|
-
أهل البيت (ع) تنوع أدوار ووحدة هدف للسيد الشهيد الصدر (قدس)
[align=center]المحاضرة الاولى
بسم اللّه الرحمن الرحيم
ليلة جرح الامام عليه السلام
19/ شهر رمضان / 1388 هجري
هذه الليلة........
ذكرى أشأم ليلة بعد يوم توفي فيه رسول اللّه (ص) فاليوم الذي توفي فيه رسول الله (ص) كان اليوم الذي خلف فيه النبي (ص) تجربته الاسلامية في مهب القدر، في رحبة المؤامرات التي اتت عليها بعد برهة من الزمن واليوم الذي اغتيل فيه الامام امير المؤمنين عليه السلام كان اليوم الذي قضى على اخر امله في اعادة خط تلك التجربة الصحيحة، هذا الامل الذي كان لا يزال يعيش في نفوس المسلمين الواعين متجسدا في شخص هذا الرجل العظيم، الذي عاش منذ اللحظة الاولى هموم الدعوة وآلامها و اكتوى بنارها و شارك في بنائها لبنة لبنة..... واقام صرحها مع استاذه (ص) مدماكاً فوق مدماك .
هذا الرجل الذي كان يعبر عن كل هذه المراحل بكل همومها .... ومشاكلها وآلامها ....
هذا الرجل هو الذي كان يمثل هذا الامل الوحيد الذي بقي للمسلمين الواعين في ان تسترجع التجربة خطها الواضح الصريح واسلوبها النبوي المستقيم.... حيث ان الانحراف في اعماق هذه التجربة كان قد طغى وتجبر واتسع بحيث لم يكن هناك أي امل في ان يقهر هذا الانحراف.... اللهم الا على يد رجل واحد كعلي بن ابي طالب (ع) ولهذا كانت حادثة اغتيال هذا الامام العظيم.... حينما خر صريعا في مثل هذه الليلة تقويضاً حقيقياً لآخر
أمل حقيقي في قيام مجتمع اسلامي صحيح على وجه الارض الى يوم غير معلوم، وأجل غير محدود.
كان هذا الاغتيال المشؤوم عقيب حكم مارسه الامام (ع) طيلة أربع أو خمس سنوات تقريباً حيث بدأ منذ اللحظة الاولى لتسلم زمام الحكم عقلية التغيير الحقيقية في كيان هذه التجربة المنحرفة وواصل سعيه في سبيل انجاح عملية التغيير واستشهد، وخر صريعاً بالمسجد وهو في قمة هذه المحاولة أو في آخر محاولة انجاح عملية التغيير وتصفية الانحراف الذي كان قد ترسخ في جسم المجتمع الاسلامي متمثلاً في معسكر منفصل عن الدولة الاسلامية الام.
والظاهرة الواضحة في هذه الاربع او الخمس سنوات التي مارس فيها الامام (ع) عملية الحكم هي وإلى ان خر صريعاً في سبيل اقامة عدل الله على الأرض، كان غير مستعد بأي شكل من الاشكال وفي أي صيغة من الصيغ لتقبل انصاف الحلول بالنسبة الى تصفية هذا الانحراف أو لتقبل أي معنى من معاني المساومة أو المعاملة على حساب هذه الامة التي كان يرى بكل حرقة وألم انها تهدر كرامتها وتباع بأرخص ثمن.
هذه الظاهرة تسترعي الانتباه سياسياً من ناحية وتسترعي الانتباه فقهياً من ناحية اخرى:
- اما من الناحية السياسية فقد استرعت انتباه اشخاص معاصرين للامام (ع) واسترعت انتباه اشخاص حاولوا ان يحللوا ويدرسوا حياة الامام (ع) .
فقد لوحظ على الامام عليه افضل الصلاة والسلام: ان عدم تقبله بأي شكل من الاشكال لهذه المساومات وانصاف الحلول كأن يُعَقّدُ عليه الموقف ويثير أمامه الصعاب ويرسخ المشاكل ويجعله عاجزاً عن مواجهته لمهمته السياسية والمضي بخط تجربته الى حيث يريد.
فمثلاً: ذاك الشخص الذي جاء اليه بعقلية هذه المساومات واقترح عليه ان يبقي معاوية بن ابي سفيان والياً على الشام برهة من الزمن قائلاً: إن بإمكانك ابقاء معاوية والياً على الشام برهة من الزمن وهو في هذه الحالة سوف
يخضع ويبايع وبعد هذا يكون بامكانك استبداله او تغييره بأي شخص آخر بعد أن تكون قد استقطبت كل اطراف الدولة وقد تمت لك البيعة والطاعة في كل ارجاء العالم الاسلامي، فاشتر بإبقاء هذا الوالي او ذلك الوالي، هذا الحاكم او ذلك الحاكم، بابقاء هذه الثروات المحرمة في جيب هذا السارق او في جيب ذلك السارق برهة من الزمن ثم بعد هذا يمكنك ان تصفي كل هؤلاء الولاة الفجرة وترجع كل هذه الثروات المحرمة الى بيت المال.
فالامام (ع) في جواب هذا الشخص، رفض هذا المنطق واستمر في خطه السياسي يرفض كل مساومة ومعاملة من هذا القبيل، ومن هنا قال معاصروه، وقال غير معاصريه انه كان بامكانه ان يسجل نجاحاً كبيراً، وان يحقق توفيقاً من الناحية السياسية اكثر، لو انه قبل انصاف الحلول، ولو انه مارس هذا النوع من المساومات ولو بشكل مؤقت.
- اما من الناحية الفقهية فهي ناحية التزاحم، الفقه يقول: بانه اذا توقف واجب اهم على مقدمة محرمة فلا بد من الحفاظ على ذلك الواجب الاهم وفي سبيل حرمة المقدمة لا يجوز تبرير ترك الواجب الاهم حينما يقال ذلك اذا توقف انقاذ نفس محترمة من الغرق على اجتياز ارض مغصوبة لا يرضى صاحبها باجتيازها فلا بد من اجتيازها حيث تسقط هنا حرية هذا المالك وعدم رضاه، لأن النتيجة اهم من هذه المقدمة، كما فعل رسول الله (ص) في بعض غزواته مثالاً مشابهاً لهذا المثال، حيث كان الجيش الاسلامي مضطراً الى الخروج من المدينة عن طريق معين، وهذا الطريق كان فيه مزرعة لأحد الصحابة، وكان لا بد للجيش حينما يمر على هذه المزرعة وبحكم طبيعة مروره كجيش من ان يتلف كثيراً من محاصيل هذه المزرعة ويصيبها باضرار فصاحب المزرعة ما هان عليه ان يقدم هذه الاضرار في سبيل الله وفي سبيل الرسالة.... احتج على ذلك وصرخ ثم جاء الى رسول الله (ص) فقال: مزرعتي ومالي، فلم يجبه رسول الله (ص) واصدر اوامره الى الجيش، فمشى في هذه المزرعة حتى لم يبق في هذه المزرعة شيء مما كان يخاف تلفه صاحب المزرعة الا وتلف.
كل ذلك لان النتيجة كانت اهم من المقدمة كان هذا الجيش يسير لأجل
ان يغير وجه الدنيا ولأجل تغيير وجه الدنيا اذا تلفت مزرعة، اذا ضاعت هناك ثروة صغيرة لشخص، في سبيل ان يحفظ مقياس توزيع الثروات في العالم على الخط الطويل الطويل، فهذا أمر صحيح ومعقول من الناحية الفقهية فمن الناحية الفقهية دائماً يقرر ان الواجب اذا توقف على مقدمة محرمة وكان ملاك الواجب اقوى من ملاك الحرمة: فلا بد ان يقدم الواجب على الحرام.
وعلى هذا الضوء حينئذ تثار هذه القضية في هذه الظاهرة التي استوضحناها في حياة امير المؤمنين (ع) كحاكم .
وهي انه لماذا لم يطبق هذه القاعدة في سبيل استباحة كثير من المقدمات المحرمة، أليس اجماع الرأي عليه، أليس تملكه زمام قيادة مجتمع اسلامي، أليس هذا امراً واجباً محققاً لمكسب اسلامي كبير، لانه هو الذي سوف يفتح ابواب الخيرات والبركات ويقيم حكومة الله على الارض.... ؟؟؟
اذن فلماذا في سبيل تحقيق هذا الهدف اذا توقف هذا الهدف على مقدمة محرمة من قبيل امضاء ولاية معاوية بن أبي سفيان برهة من الزمن، أو إمضاء الاموال المحرمة التي نهبها آل امية، او غيرهم من الاسر التي وزع عليها عثمان بن عفان اموال المسلمين.... ؟؟
لماذا لا يكون السكوت مؤقتاً عن غير هذا النهب والسلب مقدمة للواجب الأهم.
ولماذا لا يكون جائزاً حينئذ على اساس توقف الواجب الاهم على ذلك... ؟؟
الواقع هو ان الامام (ع) كان لا بد له ان ينهج هذا الطريق ولم يكن بامكانه كقائد رسالي يمثل الاسلام واهدافه لم يكن بامكانه ان يقبل هذه المساومات وانصاف الحلول ولو كمقدمة وليس قانون باب التزاحم الفقهي هنا صالحاً للانطباق على موقف امير المؤمنين (ع) وذلك بعد اخذ النقاط التالية بعين الاعتبار:
النقطة الاولى: انه لا بد وان يلحظ في المقام ان امير المؤمنين (ع) كان
يريد ان يرسخ قاعدة سلطانه في قطر جديد من اقطار العالم الاسلامي وهذا القطر هو العراق.
وكان شعب العراق وابناء العراق مرتبطين روحياً وعاطفباً مع الامام (ع) ولكن لم يكن شعب العراق ولا أبناء العراق يعون رسالة علي (ع) وعياً حقيقياً كاملاً، ولهذا كان الامام بحاجة الى أن يبني تلك الطليعة العقائدية، ذلك الجيش العقائدي الذي يكون اميناً على الرسالة واميناً على الاهداف وساعداً له ومنطلقاً بالنسبة الى ترسيخ هذه الاهداف في كل ارجاء العالم الاسلامي .
والامام (ع) لم يكن يملك هذه القاعدة بل كان بحاجة الى ان يبنيها اذن كيف يبني هذه القاعدة؟
هل يمكن ان يبني هذه القاعدة في جو من المساومات وانصاف الحلول؟ حتى لو كانت هذه المساومات وانصاف الحلول جائزة شرعاً الا ان جوازها الشرعي لا يؤثر في هذه الحقيقة النفسية الواقعية شيئاً وهي ان شخصاً لا يمكن ان يعيش في جو من المساومات وانصاف الحلول فيكتسب روحية أبي ذر أو يكتسب روحية عمار بن ياسر، روحية الجيش العقائدي الواعي البصير بأن المعركة ليست للذات وانما هي للأهداف الكبيرة التي هي أكبر من الذات.
هذه الروحية لا يمكن ان تنمو ولا يمكن لعلي (ع) ان يخلقها في من حوله في حاشيته وفي أوساطه وقواعده الشعبية، في جو من المشاحنات والمساومات وانصاف الحلول حتى لو كانت جائزة... ان جوازها لايغير من ملدلوها التربوي شيئاً ولا من دورها في تكوين نفسية هذا الشخص بأي شكل من الأشكال...
اذن فالامام (ع) كان امامه حاجة ملحة حقيقية في بناء دولته الى قاعدة شعبية واعية يعتمد عليها في ترسيخ الاهداف في النطاق الاوسع وهذه القاعدة الشعبية لم تكن جاهزة له حينما تسلم زمام الحكم حتى يستطيع ان يتفق معها.
على ان هذه المساومات وانصاف الحلول انها ضرورات استثنائية لاتوجب الانحراف عن ذلك الخط... انما كان على علي (ع) ان يبني ذلك الجيش العقادي كان على علي (ع) ان ينتزع الخيّر الخيّر الطيّب الطيّب من جماعته وحاشيته العراقيين لكي يشكل منهم كتلة واعية من قبيل مالك الاشتر وغيره وهؤلاء لم يكن بالامكان ممارسة بناء نفسي وروحي وفكري وعاطفي حقيقي لهم في جو مليء بالمساومات وانصاف الحلول... كانت المساومات وانصاف الحلول نكسة بالنسبة الى عملية التربية لهذا الجيش العقائدي وكان فقدان هذا الجيش العقائدي يعني فقدان القوة الحقيقية التي يعتمد عليها الامام (ع) في بناء دولته لأن أي دولة عقائدية بحاجة الى طليعة عقائدية تستشعر بشكل معمق وموسع أهداف الدولة وواقع أهميتها وضرورتها التاريخية ولهذا كان لا بد من الحفاظ على صفاء وطهر عملية التربية لبناء هذا الجيش العقائدي كان لا بد لآلاف من مالك الاشتر ان يشهدوا إنساناً لا تزعزعه المغريات ولا يتنازل الى أي نوع من انواع المساومات حتى يستطيعوا من خلال حياة هذا الرجل العظيم ان يتبينوا المدلول الرسالي الكامل لأطروحته الابعاد الواسعة للصيغة الاسلامية للحياة اذن فكان على علي (ع) لأجل ممارسة عملية التربية لبناء هذا الجيش العقائدي كان لا بد له ان يترفع عن هذه المساومات والحلول الوسط، لكي يستطيع ان يخلق ذلك الجو الرفيع نفسياً وفكرياً وروحياً والذي سوف ينشأ في داخله وفي اعماقه... جيل يستطيع ان يحتضن أهداف أمير المؤمنين (ع) ويضحي من أجلها في حياته وبعد وفاته...
النقطة الثانية: لا بد من الالتفات ايضاً الى أن أمير المؤمنين (ع) جاء في أعقاب ثورة، ولم يجئ في حالة اعتيادية، ومعنى ذلك ان البقية الباقية من العواطف الاسلامية، كل هذه العواطف تجمعت، ثم ضغطت، ثم انفجرت في لحظة ارتفاع... وماذا ينتظر القائد الرسالي غير لحظة ارتفاع في حياة امة، لكي يستطيع أن يستثمر هذه اللحظة في سبيل اعادة هذه الامة الى سيرها الطبيعي...
كان لا بد للامام (ع) ان يستثمر لحظة الارتفاع الثورية هذه، لأن المزاج النفسي والروحي وقتئذ لشعوب العالم الاسلامي، لم يكن ذاك المزاج الاعتيادي الهادئ الساكن لكي يمشي حسب مخطط تدريجي ، وانما كان هو
المزاج الثوري الذي استطاع ان يرتفع الى مستوى قتل الحاكم والاطاحة به، لانه انحرف عن كتاب الله وسنة نبيه (ص) اذن هذا الارتفاع الذي وجد في لحظة في حياة الامة الإسلامية لم يكن من الهين إعادته وبعد ذلك كان لا بد للحاكم الذي يستلم زمام المسؤولية في مثل هذه اللحظة ان يعمق هذه اللحظة ان يمدد هذه اللحظة، أن يرسخ المضمون العاطفي والنفسي في هذه اللحظة عن طريق هذه الاجراءات الثورية التي قام بها أمير المؤمنين..
لو ان الامام علي (ع) أبقى الباطل مؤقتاً وأمضى التصرفات الكيفية التي قام بها الحكام من قبل، لو أنه سكت عن معاوية وسكت عن أحزاب أخرى مشابهة لمعاوية بن أبي سفيان إذن لهدأت العاصفة ولانكمش هذا التيار العاطفي النفسي، وبعد انكماش هذا التيار العاطفي وهدوء تلك العاصفة سوف لن يكون بمقدور الامام (ع) ان يقوم بمثل هذه الاجراءات.
النقطة الثالثة: ولا بد ايضاً من الالتفات الى نقطة هي: ان الامام (ع)، كان حريصاً على ان تدرك الامة كأمة أن واقع المعركة بينه (ع) وبين خصومه، بينه وبين معاوية ليست معركة بين شخصين، بيد قائدين، بين قبيلتين، وانما هي معركة بين الإسلام والجاهلية.
كان حريصاً على ان يفهم الناس أن واقع المعركة هو واقع المعركة بين رسول الله (ص) والجاهلية التي حاربته في بدر واُحد وغيرهما من الغزوات وكان هذا الحرص سوف يمنى بنكسة كبيرة لو أنه (ع) أقر معاوية، وأقر مخلفات عثمان السياسية والمالية، لو أنه أقر هذه المخلفات ولو الى برهة من الزمن اذن لترسخ في اذهان الناس، وفي اذهان المسلمين بشكل عام شك في ان القضية ليست قضية رسالية وانما هي قضية اهداف حكم، اذا انسجمت مع واقع هذه المخلفات فتلغي هذه المخلفات ذلك الشك الذي نما عند الامة في أمير المؤمنين (ع) بالرغم من انه لم يكن يوجد له أي مبرر موضوعي وانما المبرر كانت له مبرراته الذاتية بالرغم من انه لم يكن يوجد أي مبرر موضوعي لشك، وبالرغم من ان المبرر الوحيد للشك كان مبرراً ذاتياً وبالرغم من هذا استفحل هذا الشك وقرر، وامتحن هذا الامام العظيم (ع) بهذا الشك ومات واستشهد والامة شاكة... ثم استسلمت الامة بعد هذا وتحولت الى
كتلة هامدة بين يدي الامام الحسن (ع) هذا كله بالرغم من أن الشك لم يكن له مبرر موضوعي فكيف اذا افترضنا ان الشك وجدت له مبررات موضوعية بحسب الصورة الشكلية.
كيف لو ان المسلمين رأوا ان علي بن أبي طالب (ع) الذي هو رمز الاطروحة ورمز الاهداف الرسالية هذا الشخص يساوم ويعمل ويبيع الامة ولو مؤقتاً مع خيار الفسخ.
كيف يمكن للأمة ان تدرك الفرق بين بيع بلا خيار الفسخ وبين بيع يكون فيه خيار الفسخ إن البيع على أي حال طبيعته هو البيع وأمير المؤمنين (ع) كانت مهمته الكبرى هي أن يحافظ على وجود الامة على ان لا تتنازل الامة عن وجودها.
الامة التي قالت لعمر بن الخطاب، لأكبر خليفة تولى الحكم بعد رسول الله (ص)، اذا انحرفت عما نعرف من أحكام الله وسنة رسوله (ص) نقوِّمك بسيوفنا، هذه الامة التي قالت هذه الكلمة بكل شجاعة لأكبر خليفة بعد رسول الله (ص) كانت قد بدأت تتنازل عن وجودها او بتعبير آخر كانت هناك مؤامرات عليها لكي تتنازل عن وجودها، وكان على علي بن ابي طالب (ع) ان يحافظ على هذه الامة، ويحصنها ضد أن تتنازل عن وجودها، عملية التنازل عن الوجود كان يمثلها معاوية بن أبي سفيان، وجذور معاوية في تاريخ الاسلام، هذا الذي عبر عنه وقتئذ، بأن الاسلام أصبح هرقلية وكسروية الهرقلية والكسروية كان يكنى بها عن تنازل الامة عن وجودها، يعني تحولت التجربة الاسلامية من أمة تحمل رسالة الى ملك وسلطان يحمل هذه الرسالة بمستوى وعيه لهذه الرسالة واخلاصه لهذه الرسالة سلباً وايجاباً، هذه المؤامرة الكبيرة التي نجحت بعد هذا والتي توجت بكل
المآسي والمحن والكوارث التي كانت ولاتزال الى يومنا هذا هي نتيجة تنازل الامة عن وجودها، نتيجة خداع الامة، وتحجيمها او الضغط عليها حتى تنازلت عن وجودها في عقد لا يقبل الفسخ...
أمير المؤمنين (ع) كان يريد وقد أدرك الامة في اللحظات الاخيرة من وجودها المستقل، أن يمدد هذا الوجود المستقل أن يشعر الامة بأنها ليست
سلعة تباع وتشترى، أنها ليست شيئاً يساوم عليها، اذن كيف يشعرها بأنها ليست سلعة تباع وتشترى، اذا كان هو يبيعها ويشتريها، ولو في عقود قابلة للفسخ؟
كيف يستطيع أن يشعر الأمة بأنها لا تباع ولا تشترى، ليست وفق رغبات السلاطين وليست وفق رغبات الحكام، وانما تمثل خلافة الله في الارض، لأجل أن تحقق أهداف هذه الخلافة في الارض.
كيف يمكن ان يفهم الامة ذلك اذا كان هو يبيع قطاعات من هذه الامة لحكام فجرة من قبيل معاوية بن أبي سفيان، في سبيل ان يسترجع هذه القطاعات بعد ذلك.
بطبيعة الحال كان هذا معناه مواكبة المؤامرة التي كان روح العصر يتفجر او يتمخض عن مثلها والتي كان أمير المؤمنين (ع) واقفاً لأجل ان يحبطها وينقذ الامة منها، وحينئذ لايمكن بحال من الاحوال ان نفترض ان الامام (ع) يساهم في حبك هذه المؤامرة.
