 |
-
اطروحات في معاجز امير المؤمنين0ع) بقلم الشيخ اسعد الناصري
بمناسبة الذكرى السنوية لولادة سيد العارفين ومولى الموحدين وقائد الغر المحجلين سيد الوصيين وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم) يحسن بنا أن نأخذ بطرف من الحديث عن بعض فضائله، بمقدار ما هو ممكن وما يتسع له المجال بحول الله تعالى وقوته.
فقد ورد في - الفضائل- لشاذان بن جبرئيل القمي ص 2 وما بعدها:
عن الشيح محمد بن أبي مسلم بن أبي الفوارس الدارمي، وقد رواه كثير من الأصحاب حتى انتهى إلى أبي جعفر ميثم التمار، قال بينما نحن بين يدي مولانا علي بن أبي طالب(عليه السلام) بالكوفة وجماعة من أصحاب رسول الله(صلى الله عليه وآله) محدقون به كأنه البدر في تمامه بين الكواكب في السماء الصاحية، إذ دخل عليه من الباب رجل طويل علية قباء خز أدكن متعمم بعمامة اتحمية صفراء، وهو مقلد بسيفين فدخل من غير سلام ولم ينطق بكلام. فتطاول الناس بالأعناق ونظروا إليه بالآماق وشخصوا إليه بالاحداق، ومولانا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) لا يرفع رأسه إليه. فلما هدأت من الناس الحواس فحينئذ أفصح عن لسانه كأنه حسام جذب من غمده، ثم قال أيكم المجتبى في الشجاعة، والمعمم بالبراعة، والمدرع بالقناعة، أيكم المولود في الحرم، والعالي في الشيم، والموصوف بالكرم؟ أيكم الأصلع الرأس، والثابت الأساس، والبطل الدعاس، والآخذ بالقصاص، والمضيق للأنفاس؟ أيكم غصن أبي طالب الرطيب، وبطله المهيب، والسهم المصيب والقسم والنجيب؟ أيكم خليفة محمد(صلى الله عليه وآله) الذي نصر به في زمانه، وعز به سلطانه، وعظم به شأنه؟ أيكم قاتل العمرين وآسر العمرين، فعند ذلك رفع أمير المؤمنين(عليه السلام) رأسه إليه فقال له: يا مالك يا أبا سعد بن الفضل بن الربيع بن مدركة ابن نجيبة بن الصلت بن الحارث بن الأشعث بن السميمع الدوسي سل عما بدا لك؟ فأنا كنز الملهوف وأنا الموصوف بالمعروف، أنا الذي أفرعتني الصم الصلاب، وأنا المنعوت في كل كتاب، أنا الطود والأسباب أنا ق والقرآن المجيد، وأنا النبأ العظيم أنا الصراط المستقيم، أنا علي مؤاخي رسول الله(صلى الله عليه وآله) وزوج ابنته ووارث علمه وعيبة حكمته والخليفة من بعده. فقال الأعرابي: بلغنا عنك انك معجز النبي(صلى الله عليه وآله) والإمام الولي ليس لك مطاول فيطاولك، ولا ممانع فيصاولك، أهو كما بلغنا عنك يا فتى قومه؟ قال علي(عليه السلام): قل ما بدا لك؟ فقال: إني رسول إليك من ستين ألف رجل يقال لهم (العقيمية) وقد حملوا معي رجلاً ميتاً قد مات منذ مدة وقد اختلف في سبب موته، وهو على باب المسجد. فان أحييته علمنا أنك وصي رسول الله(صلى الله عليه وآله) صادق نجيب الأصل، وتحققنا أنك حجة الله في أرضه، وخليفة في عباده. وان لم تقدر على ذلك رددته على قومه وعلمنا أنك تدعي غير الصواب، وتظهر من نفسك ما لا تقدر عليه. فقال أمير المؤمنين(عليه السلام): يا أبا جعفر (وهو ميثم التمار) اركب بعيراً وطف في شوارع الكوفة ومحلاتها، وناد من أراد أن ينظر إلى ما أعطى الله علياً أخا رسول الله(صلى الله عليه وآله) بعل فاطمة(عليها السلام) مما