 |
-
«طبقات» المخطوفين في العراق ..
«طبقات» المخطوفين في العراق ..
جابر حبيب جابر *
عرف العرب مصنفات سموها كتب الطبقات، تناولت الامراء والحكام، وابرزها طبقات الشعراء لابن سلام، ونأمل أن يخرج لنا وفاء لهذا المنهج التراثي في البحث، من يؤلف لنا مصنفاً يسميه طبقات المخطوفين، يكون في الطبقة الاولى منه الفرنسيون، حيث استقطبت قضية الرهينتين الفرنسيين الصحافيين العاملين في العراق الاهتمام والتركيز السياسي والاعلامي والشعبي، إذ أنه سبق أن تعرض صحافيون من جنسيات مختلفة للاختطاف، الا أنه لم يحظ أحد سابقاً بهذا التعاطف والمساندة من أجل أطلاق سراحهم، تقديراً للموقف الفرنسي الداعم للقضايا العربية، وعلى رأسها حقوق الشعب الفلسطيني، فضلاً عن وقوف فرنسا دائماً بالضد من المواقف الأميركية، سواء بالتمهيد لاحتلال العراق، او في بقاء هذا الموقف الفرنسي صامداً حتى بعد الاحتلال.
الا أن البعض الاخر يرى أن الموقف الفرنسي ينطلق من أزمة الهوية تجاه الولايات المتحدة، فضلاً عن محاولة خلق قطب أوروبي تتسيد فيه فرنسا، وأن مواقفها هي غالباً تتناقض مع أميركا للوقوف ضد نزعتها في الهيمنة والتفرد، بجانب أن هذه المواقف تحاكي ميول ورغبات الناخب الفرنسي.
أما بالنسبة للخاطفين فهم يدركون أنهم يخوضون معارك غير متكافئة، ويعرفون حساسية الرأي العام الغربي تجاه أمن وحياة مواطنيه، مستغلين ما توفره لهم وسائل الاعلام والاتصال الحديثة من امكانيات تصب في مصلحة الضغط على مختلف الاطراف، فضلاً عن تسليط الاضواء عليهم وعلى القضايا التي يعملون من أجلها.
لذا وفي ظل الاختلال الصارخ لميزان القوى، يبقى الاختطاف والعمليات الانتحارية الاساليب المتاحة والاكثر وقعاً، التي من الممكن أن تخلق معادلا وتوازن رعب لآلة الاحتلال، ومحاولة البعض إقناع الفاعلين بأن هذه الاساليب تضر بالمصالح الوطنية والاسلامية، يتغافل بأنهم لولا هذه العمليات لما استطاعوا أن يضعوا انفسهم على الخريطة السياسية، وانهم بالتالي لا يستطيعون ان يفكروا بمنطق حسابات الربح والخسارة في العلاقات الدولية.
بجانب الاختطاف السياسي اتجهت أغلب العمليات لتحقيق أغراض ودوافع مادية، وان اضفى الخاطفون على عملياتهم طابعاً «نبيلاً» بربطها بمطالب سياسية ودينية، التي سرعان ما يتم تناسيها عند الدفع الذي يعم خيره جهات عديدة من التي قامت بمهمة الوساطة الى الفاعلين.
سأتناول زاوية من هذه المسألة، التي استوقفتني وربما آخرين معي، وهي الاهتمام الواسع بقضية المخطوفين الفرنسيين، إذ ان المطالبات بإطلاق سراحهم انطلقت من كل منبر إفتاء وزاوية ومؤسسة إسلامية في العالم، وصولاً الى الجامعة العربية بشخص أمينها العام وكبار موظفيه، الى الازهر وشيخه والى الاخوان المسلمين ومرشديهم، والى لبنان ودول المغرب العربي ورجال دينه ومؤسساتهم، والى المظاهرات والاحتجاجات الجماهيرية المنظمة مسبقاً من قبل المراكز الاسلامية، ولا ينفك هذا الاجماع غير المسبوق أن يثير في الذهن بضع قضايا، الأولى أين كانت هذه المؤسسات الدينية ودوائر الإفتاء من الشعب العراقي الذي اختطف من عصابة وزمرة عاثت بمقدراته ومصيره، حيث تسلمت بلداً متحضراً ذا عمق تأريخي وتركته ممزقاً متناحراً، جاءت لوطن وتركته طوائف وقبائل، حصلت عليه مستقلاً وسلمته محتلاً، جاءته متعافياً وبوفرة مالية تقدر بأكثر من 40 مليار دولار، وسلمته بمديونية تصل الى ارقام فلكية قياساً بحجم العراق وموارده، تسلمت شعباً مسالماً مستقراً وتركته مهجراً هارباً ابتلعته في رحلـــــة الهروب البحار والمحيطات، هل تبنى امين الجامعة العربية مآسيهم التي حملوها الى منافي الارض، أم استقبل معارضاً عراقياً مهما بلغ وزنه في زمن النظام السابق، وهو الذي وصل به الحال الى أن يستقبل بعد التغيير حتى شيوخ العشائر. كنا نشعر نحن الذين بقينا في العراق باننا مختطفون لا على سبيل المجاز بل الحقيقة، إذ كيف يشعر شعب وهو يساق من حرب الى أخرى أكثر عبثية ودموية، لا ناقة له فيها ولا إرادة، كيف يشعر وهو يدفع يومياً الى الهاوية أو الى حافتها من قبل نظامه السياسي ومناوراته الذي لم تكفه ان يكون حرباً على جواره وأجزاء من شعبه، بل ذهب بشعب مسكين ليناطح «الاستكبار العالمي» ناهيك من اختطاف شعب من عجلة الزمن ووضعه خارجها وخارج التطور وسبل الحضارة ألم تكن تستحق جريمة خطف شعب ولثلاثة عقود من هؤلاء المستنكرين وقفة.
