 |
-
«البعث» العراقي: بين النظرية والممارسة
«البعث» العراقي: بين النظرية والممارسة
غسان الإمام
نصف انحناءة اعتذاراً عن خطأ كبير. فقد قررت إدارة الاحتلال العودة إلى الاستعانة بالبعثيين العسكريين والمدنيين الذين سرحتهم عندما أسقطت قبل عام نظام صدام، ودمرت معه الدولة العراقية، ثم اكتشفت انها هي أيضا قد باتت وسط الركام.
الانحناءة لم تصل بالرأس إلى القدمين، خوفا على البنطال من أن يتمزق ويكشف عورة الاحتلال. فقد تقررت الاستعانة بالبعثيين لا البعث، بالبعثيين «الأوادم» والأكفاء الذين لم يشاركوا في الدفن والقبض والتعذيب، ودخلوا «الحزب القائد» خوفا منه ونفاقا له. ففي الدولة المطلقة النفاق مطلوب لصعود السلَّم الوظيفي.
سارع دان سينور الناطق بلسان الاحتلال إلى الإعلان أن الاستعانة بالبعثيين لا تعني السماح بآيديولوجيا البعث. لكن مجرد عودة ألوف الضباط والموظفين والمدرسين البعثيين، يشكل إشارة ذات معنى ومغزى موجهة إلى مختلف الفصائل السياسية والمذهبية المتمردة على الاحتلال أو المتذمرة منه.
لماذا البعثيون وليس «البعث»؟
لقد جاءت الديمقراطية الأميركية بكل الشخصيات والأحزاب والتنظيمات التي تقدم عمليا انتماءاتها الضيقة على الانتماء للعراق الوطن، وتلوِّح بهوياتها الدينية على حساب هويتها العرقية والثقافية واللغوية: الهوية العربية.
فلماذا يُستثنى حزب قومي من هذا «الفولكلور» الطاغي بألوانه غير المنسجمة؟
لا استثناء في الديمقراطية. فهي تتسع حتى للحزب الذي يرفضها، ولا يحرم منها إلا إذا تعامل معها بالعنف المسلح. لقد أخفق البعث العراقي على مدى عام كامل في مراجعة نظريته القومية، وفي نقد تجربته السلطوية والحزبية، وفي التخلص من عقدة صدام، عقدة عبادة الشخصية.
من هنا، تبدو سلطة الاحتلال وحلفاؤها على حق في تحريم الحزب، لا سيما أن قيادات الصفين الثاني والثالث، ومعظمها قيادات عشيرية ومخابراتية، تدين بالولاء الشخصي والعائلي لصدام، وربما تحالفت مع العنف الدموي المتسلل الذي يروع اليوم العراقيين أكثر مما يروع قوات الاحتلال.
لماذا يخفق الحزب في تجديد نفسه، ومراجعة نظريته، ونقد ممارسته؟
لقد تمت الإطاحة بقياداته الرئيسية بالاعتقال. والمحتم أن لا مستقبل سياسيا وحزبيا لها بعد محاكمتها وإدانتها. وهي لا تصلح أصلا لمراجعة النظرية ونقد الممارسة، بحكم كونها حثالة من القتلة والجهلة والمرتزقة والنفعيين وممسوحي الشخصية أمام شخصية «القائد» العصفورية. كذلك فقيادات الصفين الثاني والثالث لا تصلح هي أيضا، وهي على الحال التي ذكرت. وواضح أن قاعدة الحزب مهمشة وخالية من المثقفين القادرين على المراجعة والنقد، وخائفة من التصفية في حالة العودة الى تشكيل الحزب. فهي مهددة سواء من قيادات الصفين الثاني والثالث، أو من قوى «الديمقراطية الجديدة» التي مارست التصفية والاستئصال لأطر الحزب.
في تلاشي البعث العراقي، وفي عدم قدرته على بعث «البعث» وإحيائه، تبدو الحاجة ملحة لتشكيل حزب قومي في العراق، كقوة سياسية محترفة، قوة ديمقراطية تذكر العراقيين بعروبتهم الحافظة لهويتهم القومية ولوحدة وطنهم، أمام هذا الموج من أصحاب العمائم الذين احتلوا فجأة المسرح السياسي بشعاراتهم المذهبية المتسيسة، وخطابهم الاهتياجي، وفوضى تنظيماتهم، وغموض ارتباطاتهم الخارجية.
كيف يمكن تشكيل حزب قومي في العراق، من دون أن يقع في الأخطاء القاتلة التي ارتكبها البعث العراقي، وأدت في النهاية إلى سقوط الحزب في فخ العشيرة والطائفة، ومن ثم انتهت التجربة الحزبية باحتلال العراق؟
الحزب يقوم أساسا على تبني رأي، أو موقف، أو قضية، أو آيديولوجيا نظرية. ولتجنيب حزب قومي جديد في العراق الانحراف والأخطاء، فليس هناك أفضل من مراجعة نظرية البعث العراقي القومية، ونقد تجربته وممارسته السلطوية.
قلت مرارا إن «البعث» لم يكن حزبا فاشيا كما يزعم أعداؤه. نشأ حزب «البعث» نشأة ديمقراطية بالحوار الحر بين أساتذته المثقفين وجيل الأربعينات من طلبة المدارس الثانوية تحت شعاره المعروف (وحدة. حرية. اشتراكية). غير أن الوحدة التي ألهبت الخيال القومي الى حد الشوفينية المتعصبة ما لبثت أن سقطت في الممارسة. فقد سكت الحزب عن الانفصال (بين مصر وسورية) في حين كان عليه النضال من داخل دولة الوحدة ضد ما أسماه «ديكتاتورية» عبد الناصر. ثم ما لبث الحزب أن أخفق في تحقيق الوحدة بين جناحيه ودولتيه في العراق وسورية.