أودعه رسول الله من العلم فيه فليخرج إلى النجف غداً. فهرع الناس إلى النجف، فلما رجع ميثم من النداء قال له علي(عليه السلام): خذ الأعرابي إلى ضيافتك فغداة غد سيأتيك الله بالفرج. قال ميثم: فأخذت الأعرابي ومعه محمل فيه ميت فأنزلته منزلي وأخدمته أهلي. فلما صلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) الفجر خرج وخرجت معه، ولم يبق في الكوفة بر ولا فاجر إلا وخرج إلى النجف. فقال (عليه السلام): يا أبا جعفر علي بالأعرابي وصاحبه الميت فخرجت من عنده، وإذا أنا بالأعرابي وهو راجل تحت القبة التي فيها الميت، فأتى بها إلى النجف. فعند ذلك قال (عليه السلام): يا أهل الكوفة قولوا فينا ما ترونه وارووا عنا ما تسمعونه واوردوا ما تشاهدونه منا. ثم قال: يا أعرابي ابرك جملك واخرج صاحبك أنت وجماعة من المسلمين. قال ميثم: فاخرج تابوتا من الساج وفيه من قصب وطاء ديباج فحله، وإذا تحته بدرة من اللؤلؤ وفيها غلام قد تم عذاره، بذوائب كذوائب المرأة الحسناء. فقال (عليه السلام): يا أعرابي كم لميتك هذا فقال أحد وأربعون يوماً. فقال: ما كان سبب موته؟ فقال الأعرابي: يا فتى، أهله يريدون أن تحييه ليخبرهم من قتله فيعلموه، لأنه بات سالماً واصبح مذبوحاً من الأذن إلى الأذن. فقال له (عليه السلام) من يطلب بدمه؟ قال خمسون رجلاً من قومه يعضد بعضهم بعضاً في طلب دمه، فاكشف الشك والريب يا أخا رسول الله. فقال (عليه السلام): هذا الميت قتله عمه لأنه تزوج ابنته فخلاها وتزوج غيرها، فقتله حنقاً عليه. فقال الأعرابي: لسنا نرضى بقولك وإنما نريد أن يشهد هذا الغلام بنفسه عند أهله من قتله، حتى لا يقع بينهم السيف والفتنة والقتال. فعند ذلك قام علي (عليه السلام) فحمد الله وأثنى عليه وذكر النبي(صلى الله عليه وآله) فصلى عليه ثم قال: يا أهل الكوفة ما بقرة بني إسرائيل بأجل من علي أخي رسول الله(صلى الله عليه وآله) وأنها أحيت ميتاً بعد سبعة أيام، ثم دنا من الميت فقال: إن بقرة بني إسرائيل ضرب بعضها الميت فعاش، وأنا اضربه ببعضي، فإن بعضي عند الله خير من البقرة كلها. ثم هزه برجله اليمنى وقال: قم بإذن الله تعالى يا مدرك بن حنضلة بن غسان بن يحيى بن سلامة ابن الطبيب ابن الأشعث فها قد أحياك الله تعالى على يدي علي بن أبي طالب. قال ميثم التمار فنهض غلام أحسن من الشمس أوصافاً ومن القمر أضعافاً، وقال: لبيك لبيك يا حجة الله تعالى على الأنام والمتفرد بالفضل والإنعام. فقال له علي(عليه السلام): من قاتلك؟ فقال: قاتلي عمي الحاسد حبيب بن غسان فقال أمير المؤمنين(عليه السلام): انطلق إلى أهلك يا غلام. قال: لا حاجة بي إلى أهلي. فقال أمير المؤمنين(عليه السلام): ولم؟ قال: أخاف أن اقتل ثانية ولا تكون أنت فمن يحيبني. فالتفت الإمام(عليه السلام) إلى الأعرابي وقال: امض أنت إلى اهلك واخبرهم بما رأيت. فقال الأعرابي: وأنا أيضاً قد اخترت المقام معك إلى أن يأتي الأجل فلعن الله تعالى من انجلى له الحق ووضح وجعل بينه وبين الحق ستراً. فأقاما مع علي(عليه السلام) إلى أن قتلا معه بصفين، وسار أهل الكوفة إلى منازلهم واختلفوا في أقاويلهم فيه (عليه السلام).