النقطة الرابعة والاخيرة: هي ان علي بن أبي طالب (ع) لم يكن يتعامل مع الفترة الزمنية القصيرة التي عاشها فقط، وانما كان يحمل هدفاً أكبر من ذلك، أمير المؤمنين (ع) كان يحس بأنه قد أدرك المريض وهو في آخر مرضه، قد أدركه حيث لا ينفع العلاج ولكنه كان يفكر في ابعاد أطول وأوسع للمعركة.
لم يكن يفكر فقط في الفترة الزمنية التي عاشها وانما كان يفكر على مستوى اخر أوسع وأعمق، هذا المستوى يعني أن الاسلام كان بحاجة الى ان تقدم له في خضم الانحراف بين يدي الأمة أطروحة واضحة صريحة نقية لا شائبة فيها ولا غموض، لا التواء فيها ولا تعقيد، لا مساومة فيها ولا نفاق ولا تدجيل.
لماذا..؟ لأن الامة كتب عليها ان تعيش الحكم الاسلامي المنحرف منذ نجحت السقيفة في اهدافها اذن فالاسلام الذي تعطيه السقيفة امتدادها التاريخي هذا الاسلام اسلام مشوه ممسوخ اسلام لا يحفظ الصلة العاطفية فضلاً عن الفكرية بين الامة ككل وبين الرسالة، بين أشرف رسالات السماء وأشرف
أمم الارض لا يمكن أن يحفظ هذه الصلة العاطفية والروحية بين الامة الاسلامية وبين الاسلام على اساس هذا الاسلام المعطى لهرون الرشيد، ولمعاوية بن أبي سفيان، ولعبد الملك بن مروان، هذا الاسلام لا يمكن ان يحفظ هذه الصلة فكان لا بد لحفظ هذه الصلة بين جماهير الامة الاسلامية وبين هذه الرسالة، من إعطاء صورة واضحة محدودة للاسلام وهذه الصورة اعطيت نظرياً على مستوى ثقافة أهل البيت (ع) وأعطيت عملياً على مستوى تجربة الامام (ع) فكان الامام (ع) في تأكيده على العناوين الاولية في التشريع الاسلامي، وفي تأكيده على الخطوط الرئيسية في الصيغة الاسلامية للحياة كان في هذا يريد ان يقوم المنهاج الاسلامي واضحاً غير ملوّث بلوثة الانحراف التي كتبت
على تاريخ الاسلام مدة طويلة من الزمن وكان لا بد لكي يتحقق هذا الهدف من ان يعطي هذه التجربة بهذا النوع من الصفاء والنقاء والوضوح دون ان يعمل ما اسميناه بقوانين باب التزاحم...
وهكذا كان وظل الامام (ع) صامداً مواجهاً لكل المؤامرات التي كانت الامة تساهم في صنعها وفي حياكتها على اساس جهلها وعدم وعيها وعدم شعورها بالدور الحقيقي الذي يمارسه عليه السلام في سبيل حماية وجودها من الضياع وحماية كرامتها من ان تتحول الى سلعة تباع وتشترى حتى خر صريعاً على يد شخص من هذه الامة التي ضحى في سبيلها... خر صريعاً في المسجد فقال:
فزت ورب الكعبة...
لنحاسب علياً وهو في آخر لحظة من لحظات حياته (ع) حينما قال: فزت ورب الكعبة.
هل كان علي أسعد انسان او اتعس انسان..؟
هنا مقياسان:
فتارة نقيس علياً (ع) بمقياس الدنيا.
وأخرى نفيس علياً بمقاييس الله سبحانه وتعالى...
لو كان قد عمل كل عمله للدنيا، لنفسه، فهو اتعس انسان... ومن
اتعس من علي (ع) الذي بنى كل ما بنى واقام كل ما أقام من صرح ثم حرم من كل هذا البناء ومن كل هذه الصروح؟
هذا الاسلام الشامخ العظيم الذي يأكل الدنيا شرقاً وغرباً هذا الاسلام بني بدم علي (ع) بني بخفقات قلب علي (ع) بني بآلام علي (ع)، بني بنار علي (ع)، كان علي هو شريك البناء بكل محن هذا البناء بكل آلام هذا البناء وفي كل مآسي هذا البناء أي لحظة محرجة وجدت بتاريخ هذا البناء لم يكن علي (ع) هو الانسان الوحيد الذي يتجه اليه نظر البنّاء الاول (ص) ونظر المسلمين جميعاً لاجل انقاذ عملية البناء اذن فعلي (ع) كان هو المضحي دائماً في سبيل هذا البناء، هو الشخص الذي اعطى ولم يبخل الذي ضحى ولم يتردد الذي كان يضع دمه على كفه في كل غزوة في كل معركة، في كل تصعيد جديد لهذا العمل الاسلامي الراسخ العظيم..
اذن شيدت كل هذه المنابر بيد علي (ع) واتسعت ارجاء هذه المملكة بسيف علي (ع).
جهاد علي كان هو القاعدة لقيام هذه الدولة الواسعة الاطراف لكن ماذا حصّل علي (ع) من كل هذا البناء في مقاييس الدنيا، اذا اعتمدنا مقاييس الدنيا..؟
لو كان علي (ع) يعمل لنفسه فماذا حصّل علي (ع) من كل هذه التضحيات من كل هذه البطولات؟ ماذا حصل غير الحرمان الطويل الطويل، غير الاقصاء عن حقه الطبيعي بقطع النظر عن نص او تعيين من الله سبحانه وتعالى؟ كان حقه الطبيعي ان يحكم بعد ان يموت النبي (ص) لأنه الشخص الثاني عطاء للدعوة وتضحية في سبيلها .
اُقصي من حقه الطبيعي قاسى الوان الحرمان أنكرت عليه كل امتيازاته، معاوية بن أبي سفيان هو الذي يقول لمحمد بن ابي بكر، كان علي كالنجم في السماء في ايام رسول الله (ص) ولكن أباك والفاروق إبتزا حقه وأخذا أمره، وبعد هذا نحن شعرنا أن بامكاننا أن ندخل في ميدان المساومة مع
هذا الرجل ويقول عن نفسه، يحدث عن مقامه في ايام النبي (ص)، وكيف أخذ المقام هذا يتنازل بالتدريج نتيجة لمؤامرات الحاكمين عليه، حتى قيل علي ومعاوية.
اذن فعلي (ع) حينما واجهه عبد الرحمن بن ملجم بتلك الضربة القاتلة على رأسه الشريف، كان ماضيه كله ماضي حرمان والم وخسارة لم يكن قد حصل على شيء منه، لكن الاشخاص الذي حصلوا على شيء عظيم من هذا البناء هم اولئك الذي لم يساهموا في هذا البناء هم اولئك الذي كانوا على استعداد دائم للتنازل عن مستوى هذا البناء في أية لحظة من اللحظات اولئك حصلوا على مكاسب عريضة من هذا البناء اما هذا الامام الممتحن الذي لم يفر لحظة الذي لم يتلكأ في أي آن، الذي لم يتلعثم في قول او عمل، هذا الامام العظيم لم يحصل على أي مكسب من هذا البناء بأي شكل من الاشكال انظروا ان هذه الحادثة يمكن ان تفجر قلب الانسان، وما الانسان غير العامل، حينما ينظر في حال عامل على هذا الترتيب يتفجر قلبه ألماً لحال هذا العامل المسكين، لحال هذا العامل التعيس، الذي بنى فغير الدنيا ثم لم يستفد من هذا التغيير ثم تعالوا انظروا الى المستقبل الذي ينظره الامام علي (ع) بعين الغيب هذا ماضيه، فماذا عن مستقبله؟
كان يرى بعين الغيب ان عدوه اللدود سوف يطأ منبره، سوف يطأ مسجده، سوف ينتهك كل الحرمات والكرامات التي ضحى وجاهد في سبيلها سوف يستقل بهذه المنابر التي شيدت بجهاده وجهوده ودمه، سوف يستغلها في لعنه وسبه عشرات السنين هو الذي كان يقول لبعض الخلّص من اصحابه انه سوف يعرض عليكم سبي ولعني والبراءة مني اما السب فسبوني واما البراءة مني فلا تتبرؤوا مني.
اذن فهو كان ينظر بعين الغيب الى المستقبل بهذه النظرة لم يكن يرى في المستقبل نوعاً من التكذيب يتدارك به هذا الحرمان، الاجيال التي سوف تأتي بعد أن يفارق الدنيا، كانت ضحية مؤامرة أموية جعلتها لا تدرك أبداً دور الامام علي (ع) في بناء الاسلام.
هذا هو حرمان الماضي وهذا هو حرمان المستقبل.
وبالرغم من كل هذا قال (ع): فزت ورب الكعبة، حينما أدرك انها اللحظة الاخيرة وانه انتهى خط جهاده وهو في قمة جهاده وانتهى خط محنته
وهو في قمة صلاته وعبادته قال: فزت ورب الكعبة، لانه لم يكن انسان الدنيا ولو كان انسان الدنيا لكان اتعس انسان على الاطلاق لو كان انسان الدنيا لكان قلبه يتفجر الماً وكان قلبه ينفجر حسرة ولكنه لم يكن انسان الدنيا، لو كان انسان الدنيا فسوف يندم ندماً لا ينفعه معه شيء، لانه بنى شيئاً انقلب عليه ليحطمه أي شيء يمكن ان ينفع هذا الشخص؟ اذا فرضنا أن شخصاً اراد ان يربي شخصاً آخر لكي يخدمه فلما ربى ذاك الشخص ونمى واكتمل رشده جاء ليقتله ماذا ينفع هذا الشخص ندمه غير ان يموت.
هذا الرجل العظيم قال: فزت ورب الكعبة، كان اسعد انسان ولم يكن اشقى انسان لانه كان يعيش لهدفه، ولم يكن يعيش للدنيا، كان يعيش لهدفه ولم يكن يعيش لمكاسبه ولم يتردد لحظة وهو في قمة
هذه المآسي والمحن، في صحة ماضيه، وفي صحة حاضره، وفي انه ادى دوره الذي كان يجب عليه.
هذه هي العبرة التي يجب ان نأخذها.
نحن يجب ان نستشعر دائماً ان السعادة في عمل العامل لا تنبع من المكاسب التي تعود اليه نتيجة لهذا العمل.
يجب ان لا نقِّيم سعادة العامل على اساس كهذا لاننا لو قيّمناه على هذا الاساس فقد يكون حظنا كحظ هذا الامام الذي بنى اسلاماً ووجّه امة، ثم بعد هذا انقلبت عليه هذه الامة لتلعنه على المنابر الف شهر.
نحن يجب ان لا نجعل مقياس سعادة العامل في عمله هو المكاسب والفوائد التي تنجم عن هذا العمل وانما رضى الله سبحانه وتعالى وانما حقانية العمل، كون العمل حقاً وكفى، وحينئذ سوف نكون سعداء سواء أثر عملنا او لم يؤثر، سواء قدر الناس عملنا ام لم يقدروا، سواء رمونا باللعن او بالحجارة على أي حال سوف نستقبل الله سبحانه وتعالى ونحن سعداء لاننا ادينا حقنا وواجبنا وهناك من لا يغادر صغيرة ولا كبيرة الا أحصاها، لئن ضيع هؤلاء السعادة ولئن ضيعوا فهمهم، ولئن استولى عليهم الغباء فخلطوا بين علي (ع) ومعاوية، لئن انصرفوا عن علي وهم في قمة الحاجة اليه فهناك من
لا يختلط عليه الحال، من يميز بين علي (ع) وبين أي شخص آخر، هناك من قد اعطى لعلي (ع) نتيجة لعمل واحد من اعماله مثل عبادة الثقلين.
ذاك هو الحق وتلك هي السعادة.
اللهم احشرنا معه واجعلنا من شيعته والمترسمين خطاه والحمد للّه.[/align]
يا محوّل الحول والاحوال ، حوّل حالنا إلى أحسن الحال......
-
[align=center]المحاضرة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
20/ شهر رمضان /1388 هجري
كنا نتحدث عن تلك الظاهرة الفريدة في المرحلة التي قضاها الامام (ع) حاكماً متصرفاً ومصرفاً لشؤون المسلمين.
هذه الظاهرة الفريدة هي ما المحنا اليها من أن الامام (ع) كان حريصاً كل الحرص على اعطاء العناوين الاولية للصيغة الاسلامية للحياة، والوقوف على التكليف الواقعي الاولي بحسب مصطلح الاصوليين، دون تجاوزه الى ضرورات استثنائية تفرضها طبيعة الملابسات والظروف.
قلنا ان هذه النقطة بحثت من الناحية الفقهية ومن الناحية السياسية معاً، فقيل مثلاً:
لماذا لم يرتض الامام بأنصاف الحلول او بشيء من المساومة ؟
لماذا لم يسكت؟
لماذا لم يُمضِ ولو بصورة مؤقتة الجهاز الفاسد الذي تركه وخلفه عثمان بعد موته؟
لماذا لم يُمضِ الجهاز حتى اذا اطاعه هذا الجهاز واسلم له القيادة بعد ذلك يستطيع ان يمارس بشكل اقوى واعنف عملية التصفية؟
كنا نعالج هذه المسألة وقلنا ان الجواب على هذا السؤال وتفسير هذه الظاهرة الفريدة في الحياة للإمام (ع) يتضح بمراجعة عدة نقاط استعرضنا من هذه النقاط اربع:
النقطة الاولى: هي ان الامام (ع) كان بحاجة الى انشاء جيش عقائدي في دولته الجديدة التي كان يخطط لإنشائها في العراق، وهذا الجيش العقائدي
لم يكن موجوداً بل كان بحاجة الى تربية واعداد فكري ونفسي وعاطفي وهذا الاعداد كان يتطلب جواً مسبقاً صالحاً لان تنشأ فيه بذور هذا الجيش العقائدي. وهذا الجو ما لم يكن جواً كفاحياً رسالياً واضحاً، لا يمكن ان تنشأ في احضانه بذور ذلك الجيش العقائدي، لو افترضنا ان الجو كان جو المساومات وانصاف الحلول حتى في حالة كون انصاف الحلول تكتسب الصفة الشرعية بقانون التزاحم على ما ذكرناه حتى في هذه الحالة تفقد الصيغة مدلولها التربوي.
النقطة الثانية: هي ان الامام (ع) جاء لتسلم زمام الحكم في لحظة ثورة لا في لحظة اعتيادية، ولحظة الثورة تستبطن لحظة تركيز وتعبئة وتجمع كل الطاقات العاطفية والنفسية في الامة الاسلامية لصالح القضية الاسلامية فكان لا بد من اغتنام هذه اللحظة بكل ما تستنبطه من هذا الزخم الهائل عاطفياً ونفسياً وفكرياً.
النقطة الثالثة: التي ركزنا عليها، هي ان ظاهرة الشك في مجتمع الامام (ع) هذه الظاهرة التي بيناها في محاضرات سابقة وكيف انها عصفت بالتجربة واستطاعت ان تقضي على الآمال والاهداف التي كانت معقودة عليها، هذا الشك بالرغم من انه لم يكن يملك في سيرة الامام (ع) أي مبرر موضوعي، وكانت مبرراته ذاتية محضة بالنحو الذي شرحناه تفصيلاً فيما مضى فقد استفحل وطغى، فكيف لو افترضنا ان هذه المبررات الذاتية اضيفت اليها مبررات موضوعية من الناحية الشكلية، إذن لكان هذا الشك أسرع إلى الانتشار والتعمق والرسوخ وفي النهاية الى تقويض هذه التجربة.
النقطة الرابعة: التي ختمنا بها الحديث بالامس هي عبارة عن ان انصاف الحلول او المساومة هنا كانت في الواقع اشتراكاً في المؤامرة وكانت تحقيقاً للمؤامرة من ناحية الامام (ع) ولم تكن تعبيراً عن الاعداد لإحباط هذه المؤامرة لان المؤامرة لم تكن مؤامرة على شخص الامام علي (ع) لم تكن مؤامرة على حاكمية الامام علي (ع) حتى يقال: انه يمهد لهذه الحاكمية بشيء من هذه
الحلول الوسط، وانما المؤامرة كانت مؤامرة على وجود الامة الاسلامية، على شخصية هذه الامة، على ان تقول كلمتها في الميدان بكل قوة وجرأة وشجاعة، على ان تَنسَلِخ عن شخصيتها وينصب عليها قيم من اعلى يعيش معها عيش الاكاسرة والقياصرة مع شعوب الاكاسرة والقياصرة. هذا الذي كان يسمّى بالمصطلح الاسلامي بالهرقلية والكسروية.
هذه هي المؤامرة.
وهذه المؤامرة هي التي كان يسعى خط السقيفة بالتدريج عامداً او غير عامد الى تعميقها الى انجاحها في المجتمع الاسلامي.
فلو ان الامام (ع) كان قد مارس انصاف الحلول، لو كان قد باع الامة بيعاً مؤقتاً مع خيار الفسخ، اذن لكان بهذا قد اشترك في انجاح وفي سلخ الامة عن ارادتها وشخصيتها.
كانت الامة وقتئذ بحاجة كبيرة جداً لكي تستطيع ان تكون على مستوى مسؤوليات ذلك الموقف العصيب، وعلى مستوى القدرة للتخلص من تبعات هذه المؤامرة.
كان لا بد من ان تشعر بكرامتها بارادتها، بحريتها، باصالتها، بشخصيتها في المعترك وهذا كله مما لا يتفق مع ممارسة الامام (ع) لانصاف الحلول.
النقطة الخامسة: التي لا بد من الالتفات اليها في هذا المجال هي ان الامام (ع) لو كان قد امضى هذه الاجهزة الفاسدة التي خلفها عثمان الخليفة من قبله فليس من المعقول بمقتضى طبيعة الاشياء ان يستطيع بعد هذا ان يمارس عملية التغيير الحقيقي في هذه التجربة التي يتزعمها.
وفي الواقع ان هذا الفهم لموقف امير المؤمنين (ع) الذي اعرضه في هذه النقطة مرتبط بحقيقة مطلقة تشمل موقف امير المؤمنين (ع) وتشمل أي موقف رسالي عقائدي آخر مشابه لموقف أمير المؤمنين (ع) أي موقف آخر يستهدف تغييراً جذرياً او اصلاحياً حقيقياً في مجتمع او بيئة او حوزة او في أي مجتمع آخر من المجتمعات وهذه الحقيقة المطلقة هي ان كل اصلاح لا
يمكن ان ينشأ على يد الاجهزة الفاسدة نفسها التي لا بد أن يطالها التغيير.
فلو افترضنا ان الزعيم المسؤول عن اصلاح تلك البيئة أقر الاجهزة الفاسدة التي يتوقف الاصلاح على ازالتها وعلى تبديدها، لو انه أقر هذه الاجهزة وتعاون معها وامضاها ولو مؤقتاً، ثم بعد ان إكتسب القوة والمزيد من القدرة، وامتد افقياً وعامودياً في ابعاد هذه التجربة التي تزعمها، بعد هذا استبدل هذه الركائز بركائز اخرى هذا المنطق منطق لا يتفق مع طبيعة العمل الاجتماعي ومع طبيعة الاشياء وذلك لان هذا الزعيم من اين سوف يستمد القوة من اين سوف تتسع له القدرة؟ من اين سوف يمتد افقياً وعامودياً؟
هل تهبط عليه هذه القوة بمعجزة من السماء؟ لا... وانما سوف يستمد هذه القوة من تلك الركائز نفسها...
أي زعيم في أية بيئة يستمد قوته وتتعمق هذه القوة عنده باستمرار. من ركائزه، من أسسه من اجهزته التي هي قوته التنفيذية التي هي واجهته على الامة، التي هي تعبيره، التي هي تخطيطه، فإذا افترضنا ان هذه الاجهزة كانت هي الاجهزة الفاسدة التي يريد المخطط الاصلاحي ازالتها وتبديلها باجهزة اخرى، فليس من المعقول ان يقول الزعيم في أية لحظة من اللحظات، وفي أي موقف من المواقف: دع هذه الاجهزة معي دعني اعمل مع هذه الاجهزة حتى امتد حتى اشمخ وبعد ان امتد واشمخ استطيع ان اقضي على هذه الاجهزة. فإن هذا الشموخ الناتج من هذه الاجهزة لا يمكن ان يقضي على هذه الاجهزة. النتيجة منطقياً مرتبطة بمقدماتها والنتيجة واقعياً مرتبطة ايضاً بركائزها واسسها، فهذا الشموخ المستمد من ركائز فاسدة، من اجهزة فاسدة، لا يمكن ان يعود مرة اخرى فيتمرد على هذه الاجهزة.
