أحمد مطر

سوق الخطف

كنت قد كتبتُ، منذ عدة أعوام، حكاية عن لصوص يسطون علي بيت فلا يجدون فيه سوي امرأة عجفاء بصحبة نصف دزينة من الأطفال الجاذعين الذين يفترشون معها العراء، ويتراشقون بالشتائم الذّاوية لشدة ما بهم من وهن!

وحيث انّ البيت كان فارغاً حتي من قدر، فإن المرأة التي تخففت من واجب الهاء أولادها بطبخ الحصي، كما في الحكاية التراثية، لم تفزع، بل رأت في مقدم هؤلاء اللصوص بارقة أمل، فانتشلت واحداً من الأولاد وقدمته لهم هدية، لكي لا يخرجوا من بيتها فارغي الأيدي!

غير ان اللصوص اعتذروا عن عدم قبول الهدية، وصارحوها بأنهم لم يحترفوا السطو إلا بسبب كثرة العيال وضيق ذات اليد، وان أخذ ولدها لن يفيدهم في شيء، بل سيحملهم هماً اضافياً، وذلك لانهم سيضطرون الي اطعامه دون ان ينتظروا من ورائه فدية!

ولم أتخيل أبداً ان مبالغتي الساخرة هذه ستكون عرضة لسخرية ما يجري واقعياً في عراق اليوم الذي فتحت فيه عصابات العنف الأعمي الهابّة من الجهات الأربع، سوقاً عمياء للخطف يتداول بضائعها تجار يملكون رأس المال نفسه الذي يملكه اللصوص في حكايتي، لكنهم، غالباً، لا يملكون حنكتهم في عدم قبول البضاعة الفاسدة!روت لي صديقة كويتية ان خطيب اختها -وهو عراقي يعيش في الكويت مع أهله ذوي الدخل المحدود -كان قد غادر الي البصرة، بعد زوال نظام جرذ تكريت، لكنه اختطف في الطريق من قبل عصابة طالبت أهله بفدية مقابل إطلاقه.

وعبثاً حاول أهله اقناع العصابة بأنهم عراقيون علي مدِّ الله، وانهم لا يملكون حتي رائحة المبلغ المطلوب، فلما يئسوا اسلموا امرهه وأمرهم الي الله.

وطال الوقت بالخاطفين وهم ينقصون من مقدار الفدية مرة بعد مرة، دون ان يجدوا اذناً صاغية.. حتي استحال المخطوف الي ورطة بالنسبة لهم، فتفتقت اذهانهم عن فكرة بيعه الي عصابة أخري، ولم يكن حظ هذه أفضل من حظ سابقتها، فاضطرت في النهاية الي الاستحواذ علي ثياب الرهينة واطلاقه بملابسه الداخلية!

وحكي لي صديق عائد من العراق حديثاً ان ابن جارهم قد تعرض للاختطاف، وتلقي والده رسالة من الخاطفين تطالبه بفدية من اجل انقاذه، ولأن الوالد كان -كما يؤكد صديقي- في حالة مالية مزرية، فقد أرسل من يسأل الخاطفين عما اذا كان يطعمون ولده جيداً، فجاءه الرد بالايجاب، وعندئذ أرسل اليهم متوسلاً ان يخطفوه هو ايضاً مع اولاده الآخرين!

وانهي الصديق حديثه بأن الولد عاد سالماً الي البيت في الليلة ذاتها.

وحين أعربت عن دهشتي من غباء مثل هؤلاء الخاطفين الذين يحاولون سرقة الأحذية من الحفاة، طمأنني الصديق الي ان السوق لا تخلو من التجار الأذكياء العارفين الذين يعملون حساباتهم بالقلم والمسطرة.

وقال لي، في هذا السياق، إن عصابة خطفت ولداً آخر وحاول أبوه تقليد جارهم، فادعي انه لا يملك من حطام الدنيا شيئاً، لكنه فوجيء بالعصابة وهي ترسل اليه كشفاً دقيقاً بجميع ممتلكاته!

ولكونه تاجراً حاذقاً، فقد جرّب طريقته المعتادة في المساومة، للوصول بمبلغ الفدية الي أدني مستوياته، مقفلاً الموضوع بقوله ان الذي خلق ولده هو الكفيل بأخذ روحه أو إعادته حياً.

ويبدو انه كان في ضلاله القديم، اذ أبلغه الخاطفون بأنهم لن يقتلوا ولده، لكنهم سيقطعون ذراعه قبل ان يعيدوه اليه. وعندئذ أذعن ودفع المبلغ الثقيل بالدولار.

عندما لمح الصديق علائم الشحوب علي وجهي، حاول ان يواسيني بقوله: انها مجرد حوادث شاذة ليست من صميم طبيعة مجتمعنا، وستزول باذن الله، بعد ان يسترد الوطن عافيته.. وهي تبقي أكثر رحمة من أعمال خاطفي الاسلام و خاطفي الوطنية والقومية الذين يخطفون أرواح الناس لمجرد إرواء عطشهم للدماء، ثم بعد ذلك فقط قد يفكرون في تسليم الجثث المقطعة الأوصال الي أهلها لقاء فدية مخفضة -لوجه الله- وبالدولار أيضاً!