أقول: إن هذه المناقب وأمثالها لهي دون مقاماته الحقيقية العالية بمراتب، بل هي أدنى مراتب أمير المؤمنين(عليه السلام)، وأن هذا وأمثاله هو المقدار الذي وصل إلينا منها بعد أن أخفى محبوه فضائله خوفاً وأخفاها مبغضوه حسداً، وما خفي علينا كان أعظم وأعظم بكل تأكيد.
إلا أن اللافت للنظر في الرواية أن هذا الرجل الذي أحياه أمير المؤمنين(عليه السلام) قد استشهد معه في صفين، بمعنى أنه عاش برهة من الزمن بجوار أمير المؤمنين(عليه السلام) فلماذا لم يتم تسليط الضوء عليه في هذه الفترة التي عاشها في الكوفة؟ مع الالتفات إلى أن وجود مثل هذه الحالة في المجتمع تعد من الغرائب بكل تأكيد ولابد من الاهتمام بها، ولا أقل من حرص الناس على السؤال منه والاستماع إليه حول الفترة التي كان فيها ميتاً وماذا رأى وكيف رجع؟! وكيف شعر بأمير المؤمنين(عليه السلام) عندما أحياه؟! إلى غير ذلك من الأمور. ولو وجد مثل ذلك لنقل إلينا ولوصل خبره أكيداً، إلا أن هذا لم يحصل كما هو واضح.
وجواب ذلك من عدة وجوه:
أولاً: إنه عاش هذه الفترة بالقرب من أمير المؤمنين(عليه السلام) بما يمتلكه من شخصية عظيمة ملفتة للنظر بشكل كبير واستثنائي، فهو الذي يستقطب النفوس والقلوب إليه ويجذب الجميع نحوه بشكل كبير، فتهون مع وجوده كل الأمور المهمة والعظيمة، ولو أنها قيست به لتهاوت أمامه وهانت في نظر الناس. وهذا ينبغي أن يكون واضحاً ومجرباً.
ثانياً: إن حياة الإمام مليئة بالكرامات والفضائل، حتى أصبحت مستساغة منه بشكل قد اعتاد الناس عليها. ونحن لا نعلم المقدار الحقيقي الذي ظهر للناس منها ولم يصلنا خبره، ولعله أضعاف ما وصلنا كما هو محل الاطمئنان في ذلك. فتكون هذه الكرامة من عدد كبير من الكرامات ولعل الكثير منها أعظم بكثير.
ثالثاً: إن المشكلة الرئيسية في النقل التأريخي، فإن الكثير من الحوادث قد طويت بشكل كامل ونسيها المؤرخون أو غفلوا عنها، مما أدى إلى أن أجيالنا الحاضرة قد خسرت الكثير منها، مع الالتفات إلى أن الكتابة والتدوين لم يكن بالشكل الذي عليه اليوم من الاتساع والسهولة، بل كانت الأمور بدائية بلا إشكال، وكانت الكثير من الحوادث تحفظ في الصدور، وقد يتلاشى الكثير منها من الذاكرة.
وإننا عندما ندقق في الأمر نجد أن ما وصلنا من الحوادث والمعارف والعلوم والأحاديث لهو مما يلفت النظر في الكثير من الأحيان، كحفظ البعض لأدق التفاصيل وكثيرها، أو نقل بعض الروايات التي تحتوي على الخطب أو الأشعار المرتجلة وغير المدونة. ولكن هذا ما ألقى بظلاله على الكثير الذي ضاع منا ولم يصلنا خبره.
مضافاً إلى الكثير من الحوادث كالحروب وغيرها والتي أتلفت الكثير من المصادر والكتب التاريخية، مما أدى إلى تضييع الكثير من تفاصيل التاريخ.