هذا الزعيم حتى لو كان حسن النية، حتى لو كان صادقاً في نيته وفي تصوره سوف يجد في نهاية الطريق أنه عاجز عن التغيير، سوف يجد في نهاية الطريق انه لا يتمكن ان يحقق اهدافه الكبيرة لان الزعيم مهما كان زعيماً، والرئيس مهما كان حاكماً وسلطاناً، لا يغير بيئة بجرة قلم، لا يغير بيئة باصدار قرار باصدار أمر، وانما تتغير البيئة عن طريق الاجهزة التي تنفذ ارادة هذا
الزعيم، وتخطيط هذا الزعيم، اذن كيف سوف يستطيع هذا الزعيم ان ينفذ ارادته، ان يحقق أهدافه ان يصل الى امله؟
فطبيعة الاشياء وطبيعة العمل التغييري في أي بيئة تفرض على أي زعيم يبدأ هذا العمل ان يبني زعامته بصورة منفصلة عن تلك الاجهزة الفاسدة وهذا ما كان يفرض على الامام (ع) ان لا يمضي مخلفات عثمان الادارية والسياسية...؟
النقطة السادسة: التي لا بد من الالتفات اليها ايضاً في هذا المجال هي ان الامام (ع) لو كان قد امضى ولو مؤقتاً الاجهزة التي خلفها عثمان امضى مثلاً ولاية معاوية بن أبي سفيان وحاكميته على الشام لحصل من ذلك على نقطة قوة مؤقتة.
لو باع الامة من معاوية بيعاً مؤقتاً مع خيار الفسخ اذن لاستطاع بذلك ان يحصل على نقطة قوة ونقطة القوة هي ان معاوية سوف يبايعه وسوف يبايعه اهل الشام وهذه النقطة نقطة قوة في حساب عملية التغيير لكن في مقابل هذا ايضاً سوف يحصل معاوية بن أبي سفيان، على نقطة قوة كما حصل الامام (ع) على نقطة قوة ونقطة القوة التي سوف يحصل عليها معاوية هي اعتراف الامام (ع) صاحب الاطروحة الجديدة صاحب الخط الاسلامي الآخر المعارض على طول الزمن منذ تشكلت السقيفة بشرعية معاوية بن أبي سفيان بأن معاوية رجل على اقل التقادير يوصف بأنه عامل قدير على تسيير مهام الدولة وعلى حماية مصالح المسلمين وعلى رعاية شؤونهم هذا الاعتراف. هو المدلول العرفي الواضح لمثل هذا الامضاء في الذهنية الاسلامية العامة، فنقطة قوة لمعاوية مقابل نقطة قوة لعلي (ع)..
ونحن اذا قارنا بين هاتين النقطتين فسوف لن ننتهي الى قرار يؤكد ان نقطة القوة التي حصل عليها الامام (ع) هي اهم في حساب عملية التغيير الاجتماعية التي يمارسها الامام (ع) من نقطة القوة التي يحصل عليها معاوية، خاصة اذا التفتنا الى ان تغيير الولاة في داخل الدولة الاسلامية وقتئذ لم يكن عملية سهلة ولم يكن عملية بهذا الشكل من اليسر الذي نتصوره في دولة مركزية تسيطر حكومتها المركزية على كل أجهزة الدولة وقطاعاتها.
ليس معنى ان معاوية يبايع او يأخذ البيعة لخليفة في المدينة ان جيشاً في الحكومة المركزية سوف يدخل الشام وان هناك ارتباطاً عسكرياً حقيقياً سوف يوجد بين الشام وبين الحكومة المركزية وانما يبقى هذا الوالي بعد اخذ البيعة همزة الوصل الحقيقية بين هذا البلد وبين الحكومة المركزية لضعف مستوى الحكومة المركزية وقتئذ من ناحية، ومن ناحية اخرى لترسخ معاوية في الشام بالخصوص لأن الشام لم تعرف حاكماً مسلماً قبل معاوية وقبل أخي معاوية ومنذ دشن الشام حياته الاسلامية فانما دشنها على يد اولاد أبي سفيان اذن ترسخ معاوية من الناحية التاريخية والصلاحيات الاستثنائية التي اعطيت له من قبل عمر بن الخطاب في ان ينشئ له سلطنة وملكية في الشام بدعوى ان هذا يكون مظهر عز وجلال للاسلام في مقابل دولة القياصرة.
هذه الصلاحيات الاستثنائية التي أخذها معاوية من عمر بن الخطاب لأجل انشاء مظاهر مستقلة في الشام، لا تشبه الوضع السياسي في الدولة الاسلامية في باقي الاقاليم وهذا مما رسخ نوعاً من الانفصالية في الشام عن باقي اجزاء جسم الدولة الاسلامية.
ثم الصلاحيات التي أخذها بعد هذا من عثمان بن عفان حينما تولى الخلافة، وحينما شعر بأنه قادر على ان يستهتر بشكل مطلق بالامر والنهي، بحيث لم يبق طيلة مدة خلافة عثمان أي ارتباط حقيقي بين الشام والمدينة وانما كان هو الآمر والناهي في الشام مما جعل الشام يعيش حالة شبه انفصالية في الواقع وان لم تكن إنفصالية بحسب العرف الدستوري للدولة الاسلامية وقتئذ، وهذا مما يعقد الموقف على امير المؤمنين (ع) ويجعل نقطة القوة التي يحصل عليها وهي مجرد البيعة في الايام الاولى نقطة غير حاسمة بينما اذا اراد بعد هذا ان يعزل معاوية فبامكان معاوية ان يثير - الى جانب وجوده المادي القوي المترسخ في الشام - الشبهات على المستوى التشريعي والاسلامي.
لماذا يعزلني؟
ماذا صدر مني حتى يعزلني بعد ان اعترف باني حاكم عادل صالح لادارة شؤون المسلمين؟
ما الذي طرأ وما الذي تجدد؟
مثل هذا الكلام كان بامكان معاوية ان يوجهه حينئذ الى الامام (ع) ولم يكن للإمام (ع) ان يعطي جواباً مقنعاً للرأي العام الاسلامي وقتئذ على مثل هذه الشبهة.
بينما حين يعزله من البداية يعزله على اساس انه يؤمن بعدم صلاحيته، وبأنه لاتتوفر فيه الشروط اللازمة في الحاكم الاسلامي، وهو لا يتحمل مسؤولية وجوده كحاكم، في الفترة السابقة التي عاشها معاوية حاكماً من قبل عثمان او من قبل عمر بن الخطاب.
النقطة السابعة: التي لا بد من الالتفات اليها في هذا المجال هي: ان هذه الشبهة تفترض ان معاوية بن أبي سفيان لو ان الامام (ع) امضى حاكميته وامضى ولايته لبايعه ولأعطى نقطة القوة هذه الى أمير المؤمنين (ع) ولكن لا يوجد في الدلائل والقرائن التي كانت تكتنف موقف الامام (ع) ما يوحي بصحة هذا الافتراض، فان معاوية لم يعص علياً لأجل انه عزل عن الولاية، وانما كان ذلك في اكبر الظن جزءاً من مخطط لمؤامرة طويلة الامد للأموية على الاسلام، الاموية كانت تريد ان تنهب مكاسب الاسلام بالتدريج هذا النهب الذي عبر عنه بأقسى صورة ابو سفيان حينما ركل قبر حمزة رضوان اللّه عليه بقدمه وهو يقول: ان هذا الدين الذي قاتلتمونا عليه، هذا الدين الذي بذلتم دماءكم في سبيله، وضحيتم في سبيله قوموا واقعدوا وانظروا كيف اصبح كرة في يد صبياننا واطفالنا.
كان الشرف الاموي يريد ان يقتنص وان ينهب مكاسب البناء الاسلامي والوجود الاسلامي، وكانت هذه المؤامرة تنفذ على مستويات وكانت المرحلة الاولى من هذه المؤامرة ترسخ الاخوين في الشام يزيد بن ابي سفيان ثم معاوية بعد يزيد بن أبي سفيان بعد يزيد. ومحاولة استقطاب معاوية للشام، عن طريق بقائه هذه المدة الطويلة فيها.
ثم كان معاوية بن أبي سفيان بنفسه، ينتظر الفرصة الذهبية التي يتيحها مقتل عثمان بن عفان هذه الفرضة الذهبية التي تعطيه سلاحاً غير منتظر يمكن ان يمسكه ويدخل به الى الميدان.. ولهذا تباطأ عن نصرة عثمان بن عفان كان
عثمان يستنصره ويستصرخه ويؤكد له انه يعيش لحظات الخطر ولكن معاوية كان يتلكأ في إنقاذه وكان معاوية - على أقل تقدير - قادراً على ان يؤخر هذا المصير المحتوم بعثمان الى مدة أطول لو انه وقف موقفا ايجابياً حقيقياً في نصرة عثمان بن عفان الا انه تلكأ وتلعثم وكان يخطط لكي يبقى هذا التيار كاسحاً ولكي يخرج عثمان بن عفان على يد المسلمين ميتاً ثم بعد هذا لكي يأتي ويمسك بزمام هذا السلاح ولكي يقول انا ابن عم الخليفة المقتول ومن المعلوم ان معاوية سوف لن يتاح له في كل يوم، ان يكون ابن عم الخليفة المقتول، فهذه الفرصة الذهبية التي كانت على مستوى الاطماع والآمال الاموية لنهب كل مكاسب الاسلام هذه الفرصة الذهبية لم يكن من المظنون ان معاوية سوف يغيرها عن طريق الاكتفاء بولاية الشام، ولاية الشام كانت مرحلة اما منذ قتل عثمان بدأ معاوية في نهب كل الوجود الاسلامي، وتزعم كل هذا الوجود وكان هذا يعني ان تعيينه او ابقاءه والياً على الشام سوف لن يكون على مستوى اطماعه في المرحلة الاولى التي بدأت بمقتل عثمان بن عفان من مراحل المؤامرة الاموية على الاسلام.
وأخيراً لا بد من الالتفات ايضاً إلى شيء آخر: هو ان الوضع الذي كان يعيشه الامام (ع) في ملاحظة طبيعة الامة في ذلك الوضع، وطبيعة الامام (ع) في ذلك الوضع، لم يكن ليوحي بالاعتقاد بالعجز عن امكان النجاح لعملية التغيير دون مساومة.
ومن الواضح ان الفكرة الفقهية التي اشرنا اليها سابقاً عن توقف الواجب الاهم على المقدمة المحرمة، انما تكون فيما اذا كان هناك توقف بالفعل، بحيث يحرز ان هذا الواجب الاهم لا يمكن التوصل اليه الا عن طريق هذه المقدمة المحرمة، والظروف وطبيعية الاشياء وقتئذ لم تكن توحي، ولم تكن تؤدي الى اليقين بمثل هذا التوقف.
وذلك لأن المؤامرة التي كان علي (ع) قد اضطلع بمسؤولية احباطها حينما تولى الحكم لم تكن قد نجحت بعد بل كانت الامة في يوم قريب سابق على يوم مقتل عثمان قد عبرت تعبيراً معاكساً مضاداً لواقع هذه المؤامرة ولمضمون هذه المؤامرة.
هذه المؤامرة صحيح انها تمتد بجذورها الى امد طويل قبل هذا التاريخ،
المؤامرة على وجود الامة الاسلامية فإن الامة الاسلامية التي سهر عليها رسول الله (ص) على اعطائها اصالتها وشخصيتها وكرامتها ووجودها، حتى كان قد الزم نفسه والزمه ربه بالشورى والتشاور مع المسلمين لأجل تربية المسلمين تربية نفسية واعدادهم لا تحمل مسؤولياتهم واشعارهم بانهم هم الامة التي يجب ان تتحمل مسؤوليات هذه الرسالة خلفها رسول الله (ص) وهي تعيش هذه الروحية وتعيش على هذا المستوى عاطفياً ونفسياً، وبدأت جذور المؤامرة للقضاء على وجود الامة كافة وتحويل الوجود الى السلطان والحاكم.
أول جذر من جذور هذه المؤامرة اعطي كمفهوم في السقيفة حينما قال احد المتكلمين فيها من ينازعنا سلطان محمد.
والسقيفة وان كانت بمظهرها اعترافاً بوجود الامة لأن الامة تريد ان تتشاور في أمر تعيين الحاكم بعد رسول الله (ص) ولكن المفهوم الذي اعطي في السقيفة والذي كتب له ان ينجح يوم السقيفة، وان يمتد بأثره بعد ذلك بعد يوم السقيفة هذه، المفهوم كان بحد ذاته ينكر وجود الامة.
كان ينظر الى النبوة على انها سلطان قريش انها سلطان عشيرة معينة وهذه العشيرة المعينة هي التي يجب ان تحكم وان تسود، نظرية مالكية العشيرة، التي تتحدى وجود الامة، وتنكر عليها إصالتها ووجودها وشخصيتها، هذه النظرية طرحت كمفهوم في السقيفة ثم بعد هذا امتدت واتسعت عملياً ونظرياً.
عمر بن الخطاب كان ايضاً يعمق بشكل آخر هذا المفهوم.
في مرة من المرات سمع عمر بن الخطاب ان المسلمين يتحلقون حلقاً حلقاً، ويتكلمون في أن امير المؤمنين اذا اصيب بشيء فمن يحكم المسلمين بعد عمر؟
المسلمون اناس يحملون همّ التجربة هّم المجتمع همّ الامة تطبيقاً لفكرة: ان كل مسلم يحمل الهموم الكبيرة يفكرون في ان عمر بن الخطاب حينما يموت، من الذي يحكم المسلمين؟
هذا تعبير عن وجود الامة في الميدان.
انزعج عمر بن الخطاب جدّاً لهذا التعبير عن وجود الامة. لانه يعرف ان وجود الامة في الميدان معناه وجود علي (ع) في الميدان، معناه وجود الخط المعارض في الميدان، كلما نمت الامة كلما تأصل وجودها اكثر واكتسبت ارادتها ووعيها بدرجة اعمق كلما كان علي هو الاقدر وهو الأكفأ لممارسة عملية الحكم، لهذا صعد على المنبر وقال ما مضمونه: أن أقواماً يقولون ماذا ومن يحكم بعد امير المؤمنين...؟ الا ان بيعة ابي بكر كانت فلتة وقى اللّه المسلمين شرها.
يعني ماذا يريد ان يقول في هذا الكلام يريد ان يقول في هذا الكلام بان المسلمين لا يجوز ان يعودوا مرة اخرى الى التفكير المستقل في انتخاب شخص وانما الشخص يجب ان يعين لهم من اعلى. لكن لم يستطع ولم يجرأ ان يبين هذا المفهوم والا هو في نفسه كان هكذا يرى...
كان يرى ان الامة يجب ان تستمع منه هو يعين من اعلى هذا الحاكم، لا ان الامة نفسها تفكر في تعيين هذا الحاكم كما فكرت مثلاً عقيب وفاة رسول الله (ص) كان ذلك فلتة وقى الله المسلمين شرها، والامة يجب الا تعود الى هذه الفلتة مرة اخرى.
اذن فما هذا البديل؟ هذا البديل لم يبرزه لكن البديل كان في نفسه هو اني انا يجب ان اعين هذا ايضاً، كان استمرارية لجذور المؤامرة وبعد هذا عبر عن هذا البديل بكل صراحة وهو على فراش الموت، وحينما طلب منه المتملقون ان يوصي والا يهمل امة محمد (ص)، حينما طلبوا منه ذلك عبر عن هذا البديل بكل صراحة فأسند الامر الى ستة ايضاً كان فيه نوع من التحفظ لانه لم يعين واحداً وحيداً لا شريك له وانما عين ستة كأنه يريد ان يقول: بأني اعطيت درجة من المشاركة للامة عن طريق اني اسندت الامر الى ستة هم يعينون فيما بينهم واحداً منهم.
انظروا كيف كانت المؤامرة على الامة تنفذ بالتدريج.
كانت المؤامرة على وجودها على كيانها على ارادتها كأمة.. تحمل اشرف رسالات السماء.
طبعاً عبد الرحمن بن عوف الذي كان قطب الرحى في هؤلاء الستة ايضاً لم يستطع في تلك المرحلة ان يطفئ دور الامة لم يحل المشكلة عن طريق التفاوض فيما بين هؤلاء الستة، في اجتماع مغلق وانما ذهب يستشير الامة ويسأل المسلمين من الذي ترشحونه من هؤلاء الستة؟ الى هنا كانت الامة لاتزال تحتفظ بدرجة كبيرة من وجودها بحيث ان عمر بن الخطاب لم يستطع ان يغفل وجود الامة يسأل هذا ويسأل ذاك من تريدون من هؤلاء الستة؟ يقول ما سألت عربياً الا وقال: علي بن ابي طالب (ع) وما سألت قرشياً الا وقال عثمان بن عفان يعني جماهير المسلمين كانت تقول علي بن ابي طالب (ع) وعشيرة واحدة معينة كانت تريد ان تنهب الحكم من الامة كانت تقول عثمان لان عثمان بن عفان كان تكريساً لعملية النهب بينما علي بن ابي طالب (ع) كان تعبيراً وتأكيداً لوجود الامة في الميدان، ولهذا ارادته الامة، وارادت العشيرة عثمان.
ثم بعد هذا جاء عثمان بن عفان وفي دور عثمان بن عفان تكشفت المؤامرة أكثر فأكثر وامتدت أكثر فأكثر.
اصبحت العشيرة تحكم وتقول بكل صراحة بان المال مالنا والخراج خراجنا والارض ارضنا ان شئنا اعطينا للآخرين وان شئنا حرمناهم.
لكن هذا كلام يقال خارج نطاق الدستور، اما في نطاق الدستور كانت لا تزال الصيغة الاسلامية وهي ان المال مال الله والناس سواسية المسلمون كلهم عبيد الله لا فرق بين قرشيهم وعربيهم وبين عربيهم واعجميهم بين أي مسلم واي مسلم آخر، هذه كانت الصيغة الدستورية حتى في عهد عثمان لكن هذا الوالي الاموي المتغطرس او ذاك الاموي المتعجرف او هذا الاموي المستعجل والمتهور كان ينطق بواقع آخر لا يعبر عن الدستور حيث ينظر الى الامة على انها قطيع يتحكم فيه كيف يشاء
وعلى ان ارض الاسلام مزرعة ينتفع بخيراتها من يشاء هو ويحرم من خيراتها من شاء ولكن منطق الدستور الاسلامي كان هو المتحذر في نفوس ابناء الامة هذا المنطق هو ان ارض السواد ملك الامة وان الامة هي صاحبة الرأي فهي القائدة وهي سيدة الموقف وهذا يعني ان المؤامرة لا تزال غير ناجحة بالرغم من الجذور بالرغم من المقدمات
بالرغم من الارهاصات النظرية والعملية بالرغم من كل ذلك المؤامرة لم تكن ناجحة الامة كانت هي الامة، الامة كانت تأتي الى عثمان وتقول: لا نريد هذا الوالي لان هذا الوالي منحرف منحرف لا يطبق كتاب الله وسنة نبيه (ص) ولم يكن يستطيع عثمان بن عفان ان يجيب بصراحة ويقول ليس لك ارادة، هذا الوالي يمثلني انا، وانا الحاكم انا الحاكم المطلق لم يكن يستطيع عثمان بن عفان ان يقول هذا وانما كان يعتذر ويقيل ويرجع وهكذا كان يناور مع الامة يشتغل بمناورات من هذا القبيل مع هذه الامة التي بدأت تحس بالخطر على وجودها فعبرت الامة تعبيراً ثورياً عن وجودها وعن كرامتها فقتلت هذا الخليفة وبعدها اتجهت طبيعياً الى الامام (ع) لكي يعبر من جديد عن وجودها لكي يحبط المؤامرة لكي يعيد الى هذه الامة كل كرامتها خارج نطاق الدستور وداخل نطاق الدستور لكي يقضي على كل انحراف خرج به الحكام عن الدستور عن الصيغة الاسلامية للحياة.
فمن هنا كانت القضية لاتزال في بدايتها لا تزال الامة هي الامة لا تزال بحسب مظهرها على اقل تقدير هي تلك الامة التي قتلت الحاكم في سبيل الحفاظ على وجودها وعلي (ع) صاحب الطاقات الكبيرة هو الشخص الوحيد الذي يؤمل فيه ان يصفي عملية الانحراف.
فالظروف والملابسات لم تكن تؤدي الى يأس... كانت تؤدي الى امل وما وقع خارجاً خلال هذه الاربع سنوات كان يؤكد هذا الامل فان علياً (ع) لولا معاكسات جانبية لم تكن تنبع من حقيقة المشاكل الكبرى في المجتمع، لاستطاع ان يسيطر على الموقف.
لولا مسألة التحكيم مثلاً، لولا ان شعاراً معيناً طرح من قبل معاوية هذا الشعار الذي انعكس بفهم خاطئ عند جماعة معينة في جيش الامام (ع) لولا هذا لكان بينه وبين قتل معاوية وتصفيته بضعة امتار.
اذن كان الامل في ان علياً (ع) يمكنه ان يحقق الهدف ويعيد للامة وجودها من دون حاجة الى المساومات وانصاف الحلول كان هذا الامل أملاً معقولاً وكبيراً ولهذا لم يكن هناك مجوز لارتكاب انصاف الحلول والمساومات.
