[align=center]درس لبناني لعسكر أميركا [/align]
بقلم :د. عمار علي حسن
لا تزال ذاكرتنا جميعا محتشدة باللقطات المتتابعة لطائرة «الشبح» الأميركية، وهي تحلق طليقة في سماء العراق، دون أي اعتناء بالصواريخ المطاردة، أو بالأهداف المتحركة المراوغة. تلك الطلاقة، وذلك التحليق، الذي لم يهدأ طيلة أيام حرب إخراج العراق من الكويت،
كان يغطي تماما على ما يجري في أرض الواقع، في محاولة لحسم المعركة مبكرا عبر«الصورة»، التي جرفت أمامها، في الوقت نفسه، سيل الكلمات المسموعة والمقروءة التي تصف الحرب، وتسهب جاهدة في تبيان تفاصيل، لم يقطع أحد، إلى الآن، بدقتها.
ومنذ هذه اللحظة الفارقة في التاريخ المعاصر، والتي شهدت ميلاد ما يسمى «النظام الدولي الجديد»، بات طريق الأميركان إلى الحروب سهلا يسيرا، فجربوه بعدها في يوغوسلافيا السابقة، فأوسعوا جيشها قصفا وضربا من الجو،
وسخروا من دفاعاته الجوية التي ظهرت عاجزة مشلولة أمام القدرة الجوية الأميركية الكاسحة، حتى تزعزعت أركان الجيش اليوغوسلافي ووهنت قدرته وضعفت قبضة الرئيس سلوبودان ميلوسوفيتش على زمام الحكم، فأفلتت الأمور من يده، وسيق ذليلا إلى محكمة لاهاي، وظل حبيس الجدران حتى وافته المنية.
وعاد الأميركيون ليجربوا الطريقة نفسها في حرب أفغانستان، فانطلقت الطائرات تدك حصون طالبان وحليفها «تنظيم القاعدة»، وكانت حصونا وقلاعا هشة، فنثرتها القذائف الصاروخية الصاعقة، كريش في يوم عاصف. ولولا أن اعتصم فلول طالبان والقاعدة بكهوف جبال أفغانستان الوعرة لقضت عليهم آلة الحرب الأميركية، بعد أن نزلت على الأرض، مستفيدة من جيش «تحالف الشمال» المناوئ لطالبان، الذي زحف في يسر إلى كابول.
ثم جاء الدور على العراق مرة أخرى. فليلة العشرين من مارس 2003 انطلقت صواريخ كروز وتوماهوك من البارجات الأميركية، ورافقتها غارات الطيران، التي قام بآلاف الطلعات على أراضي العراق من أم قصر إلى زاخو، ثم بدأ الهجوم البرى، الذي وجد أمامه جيشا منهكا بفعل الضربات الجوية القوية والمركزة.
ورغم أن الأميركيين والبريطانيين واجهوا في طريقهم مقاومة عنيفة في بعض المواقع، إلا أن قوات المارينز دخلت بغداد بعد ثلاثة أسابيع فقط من بدء الحرب، وواصلت زحفها شمالا للتخلص من بقية الجيش العراقي في تكريت والموصل، حتى سقطت بلاد الرافدين في براثن المحتلين.
الطريقة نفسها جربتها إسرائيل في حربها هذه ضد لبنان، فالطائرات التي شاركت في المعركة أميركية الصنع، تماثل تلك التي ضربت العراق وأفغانستان ويوغوسلافيا، والحرب ذاتها اكتشف العالم كله بعد اندلاعها بأيام قلائل أنها حرب أميركية بأياد إسرائيلية.
وعن بعد أدارت واشنطن المعركة خطوة بخطوة، وتابعت نتائجها على الأرض يوما بيوم. بدأت إسرائيل، التي يتولى رئاسة أركانها ضابط من سلاح الجو، بضرب مطار بيروت والجسور التي تربط لبنان بالعالم الخارجي، ثم قطعت أوصال البلاد،
وعزلت جنوب الليطاني عن الشمال، وسط حصار بحري وجوي صارمين. لكن هذا الضرب المبرح، وغير المبرر، لم يحقق الهدفين اللذين أعلنتهما تل أبيب مع انطلاق شرارة المعركة، وهما إعادة الجنديين الأسيرين من دون قيد ولا شرط، ونزع سلاح حزب الله. واضطرت إسرائيل إلى النزال البري، المترافق بمساندة جوية مناسبة.
وهنا كانت المفاجأة الكبرى، التي أسقطت نظرية الحرب الأميركية تماما. فرجال حزب الله أقاموا تحصينات منيعة، وربضوا لجنود إسرائيل في كل مكان، وباغتوهم كأشباح الليل، خارجين من الحفر البرميلية والكهوف، منتشرين في التلال والوديان، وأزقة القرى.
وكانت تصويباتهم دقيقة، فأسقطوا في أسبوعين دبابات أنتجتها المصانع الإسرائيلية في عامين كاملين، وتمكنوا من قتل وجرح المئات من صفوف جيش الغزاة، والأهم بثوا الرعب في قلوبهم، وجعلوا أبصارهم تزوغ، لا تستقر على مكان، ولا ترى ما تراه القيادة السياسية المتغطرسة، التي امتلك الغرور ناصيتها فظنت أن الجيش سيكون في نزهة بين قرى لبنان الجميلة، وأنه سيتمكن بعد ساعات من كسر إرادة حزب الله، ومعه لبنان كله، إلى الأبد.
وما صنعته المقاومة اللبنانية يعد معجزة عسكرية بكل المقاييس، ستحدث ثورة في التفكير الاستراتيجي لدول المنطقة والعالم برمته، وستجعل الأميركيين يفكرون ألف مرة في طريقتهم الحربية التي تعتمد على التفوق الجوي الكاسح، وعلى النقيض ستهدي الدول التي قد تجد نفسها بلحظة ما في مواجهة المارينز طريقة ملهمة للتحدي والصمود والانتصار.
مدير مركز أبحاث ودراسات الشرق الأوسط ـ القاهرة