رابعاً: تعمد بعض الكتب والمؤلفات بإغفال الكثير من هذه الكرامات الواردة عن أهل البيت(عليهم السلام) لقناعات بعض المؤلفين بأنها من الغلو الذي يجب حذفه وعدم الترويج له. أو أنهم يحذفونها مع قناعتهم بها وتصديقهم لها، إلا أنهم يخشون من ردود أفعال القراء لها وأنهم لا يستسيغونها فتسقط أمثال هذه الكتب من نظرهم، وهذا ما لا يريده بعض الكتاب لأنفسهم على أي حال. مع أن الكثير من هذه الأمور التي يعتبرها البعض من الغلو هي أدنى مراتب المعصومين(عليهم السلام).
خامساً: ما لاحظناه في ذيل الرواية حيث تقول: "وسار أهل الكوفة إلى منازلهم واختلفوا في أقاويلهم فيه (عليه السلام)" فإن المشككين في كل جيل يكونون حجر عثرة أمام أهل الحق، ويعملون بمختلف الطرق والأساليب على تعتيم الحقائق، وتكذيبها والطعن فيها، لكي لا تأخذ أثرها في نفوس الجماهير، فيكونون بذلك سبباً كبيراً لإدخال الشك في نفوس الناس وعدم اقتناعهم ببعض الكرامات الصادرة عن أهل البيت(عليهم السلام) والأولياء عموماً.
وعن ابن عباس (رض) قال سمعت رسول الله(صلى الله عليه وآله) يقول: أعطاني الله تعالى خمساً وأعطى علياً خمساً، أعطاني جوامع الكلم وأعطى علياً جوامع العلم، وجعلني نبياً وجعله وصياً، وأعطاني الكوثر وأعطاه السلسبيل، وأعطاني الوحي وأعطاه الإلهام، وأسرى بي إليه وفتح له أبواب السماوات والحجب حتى نظر إلي ونظرت إليه. قال ثم بكى رسول الله(صلى الله عليه وآله)، فقلت له: ما يبكيك يا رسول الله فداك أبي وأمي؟ قال يا بن عباس: إن أول ما كلمني به ربي قال: يا محمد انظر تحتك فنظرت إلى الحجب قد انخرقت وإلى أبواب السماء قد انفتحت، ونظرت إلى علي وهو رافع رأسه إلي فكلمني وكلمته، وكلمني ربي عز وجل. قال فقلت: يا رسول الله بما كلمك ربك؟ قال: قال لي: يا محمد إني جعلت علياً وصيك ووزيرك وخليفتك من بعدك، فاعلمه فها هو يسمع كلامك. فأعلمته وأنا بين يدي ربى عز وجل، فقال لي: قد قبلت وأطعت. فأمر الله تعالى الملائكة يتباشرون به، وما مررت بملأ من ملائكة السماوات إلا هنأوني وقالوا: يا محمد والذي بعثك بالحق نبياً، لقد دخل السرور على جميع الملائكة باستخلاف الله عز وجل ابن عمك. ورأيت حملة العرش قد نكسوا رؤوسهم إلى الأرض فقلت: يا جبرئيل لم نكس حملة العرش رؤوسهم؟ قال: يا محمد ما من ملك من الملائكة إلا وقد نظر إلى وجه علي بن أبي طالب(عليه السلام) استبشاراً به، ما خلا حملة العرش فانهم استأذنوا الله عز وجل في هذه الساعة فأذن لهم فنظروا إلى علي بن أبي طالب(عليه السلام). فلما هبطت جعلت اخبره بذلك وهو يخبرني به، فعلمت أني لم أطأ موطئاً إلا وقد كشف لعلي عنه حتى نظر إليه.
فقال ابن عباس (رض) فقلت: يا رسول الله أوصني فقال: عليك بمودة علي بن أبي طالب والذي بعثني بالحق نبياً، لا يقبل الله تعالى من عبد حسنة حتى يسأله عن حب علي بن أبي طالب وهو بقوله اعلم، فمن مات على ولايته قبل عمله ما كان منه. وان لم يأت بولايته لا يقبل من عمله شيء، ثم يؤمر به إلى النار. يا بن عباس، والذي بعثني بالحق نبياً، إن النار لأشد غضباً على مبغض علي منها على من زعم أن لله ولداً، يا بن عباس لو أن الملائكة المقربين والأنبياء والمرسلين اجتمعوا على بغض علي بن أبي طالب مع ما يقع من عبادتهم في السماوات لعذبهم الله تعالى في النار. قلت: يا رسول الله وهل يبغضه أحد؟ قال: يا بن عباس نعم يبغضه قوم يذكر انهم من أمتي لم يجعل الله لهم في الإسلام نصيباً، يا ابن عباس إن من علامة بغضهم له تفضيلهم لمن هو دونه عليه، والذي بعثني بالحق نبياً ما بعث الله نبياً اكرم عليه مني ولا وصياً أكرم عليه من وصيي.