ولكن هذا الامل قد خاب كما قلنا. انتهى آخر أمل حقيقي في هذه
التصفية حينما خر هذا الامام (ع) العظيم صريعاً في مسجده صلوات الله عليه وانتهى آخر امل في هذه التصفية وقدر للمؤامرة على وجود الامة ان تنجح وان تؤتي مفعولها كاملاً.
غير ان الامام (ع) حينما فتح عينيه في تلك اللحظة العصيبة ورأى الحسن (ع) وهو يبكي ويشعر ويحس ويدرك بان وفاة ابيه هي وفاة لكل هذه الآمال اراد ان ينبهه الى ان الخط لا يزال باقياً والى ان التكليف لا يزال مستمراً وان نجاح المؤامرة لا يعني أن نلقي السلاح.
نعم المؤامرة يا ولدي نجحت ولهذا سوف تشردون وسوف تقتلون ولكن هذا لا يعني ان المعركة انتهت يجب ان تقاوم حتى تقتل مسموماً، ويجب ان يقاوم أخوك حتى يقتل بالسيف شهيداً ولا بد ان يستمر الخط حتى بعد ان سرق من الامة وجودها لان محاولة استرجاع الوجود اذا بقيت في الامة فسوف يبقى هناك نفس في الامة سوف يبقى هناك ما يحصن الامة ضد التميع والذوبان.
الامة حينما تتنازل عن هذه الارادة والشخصية لجبار من الجبابرة حينئذ تكون عرضة للذوبان والتميع في أتون أي فرعون من الفراعنة.
لكن اذا بقي لدى الامة محاولة استرجاع هذا الوجود باستمرار هذه المحاولة التي يحاولها خط علي (ع) ومدرسة علي (ع) والشهداء والصديقون من ابناء علي (ع) وشيعته اذا بقيت هذه المحاولة فسوف يبقى مع هذه المحاولة امل في ان تسترجع الامة وجودها وعلى اقل تقدير سوف تحقق هذه المحاولة كسباً آنياً باستمرار وهو تحصين الامة ضد التميع والذوبان المطلق في ارادة ذلك الحاكم وفي اطار ذلك الحاكم.
وهذا ما وقع.
أسأل اللّه سبحانه ان يجعلنا من انصاره وشيعته والسائرين في خطه والمساهمين في هذه المحاولات. [/align]
يا محوّل الحول والاحوال ، حوّل حالنا إلى أحسن الحال......
-
[align=center]المحاضرة الثالثة
بسم اللّه الرحمن الرحيم
التغيير والتجديد في النبوة
27/ رجب المكرم /1388
بمناسبة أروع ذكرى مرت في حياة الانسان، في يوم هو أشرف يوم في تاريخ الانسان سواء قيمنا الايام بما تشتمل عليه من احداث او بما تتمخض عنه من نتائج، فان هذا اليوم يبقى هو اليوم الاول في تاريخ الانسان، لانه اليوم الذي استطاع فيه الانسان ان يبلغ الذروة، التي رشحته لها عشرات الآلاف من الرسالات والنبوات، فاصبح قاب قوسين أو أدنى، متمثلاً في شخص النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم.
وكذلك اذا لاحظنا ما تمخض عنه هذا اليوم العظيم، يمكننا ان نتصور المقدار العظيم من الطاعات والعبادات والاعمال النبيلة الزاخرة، بكل معاني النبل والاخلاق، التي أوتي بها بعد هذا اليوم.
ويمكننا ان نتصور العروش التي حُطمت والجبابرة الذين قُضي عليهم، وعهود الظلم والطغيان، التي قوضت باسم هذا اليوم.
ويمكننا تصور الشخصيات العظيمة، و البطولات المستميتة في سبيل اقامة العدل على الأرض باسم هذا اليوم.
هذا اليوم هو اليوم الاول في تاريخ البشرية، سواء قيمنا على أساس ما حدث فيه أو على أساس ما نتج عنه، لانه يوم النبوة الخاتمة.
وبمناسبة النبوة الخاتمة، اريد ان اتحدث اليكم عن فكرة التغيير والتجديد في النبوة، فكرة التغيير والتجديد التي عاشتها ظاهرة النبوة في تاريخ الانسان على مر الزمن، حتى وضع لها الحد النهائي، على يد الرسالة الاسلامية الخاتمة.
والتغيير والتجديد في النبوة له اسباب عديدة معقولة يمكن ان يقوم على اساس أي واحد من هذه الاسباب، كما يمكن ان يقوم على اساس اكثر من سبب واحد من هذه الاسباب.
السبب الأول:
وهو فيما اذا كانت هذه النبوة قد استنفدت اغراضها، واستكملت اهدافها، وأنهت شوطها المرسوم لها ففي مثل هذه الحالة، لا بد لها وان تخلي الميدان لنبوة تحمل اهدافاً جديدة، وتحمل شوطاً جديداً لا بد ان تؤديه في خدمة الانسان، وتصعيده الى المستوى المطلوب.
واقصد بكون النبوة تستنفد اغراضها، ان تكون النبوة بالذات، وصفة لمرض طارئ في حياة البشرية.
هناك نقاط من الضعف، تطرأ بين حين وحين، في بعض الازمنة والامكنة، في بعض المجتمعات البشرية.
تطرأ بعض الامراض المعينة من الناحية الفكرية والروحية والاخلاقية وهذه الامراض تستفحل بموجب شروط معينة موضوعية خاصة، وتحتاج هذه الامراض الى نوع من العلاج يترفق المولى سبحانه وتعالى في انزال وحي معين لاجل بيانه.
وبطبيعة الحال سوف تكون الوصفة المقدمة من قبل هذه الرسالة لعلاج هذا المرض، قائمة على اساس هذا الحال الاستثنائي، المنحرف الذي يعيشه انسان عصر هذه النبوة، ومن المنطقي والمعقول ان لاتصح وصفة من هذا القبيل على كل زمان او مكان، فكل انسان منا قد يستعمل وصفة معينة في حالة مرضية، الا ان هذه الوصفة نفسها، لايمكن ان تصبح غذاء اعتيادياً للانسان في كل زمان او مكان.
فحينما تكون النبوة في طبيعة تركيبها قد جاءت لعلاج مرض معين طارئ في حياة الانسان، وتكون في طبيعة رسالتها قد صممت وفق هذه الحاجة فحينما تكون هذه النبوة هكذا، وتدخل شوط عملها وجهادها، وتحارب وتكافح في سبيل استئصال هذا المرض الاستثنائي، بعد هذا تكون النبوة قد
استنفدت اغراضها، لانها جاءت لمعركة جزئية محددة بظروف زمانية ومكانية خاصة، وهذه المعركة انتهت بانقضاء هذه الظروف.
فمثلاً ما يقال عن المسيحية، من انها كانت تتجه الى نزعة روحية مفرطة والتركيز على الجانب الطبيعي بدرجة اكبر بكثير من التركيز على أي جانب من جوانب الحياة المعاشة المحسوسة. يقال عادة: ان بعض التركيز على الجانب الغيبي اللامنظور، التركيز على جعل النفس منقطعة عن كل علائق الدنيا، هذا التركيز الذي قامت على اساسه بعد هذا، فكرة الرهبنة، هذا التركيز، كان علاجاً لمرض عاشه شعب بني اسرائيل، حينما ظهرت المسيحية في ذلك الوقت.
هذا المرض، الانغماس المطلق في الدنيا، وفي علائق الدنيا، هذه الحالة النفسية التي كانت تجعل الانسان اليهودي مشدوداً الى درهمه وديناره، ويومه وغده، هذه الحالة كانت بحاجة الى وصفة، هذه الوصفة تحاول ان تنشل هذا الانسان اليهودي من ضرورات يومه وغده، وتذكره بأمسه وربه، لهذا كان في المسيحية هذا النوع، من الافراط المناسب مع حالة موضعية زمانية معينة في التاريخ الطويل للإنسان.
اما هذا النوع من الافراط حينما يؤخذ كخط عام للإنسان، يعتبر شذوذاً وانحرافاً، لانه دواء للمريض وليس طعاماً للصحيح.
فمن هذه الاسباب التي تجعل التغيير في النبوة امراً معقولاً، هو ان النبوة تستنفد اغراضها وتستوفي اهدافها، باعتبارها رسالة صممت لعلاج حالة طارئة وقد استنفدت اغراض العلاج.
من جملة الاسباب المعقولة لتغيير النبوة هو ان لا يبقى منها تراث يمكن ان يقام على اساسه العمل والبناء...
اذا افترضنا، ان نبَّوة جاءت ومارست دورها في قيادة البشرية وهدايتها ووصلها بربها، وتطهيرها من شوائبها، الا ان هذه النبوة بعد ان مات شخص النبي، تولدت ظروف وانحرافات أكلت كل ذلك التراث الروحي والمفاهيمي الذي خلّفه ذلك النبي الذي قاد تلك المعركة، بقيت النبوة مجرد
رؤى تاريخية وشعار غامض غائم بارد، دون ان يكون معبراً عن أي كيان فكري مفاهيمي، محدد في اذهان القاعدة الشعبية المرتبطة بتلك النبوة، في مثل هذه الحالة، لا يمكن ان تواصل هذه الدفعة الالهية المتمثلة في تلك النبوة عملها، لان الدفعة الالهية لا يمكن ان تواصل عملها بدون مصباح منير
وبدون كتاب منير، على ما يصطلح عليه القرآن الكريم، وهذا الكتاب المنير، عبارة عن ذاك التراث الفكري والمفاهيمي الذي يمثل القاعدة للعمل النبوي، ويمثل الاطار للحياة التي يقدمها النبي ويدعو اليها، فاذا ماتت تلك القاعدة وذلك الاطار باضمحلال ذلك التراث، وبقيت النبوة مجرد مسألة تاريخية لا يوجد بالفعل في حياة الناس ما يجسد مفهومها ومنظارها الى الحياة، ففي مثل ذلك، لا بد من دفعة جديدة، لكي يستأنف العمل ويستأنف الشوط في سبيل اعادة البشرية الى ربها، واقامة دعائم العدل والحق والتوحيد على وجه الأرض.
وأيضاً هذا السبب نجده الى درجة كبيرة في المسيحية بالذات. فالمسيحية بعد ان غادر السيد المسيح عليه السلام مسرح الدعوة والعمل، لم يبق من المسيحية شيء حقيقي يمكن ان يقام على اساسه العمل النبوي، الانجيل الذي يحدث عنه القرآن الكريم فقد نهائياً، لان الانجيل الذي يحدث عنه القرآن الكريم كتاب انزل على السيد المسيح (ع)، والاناجيل التي تعيش اليوم وكانت تعيش بالامس هي كتب الفَّها طلاب السيد المسيح (ع) على أفضل التقادير، فالرسالة المتمثلة في الكتاب السماوي قد انطفأت، والحواريون كانوا من حيث القلة والتشتت والاضطراب الذهني، ما يجعلهم غير قادرين على حماية التراث الباقي في أذهانهم من السيد المسيح (ع)، بدليل مراجعة هذه الاناجيل التي كتبوها، فان هذه الاناجيل لا تحمل في الحقيقة وفي مجملها الا سيرة السيد المسيح (ع). مع ابراز الجانب الغيبي والمعاجزي من هذه السيرة.
اذن لم يبق من السيد المسيح (ع) بعد انتهاء دوره على المسرح حصيلة مضيئة يمكن القيام على اساسها على الخط الطويل، العمل النبوي.
لم تبق الا فكرة غائمة غامضة عن انسان بات ليصلح، وقال، وعلّم،
ثم انتهى، اما ماذا قال؟ وكيف انتهى؟ وماذا خلّف؟ وما هي شريعته؟ كل هذا بقي غائماً غامضاً، ولهذا ملئ بالتدريج بأيد بشرية تزعمت بعد هذا، المسيحية، ملئت هذه الفراغات الكبيرة التي تركها السيد المسيح (ع)، خاصة بعد ان اصبحت المسيحية رومانية، ودخلت الامبراطورية الرومانية في الديانة المسيحية رسمياً اولاً وشعبيا ثانياً، في مثل هذه الحالة.
اذن هذه ايضاً من الاسباب المعقولة لتغيير النبوة، وهي ان لا يبقى من ذلك النبي تراث حي يمكن ان يقام على اساسه العمل، وترتكز بموجبه الدعوة الى الله سبحانه وتعالى.
ايضاً من الاسباب التي يمكن ان يقام على اساسها التغيير في النبوة، هو ان تكون الرسالة التي هبطت على النبي، محدودة باعتبار محدودية نفس النبي، وان كان مفهوماً عاماً، الا ان هذا المفهوم العام على ما يقول المناطقة، يصدق على افراده بالتشكيك، هناك على ما تقول الروايات نبي للبشرية، ونبي للقبيلة، وهناك نبوات تختلف من حيث السعة والضيق، باختلاف طبيعة النبي نفسه، باعتبار مستوى كفاءة القيادة الفكرية والعملية في شخص النبي، فحمدودية الكفاءة القيادية في المجالين الفكري والعملي، مما يؤثر في تحديد الرسالة التي يحملها النبي، لان كل انسان على الارض، لا يمكن ان يحمل رسالة يحارب ويدافع عنها حقيقة، الا اذا كان مستوعباً لها استيعاباً كاملاً شاملاً، وهذا الاستيعاب الكامل الشامل، يتطلب من هذا الداعية ان يكون على مستوى هذه الرسالة.
ومن الواضح ان الانبياء كغير الانبياء، يتفاوتون في درجات تلقيهم للمعارف الالهية عن طريق الوحي من قبل اللّه سبحانه وتعالى، ولهذا كانت بعض الرسالات محدودة بحكم محدودية قابلية الانبياء انفسهم، حيث ان هذا النبي ليس مؤهلاً لان يحمل هموم البشرية على الاطلاق وفي كل زمان ومكان، بل هو مهيأ لان يحمل هموم عصره فقط، أو هموم مدينته فقط، أو هموم قبيلته فقط، لأن ذاك الشخص الذي يحمل هموم البشرية على الاطلاق، ويعيش مشاكلها على الاطلاق، ليكتوي بنارها على الاطلاق، ليس الا الدرجة العالية الى اللّه سبحانه وتعالى من الانبياء والاوصياء.
فاذا كانت النبوة محدودة بطبيعة قابليات هذا النبي، كان لا بد في خارج هذه الحدود الزمانية والمكانية، من نبوة اخرى تمارس عملها في سبيل اللّه سبحانه...
واخيراً من جملة الاسباب التي تدعو الى تغيير النبوة، هو تطور البشرية، وتطور نفس الانسان المدعو، لا محدودية الانسان الداعي، كما فيما سبق، وكون الانسان المدعو يتصاعد بالتدريج لا بالطفرة، وينمو على مر الزمن في احضان هذه الرسالات الالهية، فيكتسب من كل رسالة الهية درجة من النمو، تهيئه وتُعدّه، لكي يكون على مستوى الرسالة الجديدة واعبائها الكبيرة، ومسؤولياتها الأوسع نطاقاً.
وفكرة التطور هنا لا بد و أن تحدد إجمالاً ملامحها ومعالمها.
ويمكننا ان نبرز ثلاثة خطوط يتطور على وفقها الانسانية، الا ان عامل التطور في النبوة يرتبط بالتطور، في خطين من هذه الخطوط الثلاثة، ولا يرتبط بالخط الثالث من هذه الخطوط، والخطوط هي: خط وعي التوحيد... خط المسؤولية الاخلاقية للدعوة لحمل اعباء الدعوة... خط السيطرة على الكون والطبيعة...
الخط الأول:
النبوة ترتبط بالواقع بالخطين الاول والثاني من هذه الخطوط الثلاثة، بالوعي التوحيدي عند الانسان، وبخط المسؤولية الاخلاقية لحمل اعباء الدعوة في العالم ولا ترتبط النبوة بالخط الثالث من خطوط التطور وهو مدى السيطرة للإنسان على عالم الطبيعة والكون، ذلك لأن النبوة تستهدف ان تصنع الانسان من داخله، تستهدف ان تصنع للإنسان قاعدة فكرية يقوم على اساسها بناؤه الداخلي ثم يقوم على اساس هذا البناء الخارجي، وهذه القاعدة الاساسية التي يقوم على اساسها البناء الداخلي وبالتالي البناء الخارجي هي: التوحيد.
فكرة التوحيد وربط الانسان بكامل وجوده وجوانب حياته برب واحد أحد.
هذه الفكرة هي القاسم المشترك بين كل النبوات والرسالات التي عاشها الانسان منذ ان خلقه اللّه سبحانه وتعالى على وجه الارض.
الا ان هذه الفكرة فكرة التوحيد ليست ذات درجة حدية، وانما هي بنفسها ذات درجات من العمق والاصالة والتركيز والترسيخ، فهذه الدرجات متفاوتة، كان لا بد بمقتضى الحكمة الالهية ان يهيأ الانسان لها بالتدريج. هذا الانسان الذي غرق بمقتضى تركيبه العضوي والطبيعي في حسه ودنياه، حينما يدعى الى فكرة التوحيد، لا بد من ان ينتزع من عالم حسه ودنياه بالتدريج، لكي ينفتح على فكرة التوحيد التي هي فكرة الغيب.
فالغيب يجب ان يعطى له على مراحل، وعلى درجات، كل درجة تهيئ ذهنه لتلقي التوحيد.
ونحن بامكاننا الالتفات الى فكرة التوحيد المعطاة من التوراة والانجيل، والقرآن الكريم، ان نفهمه مثالا على هذا المعنى، التوراة والانجيل والقرآن، كل هذه الكتب تعطي فكرة التوحيد، وبقولي التوراة والانجيل أقصد التوراة والانجيل الذي يعيش بيننا اليوم، لان التوراة والانجيل الموجودين بين ايدينا اليوم على أي حال، قد يقصدان تصوير الفكرة الدينية في شعب موسى وشعب عيسى في قوم موسى وقوم عيسى، ولا شك في انه ايضاً يحتفظ بجزء من النص الديني الى حد قليل أو كثير، خاصة في التوراة، ولهذا لا يمكن ان نستلهم من الكتابين، في سبيل تقدير وتحديد الروح الدينية العامة لمرحلتين من مراحل الانسان التي عاشها مع النبوة، بطبيعة الحال، هنا نرى فرقاً فارقاً بدرجة، وتطوراً في مفهوم التوحيد المعطى، فبينما التوحيد في الكتاب الاول يقوم على اساس اعطاء إله، وهذا الإِله، لا يستطيع هذا الكتاب ان ينزع عنه الطابع القومي المحدود، فيشد هذا الاله جماعة معينة الى شعب معين، هذا الشعب المعين الذي قدر ان ينزل الرسالة فيه، ان يكون النبي منه، فكانت التوراة باستمرار، تقدم الاله في إطار قومي كأنه اله هؤلاء في مقابل الاصنام، والأوثان التي هي آلهة الشعوب والقبائل، فلم تقل التوراة بكل صريح عميق لهؤلاء ان هناك الهاً واحداً للجميع، و ان هذه الاصنام والاوثان يجب ان ترفضها البشرية، وانما عوضت هؤلاء بالخصوص عن صنم ووثن معين، بإله يعبدونه بدلاً عن هذا الصنم، هذا الشيء الذي يوجد في نفوس هؤلاء القوم تأريخياً الشعور بالاعتزاز، والشعور بالزهو والخيلاء على بقية الشعوب الاخرى، هذا الشعور الذي لم يوجد في شعوب متأخرة نزلت فيها
نبوات التوحيد، على اساس ان الاله الذي اعطي اليهم كان الهاً مشوباً بشيء من المحدودية والطابع الذري، فخيل لهم على مر الزمن، انهم يحتكرون اللّه لأنفسهم، بينما الشعوب والقبائل الاخرى، هي ذات آلهة شتى واصنام شتى، ويشير القرآن الكريم الى فكرة الاحتكار التي كان يعتقدها اليهود بالنسبة الى اللّه تعالى.
في الكتاب الثاني صعدت فكرة اللّه مرتبة، وذلك لان الطابع القومي انتزع عن هذه الفكرة، اصبح الاله المقدم من قبل تلامذة السيد المسيح عليه السلام للعالم، الهاً عالمياً لا فرق فيه بين شعب وشعب، هو اله العالم على الاطلاق، لم يغادر منطقة قريبة من ذهن الانسان المحسوس، لم يجرد تجريداً كاملاً عن عالم الحس، بقي على صلة وثيقة جداً بالانسان الحسي، كأنه ابوه، وبهذا يعبر في الاناجيل كثيراً عن الانسان بانه ابن اللّه. المسيحية الرسمية تفسر هذا الانسان بعيسى بن مريم، وأن عيسى بن مريم هو ابن اللّه، لكني لا أظن ان يقصد به هذا، الاناجيل تعبر عن أي انسان انه ابن الّله لا عن عيسى بن مريم بالخصوص انه ابن اللّه، لانها تعطي فكرة عن اللّه فكرة الاب الواحد للجماعة البشرية، لافكرة الخالق، السيد المطلق المقتدر الوالد الكبير، فكرة اب له ابناء هؤلاء الابناء لهم لغات شتى، ولهم اتجاهات شتى، ولهم مذاهب شتى، ولهذا يجب ان يتآخوا لانهم ابناء أب واحد. بينما الكتاب الثالث يعطي فكرة التوحيد بأنصع واوسع مما يمكن من التنزيه الذي يبقى محتفظاً بقدرته على تحريك الانسان، لانه يجرد هذه الفكرة عن طابع الابوة والعلائق المادية مع الانسان على الاطلاق.
