الدين و المتدينون ! إنطباعات مشتقة من تجارب شخصية
غالب حسن الشابندر
قبل كل شي أحب أن أذكر بان كاتب هذه السطور من الذين ينتمون إلى دائرة الغيب، أي من الذين يؤمنون بأصالة الغيب، وقدمه الترتيبي والقيمي على عالم المادّة، فالدين قيمة سامية كبيرة، كانت وستبقى صوت الله في الضمير الحي، ولا أعتقد أن التاريخ سوف يزيح الدين أو ينفيه، بل أثبتت التجربة البشرية أن الدين حقيقة روحية صامدة، لا تغيب حتى تظهر بشكل آخر، ولا تقمع حتى تتبلور في صيغة جديدة، فالدين يعبر عن نفسه بصور متعددة، متجدِّدة، ولذا لم تفلح كل أساليب إنهاء هذه الظاهرة بشكل جذري، بل هناك دراسات غربية حديثة تحاول إرجاع أكثر الانجازات البشرية إلى الجذوة الدينية العميقة الغور في الكائن الإنساني. هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية، إن توظيف الدين لأهداف بعيدة عن روحه وجوهرة ظاهرة قديمة، ولكنّها ليست ظاهرة محصورة في مجاله وحسب، فقد كانت الماركسية وغيرها من المذاهب الإنسانية الطيبة مجال إستغلال بشع من قبل حامليها، بل حتى الديمقراطية تحوَّلت إلى أداة قمع فكري وروحي، بل باسم الحرية سفكت دماء، وأُبيدت شعوب، وهتكت أعراض...
أقدم هذه المقدمة لأنها تتصل بما سوف أطرحه حول العلاقة بين الدين والمتدينين في السطور التالية إن شاء الله تعالى.
الدين في تصوري كما قلت تجاوز نحو الأعلى، نحو الأسمى، بل لا معنى للإيمان بلا تخطي جرئ للواقع الراهن بشرط ا لتقدم والسمو والارتفاع، وأنا أتحدث عن الدين هنا بشكل عام، وذلك بصرف النظر عن التفاصيل، وهناك حديث للرسول الكريم يكشف عن ذلك، فقد روي عنه سلام الله عليه القول ( من تساوى يوماه فهو مغبون، ومن كان أمسه أحسن من يومه فهو ملعون )، فإن القراءة الجوانيِّة لهذا الحديث تفيد معنى التجاوز، أو بالأحرى التخطي، وفي الحقيقة ما دام الأيمان هو عمل الروح فمن الضروري أن يستبطن التخطي نحو الأسمى، تجاوز الذات الضيقة والاندكاك في الروح السامية، وأقصد بالروح السامية ذلك الموج الشفاف من العمل الصالح، العمل الكبير، الذي يشف عن تقدير رائع للحياة وقيمها، ويشي عن تثمين معنوي كبير للإنسان والإنسانية.
نقرأ في القرآن الكريم ( يا أيها الإنسان أنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه )، وبالتالي، وحسب قراءة عميقة لهذا النص الجليل، نعي بأن الإيمان محاولة للوصول إلى الله، تماهي معه، تتحايث الروح المؤمنة مع الله، وذلك من خلال تخطي الحواجز، حواجز الذات الضيقة، و ذلك يكون بالعمل الصالح، العمل الطيب من أجل الغير، بلا جزاء وبلا شكور، يكون بالتسامح، يكون بإضفاء الحب على مخلوقات الله تعالى.
هذه هي عبقرية الدين، وهنا تكمن عظمته، وبالتالي، لا يستحق لقب أو عنوان المؤمن ذلك ( المسلم أو المسيحي أو اليهودي ) الذي يفني ذاته بالصلاة و الصيام، وغيرهما من الممارسات العبادية الشكلية، فإنَّ الانغماس بهذه العبادات دون التضحية بشيئ من الذات لا ينطوي تحت مقولة الإيمان، أين هو الإيمان هنا ؟ هذه الممارسات يجب أن تقود إلى التضحية بشي من الذات، يجب أن تترتب عليها بعض المستحقات الشفافة، ومن أبرزها التخطي، التخطي نحو السمو، نحو القيمة النهائية لكل القيم ( الله ). ولعل هناك منْ يدعو إلى ما يُسمِّى بـ ( النظام الإسلامي، والحكومة الإسلامية، و الدولة الإسلامية )، وربما ينال صنوف العذاب، ولكن دونما يتخطي غرائزه تجاه الحقيقة الكلية، الله عزّ وجل. فهل هذا ( مؤمن ) ؟
أشك في ذلك !
