب، دون أن يلوح في الأفق أي تأييد شعبي واسع، سواء بين المنتمين لنفس المذهب، أم لبقية الشعب العراقي، هو أمر يجلب الضرر الفادح . إن اندفاع بعض الشباب المتوثب المتحمس للمغامرات السياسية (والثورية) يتطلب مراجعة الإرث الفكري ودراسته بعمق، والذي يحدث إنه يجري تناول بعض الشعارات المقطوعة عن سياق الفكر والتراث وتجيير لمصالح فردية ولزعامات تحترق شوقاً للوثوب إلى السلطة حتى ولو كان ذلك فوق بحر من الدماء !