يجرد اللّه عن أي علاقة مادية مع أي انسان حتى مع اشرف انسان على وجه الارض،مع صاحب الرسالة بالذات محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم، يقف النبي محمد (ص) في لغة القرآن بين يدي اللّه، عبداً ذليلاً خاضعاً يتلقى الاوامر، وليس له الا الطاعة والا ان ينفذ حرفياً، مثل هذه الفكرة هي اقصى ما يمكن ان يصل اليه التنزيه والتعميق والتنسيق في فكرة التوحيد، مع الحفاظ على فاعلية الفكرة وعلى محركيتها.
هذا الخط، خط وعي التوحيد وفكرة التوحيد، هذا هو أول الخطوط
التي تتغير مواقف النبوات بموجبها. على اساس ان هذا الخط هو المرتبط بالقاعدة الفكرية الاساسية التي تعمل بموجبها كل النبوات، فمهما صعدت درجة الوعي لهذه القاعدة الاساسية يجب ان يعطي لها الصيغة العميقة المعمقة الاكبر.
الخط الثاني:
هو خط تحمل اعباء المسؤولية الاخلاقية للدعوة، يعني كون الانسان بالغاً الى درجة تؤهله لان يتحمل اعباء دعوة لها ضريبتها وواحباتها وآلامها وهمومها.
مثل هذا التحمل ايضاً له درجات، ولم يستطع الانسان بالطفرة، ان يصل الى درجة اعباء التحمل للرسالة العالمية الواسعة الغير محدودة الزمان والمكان، لم يستطع ان يصل الى هذا بالطفرة، وانما استطاع ان يصل الى ذلك عبر مران طويل، على تحمل المسؤوليات.
البشرية بقيت تتحمل المسؤوليات عبر مران طويل، ونمت خلال مرانها الطويل، حتى استطاعت ان تتحمل مسؤولية رسالة لاحد لها، ممتدة مع الزمان والمكان ، والا فأي مسؤوليات كانت تتحملها امم الانبياء السابقين، الأمم التي تنكشف امامنا اليوم تواريخها هي أمم موسى وعيسى؟.
ونحن بالمقارنة بين موسى وعيسى، والمسؤوليات التي تحملتها الامة الاسلامية حينما نزل الوحي على النبي (ص) بالرسالة الخاتمة، المقارنة ما بين هذا وذاك، يكشف درجة كبيرة في تحمل المسؤوليات، تعبر عن نمو الاستعداد على مر الزمن، وموسى مات وشعب بني اسرائيل في التيه، يعني وجه حياته وجه كل اعماله بكل ما يمكن من جهاد وتضحية، في سبيل اداء رسالته، ولكنه أنهى حياته وشعب بني اسرائيل في التيه، كتب اللّه جل جلاله عليهم التيه اربعين سنة لانهم لم يستجيبوا لمتطلبات الرسالة، لم يستجيبوا ابداً لما تقتضيه رسالة موسى بالنسبة اليهم، حتى خلفهم موسى حيارى ومات.
اين هذا من امة حملت اعباء الرسالة؟.
الخط الثالث:
وهو خط سيطرة الانسان على الكون والطبيعة.
هذا الخط متطور قبل الاسلام وبعد الاسلام، ولن يقف هذا الخط عند مرحلة من المراحل على الاطلاق.
والانسان سوف لن تقف سيطرته باذن اللّه جل جلاله، عند مرحلة من مراحل الاستيلاء على الكون والطبيعة، ان انتهى استيلاؤه على الارض سوف يفكر بالاستيلاء على السماء، في الاستيلاء على كل ابعاد الكون، اذن، فهو في نمو مستمر لا ينقطع ولا توضع له حدود مفترضة من هذه الناحية.
فلو كانت النبوة مرتبطة بهذا الخط ايضاً لتحتم ان تتغير النبوات على مر الزمن، والى يومنا هذا، والى يوم القيامة، ولكن النبوة غير مرتبطة بهذا الخط، لان النبوة لم تجد التيه، لكي تأخذ بالانسان في مجال السيطرة على الكون والطبيعة، وانما جاءت لتصنع هذا الانسان المسيطر على الكون بالدرجة التي هيأته لها هذه الظروف - ظروفه الموضوعية - ان تجعل من هذا الانسان انساناً فاضلاً نبيلاً مدبراً حكيماً، سواء أكانت سيطرته على الطبيعة تهيئه لان ينتقل من بلد الى بلد على رجليه، أو على الحمير، أو في الطائرات أو في الصواريخ.
على جميع هذه التقادير وفي جميع هذه المراحل التي تعبر عن درجات من سيطرة الانسان على الكون والطبيعة في جميع هذه المراحل، النبوة لايختلف دورها وطبيعة رسالتها.
ومن هنا ليس من الحتم ان تتغير النبوة بين الحين والحين، وفقاً للخط الاول والخط الثاني، هذان الخطان اللذان ترتبط بهما التغييرات في النبوة، هذان الخطان لهما حد نهائي يصل اليه الانسان، هذا الحد النهائي هو الحد النهائي الذي وصل اليه الانسان حينما جاء الاسلام.
الاسلام كرسالة شاملة كاملة عامة للحياة. جاءت على ابواب وصول الانسان الى رشده الكامل، من ناحية استعداده لتقبل وعي توحيدي صحيح كامل شامل، ومن ناحية تحمله لمسؤولية اعباء الدعوة.
ونحن باستقراء تاريخنا المنظور، منذ جاء الاسلام الى يومنا هذا، لانجد أي تغير حقيقي في هذين الخطين، لا في مدى اتساع الوعي التوحيدي عند الانسان ولا في اتساع التحملات الاخلاقية في اعباء الدعوة.
في كلا هذين الخطين لا نجد أي تغير حقيقي.
نعم نجد التغيير الواسع جداً في الخط الثالث الذي يعتبر خارجاً عن نطاق عمل النبوة ورسالتها.
والحمد للّه رب العالمين [/align]
يا محوّل الحول والاحوال ، حوّل حالنا إلى أحسن الحال......
-
[align=center]المحاضرة الرابعة
بسم اللّه الرحمن الرحيم
مضاعفات وفاة رسول الله (ص)
اليوم نجتمع بمناسبة أعظم فاجعة مرت علي تاريخ البشرية على الطلاق.
بمناسبة الفاجعة المزدوجة التي يمثل الجزء الأول منها انقطاع الوحي في تاريخ البشرية.
هذه الظاهرة التي لم يعرف الانسان في تاريخه الطويل الطويل ظاهرة يمكن أن تماثلها وأن تناظرها في القدسية والجلال والأثر في حياة الانسان وتفكيره ويمثل الجزء الآخر من الفاجعة الانحراف داخل المجتمع الاسلامي، على يد المؤامرة التي قام بها جناح من المسلمين بعد وفاة رسول الله ( ص) فانحرف بذلك الخط عما كان مقرراً له من قبل النبي (ص) ومن قبل الله تعالى.
كان هذا اليوم المشؤوم بداية انحراف طويل ونهاية عهد سعيد بالوحي، تمثل في مائة وأربعة وعشرين ألف نبي كما في بعض الروايات وكان بداية ظلام ومحن ومآس وفواجع وكوارث من ناحية اُخرى تمثل في ما عقب وفاة رسول الله (ص) من أحداث في تاريخ العالم الاسلامي هذه الأحداث المرتبطة ارتباطاً شديداً وقوياً بما تم في هذا اليوم من الفاجعة على ما في زيارة الجامعة التي نقرؤها (بيعتهم التي عمت شؤمها الاسلام، وزرعت في قلوب الأمة الآثار وعنفت سلمانها، وضربت مقدادها، ونفت جندبها، وفتحت بطن عمارها، وأباحت الخمس للطلقاء اولاد الطلقاء وسلطت اللعناء على المصطفين الاخيار، وأبرزت بنات المهجرين والانصار الى الذلة والمهانة وهدمت الكعبة واباحت المدينة وخلطت الحلال بالحرام الى غير ذلك من الاوصاف.
والجزء الثاني من الفاجعة الذي تم في هذا اليوم تحدثنا عنه خلال الكلام عن حياة الائمة (ع) وسوف نتحدث عنه أيضاً خلال كلامنا عن مناسبات اخرى في حياة الائمة (ع).
وأود الآن ان أقتصر على الجزء الاول من هذه الفاجعة يعني ان انظر الى الحدث الذي وقع في هذا اليوم بوصفه حدثا قد وضع حداً لتلك الظاهرة العظيمة التي اقترنت مع هبوط الانسان على وجه الارض، ظاهرة الوحي ظاهرة ارتفاع الانسان وتفانيه للإتصال المباشر مع الله سبحانه وتعالى.
ففي مثل هذا اليوم وضع حد نهائي لهذه الظاهرة المباركة الميمونة وفي بعض الروايات ان جبرائيل (ع) حينما ارتفع ملائكة السماء بروح محمد (ص) الى ربها راضية مرضية، التفت الى الارض مودعاً ثم طار الى سماواته.
هذا اليوم كان يوم انقطاع الانسانية عن الاتصال المباشر باللّه سبحانه بانتهاء حياة خاتم الانبياء والمرسلين.
بهذه المناسبة اريد ان اعطي فكرة موجزة على مستوى بحث اليوم عن الوحي، الوحي الذي يتمثل في اتصال خاص بين الانسان وبين الله.
فالوحي هو ضرورة من ضرورات تخليد الانسان على وجه الارض وبهذا خلق الله الانسان واودعه الاستعداد الكامل والارضية الصالحة بافاضة هذه الموهبة منه سبحانه لأن ضرورة الوحي يمكن ان توضع في قبال جانبين في الانسان الآن اقتصر على أحد الجانبين:
الانسان خلق حسياً أكثر منه عقلياً خلق يتفاعل مع حسه أكثر مما يتفاعل مع عقله، يعني ان النظريات والمفاهيم العقلية العامة في اطارها النظري هذه المفاهيم حتى لو آمن بها الانسان إيماناً عقلياً حتى لو دخلت الى ذهنه دخولاً نظرياً مع هذا لا تهزه ولا تحركه ولا تبنيه ولا تزعزع ما كان فيه ولا تنشئه من جديد إلا في حدود ضيقة جداً. على عكس الحس فان الانسان الذي يواجه حساً، ينفعل بهذا الحس و ينجذب إليه، وينعكس هذا الحس على روحه ومشاعره وانفعالاته وعواطفه بدرجة لا يمكن أن يقاس بها انعكاس النظرية والمفهوم المجرد عن أي تطبيق حسي.
وليس من الصدفة ان كان الانسان على طول الخط في تاريخ المعرفة البشرية أكثر ارتباطاً بمحسوساته من معقولاته وأكثر تمسكاً بمسموعاته ومنظوراته من نظرياته.
فإن هذا هو طبيعة التسليم الفكري والمعرفي عند الانسان وليس من الصدفة ان قرن إثبات أي دين بالمعجرة وكانت أكثر معاجز الانبياء معاجز على مستوى الحس لأن الانسان يتأثر بهذا المستوى أكثر مما يتأثر بأي مستوى آخر إذن: ( فالإنسان بحسب طبيعة جهازه المعرفي وتكوينه النظري خلق حسياً أكثر منه عقلياً) خلق متفاعلاً مع هذا المستوى من الانخفاض من المعرفة أكثر مما هو متفاعل مع المستوى النظري المجرد عن المعرفة وهذا يعني ان الحس أقدر على تربية الانسان من النظر العقلي المجرد ويحتل من جوانب وجوده وشخصيته وابعاد مشاعره وعواطفه وانفعالاته أكثر مما يحتل العقل: المفهوم النظري المجرد.
بناء على هذا كان لا بد للانسانية من حس مربي، زائد على العقل والمدركات العقلية الغائمة الغامضة التي تدخل الى ذهن الانسان بقوالب غير محدودة وغير واضحة.
إضافة الى هذه القوالب كان لا بد لكي يربى الانسان على أهداف السماء على مجموعة من القيم والمثل والاعتبارات كان لا بد من ان يربى على أساس الحس وهذا هو السبب في ان كل الحضارات التي يعرفها تاريخ النوع البشري الى يومنا هذا الى حضارة الانسان الاوروبي التي تحكم العالم ظلماً وعدواناً كل هذه الحضارات التي انقطعت عن السماء رباهاً الحس ولم يربها العقل، لأن الحس هو المربي الاول دائماً فكان لا بد لكي يمكن تربية الانسان على اساس حس يبعث في هذا الانسان انسانيته الكاملة الممثلة لكل جوانب وجوده الحقيقية كان لا بد من خلق حس في الانسان يدرك تلك القيم والمثل والمفاهيم ويدرك التضحية في سبيل تلك القيم والمثل إدراكاً حسياً لا إدراكاً عقلانياً بقانون الحسن والقبح العقليين فقد وهذا يعني ما قلناه من ان ضرورة الانسان في خط التربية تفرض أن يودع في طبيعة تكوينه وخلقه أرضية تكون صالحة، لأن
تكون فيه حسيا بحسن العدل بقبح الظلم بآلام المظلومين، أن تكون فيه حسا بكل ما يمكن للعقل إدراكه وما لا يمكن إدراكه من قيم ومثل واعتبارات.
وهذه الأرضية او هذا الاستعداد الكامل الذي كان الارتباط المباشر مع الله سبحانه وتعالى لكي تنكشف كل الصحف كل الستائر عن كل القيم وكل المثل وكل هذه الاعتبارات والاهداف العظيمة لكي ترى رؤية العين وتسمع سماع الاذن لكي يلمسها بيده يراها بعينه.
كان لا بد من ان توجد بذرة مثل هذا الحس في النوع البشري الا ان وجدان هذه البذرة في النوع البشري لا يعني ان كل انسان سوف يصبح له مثل هذا الحس وينفتق إدراكه عنه وانما يعني ان الامكانية الذاتية موجودة فيه الا ان هذه الامكانية لن تخرج الى مرحلة الفعلية الا ضمن شروطها وظروفها وملابساتها الخاصة كأي إمكانية اخرى في الانسان.
هناك شهوات وغرائز موجودة في الانسان منذ يخلق وهو طفل ولكنه لا يعيش تلك الشهوات ولا يعيش تلك الغرائز الى مراحل متعاقبة من حياته فإذا مر بمراحل متعاقبة من حياته تفتحت تلك البذور حينئذ اصبح يعيش فعلية تلك الشهوات والغرائز كذلك على مستوى هذا الحس الذي هو أشرف واعظم واروع ما اودع في طبيعة الانسان.
هذا قد لا يعيشه مئات الملايين من البشر في عشرات الآلاف من السنين، قد لا يتفتح يبقى مجرد استعداد خام و ارضية ذاتية تمثل الامكان الذاتي لهذه الصيغة فقط دون ان تتفتح عن وجود مثل هذا الحس لان تفتحه يخضع لما قلناه من الملابسات والشروط التي لها بحث آخر اوسع من كلامنا اليوم.
أرضية ان يحس الانسان بتلك القيم والمثل تصبح امراً واقعياً في اشخاص مميزنين يختصهم الله تعالى بعنايته ولطفه واختياره وهؤلاء هم الانبياء والمرسلون الذين يرتفعون الى مستوى ان تصبح كل المعقولات الكاملة محسوسات لديهم يصبح كل ما نفهمه وما لا نفهمه من القيم والمثل أمراً حسياً لديهم يحسونه ويسمعونه ويبصرونه.
ذلك ان الافكار التي ترد الى ذهن الانسان تارة ترد الى ذهنه وهو لا يدرك
إدراكاً حسياً مصدر هذه الافكار، الافكار التي ترد الى الانسان كلنا نؤمن بأنها أفكار بقدرة الله وعنايته وردت الى ذهن الانسان و إلى فكره لكن إيماننا بذلك ايمان عقلي نظري لا حسيّ لأن اللّه سبحانه وتعالى هو مصدر العلم والمعرفة والأفكار الخيرة في ذهن الانسان ولهذا أي فكرة من هذا القبيل تطرأ في ذهن الانسان نؤمن عقلياً بأنها من اللّه سبحانه وتعالى.
لكن هناك فارق كبير بين حالتين: بين حالة ان ترد فكرة الى ذهن الانسان فيحس بان هذه الفكرة القيت اليه من أعلى بحيث يدرك إلقاءها من أعلى كما تدرك أنت الآن أن الحجر وقع من أعلى يدرك هذا بكل حسه وبصره يدرك ان هذه القطرة هذا الفيض هذا الاشعاع قد وقع من اعلى ألقي عليه من اللّه سبحانه وتعالى.
واخرى لا يدرك هذا على مستوى الحس يدركه عقلياً يدرك ان هناك فكرة تعيش في ذهنه نيرة خيرة لكنه لم ير بعينه ان هناك يداً قذفت بهذه الفكرة الى ذهنه.
وهذه الافكار التي تقذف في ذهن الانسان فيتوفر لدى ذاك الانسان حس بها بأنها قذفت اليه من الله سبحانه وتعالى وافيضت عليه من واجب الوجود واهب الوجود وواهب المعرفة فهي ايضاً على اقسام.
لأن هذا الانسان تارة قد بلغ حسه الى القمة فاستطاع ان يحس بالعطاء الالهي من كل وجوهه وجوانبه يسمعه ويبصره يراه في جميع جهاته يتعامل معه ويتفاعل معه بكل ما يمكن للحس ان يتفاعل مع الحقيقة هذا هو الذي يعبر عنه بمصطلح الروايات على ما يظهر من بعضها بمقام عال من الانبياء مقام الرسول الذي يسمع الصوت ويرى الشخص ايضاً.
ويمكن ان نفترض ان هناك الواناً اخرى من الحس تدعم هذا الحس السمعي والبصري عند هذا الانسان العظيم فهو يحس بالحقيقة المعطاة من الله تعالى من جميع جوانبها يحس بها بكل ما اوتي من ادوات الحس بالنسبة اليه هذه هي الدرجة العالية من الحس وقابلية الاتصال مع العمل الإلهي.
واخرى يفترض انه يحس بها من بعض جوانبها وهو الذي عبر عنه بانه
يسمع الصوت ولا يرى الشخص هذا احساس الا انه احساس ناقص وقد يفترض انه اقل من ذلك وهو الذي عبر عنه في بعض الروايات بانه يرى الرؤيا في المنام هنا يرى هذه الرؤيا المنامية وهي طبعاً تختلف عن الرؤيات في اليقظة من حيث درجة الوضوح.
فهنا فارق كيفي بين الحس والرؤيا المنامية والرؤيا في عالم اليقظة والانتباه الكامل.
هناك درجات من الحس وعلى وفق هذه الدرجات وضعت مصطلحات الرسول والنبي والمحدّث والامام، ونحو ذلك من المصطلحات، انه الذي يمثل اعلى هذه الدرجات هو الوحي المتمثل في ملك يتفاعل معه النبي تفاعلاً حسياً من جميع جوانبه كما كان يعيش سيد المرسلين (ص) مع جبرائيل (ع) هنا رسول الله (ص) يعيش الحقيقة الالهية عيشاً حسياً من جميع جوانبها. يعيشها كما نعيش نحن على مستوى حسناً ووجود رفيقنا وصديقنا، لكن مع فارق بين هذين الحسين بدرجة الفارق بين المحسوسين.
هذا الحس هو الذي استطاع ان يربي شخص النبي (ص) وأعد لكي يكون المثل الاول والرائد الاول لخط هذه القيم والمثل والاهداف الكبيرة.
يعني هذا الحس قام بدور التربية للنبي (ص) لانه استنزل القيم والمثل والاهداف والاعتبارات العظيمة من مستواها الغائم المبهم من مستواها الغامض العقلي من مستوى النظريات العمومية فأعطاها معالم الحس التي لا ينفعل الانسان كما قلنا بقدر ما ينفعل بها بهذا تصبح الصورة المحسوسة التي هبطت على النبي (ص) على أي نبي من الانبياء ملء وجوده ملء روحه ملء كيانه.
تصبح همه الشاغل في ليله ونهاره لأنها امامه يراها يحسها... يلمسها ويشمها بأروع مما نلمس ونشم ونسمع ونبصر.
