بمناسبة الذكرى الرابعة لشهادة الشهيد السعيد الصدر الثاني رحمه الله

وقف المرجع المظلوم في آخر خطبة له ناعياً نفسه ملتحماً مع أبناء أمته ثائراً متمرّداً غاضباً على اعتقال أعداد كبيرة من خطباء الجمعة والمؤمنين الصالحين في‏العراق...
وقف في كفنه المعروف وقفه تأريخية خالدة ليسجّل أول جملة له بعد الحمد والثناء بِنصٍّ واضحٍ وصريح، يقول:

نطالب من هنا باطلاق سراح جميع المعتقلين من فضلاء الحوزة والمؤمنين ‏فوراً مع الصلاة على محمد وآله الطيبين الطاهرين.

ولأجل إطلاق سراحهم دعا حشود المصلين للصلاة على محمد وآل محمد بأعلى أصواتهم... فهتف الجميع ثم هاجوا وماجوا وراح‏ قدس سره يقول:

أنا قلت وأكرر انّ اعتقال أي واحد من هؤلاء المؤمنين كأنه اعتقال لي لأن ‏المؤمنين كالجسد الواحد اذا اشتكى‏ منهم عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى‏، واذا بقي اعتقالهم الى الجمعة الآتية فيجب على كل خطباء الجمعة في العراق ‏التبليغ عنهم والمطالبة بإطلاق سراحهم بالحكمة والموعظة الحسنة جزاهم اللَّه خيرجزاء المحسنين...

ثم أضاف:

الآن قولوا معي ثلاث مرات.. (نريد نريد نريد) (فوراً فوراً فوراً) (يا اللَّه يا اللَّه‏يا اللَّه) وردّدتْ معه حناجر الألوف هذا النداء بلا تهيب أو تردّد أو تحفّظ.. وهذايعني ما يعنيه لمن يعرف دموية النظام واستهتار أزلامه(.

بعدها، وكعادته راح يقرأ دعاءً منتقىً بكلماته وكناياته وعباراته، وكان‏اختياره لهذا الدعاء اختياراً دقيقاً معبّراً، جاء فيه:

اللهم يا شاهد كل نجوى‏.. وموضع كل شكوى‏، وعالم كل خفية ومنتهى‏ كل‏حاجة.. يا كريم العفو، ياحسن التجاوز، يا جواد يا كريم... يامن لا يواري منه ليلٌ داج ‏ولا بحر عجاج ولا سماء ذات أبراج ولا ظلُم ذات ارتجاج، يامن الظُلمة عنده ضياء..اسألك بنور وجهك الكريم الذي تجّليت به للجبل فجعلته دكاً وخرّ موسى‏ صعقا..وباسمك الذي به رُفعت السماوات ودُحيت الأرض.. وباسمك.. الصبوح القدوس‏البرهان.. الذي هو نور على كل نور ونور من نور... اذا بلغَ الأرض انشقت واذا بلغ ‏السماوات فُتحت واذا بلغ العرش اهتز.. وباسمك الذي ترتعد منه فرائص‏ملائكتك... اسألك بحق جبرائيل وميكائيل واسرافيل، وبحق محمدالمصطفى‏صلى الله عليه وآله وسلم.. وباسمك الذي فلقتَ به البحر لموسى وأغرقت فرعون وقومه،وأغرقت فرعون ومن معه... وباسمك الذي به أحيى‏ عيسى ابن مريم الموتى‏، وتكلّمَ‏في المهد صبيا، وأبرأ الاكمه والأبرص بإذنك... أن تصلي على محمد المصطفى‏وعلي المرتضى‏.. وعلى فاطمة الزهراء وعلى الحسن المجتبى‏ والحسين.. الشهيدبكربلاء.. وعلى (جميع الأئمة المعصومين إماماً بعد امام)...

فعددّ الأئمة واحداً بعد واحد ثم قرأ الآية القرآنية الكريمة:
(قل أمر ربي‏بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين)
مندّداً بأولئك (الذين يحسبون أنهم يحسنون صنعاً ويحسبون أنهم مهتدون) (فريق هدى‏ وفريق حقّ‏عليهم الضلال )
لاحظ اختياره للآيات القرآنية الكريمة كذلك !

الاسلام هو الأصل:

بعد ذلك راح ‏قدس سره يتحدث عن الامام الصادق ونسبة المذهب الجعفري اليه، وقال:

ان الجعفرية ليس عقيدة مستقلة أو دين مستقل كما يأتي على ألسنة بعض‏العوام مثلاً (ماكو ولي إلّا علي ويحيى‏ دين الجعفري) وكأنه دين مستقل عن الاسلام ‏والعياذ باللَّه....

