 |
-
العراق .. أصبح مأزقاً للجميع
العراق .. أصبح مأزقاً للجميع
جعفر الحسيني*
* كاتب وسياسي عراقي
من الخطأ النظر إلى المأزق الأميركي في العراق من خلال خسائرهم البشرية أو المادية - حتى الآن ـ فالخسائر البشرية لا تُذكر بالنسبة لدولة كبيرة كالولايات المتحدة يموت فيها سنوياً 34,000 شخص في حوادث السيارات. فبخلاف فيتنام التي كان فيها المأزق الأميركي عسكرياً بالدرجة الأولى، فإن مأزقهم في العراق هو سياسي وأخلاقي، بل وتاريخي أيضاً. ولم تكن الولايات المتحدة في تاريخها محرجة ومتخبطة كما هي اليوم في العراق. وقد بلغ بهم التخبط حداً ذهبوا معه إلى إلقاء التهم يمنة ويسرة، بحيث ظهر هناك من يفترض أن إيران عن طريق الجلبي هي التي استدرجت الأميركان إلى المستنقع العراقي. وبالطبع فإن المرء ليس مضطراً لتصديق مثل هذه المعلومات، لكنها تومىء إلى ما بلغته مبررات الحرب على العراق من هشاشة.
ومن يتابع خطب الرئيس الأميركي جورج بوش هذه الأيام يشعر وكأنه أمام مسؤول أيديولوجي من ديكتاتوريات العالم الثالث، يردد وبسماجة سلسلة طويلة من الشعارات التي يحاول تدعيمها بأكاذيب ووقائع مزورة. والمفارقة أن يجري ذلك في البلد الذي قيل فيه أن زمن الأيديولوجيات قد انتهى وانقضى، وفي الزمان الذي أصبحت فيه «الصورة» لعنة تلاحق الفشل الأميركي وتوثق أخطاءه وخطاياه.
والغريب أن يفسر الاحتلال الأميركي إخفاقاته في العراق، بنفس طريقة حكومات العالم الثالث في تفسيرها لإخفاقاتها. وهكذا انتهوا أخيراً إلى القول بأن إخفاقهم في العراق يعود في جزء منه إلى إغفالهم تركيبة البلاد العشائرية وعدم اعتمادهم على مشايخ العشائر. ويبدو أن صورة مجلس النواب في العهد الملكي والذي كان أكثر من نصفه من شيوخ العشائر «الأميين»، الذين كانوا يأتمرون بأوامر نوري السعيد، ستتكرر بشكل أو بآخر. وهو ما يذكرنا باعتماد صدام في سنواته العشر الأخيرة على الحالة القبلية، مكرراً نفس خطأ نوري السعيد، الذي تصور بأن الحالة القبلية قادرة على حماية نظامه، ثم ظهر أنها هي التي كانت تحتمي به، إذ ما أن انهار النظام الملكي حتى انهارت معه سلطة المشايخ. فمنذ عام 1935 - حيث قامت آخر ثورة عشائرية - أمسى شيخ القبيلة يستمد نفوذه من دعم الحكومة له، والتي ما أن تعزله أو تغضب عليه حتى يتراجع نفوذه أو يتلاشى تماماً.
ويتصور الأميركان أن دور الأخضر الابراهيمي - الذي اقترحه بوش نفسه على الأمين العام للأمم المتحدة - كافياً ليعطي الانطباع بان عراقاً مستقلاً سيتأسس في 30 حزيران. والمؤسف أن الابراهيمي الشخصية السياسية الكبيرة والمخضرمة أصبح دوره، أو بالاحرى دور الأمم المتحدة كشاهد الزور. ولسوء الحظ، فإن قائمة شهود الزور طويلة ومتنوعة ولكل أسبابه. وقد صمت الكثيرون عشية تشكيل الحكومة حتى لا يخسروا فرصتهم فيها. والمفارقة أن تأتي الكلمة الشجاعة من أحمد الجلبي الذي أطاحت طبيعته المتمردة ومساعي دولة عربية مجاورة بتحالفه القديم مع أميركا، بينما لم نرَ خطوط المرجعية الحمراء وغير الحمراء ولا بيانات «هيئة العلماء» الوطنية الرنانة.
