مقهى الشابندر
جلال حسن
لولا جهود الحاج محمد كاظم الخشالي واستغاثته منذ عام 1990 لتحول مقهى (الشابندر) إلى محلات تجارية، وضاع تاريخه العريق لكن الرجل قام بواجبه، وحصل على قرار معتبراً هذا المقهى من المرافق السياحية التراثية، ولا يمكن أن يتغير بأي حال من الأحوال، ضمن المنهاج السياحي لمدينة بغداد.
أسس المقهى سنة 1917 بعدما كان مطبعة مشهورة في بغداد، وأصحابها من عائلة عراقية بغدادية أصيلة، حيث ألف المرحوم (موسى الشابندر) كتاباً عن بغداد (ذكريات بغدادية) بالإضافة إلى سخاء العائلة في بناء المساجد وعلى سبيل المثال بناء (مسجد في الأعظمية) ومسجد (كبير في بعقوبة) كذلك بمواقفها الوطنية والإنسانية، فقد تم تهديم المطبعة وبناء هذا المقهى العامر، فلاقى وقتها نجاحاً كبيراً كونه يقع في منطقة مكتظة بالسكان، يرتاده أهالي محلات (جديد حسن باشا) و(العاقولية) و(الحيدر خانة). وقربه من ثكنة القشلة (قاش لاق) التركية، وبطبيعة الحال أصبح وسط مركز الحكومة - آنذاك - رواده صباحاً من مراجعين الوزارات، ولا تتم تمشية معاملاتهم إلا بأخذ المعلومات من المختارين المتواجدين في هذا المقهى، ليأخذ المراجع تأييد السكن وحسن السلوك والسيرة والكفالات وشهادة المختار، فخصص لهم ركناً خاصاً في إحدى الزوايا، بالإضافة إلى تواجد رجال القانون لقربها من المحاكم.
رواد المقهى
ترتاد المقهى شرائح اجتماعية كثيرة ومتنوعة، فبعد نهاية الدوام الرسمي للدوائر الحكومية يفده المختارون والمحامون والمؤرخون ومنهم مثلاً (فائق توفيق) و(مظهر العزاوي) و(توفيق الفكيكي) و(مهدي المقلد) و(فائق القشطيني) والمؤرخ المحامي (عباس العزاوي).
ثم تأتي شريحة رؤساء العشائر العراقية ومنهم الشيخ (حبيب الخيزران) و(علي الفياض) شيخ خوام، وشيخ (جياد الشعلان) وشيخ (حجي عجة الدلي) و(حسين المطر) وشيخ (شندل المدلول) وشيخ (جاسب المطشر) وغيرهم وعند المساء يأتي دوي الأدباء والصحفيون لقربه من المطابع ومنهم (نوري ثابت) و(طه الفياض) و(عادل عوني) و(فؤاد عباس) و(مهدي العبيدي) و(عبد الكريم العلاف) وأسماء كثيرة ولامعة.
نشاطات المقهى
في ليالي رمضان تقام حفلات المقام العراقي وهو ذوق بغدادي رفيع المستوى بحضور قارئ المقام العراقي الرائد (رشيد القندرجي)، لأنه عاش محسوباً على رواد مقهى الشابندر، ويحضرها (محمد القبنجي) مستمعاً كذلك (عبد الفتاح معروف) و(يوسف عمر) لسماع شيخهم القندرجي ويخصص ريع الحفلات إلى طلاب مدرسة التفيض الأهلية. وتعقد فيه الندوات والاجتماعات، ففي سنة 1933 انعقد الاجتماع الأول لنقابة عمال الميكانيك، ونقابة عمال الجلود، ومنه انطلقت في سنة 1948 أكبر تظاهرة وطنية تندد وتحتج على معاهدة (بورتسموث)، بعد أن طوقت شرطة السيارة بداية الجسر (جسر الشهداء حالياً) وشارع الرشيد مما حدا بالمتظاهرين إلى اتخاذ مقهى الشابندر نقطة الانطلاق بعد محاصرتهم فيه.
فضاء واسع ورحب
تجولت بصحبة الحاج محمد الخشالي في أرجاء المقهى الذي يعج بالأدباء والفنانين والصحفيين والمثقفين، لأشاهد عدداً من السماورات النحاسية المختلفة الأشكال والأحجام، ودلال القهوة و(النركيلات) والساعات الجدارية القديمة. وزينت جدران المقهى لوحات بغدادية زيتية وفوتوغرافية تعود إلى الحياة البغدادية في العشرينيات منها صورة كبيرة للملك فيصل الأول في أحد اجتماعاته التي تضم أعيان بغداد (ساسون حسقيل) وزير المالية و(سلمان أبو التمن) والباشا (نوري السعيد) و(جميل صدقي الزهاوي) و(داود بابو) و(بهاء الدين بن الشيخ سعيد النقشبندي) وصورة للجنرال (خليل باشا) والي بغداد وصورة صغيرة للسير (تشارلز طاونزند) الذي أسره الأتراك في موقعة الكوت. وصورة كروان لنقل المسافرين وتخت روان شارع الرشيد - منطقة الرصافي والحيدر خانة وصورة لبغداد سنة 1919 وبغداد عند فتح شارع الرشيد (خليل باشا) سنة تموز 1916 - وصورة جثمان الملك غازي محمولاً على أكتاف ضباط الحرس الملكي في 5 نيسان 1939.
وصورة نادرة تمثل سمو الشريف شرف الوصي على العرش المعظم يقسم اليمين القانونية أمام مجلس الأمة، وغيرها من الآيات القرآنية والإهداءات من شخصيات بغدادية وفنانين عراقيين.
وشاهدت وكالات أنباء عربية وعالمية، حيث تجرى اللقاءات والمقابلات التلفزيونية للفضائيات، وجلوس أصحاب المكتبات في شارع المتنبي وباعة الكتب التاريخية والمستنسخة والمترجمين والشعراء والروائيين والقصاصين.
دعوة
وقبل أن أغادر عبق أجواء بغداد القديمة سألت الحاج محمد الخشالي ماذا تريد أن تقول؟ فذكر:
حين استأجرت هذا المقهى سنة 1963 أول ما عملت هو منع ألعاب (الدومينو والنرد) لأجعل منه مكاناً هادئاً يرتاده طلاب العلم والأدب والثقافة ومنتدى أدبياً مفتوحاً لجميع الأذواق، لكي يستفيد الزبائن من الوقت للقراءة والكتابة، لأني أعتز بتراث بلدي وأحترم الأدباء والفنانين، مبتعداً عن العقلية التجارية، ليكون هذا المكان رمزاً للمفكرين في العراق وتجمعاً ثقافياً تحت لافتة (مقهى الشابندر). وقد عرضت علي كثير من المشاريع التجارية بغية تحويلها إلى عمارة تجارية لكني رفضت وبشدة، لإحساسي بقيمتها التراثية للبلد، بالرغم من مغريات المشاريع التجارية المادية، وبقيت محافظاً على معالمها الجميلة، حتى إن شهرتها إضافة إلى العراق وصلت، إلى جميع البلدان العربية والعالمية وما من وفد ثقافي أو صحفي أجنبي إلا وزار مقهى الشابندر ليصور معالمه ويلتقي مع رواده.