أما الحرية فقد كانت مفهوما شديد التناقض والغموض في فكر وممارسة ميشيل عفلق وصلاح البيطار مؤسَسي الحزب ونخبة المثقفين القوميين المحيطين بهما. غالب الظن لدي أن هؤلاء جميعا لم يكونوا متحمسين للديمقراطية البرلمانية، لأنهم أخفقوا في تحقيق شعبية لهم في مجتمع عربي ما يزال محافظا، كالمجتمع السوري، ورافضا لأي فكر جديد.
لقد اكتفى الحزب باستهوائه لأجيال الطلبة. ثم ما لبثت حريته النظرية أن بددها بالممارسة. فقد تسابق عفلق مع البعثي «الجديد» أكرم الحوراني إلى تسييس وتحزيب المؤسسة العسكرية، وجعلها أداة للوصول الى السلطة واحتكارها. وكانت النتيجة أن الحزب العسكري التهم الحزب المدني في سورية، وأنهى حياة عفلق والبيطار والحوراني السياسية، في حين لجأت البقية الباقية من مثقفي الحزب إلى اعتناق الناصرية، من دون ممارسة أي تأثير يذكر لإقناع عبد الناصر بالديمقراطية، فيما اعتمد البعث العراقي على خلاياه المدنية أكثر من اعتماده على خلاياه العسكرية في انقلابي 1963 و1968.
ضعف إيمان قادة «البعث» بالحرية والديمقراطية، هو الذي سمح بالظاهرة الخطيرة الطارئة منذ السبعينات، ظاهرة عبادة الشخصية التي وصلت الى حد «التأليه» الصارخ في العراق لبلطجي الشارع الذي احتاج إليه الحزب لسحل الشيوعيين الذين سحلوا البعثيين في عصر «الزعيم الأمين» عبد الكريم قاسم.
لقد اعتذر البعثيون عن ضعف إيمانهم بالحرية السياسية بالادعاء بما ادعى به اليساريون والشيوعيون العرب في الخمسينات والستينات. فقد قالوا جميعا إن الحرية التي يقصدونها هي الحرية الاجتماعية التي بدونها لا يمكن قيام حرية سياسية. وهكذا، طعَّم البعثيون في سورية والعراق النظرية القومية بالاشتراكية لتحقيق العدل الاجتماعي. لكن البعثيين والناصريين وقعوا في إغراء الشيوعيين لهم بالاشتراكية الماركسية حينا والتروتسكية حينا آخر. وتم اعتماد الاقتصاد الستاليني أنموذجا للتنمية.
تضخم القطاع العام بالموظفين والعمال «العاطلين» عن العمل أو المعيقين للإنتاج. وأخفق التصنيع الثقيل في مد الطبقات الفقيرة والمتوسطة بالسلع الاستهلاكية الأساسية. وأصبحت البطالة «العاملة» وغير العاملة عالة معطلة لأي انفتاح اقتصادي، أو للتحول إلى اقتصاد «المعلوماتية الإلكترونية» الجديد. وفي غياب الحرية السياسية، انتشر الفساد الإداري والمالي. وكانت النتيجة أيضا هذا التناقض المضحك بين الاشتراكية التي ظلت في صلب النظرية الحزبية، والاقتصاد الرأسمالي الأسود الذي أصبح أساس الممارسة، بالإضافة إلى الأعباء الاقتصادية للحروب التي استنزفت عراق صدام.
في ضوء هذه المراجعة السريعة لنظرية الحزب ولممارسته السلطوية، لا أجد إمكانية لإحياء «البعث» العراقي كحزب قومي مستقل بذاته وخصوصيته. إذا كان هناك بعثيون جدد، فمن الأفضل لهم الاندماج في حزب واحد مع سائر القوى القومية من ناصريين وقوميين وامتدادات حزب الاستقلال القديم، والعمل معا لاستعادة وجه العراق العربي وهويته القومية، في غمرة الخطر المحدق من الداخل والخارج.
أي حزب عربي الهوية في العراق يجب أن يقوم على أساس إنساني بعيدا عن أية شوفينية متعصبة، وعلى أساس الإيمان التام بالديمقراطية السياسية، والاحترام الكامل للفولكلور المذهبي والديني، وللأقليات العرقية، والاعتراف والاعتذار بصراحة وجرأة بخطأ تعامل البعث العراقي بالقمع والاستئصال مع الآخر.
تبقى كلمة رثاء وإشفاق يستحقها «المؤتمر القومي العربي». ما زالت الحركة القومية العربية، على الرغم من كل النكسات والهزائم، تلوك شعاراتها القديمة ببغاوية مثيرة للسخرية، منفصلة عن الواقع أو متجاهلة له، عندما تدعو إلى انسحاب الأميركيين، من دون أن تقدم بديلا يحول دون اقتتال العراقيين مع العراقيين، وعندما تمجد «المقاومة العراقية» التي تقتل العراقيين قبل الأميركيين بلا رحمة.
ضوابط المشاركة
- لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
- لا تستطيع الرد على المواضيع
- لا تستطيع إرفاق ملفات
- لا تستطيع تعديل مشاركاتك
-
قوانين المنتدى
|
 |