هذا الأمر - والكلام للشهيد السعيد - هو الذي يروّج له الأعداء حين يقولون (المسلمون والشيعة)...

وتحدث كذلك عن زهد الامام الصادق وكيف كان يرتدي ثوبين أحدهما ناعم للناس لكي لا يُفسَّر تواضعه ضِعةً وآخر خشن للَّه تحته... وهكذا... تحدث‏عن أصول المذهب وفقه الامام الصادق‏عليه السلام ودوره في نصرة الدين والدعوة لرسالةرب العالمين...

وفي الخطبة الثانية.. وبنفس السياق والاختيار المقصود للدعاء أيضاً

ياحافظ كل غريب.. يا مميت كل وحيد... يا نصير كل مظلوم، يا عماد كل حاضر ياغياث المستغيثين.. يا صريخ المستصرخين.. ياكاشف كرب المكروبين يا رافع هم ‏المهمومين.. يا مجيب دعوة المضطرين.. يا أقدر القادرين... يا... يا...

حتى‏ جاء الى ثورة الامام الحسين‏عليه السلام وكيف أن ثورته سلام اللَّه عليه أوجدت حرارةً في نفوس المؤمنين لا تبرد الى يوم القيامة فصار الشعر مثلاً - كمايقول طه حسين (رافضياً) وكيف استحق الحسين‏ الخلود.. وكيف أن (الدفاع عن المستضعفين يستحق الفداء والتضحيات) وان‏نموذج ثورته نموذج للثورة على الظلم، والتمرّد على الطغيان (حسب تعبيراته -رضوان اللَّه عليه - )..


أمور اجتماعية حساسة:

وفي إطار هذه الخطبة أشار المرجع الشهيد الى بعض الأمور الاجتماعية الهامة الشديدة الحساسية التي تحولت الى أعراف خاطئة يجب الغاؤها منهإ؛ تتظظ ( الصرف الكثير للأموال والطعام) عند الوفيات وكيف صار المعزّى‏ بوفاة قريب يجد نفسه مجبراً ان يُقدم الكثير للمعزّين بلا داع ولا ضرورة وكيف أن بعضهم صار يرمي‏ بالزيادة في المزابل فيبقى هو نفسه (فقيراً متسكعاً) في وقت يجب أن يُستخدم هذا الصرف لسدّ حرمان المعوزين، والأفضل تفقدهم وقضاء حوائجهم والإحسان ‏لهم.. وكذلك الأشعار والمدائح التي تُلقى‏ بحق المتوفى‏ الذي قد لا يستحق المديح ‏أحياناً.. أو الشعر الذي يظهر فيه أو يُحس منه اعتراض على قضاء اللَّه وقدره مثلاً وكذلك تبجيل المتوفى الذي قد لايستحق التبجيل وربما اللعن، وكذلك المرأة التي‏ترى‏ نفسها مُجبرة على البكاء وشق الثياب ونتف الشعر، لانها كما يُزعم تصبح‏عرضةً للانتقاد اذا لم تفعل ذلك، وكذلك تشييد القبور ورفعها فوق الحدود، وما في‏ذلك من إسراف مذموم قد يوجب الحرمة أو العقوبة.. وما الى ذلك من أمورحساسة ودقيقة لم يكن مألوفاً أن يتطرق اليها مرجع من قبل أو يقتحمها بهذاالشكل الصارم المسؤول..

كل هذا وغيره وجدناه أو نجده في خطبة واحدة وفي صلاة جمعة واحدة... عبادة وسياسة ومجتمع، اصلاح ودعوة وتاريخ، محاكمةٌ أعرافٍ خاطئة وترسيخ قيمٍ نبيلة وتحدٍّ صارخ لظلم، ومقارعة مكشوفة واضحة ضد الظالمين..امور لم تكن تُطرق.. وممنوعات لم تكن تُقتحم.. ودوائر حُمر لم يكن مألوفاً بل‏معروفاً مناقشتها أو الخوض فيها إلّا همساً أو رمزاً في أحسن الأحوال والأوضاع‏ والظروف...

ورحم الله شهيدنا الصدر الثاني يوم ولد ويوم عاش مظلوما ويوم يبعث يوم القيامة يشكو الى الله ظلم الظالمين له