ثم هذا الشخص الذي استطاع ان يربيه الحس القائم على الوحي يصبح هو حساً مربياً للآخرين. فالآخرون من ابناء البشرية الذين لم تتح لهم الظروف، ظروفهم وملابساتهم وعناية الله ان يرتفعوا هم الى مستوى هذا الحس الذين لم يتح لهم هذا الشرف العظيم سوف يتاح لهم الحس لكن بالشكل
غير المباشر حس بالحس لا حس بالحقيقة الالهية مباشرة، حس بالمرآة الحقيقية الالهية انعكست على هذه الحقيقة الالهية يعني المعطى الالهي - الثقافة الالهية - انعكست على هذه المرآة والآخرون يحسون بهذه المرآة بينما النبي (ص) نفسه كان يحس مباشرة بتلك الثقافة الالهية بما هي امر حسي لا بما هي امر نظري اما نحن نحس محمداً (ص) بما هو رجل عظيم بما هو رجل استطاع ان يثبت للبشرية ان هناك اعتباراً وهدفاً فوق كل المصالح والاعتبارات فوق كل الانانيات فوق كل الامجاد المزيفة والكرامات المحدودة ان هناك انساناً لاينقطع نفسه اذا كان دائماً بيسير على خط رسالة الله سبحانه وتعالى هذا المضمون الذي للإنسان ان يدركه عقلياً هذا المضمون الذي حشد ارسطو وافلاطون مئات الكتب بالبرهنة العقلية عليه على امكانية الاستمرار اللامتناهي من اللامتناهي هذا المعنى اصبح لدى البشرية امراً محسوساً خرج من نطاق اوراق ارسطو وافلاطون التي لم تستطع ان تصنع شيئاً والتي لم تستطع ان تفتح قلب انسان على الصلة بهذا اللامتناهي واصبحت امراً حسياً يعيش مع تاريخ الناس لكي يكون هذا الامر المحسوس هو التعبير القوي دائماً عن تلك القيم والمثل وهو المربي للبشرية على اساس تلك القيم والمثل.
فالوحي بحسب الحقيقة اذن هو المربي الاول للبشرية الذي لم يكن بالامكان للبشرية ان تربى بدونه لان البشرية بدون الوحي ليس لديها الا حس بالمادة وما على المادة من ماديات، والا ادراك عقلي غائم قد يصل الى مستوى الايمان بالقيم والمثل وباللّه الا انه ايمان عقلي على أي حال لا يهز قلب هذا الانسان ولا يدخل الي ضميره ولا يسمع كل وجوده ولا يتفاعل مع كل مشاعره وعواطفه.
فكان لا بد أن يستنزل ذلك العقل على مستوى الحس لا بد ان تستنزل تلك المعقولات على مستوى الحس وحيث ان هذا ليس بالامكان ان يعمل مع كل الناس لأن كل انسان مهيأ لهذا ولهذا استصفي لهذه العملية اناس معينون اوجد الله تبارك وتعالى فيهم الحس القائد الرائد هذا الحس رباهم هم اولا وبالذات ثم خلق وجوداً حسياً ثانوياً هذا الوجود الحسي الثانوي كان هو المربي للبشرية.
والخلاصة لئن بقيت القيم والمثل والاهداف والاعتبارات عقلية محضة فهي سوف تكون قليلة الفهم ضعيفة الجذب بالنسبة الى الانسان وكلما امكن تمثيلها حسياً اصبحت اقوى واصبحت اكثر قدرة على الجذب والدفع.
اذا كان هذا حقاً فيجب أن نخطط لانفسنا ونخطط في علاقاتنا مع الآخرين على هذا الاساس. يجب أن نخطط في انفسنا على هذا المستوى ومعنى ان نخطط في انفسنا على هذا يعني ان لا نكتفي بأفكار عقلية نؤمن بها نضعها في زاوية عقلنا كايمان الفلاسفة بآرائهم الفلسفية لا يكفي ان نؤمن بهذه القيم والمثل ايماناً عقلياً صرفاً بل يجب ان نحاول... ان نستنزلها الى اقصى درجة ممكنة من الوضوح الحسي طبعاً نحن لا نطمع ان نكون انبياء ولانطمع ان نحظى بهذا الشرف العظيم الذي انغلق على البشرية بعد وفاة النبي (ص) ولكن مع هذا الوضوح مقول بالتشكيك على حسب اصطلاح المناطق ليس كل درجة من الوضوح معناها النبوة هناك ملايين من درجات الوضوح قبل ان تصبح نبياً. يمكن ان تكسب ملايين من درجات الوضوح، وهذه المراتب المتصاعدة قبل ان تبلغ الى الدرجة التي اصبح فيها موسى (ع) في لحظة استحق فيها ان يخاطبه اللّه سبحانه وتعالى او قبل ان يصل الانسان الى الدرجة التي بلغ اليها محمد (ص) حينما هبط عليه اشرف كتب السماء هناك ملايين من الدرجات هذه الملايين بابها مفتوح امامنا ولا بد ان لا نقتصر ان لا نزهد في هذا التطوير العقلي للقيم والمثل الموجود عندنا لا بد لنا ان لا نقتصر وان نطمع في اكثر من هذا الوضوح وفي اكثر من هذا من التحدد ومن الحسية لا بد لنا ان نفكر في ان يعبأ كل وجودنا بهذا القيم والمثل لكي تكون على مستوى المحسوسات بالنسبة الينا.
من اساليب استنزال هذه القيم والمثل الى مستوى المحسوسات هو التأثير الذهني عليها باستمرار حينما توحي الى نفسك باستمرار بهذه الافكار الرفيعة حينما توحي الى نفسك باستمرار بانك عبد مملوك للّه سبحانه وتعالى وان الله تبارك وتعالى هو المالك المطلق لامرك وسلوكك ووجودك وهو المخطط لوضعك ومستقبلك وحاضرك وانه هو الذي يرعاك بعين لا تنام في دنياك
وآخرتك حينما توحي الى نفسك باستمرار بمستلزمات هذه العبودية من انك مسؤول امام هذا المولى العظيم مسؤول ان تطيعه ان تطبق خطه، أن تلتزم رسالته، ان تدافع عن رايته ان تلزم شعاراته حينما تسر الى نفسك وتؤكد على نفسك باستمرار ان هذا المعنى للعبودية لانك دائماً وابداً يجب ان تعيش مع الله.
حينما توحي الى نفسك بانك يجب ان تعيش للّه سوف تتعمق دقة العيش للّه في ذهنك سوف تتسع سوف تصبح بالتدريج شبحاً يكاد ان يكون حسياً بعد ان كان نظرياً عقلياً صرفاً.
أليس هناك اشخاص من الاولياء والعلماء والصديقين قد استطاعوا ان يبصروا محتوى هذه القيم والمثل بام اعينهم ولم يستطيعوا ان يبصروها بام اعينهم الا بعد ان عاشوها عيشا تفصيلياً مع الالتفات التفصيلي الكائن وهذه عملية شاقة جداً لان الانسان كما قلنا ينفعل بالحس وما اكثر المحسوسات من امامه ومن خلفه الدنيا كلها بين يديه تمتع بحسه في مختلف الاشياء وهو يجب عليه دائماً وهو يعيش في هذه الدنيا التي تنقل الى عينه مئات المبصرات، وتنقل مئات المسموعات، يجب عليه ان يلقن نفسه دائماً بهذه الافكار ويؤكد هذه الافكار خاصة في لحظات ارتفاعه وفي لحظات تساميه لان اكثر الناس الا من عصم الله تحصل له لحظات التسامي، وتحصل له لحظات الانخفاض.
ليس كل انسان يعيش محمداً (ص) مئة بالمئة والا لكان كل الناس من طلابه الحقيقيين كل انسان لا يعيش محمداً الا لحظات معينة تتسع وتضيق بقدر تفاعل هذا الانسان برسالة محمد (ص).
اذن ففي تلك اللحظات التي تمر على أي واحد منا ويحس بان قلبه منفتح لمحمد (ص) وان عواطفه ومشاعره كلها متأججة بنور رسالة هذا النبي العظيم (ص). في تلك اللحظات يغتنم تلك الفرصة ليخترن وانا اؤمن بعملية الاختران يعني أؤمن بان الانسان في هذه اللحظة اذا استوعب افكاره وأكد على مضمون معين وخزنه في نفسه سوف يفتح له هذا الاختران في لحظات الضعف بعد هذا حينما يفارق هذه الجلوة العظيمة حينما يعود الى حياته الاعتيادية سوف يتعمق بالتدريج هذا الرصيد هذه البذرة التي وضعها في
لحظة الجلوة في لحظة الانفتاح المطلق على اشرف رسالات السماء تلك البذرة سوف تشعره وسوف تقول له في تلك اللحظة اياك من المعصية اياك من ان تنحرف قيد انملة عن خط محمد (ص).
كلما ربط الانسان نفسه في لحظات الجلوة والانفتاح بقيود محمد (ص) واستطاع ان يعاهد نبيه العظيم (ص) على ان لا ينحرف عن رسالته على ان لا يتململ عن خطه على ان يعيشه ويعيش اهدافه ورسالته واحكامه حينئذ بعد هذا حينما تفارقه هذه الجلوة وكثيراً ما تفارقه اذا أراد ان ينحرف يتذكر عهده يتذكر صلته بمحمد (ص) تصبح العلاقة حينئذ ليست مجرد نظرية عقلية بل هناك اتفاق هناك معاهدة هناك بيعة اعطاها لهذا النبي (ص) في لحظة حس في لحظة قريبة من الحس.
كان كأنه يرى النبي امامه فبايعه.
لو ان أي واحد منا استطاع ان يرى النبي (ص) بأم عينه. أو رأى امامه امام زمانه عجل اللّه تعالى فرجه رأى قائده بأم عينه وعاهده وجهاً لوجه على ان لا يعصي على ان لا ينحرف على ان لا يخون الرسالة هل بالامكان لهذا الانسان بعد هذا لو فارقته تلك الجلوة ولو ذهب الى ما ذهب ولو عاش أي مكان واي زمان هل بإمكانه ان يعصي؟ هل يمكنه ان ينحرف او يتذكر دائماً صورة ولي الامر عجل اللّه تعالى فرجه وهو يأخذ منه هذه البيعة وهذا العهد على نفسه.
نفس هذه العملية يمكن ان يعملها أي واحد منا لكن في لحظة الجلوة في لحظة الانفتاح.
كل انسان من عندنا يعيش لحظة لقاء الامام عجل اللّه تعالى فرجه من دون ان يلقى الامام عجل اللّه تعالى فرجه ولو مرة واحدة في حياته هذه المرة الواحدة او المرتين والثلاثة يجب ان نعمل لكي تتكرر لأن بالامكان أن نعيش هذه اللحظة دائماً هذا ليس امراً مستحيلاً بل هو امر ممكن والقصة قصة اعداد وتهيئة لأن نعيش هذه اللحظة حتى في حالة وجود لحظات أكثر بكثير تعيش
فيها الدنيا تعيش فيها أهواء الدنيا ورغبات الدنيا وشهوات الدنيا مع هذا يجب أن تخلف فينا هذه اللحظة رصيداً يجب ان تخلق فينا بذرة منعة عصمة قوة قادرة على ان تقول: لا، حينما يقول الاسلام: لا، ونعم حينما يقول الاسلام ذلك.
هذه اللحظة يجب ان نغتنمها ويجب ان نختزن لكي تتحول بالتدريج هذه المفاهيم الى حقائق وهذه الحقائق الى محسوسات وهذه المحسوسات الى جهاد نعيشه بكل عواطفنا ومشاعرنا وانفعالاتنا آناء الليل واطراف النهار ونحن ما احوجنا الى ذلك لان المفروض أننا نحن الذين يجب أن نبلغ للناس نحن الذين يجب اننشع بنور الرسالة على الناس. نحن الذين يجب أن نحدد معالم الطريق للأمة والمسلمين اذن فما احوجنا الى ان يتبين لنا الطريق تبيناً حسياً تبيناً اقرب ما يكون الى تبين الانبياء وطرقهم.
ليس عبثاً وليس صدفة ان رائد الطريق دائماً كان انساناً يعيش الوحي لانه كان لا بد له ان يعيش طريقه بأعلى درجة ممكنة للحس حتى لا ينحرف حتى لا يتململ حتى لا يضيع حتى لايكون سبباً في ضلال الآخرين. ونحن يجب ان ندعو ان نتضرع الى اللّه دائماً لان يفتح امام اعيننا معالم الطريق ان يرينا الطريق رؤية عين لا رؤية عقل فقط ان يجعل هذه القيم وهذه المثل والطريق الى تجسيد هذه القيم وهذه المثل شيئاً محسوساً بكل منعطفات هذا الطريق وبكل صعوبات هذا الطريق وما يمكن ان يصادفه في اثناء هذا الطريق.
لا بد لنا ان نفكر في ان نحصل اكبر درجة ممكنة من الوضوح في هذا الطريق هذا بيننا وبين انفسنا..
واما العبرة التي نأخذها بالنسبة الينا مع الآخرين نحن ايضاً يجب ان نفكر في اننا سوف لن نطمع في هداية الآخرين عن طريق اعطاء المفاهيم فقط عن طريق اعطاء النظريات المجردة فقط وتصنيف الكتب العميقة كل هذا لا يكفي القاء المحاضرات النظرية لا يكفي.
لا بد لنا ان نبني تأثيرنا في الآخرين ايضاً على مستوى الحس يجب ان نجعل الآخرين يحسون منا بما ينفعلون به انفعالاً طيباً طاهراً مثالياً فان الآخرين مثلنا، الآخرون هم بشر والبشر ينفعلون بالحس أكثر مما ينفعلون
بالعقل فلا بد اذن ان نعتمد على هذا الرصيد أكثر مما نعتمد على ذلك الرصيد.
كتاب مئة كتاب نظري لا يساوي ان تعيش الحياة التي تمثل خط الانبياء حينما تعيش الحياة التي تمثل خط الانبياء بوجودك بوضعك باخلاقك بايمانك بالنار والجنة ايمانك بالنار والجنة حينما ينزل الى المستوى الحس الى مستوى الرقابة الشديدة الى مستوى العصمة حينما ينزل الى هذا المستوى يصبح امراً محسوساً يصبح هذا الايمان امراً حسياً حينئذ سوف يكهرب الآخرين ولا نطمع بالتأثير عليهم على مستوى النظريات فحسب فان هذا وحده لا يكفي وان كان ضرورياً ايضاً ولكن يجب ان نضيف الى التأثير على مستوى النظريات تطهير انفسنا وتكميل ارواحنا وتقريب سلوكنا من سلوك الانبياء (ص) وأوصياء هؤلاء الانبياء لنستطيع ان نجسد تلك القيم والمثل بوجودنا امام حس الآخرين قبل ان نعطيها بعقول الآخرين او توأماً مع اعطائها لعقول الآخرين...
اللهم وفقنا للسير في خط اشرف انبيائك والالتزام بتعالميه غفر اللّه لنا ولكم جميعاً. [/align]
يا محوّل الحول والاحوال ، حوّل حالنا إلى أحسن الحال......
-
[align=center]المحاضرة الخامسة
بسم اللّه الرحمن الرحيم
دور الأئمة (عليهم السلام) بعد وفاة الرسول (ص)
الصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين.
حينما توفي رسول الله (ص) خلّف امة ومجتمعا ودولة.
واقصد بالامة المجموعة من المسلمين الذين كانوا يؤمنون برسالته ويعتقدون بنبوته واقصد بالمجتمع تلك المجموعة من الناس التي كانت تمارس حياتها على اساس تلك الرسالة وتنشئ علاقاتها على اساس التنظيم المقرر لهذه الرسالة واقصد بالدولة القيادة التي كانت تتولى، تزعم التجربة في ذلك المجتمع، والاشتغال على تطبيق الاسلام وحمايته مما يهدده من أخطار وانحراف.
الانحراف الذي حصل يوم السقيفة، كان أول ما كان في كيان الدولة، لأن القيادة كانت قد اتخذت طريقاً غير طريقها الطبيعي، وقلنا بأن هذا الانحراف الذي حصل يوم السقيفة، في زعامة التجربة أي الدولة، كان من الطبيعي في منطق الاحداث ان ينمو ويتسع، حتى يحيط بالتجربة نفسها، فتنهار الزعامة التي تشرف على تطبيق الاسلام.
هذه الزعامة باعتبار انحرافها، وعدم كونها قادرة على تحمل المسؤولية، تنهار في حياتها العسكرية والسياسية، وحينما تنهار الدولة، حينما تنهار زعامة التجربة ينهار تبعاً لذلك المجتمع الاسلامي، لانه يتقوم بالعلاقات التي تنشأ على أساس الاسلام، فاذا لم تبق زعامة التجربة لترعى هذه العلاقات وتحمي وتقنن قوانين لهذه العلاقات، فلا محالة ستتفتت هذه العلاقات، وتتبدل بعلاقات اُخرى قائمة على أساس آخر غير الاسلام، وهذا معناه زوال المجتمع الاسلامي.
تبقى الامة بعد هذا وهي أبطأ العناصر الثلاثة تصدعاً وزوالاً، بعد ان زالت الدولة الشرعية الصحيحة، وزال المجتمع الاسلامي الصحيح، تبقى الامة، الا ان هذه ايضاً من المحتوم عليها ان تتفتت، وان تنهار، وان تنصهر ببوتقة الغزو الكافر، الذي اطاح بدولتها ومجتمعها. لأن الامة التي عاشت الاسلام زمناً قصيراً، لم تستطع ان تستوعب من الاسلام ما يحصنها، ما يحدد ابعادها ما يقويها، ما يعطيها اصالتها وشخصيتها وروحها العامة وقدرتها على الاجتماع على مقاومة التميع والتسيب والانصهار في البوتقات الاخرى.
هذه الامة بحكم ان الانحراف قصّر عمر التجربة، وبحكم ان الانحراف زوّر معالم الاسلام، بحكم هذين السببين الكمي والكيفي، الأمة غير مستوعبة، الامة تتحصّن بالطاقات التي تمنعها وتحفظها عن الانهيار امام الكافرين وامام ثقافات الكافرين، فتتنازل بالتدريج، عن عقيدتها عن آدابها، عن اهدافها وعن أحكامها، ويخرج الناس من دين اللّه افواجاً، وهذا ما أشارت اليه رواية عن احد الأئمة (ع) يقول فيها بأن أول ما يتعطل من الاسلام هو الحكم بما انزل اللّه سبحانه وتعالى، وآخر ما يتعطل من الاسلام هو الصلاة، هذا هو تعبير بسيط عما قلناه من ان اول ما يتعطل هو الحكم بما انزل اللّه أي ان الزعامة والقيادة للدولة تنحرف، وبانحرافها سوف يتعطل الحكم بما انزل اللّه. وهذا الخط ينتهي حتماً الى أن تتعطل الصلاة، يعني الى تمييع الامة، تعطل الصلاة هو مرحلة ان الامة تتعطل، ان الامة تتنازل عن عقيدتها، ان الامة تضيع عليها رسالتها وآدابها وتعاليمها.
الحكم بغير ما انزل اللّه، معناه ان التجربة تنحرف، ان المجتمع يتميّع...
في مقابل هذا المنطق وقف الأئمة (ع) على خطين كما قلنا:
الخط الأول: هو خط محاولة تسلم زمام التجربة، زمام الدولة، محو آثار الانحراف، ارجاع القيادة الى موضعها الطبيعي لأجل ان تكتمل العناصر الثلاثة: الامة والمجتمع والدولة.
الخط الثاني: الذي عمل عليه الائمة (ع)، هو خط تحصين الامة ضد الانهيار، بعد سقوط التجربة واعطائها من المقومات، القدر الكافي، لكي تبقى وتقف على قدميها، وتعيش المحنة بعد سقوط التجربة، بقدم راسخة وروح مجاهدة، وبايمان ثابت.
والآن، نريد ان نتبين هذين الخطين في حياة امير المؤمنين (ع)، مع استلال العبر في المشي على هذين الخطين.
على الخط الأول خط محاولة تصحيح الانحراف وارجاع الوضع الاجتماعي والدولي في الامة الاسلامية الى خطه الطبيعي، في هذا الخط، عمل (ع) حتى قيل عن علي (ع) انه أشد الناس رغبة في الحكم والولاية، اتهمه معاوية بن أبي سفيان، بانه طالب جاه، وانه طالب سلطان. اتهمه بالحقد على أبي بكر وعمر، اتهمه بكل ما يمكن ان يتهم الشخص المطالب بالجاه وبالسلطان وبالزعامة.
أمير المؤمنين (ع) عمل على هذا الخط خط تسلم زمام الحكم، وتفتيت هذا الانحراف، وكسب الزعامة زعامة التجربة الاسلامية الى شخصه الكريم، بدأ هذا العمل عقيب وفاة رسول اللّه (ص) مباشرة كما قلنا بالأمس، حيث حاول ايجاد تعبئة وتوعية فكرية عامة في صفوف المؤمنين واشعارهم بان الوضع وضع منحرف.