قال ابن عباس: فلم أزل له كما امرني رسول الله(صلى الله عليه وآله) وأوصاني بمودته، وانه لأكبر عملي عندي.
قال ابن عباس: ثم مضى من الزمان ما مضى وحضرت رسول الله(صلى الله عليه وآله) الوفاة فقلت: فداك أبي وأمي يا رسول الله وقد دنا أجلك فما تأمرني؟ قال: يا ابن عباس خالف من خالف علياً، ولا تكونن لهم ظهيراً ولا ولياً. قلت: يا رسول الله ولم لا تأمر الناس بترك مخالفته؟ قال فبكى (صلى الله عليه وآله) ثم قال: يا ابن عباس سبق فيهم علم ربي، والذي بعثني بالحق نبياً لا يخرج أحد ممن خالفه من الدنيا وأنكر حقه حتى يغير الله تعالى ما به من نعمة، يا ابن عباس إذا أردت أن تلقى الله تعالى وهو عنك راض فاسلك طريقة علي بن أبي طالب ومل معه حيث مال، ارض به إماماً وعاد من عاداه ووال من والاه، يا بن عباس إحذر من أن يدخلك شك فيه فان الشك في علي كفر بالله تعالى.
أقول: في الرواية الكثير من الأمور أذكر منها أمرين:
أولاً: إن هذه المقامات التي وصل لها رسول الله(صلى الله عليه وآله) عندما عرج به ذلك العروج المعنوي في مراتب التكامل العالي، قد انكشفت لأمير المؤمنين(عليه السلام) حتى قال النبي(صلى الله عليه وآله): "فعلمت أني لم أطأ موطئاً إلا وقد كشف لعلي عنه حتى نظر إليه" لأنه يطيق كل ذلك، لوجود الاستعداد والقابلية العالية لهذه المعارف والعلوم، ولأنه نفس النبي(صلى الله عليه وآله) لقوله تعالى: "وأنفسنا وأنفسكم" فهو عينه ونفسه في تلك القمة الشاهقة والتي هي فوق الدنيا والآخرة، ولما ورد عنه(عليه السلام) في نهج البلاغة: "ولقد كنت أتبعه اتباع الفصيل أثر أمه، يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علماً ويأمرني بالاقتداء به. ولقد كان يجاور في كل سنة بحراء فأراه ولا يراه غيري. ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول الله(صلى الله عليه وآله) وخديجة وأنا ثالثهما. أرى نور الوحي والرسالة، وأشم ريح النبوة. ولقد سمعت رنة الشيطان حين نزل الوحي عليه (صلى الله عليه وآله) فقلت: يا رسول الله ما هذه الرنة؟ فقال: هذا الشيطان أيس من عبادته. إنك تسمع ما أسمع وترى ما أرى إلا أنك لست بنبي. ولكنك وزير وإنك لعلى خير".
ثانياً: إننا سمعنا في الرواية قول ابن عباس: "يا رسول الله ولم لا تأمر الناس بترك مخالفته؟ قال فبكى (صلى الله عليه وآله) ثم قال: يا ابن عباس سبق فيهم علم ربي" ومعنى ذلك بحسب ما أفهم أن النبي(صلى الله عليه وآله) يتعمد أن يكون على الحق شيء من التعتيم إلا لمن يستحق، لكي لا يكون الإيمان بالحق سهلاً وميسوراً لمن لا يستحق، وإنما لابد من أن يبذل الفرد الجهد اللازم، وأن يقدم المقدمات التي تنتج الإيمان الممحص والذي يحصل عليه الفرد من بعد التعب والعناء. وكما قال تعالى: "ولكن ليقضي الله أمراً كان مفعولاً ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيَّ عن بينة وإن الله لسميع عليم".