ومن المفيد أن نذكر هنا أن هيئة العلماء، لم تصدر شأنها شأن غيرها فتوى بالجهاد، وبالتالي فإن الكل لا يريد أن يقطع شعرته مع الاحتلال. ومن جانب آخر ماذا يعني القول بأن البيت الشيعي يتدارس «الترشيحات» لرئاسة الوزراء؟ هل نحن أمام نظام لبناني جديد يحاول المحتل ومتزعمو الطوائف معاً فرضه علينا؟
ويغطي البعض على مكاسبه الشخصية أمام مريديه باسم مصلحة «الطائفة» والخوف من أن تأخذ الطائفة الأخرى دور هذه الطائفة أو مكانتها. وهو ما ينطبق على جميع اللاعبين على الساحة بدون استثناء، حتى وإن أخذ البعض في هذه المسرحية أحياناً دور البطل موحياً بأن دور الآخر هو دور العميل.
إن هذا التجاذب، طامة العراق الكبرى اليوم، والذي استطاع الاحتلال من خلاله أن يمرر أشياء خطيرة، وها هو اليوم يستغل هذا التجاذب لتمرير الاستقلال المزيف، حيث ينشغل أمراء الطوائف ويشغلون الكثيرين معهم بالمحاصصة بينهم بينما يصبح العراق كله في قبضة السفير الأميركي، تماماً كما حصل عند تشكيل مجلس الحكم وتشكيل الوزارة والمصادقة على قانون الدولة ومناسبات أخرى كثيرة. وفي ظل هذا التجاذب، فإن الاحتلال ماضٍ في مشروعه لإقامة «العراق الفيدرالي». مع الإشارة إلى ما يجري من «تكريد» الأقليات في كركوك وتصفية رموزها واعتبار مناطقهم جزءاً من منطقة كردستان «التاريخية». وهو ما يذكرنا بمشروع صدام لتعريب الأقليات ونزع هوياتها.
إن المرحلة القادمة ربما ستشهد - مع افتقاد التنسيق بين المرجعيات الدينية السنية والشيعية وكذلك التنسيق بين التيار الإسلامي بشقيه السني والشيعي - تعميم الفيدرالية على العراق، ونحن هنا نتحدث عن عرب العراق وليس عن الإقليم الكردي وحقوق الأكراد المشروعة.
من الجانب الآخر، فإن مشكلة المقاومة العراقية هي أنها بدون وجه سياسي، وبالتالي بدون برنامج سياسي، فلكل مدينة أو منطقة أو مجموعة مقاومتها. ويتردد المرء أحياناً أن يُسمي ما يقوم به شباب متحمسون أو ناس موتورون من ممارسات الاحتلال، ومع كل التقدير لمشاعرهم وتضحياتهم، بأنه مقاومة. فمن الصعب أن يصفق المرء لكل رصاصة تنطلق دون أن يعرف مصدرها أو هدفها أو زمانها.
ولقد علمتنا التجربة ألا نطلق العنان لمشاعرنا وانفعالاتنا، وأن نناقش بدقة وموضوعية كل خطوة وكل حادثة. ثم إن المقاومة يجب أن تكون جزءاً من مشروع سياسي متكامل، ففي العصر الحديث، لم يعد النصر هو تدمير العدو، وإنما هزيمته، أو بتعبير أدق هو إجباره على تغيير أهدافه. وهكذا فالمطلوب في العراق ليس تدمير أميركا - بغض النظر عن مدى إمكانية ذلك - إنما المطلوب هو هزيمة احتلالها للعراق. وهذا هو الفرق - في جانب مهم ـ بين المقاومة والإرهاب. فالإرهاب يريد أن يدمر الغرب، أما المقاومة فهدفها تحرير بلداننا. وكذلك علينا ألا نخاف من مناقشة نقاط ضعفنا علناً، وألا نلتفت إلى طريقة التفكير القديمة التي ترى هكذا مناقشات خيانة وعمالة. فما لا نناقشه علناً، إنما نفعل معه كما تفعل النعامة التي يُقال بأنها عندما ترى عدوها تخفي رأسها في الرمال، أما الآخر فإنه بالضرورة يعرف الكثير عنّا.
ضوابط المشاركة
- لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
- لا تستطيع الرد على المواضيع
- لا تستطيع إرفاق ملفات
- لا تستطيع تعديل مشاركاتك
-
قوانين المنتدى
|
 |