الا ان هذه التعبئة لم تنجح لاسباب ترتبط بشخص علي (ع) استعرضنا بعضها بالامس، ولاسباب أخرى ترتبط بانخفاض وعي المسلمين انفسهم. لأن المسلمين وقتئذ لم يدركوا ان يوم السقيفة كان هو اليوم الذي سوف ينفتح منه كل ما انفتح من بلاء على الخط الطويل لرسالة الاسلام، لم يدركوا هذا، ورأوا ان وجوهاً ظاهرة الصلاح قد تصدّت لزعامة المسلمين ولقياداتهم في هذا المجال، ومن الممكن خلال هذه القيادة، ان ينمو الاسلام وان تنمو الامة.
لم يكن يفهم من علي (ع) الا ان له حقاً شخصياً يطالب به، وهو مقصر في مطالبته، الا ان المسألة لم تقف عند هذا الحد، فضاقت القصة على أمير المؤمنين (ع) من هذه الناحية، ومن أننا نجد في مراحل متأخرة من حياة امير المؤمنين (ع) المظاهر الاخرى لعمله على هذا الخط، لمحاولة تسلمه او سعيه في سبيل تسلم زعامة التجربة الاسلامية وتفادي الانحراف الذي وقع، الا ان الشيء الذي هو في غاية الوضح، من حياة أمير المؤمنين (ع) انه (ع) في عمله في سبيل تزعم التجربة، وفي سبيل محاربة الانحراف القائم ومواجهته بالقول الحق وبالعمل الحق، وبشرعية حقه في هذا المجال، كان يواجه مشكلة كبيرة جداً، وقد استطاع ان ينتصر على هذه المشكلة انتصاراً كبيراً جداً ايضاً.
هذه المشكلة التي كان يواجهها هي مشكلة الوجه الظاهري لهذا العمل والوجه الواقعي لهذه العمل.
قد يتبادر الى ذهن الانسان الاعتيادي لأول مرة إن العمل في سبيل معارضة زعامة العصر، والعمل في سبيل كسب هذه الزعامة، انه عمل في اطار فكري، انه عمل يعبَّر عن شعور هذا العامل بوجوده، وفي مصالحه، وفي مكاسبه، وبأبعاد شخصيته، هذا هو التفسير التلقائي الذي يتبادر الى الاذهان، من عمل يتمثل فيه الاصرار على معارضته في زعامة العصر على كسب هذه الزعامة، وقد حاول معاوية كما اشرنا ان يستغل هذه البداهة التقليدية في مثل هذا الموقف من أمير المؤمنين (ع).
الا ان الوجه الواقعي لهذا العمل من قبل الامام (ع) لم يكن هذا، الوجه الواقعي هو ان علياً كان يمثل الرسالة وكان هو الامين الاول من قبل رسول اللّه (ص) على التجربة على استقامتها وصلابتها، وعدم تميعها على الخط الطويل، الذي سوف يعيشه الاسلام والمسلمون بعد النبي (ص). فالعمل كان بروح الرسالة ولم يكن بروحه هو، كان عملاً بروح تلك الاهداف الكبيرة، ولم يكن عملاً بروح المصلحة الشخصية، لم يكن يريد ان يبني زعامة لنفسه، وانما كان يريد ان يبني زعامة الاسلام وقيادة الاسلام في المجتمع الاسلامي، وبالتالي في مجموع البشرية على وجه الارض.
هذان وجهان مختلفان، قد يتعارضا في العامل نفسه، وقد يتعارضان في نفس الاشخاص الآخرين، الذين يريدون ان يفسروا عمل هذا العامل.
هذا العامل قد يتراءى له في لحظة انه يريد ان يبني زعامة الاسلام لا زعامة نفسه، الا انه خلال العمل، اذا لم يكن مزوداً بوعي كامل. اذا لم يكن مزوداً بارادة قوية، اذا لم يكن قد استحضر في كل لحظاته وآنات حياته، انه يعيش هذه الرسالة ولا يعيش نفسه، اذا لم يكن هكذا، فسوف يحصل في نفسه ولولا شعوريا انفصام بين الوجه الظاهري للعمل وبين الوجه الحقيقي للعمل، وبمثل هذا الانفصام سوف تضيع امامه كل الاهداف او جزء كبير من تلك الاهداف سوف ينسى انه لا يعمل لنفسه بل هو يعمل لتلك الرسالة سوف ينسى انه ملك غيره وانه ليس ملكاً لنفسه: كل شخص يحمل هذه الاهداف الكبيرة، يواجه خطر الضياع في نفسه، وخطر ان تنتصر انانيته على هذه الاهداف الكبيرة، فيسقط في اثناء الخط، يسقط في وسط الطريق، وهذا ما كان علي (ع) معه على طرفي نقيض. علي (ع) كان يصّر دائماً على ان يكون زعيماً، يصّر دائماً على ان يكون هو الاحق بالزعامة، علي الذي يتألم، الذي يتحسّر انه لم يصبح زعيماً بعد محمد (ص) الذي يقول: لقد تقصمها ابن ابي قحافة وهو يعلم ان محلي منها محل القطب من الرحى، في غمرة هذا الالم، في غمرة هذه الحساسية، يجب ان لا ننسى ان هذا الالم ليس لنفسه، ان هذه الحساسية ليست لنفسه، ان كل هذا العمل وكل هذا الجهد، ليس لاجل نفسه بل من أجل الاسلام. و كذلك كان يربي اصحابه على انهم اصحاب تلك الاهداف الكبيرة، لا اصحاب زعامته وشخصه، وقد انتصر علي عليه السلام انتصاراً عظيماً في كلتا الناحيتين.
انتصر علي على نفسه، وانتصر في اعطاء عمله اطاره الرسالي وطابعه العقائدي انتصاراً كبيراً.
على ربي اصحابه على انهم اصحاب الاهداف لا اصحاب نفسه. كان يدعو الى ان الانسان يجب ان يكون صاحب الحق، قبل ان يكون صاحب شخص بعينه. علي هو الذي قال: «اعرف الحق تعرف اهله» كان يربي اصحابه، يربى عماراً وأبا ذرّ والمقداد على انكم اعرفوا الحق... ثم احكموا
على علي في اطار الحق. وهذا غاية ما يمكن ان يقدمه الزعيم من اخلاص في سبيل اهدافه. ان يؤكد دائماً لأصحابه واعوانه - وهذا مما يجب على كل المخلصين - ان المقياس هو الحق وليس هو الشخص. ان المقياس هو الاهداف وليس هو الفرد.
هل يوجد هناك شخص اعظم من علي بن ابي طالب. لا يوجد هناك شخص اعظم من علي الا استاذه، لكن مع هذا جعل المقياس هو الحق لا نفسه.
لما جاءه ذلك الشخص وسأله عن الحق في حرب الجمل هل هو مع هذا الجيش او مع ذلك الجيش، كان يعيش في حالة تردد بين عائشة وعلي، يريد ان يوازن بين عائشة وعلي، أيهما أفضل حتى يحكم بانه هو مع الحق أو عائشة. جهودها للإسلام أفضل أو جهود علي أفضل، قال له: اعرف الحق تعرف اهله.
علي كان دائماً مصرّاً على ان يعطي العمل الشخصي طابعه الرسالي، لا طابع المكاسب الشخصية بالنسبة اليه، وهذا هو الذي يفّسر لنا كيف ان علياً (ع)، بعد ان فشل في تعبئته الفكرية عقيب وفاة رسول اللّه (ص)، لم يعارض ابا بكر وعمر معارضة واضحة سافرة طيلة حياة ابي بكر وعمر، وذلك ان اول موقف اعتزل فيه علي المعارضة بعد تلك التعبئة الفكرية واعطائها شكلاً واضحاً صريحاً كان عقيب وفاة عمر، يوم الشورى حينما خالف ابا بكر وعمر، هذا عندما حاول عبد الرحمن بن عوف حينما اقترح عليه المبايعة ان يبايعه على كتاب اللّه وسنة رسول وسنة الشيخين، قال عليه السلام: بل على كتاب اللّه وسنة نبيه واجتهادي. هنا فقط اعلن عن معارضة عمر، في حياة ابي بكر وعمر بعد تلك التعبئة، لم يبد موقفاً ايجابياً واضحاً في معارضتهما، والوجه في هذا، هو ان علياً (ع) كان يريد ان تكون المعارضة في اطارها الرسالي، وان ينعكس هذا الاطار على المسلمين، ان يفهموا ان المعارضة ليست لنفسه، وانما هي للرسالة، وحيث ان ابا بكر وعمر كانا قد بدآ الانحراف، ولكن الانحراف لم يكن قد تعمق بعد والمسلمون القصير والنظر، الذين قدموا ابا بكر على علي (ع) ثم قدموا عمر على علي (ع)، هؤلاء
المسلمون القصيرو النظر لم يكونوا يستطيعون ان يعمقوا النظر الى هذه الجذور، التي نشأت في ايام ابي بكر وعمر فكان معنى مواصلة المعارضة بشكل جديد ان يفسر من أكثر المسلمين، بأنه عمل شخصي، وانها منافسة شخصية مع ابي بكر وعمر وان بدأت بهم بذور الانحراف في عهدهما الا انه حتى هذه البذور كانت الاغلب مصبوغة بالصبغة الايمانية، كانا يربطانها بالحرارة الايمانية الموجودة عند الامة، وحيث انها حرارة ايمانية بلا وعي، ولهذا لم تكن الامة تميز هذا الانحراف.
عمر ميز بين الطبقات، الا انه حينما ميز بين الطبقات، حينما اثرى قبيلة بعينها دون غيرها من القبائل...؟ أتعرفون أي قبيلة هي التي اثراها، هي قبيلة النبي (ص)، عمر أغنى قبيلة النبي محمد (ص) اغنى عم محمد (ص) اعطى زوجات النبي عشرة آلاف، كان يعطي للعباس اثني عشر الفا، كان يقسم الاموال الضخمة على هذه الأسرة، هذا الانحراف لا يختلف في جوهره عن انحراف عثمان بعد ذلك، عثمان حينما ميز، الا ان عمر فقط ربط هذا الانحراف بالحرارة الايمانية عند الامة، لان الحرارة الايمانية عند الامة كانت تقبل مثل هذا الانحراف. هؤلاء أهل بيت النبي (ص)، هذا عم النبي (ص)، هذه زوجة النبي (ص)، اذن هؤلاء يمكن ان يعطوا يمكن ان يثروا على حساب النبي (ص)، لكن عثمان حينما جاء لم يرد على هذا الانحراف شيئاً، الا انه لم يرتبط بالحرارة الايمانية، بدّل عشيرة النبي (ص) بعشيرته هو، وهذا ايضاً انحراف مستمر لذلك الانحراف، الا انه انحراف مكشوف. ذاك انحراف مقنّع، ذاك انحراف مرتبط بالحرارة الايمانية عند الأمة، وهذا انحراف يتحدى مصالح الامة، والمصالح الشخصية للأمة، ولهذا استطاعت الامة ان تلتفت الى انحراف عثمان بينما لم تلتفت بوضوح الى انحراف أبي بكر وعمر، وبهذا بدأ علي بن أبي طالب (ع) معارضته لأبي بكر وعمر في الحكم بشكل واضح، بعد ان مات ابو بكر وعمر، لم يكن من المعقول تفسير هذه المعارضة على انها معارضة شخصية بسبب طمع في سلطان، بدأ هذه المعارضة واعطى رأيه بأبي بكر وعمر.
علي بن ابي طالب (ع) بعد ان تم الامر لعثمان، بعد ان بويع عثمان يوم
الشورى، قال: ان سوف اسكت ما سلمت مصالح المسلمين وامور المسلمين، وما دام الغبن علي وحدي، وما دمت انا المظلوم وحدي، وما دام حقي هو الضائع وحدي. انا سوف اسكت سوف أبايع سوف اطيع عثمان، هذا هو الشعار الذي اعطاه بصراحة مع ابي بكر وعمر وعثمان، وبهذا الشعار اصبح في عمله رسالياً، وانعكست هذه الرسالة على عهد امير المؤمنين، وبقي (ع) ملتزماً بما تعهّد به من السكوت الى ان بدأ الانحراف في حياة عثمان بشكل مفضوح، حيث لم يرتبط بلون من الوان الحرارة الايمانية التي ارتبط بها الانحراف في ايام الخليفة الاول وفي ايام الخليفة الثاني، بل اسفر الانحراف، ولهذا اسفر علي (ع) عن المعارضة وواجه عثمان بما سوف نتحدث عنه بعد ذلك.
فعلي (ع) في محاولته لتسلم زمام التجربة وزعامة القضية الاسلامية كان يريد ان يوفق بين هذا الوجه الظاهري للعمل، و بين الوجه الواقعي للعمل، واستطاع ان يوفق بينهما توفيقاً كاملاً، استطاع هذا في توقيت العمل، واستطاع هذا في تربيته لأصحابه، على انهم اصحاب الاهداف لا اصحاب الاشخاص، واستطاع في كل هذه الشعارات التي طرحها، ان يثبت انه بالرغم من كونه في قمة الرغبة لأن يصبح حاكماً، لم يكن مستعداً ابداً لان يصبح حاكماً مع اختيار أي شرط من الشروط المطلوبة التي تنال من تلك الرسالة.
ألم تعرض عليه الحاكمية والرسالة بعد موت عمر بشرط ان يسير سيرته؟ فرفض الحاكمية برفض هذا الشرط.
علي بن ابي طالب (ع) بالرغم من انه كان في اشد ما يكون سعياً وراء الحكم، جاءه المسلمون بعد ان قتل عثمان، عرضوا عليه ان يكون حاكماً، قال لهم بايعوا غيري وأنا أكون كأحدكم، بل اكون أطوعكم لهذا الحاكم، الذي تبايعونه، ما سلمت أمور المسلمين في عدله وعمله، يقول ذلك، لان الحقد الذي تواجهه الامة الاسلامية كبير جداً، تتمادى بذرة الانحراف، الذي عاشه المسلمون بعد النبي (ص) الى ان قتل عثمان، هذا الانحراف الذي تعمق، الذي ارتفع، هذا الانحراف الذي طغى والذي استكبر، الذي خلق تناقضات في الامة الاسلامية، هذا عبء كبير جداً.
ماذا يريد ان يقول، يريد ان يقول: لأني انا لا اقبل شيئاً الا على ان تصفّوا الانحراف، انا لا اقبل الحكم الذي لا يصفى هذا الانحراف لا الحكم الذي يصفّيه، هذه الاحجامات عن قبول الحكم في مثل هذه اللحظات كانت تؤكد الطابع الرسالي، بحرقته بلوعته، لألمه لرغبته ان يكون حاكماً، استطاع ان ينتصر على نفسه، ويعيش دائماً لأهدافه، واستطاع ان يربي اصحابه ايضاً على هذا المنوال.
هذا هو الخط الاول وهو خط محاولة تسلمه لزمام التجربة الاسلامية.
أما على الخط الثاني:
وهو خط تحصين الامة لقد كانت الامة تواجه خطراً، وحاصل هذا الخطر هو ان العامل الكمي والعامل الكيفي، سوف يجعلان هذه الامة لاتعيش الاسلام، الا زمنا قصيراً.
بحكم العامل الكمي الذي سوف يسرع، في افناء التجربة وسوف لن تعيش الا مشوهة بحكم العامل الكيفي، الذي يتحكم في هذه التجربة، ولذا بدأ الامام بتحصين الامة، وبالتغلب على العاملين: العامل الكمي والعامل الكيفي.
اما التغلب على العامل الكمي فكان في محاولة تحطيم التجربة المنحرفة وتحجيمها وافساح المجال للتجربة الاسلامية لتثبت جدارتها وذلك بأسلوبين:
الاسلوب الاول: هو التدخل الايجابي الموجه في حياة هذه التجربة بلحاظ قيادتها.
القادة والزعماء الذين كانوا يتولون هذه التجربة، كانوا يواجهون قضايا كثيرة لا يحسنون مواجهتها، كان يواجههم مشاكل كثيرة لا يحسنون حلّها، ولو حاولوا لوقعوا في أشد الاضرار والاخطار، لأوقعوا المسلمين في أشد التناقضات، ولأصبحت النتيجة محتومة اكثر، ولأصبحت التجربة أقرب الى الموت، وأقرب الى الفناء واسرع الى الهلاك، هنا كان يتدخل الامام (ع) وهذا خط عام سار الائمة (ع) كلهم عليه كما قلنا، كما سوف نقول، فكان الامام (ع) يتدخل تدخلاً ايجابياً، موجهاً في سبيل ان ينقذ التجربة من المزيد
من الضياع ومن المزيد من الانحراف، ومن المزيد من السير في الضلال.
كلنا نعلم، بأن المشاكل العقائدية التي كانت تواجهه (ع) والزعامة السياسية بعد النبي (ص). هذه المشاكل العقائدية التي كان يثيرها، وتثيرها القضايا الاخرى التي بدأت تندرج في الامة الاسلامية والاديان الاخرى التي بدأت تعاشر المسلمين، هذه المشاكل العقائدية لم تكن الزعامات السياسية وقتئذ على مستوى حلها كان الامام (ع) يعين تلك الزعامات في التغلب على تلك المشاكل العقائدية.
كلنا نعلم بأن الدولة الاسلامية واجهت في عهد عمر خطراً من أعظم الاخطار، خطر اقامة اقطاع لانظير له في المجتمع الاسلامي، كان من المفروض ان يسرع في دمار الامة الاسلامية، وذلك حينما وقع البحث بين المسلمين بعد فتح العراق، في انه هل توزع اراضي العراق على المجاهدين المقاتلين، او أنها تبقى ملكاً عاماً للمسلمين، وكان هناك اتجاه كبير بينهم الى ان توزع الاراضي على المجاهدين الذين ذهبوا الى العراق وفتحوا العراق، وكان معنى هذا ان يعطى جميع العالم الاسلامي، أي يعطي العراق، وسوريا وايران ومصر وجميع العالم الاسلامي الذي أسلم بالفتح، سوف يوزع بين اربعة او خمسة آلاف او ستة الآف من هؤلاء المسلمين المجاهدين، سوف تستقطع اراضي العالم الاسلامي لهؤلاء، وبالتالي يتشكل اقطاع لانظير له في التاريخ.
هذا الخطر الذي كان يهدد الدولة الاسلامية، وبقي عمر لاجل ذلك اياماً متحيراً لأنه لا يعرف ماذا يصنع، لا يعرف ما هو الأصلح، وكيف يمكن ان يعالج هذه المشكلة.
علي بن ابي طالب (ع) هو الذي تدخل كما تعلمون وحسم الخلاف، وبيّن وجهة النظر الاسلامية في الموضوع، وأخذ عمر بنظر الامام امير المؤمنين (ع) وانقذ بذلك الاسلام من الدمار الكبير.
وكذلك له تدخلات كبيرة وكثيرة، النفير العام الذي اقترح على عمر والذي كان يهدد العاصمة في غزو سافر، كان من الممكن ان يقضي على الدولة الاسلامية، هذا الاقتراح طرح على عمر، كاد عمر ان يأخذ به، جاء
علي (ع) الى المسجد مسرعاً على ما أتذكر في بعض الروايات تقول: جاء مسرعاً الى عمر، قال له: لا تنفر نفيراً عاماً، كان عمر يريد ان يخرج مع تمام المسلمين الموجودين آنذاك في المدينة، وعندما تفرغ عاصمة السلام مما يحميها من غزو المشركين والكافرين، منعه من النفير العام.
وهكذا كان علي (ع) يتدخل تدخلاً ايجابياً موجهاً في سبيل ان يقاوم المزيد من الانحراف، والمزيد من الضياع، كي يطيل عمر التجربة الاسلامية ويقاوم عامل الكم الذي ذكرناه.
هذا احد اسلوبي مقاومة العامل الكمي.
الاسلوب الثاني: لمقاومة العامل الكمي كان هو المعارضة.
يعني كان تهديد الحكام ومنعهم من المزيد من الانحراف، لا عن سبيل التوجيه، وانما عن سبيل المعارضة والتهديد.
في الاول كنا نفرض ان الحاكم فارغ دينياً، وكان يحتاج الى توجيه، والامام (ع) كان يأتي ويوجه، اما الاسلوب الثاني، فيكون الحاكم فيه منحرفاً ولا يقبل التوجيه، اذن فيحتاج الى معارضة، يحتاج الى حملة ضد الحاكم هذا، لاجل ايقافه عند حده، ولاجل منعه من المزيد من الانحراف.
وكانت هذه هي السياسة العامة للائمة (ع).
ألسنا نعلم بأن عمر صعد على المنبر وقال: ماذا كنتم تعملون لو انا صرفناكم عما تعلمون الى ما تنكرون.
كان يريد ان يقدر الموقف.