أنا متدين يعني أنا سائر إلى الله بالعمل الصالح، بالتضحية من اجل الآخر، بالتواصل مع فقراء الناس، مع المعدمين، بالتواصي مع قوى الخير في سبيل صلا ح العالم، هذا هو المؤمن، وهذا هو الإيمان، ا لعطاء أولاً، تلك هي سمة الإيمان، ولذلك طوال عمري لم التفت إلى كمية صلاة هذا المتدين أو ذاك، بل كان نظري الأول إلى مدى تخطيه المستمر لذاته، لأنانيته، ومن هنا أشك بذلك الذي يجمع ( الملايين ) فيما هو يدعي الإيمان، أشك بمثل هذه المفارقة الكبيرة ! وأنا أشتق موقفي هذا من مقولة إمام الموحدين علي بن أبي طالب الذي انتمي إلى مدرسته الدينية والحمد لله تعالى.
كاتب هذه السطور له تجربة طويلة مع ( المتدينين )، فقد تواجهت مع تجارب يشيب لها الوليد، بل تجارب تهز عرش الله عزّ وجل، شاهدت الغرائب، فقد لمست بيدي حب هؤلاء للمال بشكل مثير، بحيث يبعثون على التقزُّز، فهؤلاء يحرصون على الصلاة في المساجد في وقتها، ويجادلون عن الدين كثيراً، خاصّة إذا انبرى شخص للإدلاء برأي هو مناف للدين في تصورهم، ويطلقون اللحى، ويمنعون أبناءهم من الاستماع لصاحب الرأي هذا، يضربون الطبول، ويقرعون الأبواب، محذِّرين، منبهين، ولكن هؤلاء إذا توفَّرت لهم فرصة عمل يدرُّ عليهم المال الوفير، سرعان ما ينقطون شيئاً فشيئا عن الجامع !، بل لم تر لهم أثراً في مناسبة دينية مهمة مثل رمضان أو محرّم الحرام ! وسرعان ما تسمع عنهم العجائب في كيفيِة جني المال ! إنّهم بلاء رهيب، وقد تساءلت كثيرا عن سرّ هذه الظاهرة الغريبة المدهشة حقا، فلم أجد جواباً سوى كون تدينهم مجرّد معالجة لوضع خاص بهم، ذلك أنّهم ليسوا بشي، فيحاولون تغطية هذا النقص بالتدين !
لقد كان التدين بالنسبة لهؤلاء محاولة لمعالجة نقص، وجاء المال ليحل محل التدين في لعلاج هذا النقص، لم يكن عن إيمان، وبالتالي، كان جدالهم وصياحهم وتهاويلهم مجرّد كذبة، كذبة قبيحة...
هناك صنف آخر من ( المتدينين )، هؤلاء يستقتلون ( لفظيِّاً ) أن يقدمك على نفسه بشربة كأس من الماء، أو بدخول قاعة درس، ويشفع ذلك بصنوف من التملق المدهش، مثل ( مولانا ) ومثل ( بخدمتك )، ولكن يتوارى عنك من بعيد إذا شعر بأنَّك تريد أن تستدين منه كمية بسيطة من المال، وهو القادر على ذلك، وهو العالم بأنَّك سوف تفي بالدين دون تلكؤ !
هذه الظاهرة رأيتها عند ( المتدينين ) بشكل مثير حقا، وهي ظاهرة تدعو إلى الرثاء والقرف في نفس الوقت، غريب أمر هؤلاء، وكلَّما أُصادف مثل هذه الحالات تأخذني حيرة مدهشة، خاصّة فيما يتعلَّق بتوسّلاتهم في مثل الحالات التي أسلفت !
تُرى ما هو تفسير كل ذلك ؟
أين هي القيم الدينية لدى هؤلاء ؟
هم يتصدرون الصفوف الأولى في صلاة الجماعة، والويل والثبور لمَن تساءل يوماً عن مفهوم ديني لم يجد صدى من قبول لدى هذا السائل، سوف يتناقل هؤلاء الخبر بتضخيم وتكبير، ويتحادثون بِه الناس، ويحذرون، ويكّبرون، ويحوقلون، ولكن سوف لا يشفع أحدهم للآخر إذا حان وقت العطاء !
الإيمان هو جوهر الدين، وجوهر الإيمان هو التخطي، تخطي أفق الذات الضيق، العطاء، ومن دون العطاء لا إيمان أبدا.