وعن جابر الجعفي، عن أبي جعفر محمد الباقر(عليه السلام) عن جابر بن عبد الله الأنصاري (رض) قال: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): إن جبرئيل نزل علي وقال: يا محمد إن الله تعالى يأمرك أن تقوم بتفضيل علي بن أبي طالب خطيباً على المنبر ليبلغوا من بعدهم ذلك عنك، ويأمر جميع الملائكة أن يسمعوا ما تذكره والله يوحي إليك: يا محمد إن من خالفك في أمرك فله النار، ومن أطاعك فله الجنة. فأمر النبي(صلى الله عليه وآله) منادياً نادى بالصلاة جامعة، فاجتمع الناس وخرج النبي(صلى الله عليه وآله) ورقى المنبر وكان أول ما تكلم به أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم ثم قال (صلى الله عليه وآله): أيها الناس أنا البشير أنا النذير أنا النبي الأمي، وأنا مبلغكم عن الله عز وجل في رجل لحمه لحمي ودمه دمي وهو عيبة علمي، وهو الذي انتخبه الله تعالى من هذه الأمة واصطفاه وهذبه وتولاه، وخلقني وإياه من نور واحد، وفضلني بالرسالة وفضله بالإمامة والتبليغ عني، وجعلني مدينة العلم وجعله الباب، خازن العلم والمفتش منه الأحكام، وخصه بالوصية وأبان أمره وخوف من عدوانه، وأزلف لمن والاه وغفر لشيعته وأمر الناس جميعا بطاعته، وانه عز وجل يقول: من عاداه عاداني ومن والاه والاني ومن آذاه آذاني ومن ناصبه ناصبني ومن خالفه خالفني ومن ابغضه ابغضني ومن أحبه احبني ومن أراده أرادني ومن كاده كادني ومن نصره نصرني. أيها الناس اسمعوا لما آمركم به وأطيعوه فأنا أخوفكم عقاب الله تعالى يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً، ويحذركم الله نفسه، ثم اخذ بيد علي بن أبي طالب(عليه السلام) وقال: معاشر الناس هذا مولى المؤمنين وحجة الله على الخلق أجمعين، اللهم إني قد بلغت وهم عبادك وأنت القادر على صلاحهم فأصلحهم برحمتك يا ارحم الراحمين، استغفر الله لي ولكم. ثم نزل عن المنبر فاتاه جبرئيل(عليه السلام) فقال: يا محمد إن الله تعالى يقرئك السلام، ويقول لك: جزاك الله تعالى عن تبليغك خيراً، فقد بلغت رسالات ربك ونصحت لأمتك وأرضيت المؤمنين وأرغمت الكافرين، يا محمد إن ابن عمك مبتلى ومبتلى به، يا محمد قل في كل أوقاتك الحمد الله رب العالمين وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون والحمد لله حق حمده.
أقول: نستنتج من الرواية عدة أمور:
منها: إن هذا الأمر الذي وجه لرسول الله(صلى الله عليه وآله) من قبل الباري جل وعلا، لعلمه تعالى بتكذيب الكثير من الناس لهذه الفضائل، وتعمدهم بتقديم المفضول على الفاضل، فيكون التأكيد على إظهار منزلة أمير المؤمنين(عليه السلام) بهذا الشكل لإلقاء الحجة البالغة على كل مفتر كذاب.
ومنها: إنه على الرغم من المصالح المهمة المرتبطة بإذعان المجتمع لأمير المؤمنين(عليه السلام) واتباعه، إلا أن الأمر لم يكن بالإكراه كما قال تعالى: "لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي" ولأن التربية الحقيقية، والتي تنتج النتائج المهمة والمطلوبة، إنما تكون مع حفظ الاختيار للفرد حال تكليفه بالطاعة.
جعلنا الله تعالى وإياكم من المتمسكين بولايته والسائرين على نهجه الحق.
ضوابط المشاركة
- لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
- لا تستطيع الرد على المواضيع
- لا تستطيع إرفاق ملفات
- لا تستطيع تعديل مشاركاتك
-
قوانين المنتدى
|
 |