المسألة الثانية، الملاحظ على المستنكرين انهم مجاملون وانتقائيون، اذ فضلاً عن انهم يتجنبون ان ينتقدوا أصل المشكلة وهي الاختطاف، بل انهم لا يعتبرون أن دماء البشر متكافئة، اذ لماذا لم نسمع عشر هذه الاستنكارات والادانات عندما قتل الرهائن اللبنانيون والباكستانيون والاتراك والنيباليون بالجملة، بل مرت من دون ان تثير رجال الدين، ألم يحرم الله قتل النفس بغير نفس أو فساد في الارض، حيث جاء وصف النفس هنا على اطلاقها سواء وثنية او مؤمنة أو مسلمة، ألم يطلعوا على القاعدة الربانية العظيمة «ولا تزر وازرة وزر أخرى ». فما ذنب السائق البسيط أن يؤخذ بسياسة بلده، ثم لماذا نتهم العالم بالكيل بمكيالين ونمارس عشرة مكاييل، فهل نقبل ان يعاملنا الاخرون وفقاً لانظمة حكمنا؟ وهل نستحل دماء من مواقف دولة ليست معنا؟
المسألة الثالثة: هدف الخاطفين أصبح واضحاً، حيث تعتبر بعض اطراف المقاومة ان الساحة العالمية واحدة لمواجهة أميركا، وبالتالي فان امة الكفر هي ايضاَ واحدة، هذه تتخطى الوضع العراقي، إذ يدرك الجميع أن وجود القوات المتعددة الجنسيات بجانب الولايات المتحدة لاضفاء شرعية دولية، ولاظهار أميركا امام شعبها والعالم بانها لا تتصرف منفردة، وعليه فانه حتى لو استجابت دولة او كل الدول، فان ذلك لن يضعف القوة الأميركية الفعلية في العراق، ايضاً من الصعب تبين علاقة نزع أو لبس الحجاب في المدارس الفرنسية بتحرير العراق، او معرفة أي خدمة يقدمها خطف رسل العمل الانساني، الامرأتين الايطاليتين، والذي دعى الى مغادرة كل المنظمات الانسانية.
المسألة الرابعة: الاختطاف الذي تركز عليه وسائل الاعلام، وبالتالي يحظى بالشجب والادانة، هو ذلك الذي فيه جنسيات أجنبية، لكن ماذا عن الاختطاف الذي يتعرض له العراقيون يومياً، إما للضغط السياسي، او تقوم به بعض الاطراف مدعية، باطلاً أو حقاً، ان الفدية التي تستحصل منه تذهب لتمويل اعمال المقاومة، هذا البلد الذي افرغ من كل طبيب اختصاصي له سمعته، وأفرغ من طبقة رجال الاعمال والعقول والاساتذة الذين باتوا هدفاً مستمراً لعصابات الاجرام والابتزاز المنظم، لذا يجب ادانة اعمال الاختطاف بذات القوة، وأن لا يقوم علماء الدين، تحت ضغط الرأي العام بالادانات الانتقائية، بل ان يقفوا وبوضوح وبالعلن ضد كل أعمال الاستهانة بحياة وحرية الانسان، وأن يتجاوز الاستنكار الى الافتاء بتحريم عمليات الاختطاف، لكي يدحضوا الاساس الفقهي الذي ربما تسلح به بعض الشباب ممن يتصورون انهم يفعلون الصواب، إذ ان دور علماء الدين والهيئات والمرجعيات الاسلامية فضح العقلية والفتاوى الخاطئة. بالطبع قد تستمر العمليات بعد ذلك الا ان الواجب تنقية ديننا من الشبهات ومن الانتقائية في الاحكام وان يبرئ علماء الدين ذمتهم.
أما أن يقوم البعض بإصدار فتوى بتحريم خطف الفرنسيين، فندعوهم أن يضعوا باباً في كتبهم الفقهية ورسائلهم العلمية المقبلة يسمونه باب الاختطاف، يناقشون ويصنفون فيه أنواع الاختطاف، وفقاً لجنسية المخطوف ومصالحنا مع دولته وسياستها تجاهنا، ولا ينسوا أن يمروا على حكم خطف النساء.
*كاتب وأكاديمي عراقي في جامعة بغداد
ضوابط المشاركة
- لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
- لا تستطيع الرد على المواضيع
- لا تستطيع إرفاق ملفات
- لا تستطيع تعديل مشاركاتك
-
قوانين المنتدى
|
 |