وماذا سيكون لو انا صرفناكم مما تعلمون الى ما تنكرون.
لو انحرفنا شيئاً قليلاً عن خط الرسالة ماذا سيكون الموقف.
لم يقم له الا علي (ع) قال له: لو فعلت ذلك لعدّلناك بسيوفنا.
كان هذا هو الشعار العام للامام (ع) بالرغم من انه لم يتنزل في عملية تعديل عمر بالسيف خلال حكم عمر، لظروف ذكرناها، الا انه قاد المعارضة لعثمان، واستقطب آمال المسلمين ومشاعر المسلمين، واتجاهات المسلمين، نحو حكم صحيح، ولهذا كان هو المرشح الاساسي بعد ان فشل عثمان، واجتمع عليه المسلمون.
الامام علي (ع) يتصدى للمعارضة لاجل ان يوقف الانحراف.
هذان اسلوبان كانا هما الاسلوبان المتبعان لمواجهة العامل الجديد.
ثم هذه المعارضة نفسها كانت تعبر من ناحية اخرى عن الخط الثاني، وهو المحافظة على الامة الاسلامية من الانهيار بعد سقوط التجربة حيث ان المسلمين لم يعيشوا التجربة الصحيحة للاسلام، او بعدوا عنها، والتوجيه وحده لا يكفي، لان هذا العمل لا يكفي لان يكسب مناعة. المناعة الحقيقية والحرارة الحقيقية للبقاء والصمود كأمة، اذن كان لا بد من ان يحدد الموقف. من ان يحدد الوجه الحقيقي للاسلام، في سبيل الحفاظ على الاسلام، وهذا الوجه الحقيقي للاسلام قدمه علي بن ابي طالب (ع) من خلال معارضته للزعامات المنحرفة اولاً، ومن خلال حكم الامام بعد أن مارس الحكم بنفسه.
من خلال هذين العملين، ومن خلال العمل السياسي المتمثل في المعارضة، والعمل السياسي المتمثل في رئاسة الدولة بصورة مباشرة، قدم الوجه الحقيقي للاسلام، الاطروحة الصحيحة للحياة الاسلامية الاطروحة الخالية من كل تلك الالوان من الإِنحراف.
طبعاً هذا لا يحتاج الى حديث، ولا يحتاج الى تمثيل لانه واضح لديكم.
امير المؤمنين حينما تولى الحكم، لم يكن يستهدف من تولي الحكم تحصين التجربة او الدولة، بقدر ما كان يستهدف تقديم المثل الاعلى للاسلام، لانه كان يعرف ان التناقضات، في الامة الاسلامية، بلغت الى درجة لايمكن معها ان ينجح عمل اصلاحي ازاء هذا الانحراف مع علمه ان المستقبل لمعاوية، وان معاوية هو الذي يمثل القوى الكبيرة الضخمة في الامة الاسلامية.
كان يعرف ان الصور الضخمة الكبيرة التي خلقها عمر وخلقها عثمان والتي خلقها الانحراف هذه القوى، كلها الى جانب معاوية، وهو ليس الى
جانبه ما يعادل هذه القوى، لكن مع هذا قبل الحكم، ومع هذا بدأ تصفية وتعرية الحكم والانحراف الذي كان قبله، ومع هذا مارس الحكم وضحى في سبيل هذا الحكم بعشرات الآلاف من المسلمين، في سبيل ان يقدم الاطروحة الصحيحة الصريحة للاسلام وللحياة الاسلامية.
وقد قلت بالامس، وأؤكد اليوم مرة اخرى بأن علي بن ابي طالب (ع) في معارضته، وعلي بن ابي طالب في حكمه لم يكن يؤثر على انحراف الشيعة فقط، بل كان يؤثر على مجموع الامة الاسلامية، علي بن ابي طالب ربى المسلمين جميعاً شيعة وسنة، حصن المسلمين جميعاً شيعة وسنة، علي بن ابي طالب اصبح اطروحة ومثلاً اعلى للاسلام الحقيقي، من الذي كان يحارب مع علي بن ابي طالب؟ هؤلاء المسلمون الذين كانوا يحاربون في سبيل هذه الاطروحة العالية في سبيل هذا المثل الاعلى، أكانوا كلهم شيعة بالمعنى الخاص؟ لا، لم يكونوا كلهم شيعة. هذه الجماهير التي انتفضت بعد علي بن ابي طالب علي مر التاريخ، بزعامات اهل البيت بزعامات العلويين الثائرين من اهل البيت، الذين كانوا يرفعون راية علي بن ابي طالب للحكم، هؤلاء كلهم شيعة؟
كان اكثرهم لا يؤمن بعلي بن ابي طالب ايماننا نحن الشيعة، ولكنهم كانوا ينظرون الى علي انه المثل الاعلى، انه الرجل الصحيح الحقيقي للإسلام، حينما اعلن والي عبد اللّه بن الزبير سياسة عبد اللّه بن الزبير، وقال بأننا سوف نحكم بما كان يحكم به عمر وعثمان، وقامت جماهير المسلمين تقول لا بل بما كان يحكم به علي بن ابي طالب، فعلي بن ابي طالب كان يمثل اتجاهاً في مجموع الامة الاسلامية.
والخلافة العباسية كيف قامت؟ كيف نشأت؟ قامت على اساس دعوة كانت تتبنى زعامة الصادق من آل محمد (ص). الحركة السلمية التي على اساسها نشأت الخلافة العباسية كانت تأخذ البيعة للصالح، للامام الصادق من آل محمد (ص)، يعني هذه الحركة استغلت عظمة الاسلام، عظمة هذا الاتجاه، وتجمع المسلمون حول هذا الاتجاه، ولم يكن هؤلاء مسلمين شيعة، اكثر هؤلاء لم يكونوا شيعة، لكن كانوا يعرفون ان الاتجاه الصالح، الاتجاه
الحقيقي، الاتجاه الصلب العنيف كان يمثله علي بن ابي طالب (ع)، والواعون من اصحاب علي (ع) والواعون من ابناء علي (ع). ولهذا كثير من ابناء العامة، ومن أئمة العامة، من اكابر اصحاب الامام الصادق (ع)، كانوا اناساً عامين يعني كانوا اناساً سنة، ولم يكونوا شيعة.
دائماً كان الأئمة (ع) يفكرون، في ان يقدموا الاسلام لمجموع الامة الاسلامية، ان يكونوا مناراً، ان يكونوا اطروحة، ان يكونوا مثلاً اعلى.
كانوا يعملون على خطين، خط بناء المسلمين الصالحين، وخط ضرب مثل اعلى لهؤلاء المسلمين، بقطع النظر عن كونهم شيعة او سنة.
هناك علماء من اكابر علماء السنة، افتوا بوجوب الجهاد، وبوجوب القتال بين يدي ثوار آل محمد (ص)، وأبو حنيفة قبل ان ينحرف، قبل ان يرشيه السلطان ويصبح من فقهاء عمال السلطان، أبو حنيفة نفسه الذي كان من نواب السنة، ومن زعماء السنة، هو نفسه خرج مقاتلاً ومجاهداً مع راية من رايات آل محمد وآل علي (ع)، وافتى بوجوب الجهاد مع راية من رايات علي (ع)، مع راية تحمل شعار علي بن ابي طالب، قبل أن يتعامل ابو حنيفة مع السلاطين.
اذن فاتجاه علي بن ابي طالب، لم يكن اتجاهاً منفرداً، اتجاهاً محدوداً، كان اتجاهاً واسعاً على مستوى الامة الاسلامية كلها، لاجل ان يعرّف الامة الاسلامية وان يحصن الامة الاسلامية بالاسلام، وبأهداف الاسلام، وكيف يمكن للانسان ان يعيش الحياة الاسلامية في اطار المجتمع الاسلامي.
المهم من هذا الحديث، ان نأخذ العبرة وان نقتدي، حينما نرى ان علي بن ابي طالب (ع) على عظمته يربي اصحابه على انهم اصحاب الهدف، لا اصحاب نفسه. يجب ان لا افكر انا، ويجب ان لا تفكر انت، بأن تربي اصحابك على انهم اصحابك، وانما هم اصحاب الرسالة، أي واحد منكم ليس صاحباً للآخر، ولهذا يجب ان نجعل الهدف دائماً مقياساً، نجعل الرسالة دائماً مقياساً. احكموا علي باللحظة التي انحرف فيها عن الهدف، لأن الهدف هو الاعز والاغلى، هو رب الكون، الذي يجب ان تشعروا بانه يملككم، بانه بيده مصيركم، بيده مستقبلكم، انه هو الذي يمكن ان يعطيكم نتائج جهادكم.
هل انا اعطيكم نتائج جهادكم، أو أي انسان على وجه الارض يمكن ان يعطي الانسان نتائج جهاده، نتائج عمله، نتائج اقدامه على صرف شبابه، حياته، عمره، زهده على تحمله آلام الحياة، تحمله للجوع تحمله للظلم، تحمله للضيم، من الذي يعطي أجر كل هذا؟ هل الذي يعطي اجر هذا انا وانت، لا انا ولا انت يعطي اجر هذا، وانما الذي يعطي أجر هذا هو الهدف فقط. هذا هو الذي يعطي النتيجة والتقييم. هو الذي سوف يفتح امامنا ابواب الجنة، هو الذي سوف يغير اعمالنا، هو الذي سوف يصحح درجاتنا.
إذن لا تفكروا في ان أي واحد منكم، في ان أي واحد منا، مرتبط مع أي واحد منا، بل فكروا هكذا: ان أي واحد منا مرتبط كله مع اكبر من أي واحد منا، هذا الشيء الذي هو اكبر، هو اللّه سبحانه هو رضوان اللّه، هو حماية الاسلام، هو العمل في خط الائمة الاطهار (ع).
وغفر لنا ولكم. [/align]
يا محوّل الحول والاحوال ، حوّل حالنا إلى أحسن الحال......
-
[align=center][align=justify]المحاضرة السادسة
بداية الانحراف وبعض المشاكل التي واجهت أمير المؤمنين (ع)
القسم الاول
أن المتسلم للقيادة الفعلية، المتسلم لزمام التجربة بعد النبي (ص) مباشرة كان من المحتوم أن يجنح الى الانحراف، لأنه كان يعيش رواسب جاهلية، وبالتالي لم يكن يُمثل الدرجة الكاملة للإِنصهار مع الرسالة، هذه الدرجة التي هي شرط اساسي لتزعم هذه التجربة، وهي التي يمكن أن تفسّر موقف الشيعة من اشتراطهم العصمة لقيادة هذه التجربة.
الفكرة في هذا الحديث تقوم على هذا الاساس، على أساس أن قيادة التجربة، يجب أن تكون على مستوى العبء، وهذا في الواقع ليس من مختصات الشيعة، ليس من مختصات الشيعة الايمان، بأن الامام يجب ان يكون معصوماً، بل هذا ما تؤمن به كل الاتجاهات العقائدية في العالم على الاطلاق.
أي إتجاه عقائدي في العالم، يريد أن يبني الانسان من جديد في إطاره، ويريد ان ينشئ للانسانية معالم جديدة، فكرية وروحية واجتماعية، يشترط لأن ينجح، وأن ينجز وان يأخذ مجراه في خط التاريخ، يشترط أن يكون القائد الذي يمارس تطبيق هذا الاتجاه، معصوماً...
فالقائد في نظر الماركسية مثلاً بوصفها اتجاهاً عقائدياً، يريد ان يبني ويصنع الانسان، ويبلوره في إطاره الخاص، يشترط فيه ان يكون معصوماً.
إلا أن مقاييس العصمة تختلف.
الاتجاه الماركسي يجب أن يكون القائد الذي يمارس تطبيقه معصوماً بمقاييس ماركسية، والقائد الذي يمارس زعامة التجربة الاسلامية، يجب أن يكون معصوماً بمقاييس إسلامية، والعصمة في الحالتين بمفهوم واحد، هو عبارة عن الانفعال الكامل بالرسالة، والتجسيد الكامل لكل معطيات تلك الرسالة، في النطاقات الروحية والفكرية والعملية.
هذه هي العصمة.
والشيعة لم يشذوا بإشتراط العصمة في الامام، عن أي اتجاه عقائدي آخر، ولهذا نرى في الاتجاهات العقائدية الاخرى، كثيراً ما يتهم القائد الذي يمثل الاتجاه، بأنه ليس معصوماً، يوجه اليه نفس التهمة، التي نوجهها نحن المسلمون الواعون، أصحاب علي بن ابي طالب (ع) الى الخلفاء الذين تولوا الخلافة بعد رسول اللّه (ص).
نفس هذه التهمد يوجهونها الى القادة الذين يعتقدون بأنهم لم ينصهروا بأطروحاتهم ولم يتفاعلوا باتجاهاتها تفاعلاً كاملاً.
بالأمس القريب جزء كبير من الماركسية في العالم إنشطر على قيادة الاتحاد السوفيتي، وإتهم القيادة التي كان متمثلة في حكام روسيا، بأنهم أناس غير مهيئين لأن يكونوا قادة للتجربة الماركسية، يعني غير معصومين بحسب لغتنا.
إلا أن نفي العصمة عنهم بمقاييس ماركسية لا بمقاييسنا الخاصة، لا بمقاييس إسلامية.
فأصل الفكرة، تؤمن به كل الاتجاهات العقائدية، وإنما المقياس للعصمة يختلف بإختلاف طبيعة هذه الاتجاهات العقائدية.
نعم، العصمة في الاسلام، ذات صيغة اوسع نطاقاً من العصمة في الاتجاهات العقائدية الاخرى، وهذه السعة في صيغة العصمة تنبع من طبيعة سعة الاسلام نفسها، لأن العصمة كما قلنا، هي التفاعل الكامل والانصهار الشامل والتجاوب مع الرسالة في كل أبعاد الاسلام، والرسالة الاسلامية، تختلف عن أي رسالة اخرى في العالم، لأن أي رسالة أخرى في العالم تعالج جانباً واحداً من الانسان، الماركسية التي تمثل أحدث رسالة عقائدية في العالم الحديث تعالج جانباً واحداً من وجود الانسان وتترك الانسان حينما يذهب الى
بيته، حينما يذهب الانسان الى مخبئه، حينما يخلو الانسان بنفسه، تترك الانسان، ليس لها أي علاقة معه في هذه الميادين، وإنما تأخذ بيده في مجال الصراع السياسي والاقتصادي لا أكثر.
فصيغة الرسالة بطبيعتها صيغة منكمشة محدودة، صيغة تعالج جانباً من الحياة الانسانية، فالعصمة العقائدية التي لا بد ان تتوفر في قائد ماركسي، مثلاً هي العصمة في حدود هذه المنطقة التي تعالجها الرسالة العقائدية الماركسية.
اما الرسالة الاسلامية الي هي رسالة السماء على وجه الأرض فهي تعالج الانسان من كل نواحيه، وتأخذه بيده الى كل مجالاته ولا تفارقه وهو على مخدعه في فراشه وهو في بيته بينه وبين ربه، بينه وبين نفسه، بينه وبين أفراد عائلته، وهو في السوق، وهو في المدرسة، وهو في المجتمع، وهو في السياسة، وهو في الاقصاد، وهو في أي مجال من مجالات حياته، ولهذا تكون الصيغة المحدودة من العصمة على أساس هذه الرسالة أوسع نطاقاً وأرحب افقاً واقسى شروطاً، و أقوى من ناحية مفعولها وامتدادها في كل أبعاد الحياة الانسانية.
فعصمة الامام عبارة عن نزاهة في كل فكرة وكل عاطفة وكل شأن، والنزاهة في كل هذا عبارة عن انصهار كامل مع مفاهيم واحكام الرسالة الاسلامية، في كل مجالات هذه الافكار والعواطف والشؤون.
هذا كان إستطراداً.
إذن فالعصمة التي هي شرط لمجموع الاتجاهات العقائدية، نحن ايضاً نؤمن بها كشرط في هذا الاتجاه.
وبطبيعة الحال فإننا عندما نقول، إن العصمة شرط في هذا الاتجاه، العصمة بحد ذاتها ايضاً ليست أمراً حتمياً غير قابل للزيادة والنقصان، والتشكيك، نفس العصمة اذا حولناها الى مفهوم النزاهة والتجاوب الكامل مع الرسالة فيكون أمراً مقولاً بالتشكيك في الشدة والضعف، وبوصف أن أئمة أهل البيت (ع) المرتبة الاسمى والأكمل من هذه المراتب المقولة بالتشكيك المختلفه شدة وضعفاً.
ومن هنا نأتي الى ما كان موضوع الحديث، موضوع الحديث ان هؤلاء الذين تسلموا أمر التجربة بعد النبي (ص) لم يكونوا معصومين حتى بأدنى مراتب العصمة حتى بالحد الأدنى من مراتب النزاهة والتفاعل مع الرسالة الاسلامية، كما أشرنا اليه بالأمس، وحينئذ حيث أن التجربة تجربة تمثل إتجاهاً عقائدياً، واتجاهاً رسالياً، ليس اتجاه أناس يمثلون وجهة نظر معينة في الكون والحياة والمجتمع، يمثلون رسالة لتغيير الحياة على وجه الأرض وتغير التاريخ، إذن هذه التجربة العقائدية الضخمة على هذا المستوى، بحاجة الى قيادة عقائدية معصومة تتوفر فيها فعالية عالية جداً من النزاهة والتجرد والموضوعية والانفعال بمعطيات هذه الرسالة فكيف اذا لم تكن هذه المواصفات موجودة في القيادة؟
قد يقال: إنها كانت موجودة في الامة ككل، والأمة ككل، كانت تمارس المراقبة، وكانت تمارس التوجيه، وكانت تمارس المراقبة للحكم القائم حتى لا ينحرف، الامة ككل كانت معصومة، واذا كانت الامة ككل معصومة، إذن فالعصمة قد حصلنا عليها عن طريق الوجود الكلي للأمة.
إلا أن هذه الفكرة غير صحيحة، نحن نؤمن بأن الأمة في وجودها لم تكن معصومة ايضاً، كما ان الخلفاء الذين تولوا الحكم بعد رسول اللّه (ص)، لم يكن يتوفر لديهم الحد الادنى من النزاهة المطلوبة لزعامة تجربة من هذا القبيل، الأمة بوصفها الكلي وبوجودها المجموعي ايضاً لم تكن معصومة، طبعاً اذا إستثنينا من ذلك الزعامة المعصومة الموجودة في داخل هذه الامة الممثلة في اتجاه أمير المؤمنين (ع)، هذا بالرغم من اننا نعترف ونفتخر، ونمتلئ إعتزازاً بالإيمان بأن الأمة الاسلامية التي أسسها وحرسها النبي (ص) ضربت أروع نموذج للأمة في تاريخ البشرية على الاطلاق، الأمة الاسلامية الي أمكن للنبي (ص) بوقت قصير جداً، في مدة لا تبلغ ربع قرن، أن ينشئ أمة لها من الطاقة والارادة، لها من المؤهلات اللازمة القدر الكبير، الذي لا يمكن أبداً أن يتخيل الانسان الاعتيادي كيف أمكن إيجاده في ربع قرن أو أقل؟ هذه الأمة التي قدمت من التضحيات في أيام النبي (ص) في سبيل رسالتها ما لم تقدم مثله أي أمة من أمم الأنبياء قبل النبي (ص)، هذا التسابق على الجنة، التسابق على الموت، الايثار الذي كان موجوداً بين المسلمين، روح التآخى الذي شاع في المسلمين، المهاجرون والأنصار، كيف عاشوا كيف تفاعلوا، كيف انصهروا، انظروا الى أهل بلد واحد ينزح اليهم أهل بلد آخر، فيأتون اليهم ليقاسموهم خيرات بلدهم، ومعاشهم، واموالهم، وهؤلاء يستقبلونهم برحابة صدر، ينطلقون معهم ينظرون اليهم على إنهم اخوة لهم، يعيشون مجتمعاً واحداً وكأنهم كانوا قد عاشوا مئات السنين، هذه الانفتاحات العظيمة في كل ميادين المجتمع التي حققتها الأمة بقيادة الرسول (ص) هذه الانفتاحات، التي لا مثيل لها، بالرغم من كل هذا نقول ان الامة لم تكن معصومة.
إن هذه الانفتاحات كانت قائمة على أساس الطاقة الحرارية التي كانت تمتلكها الأمة من لقاء القائد الأعظم، ولم تكن قائمة على اساس درجة كبيرة من الوعي الحقيقي للرسالة العقائدية. نعم كان الرسول (ص) الأعظم، يمارس عملية توعية الأمة، وعملية الارتفاع بها الى مستوى أمة معصومة، هذه العملية التي كانت مضغوطة، والتي بدأ بها النبي (ص) لم ينجز شيئاً منها في الخط هذا، وإنما الشيء الذي أنجز في هذا الخط، خط عمل النبي (ص) على مستوى الأمة ككل، هو إعطاء هذه الامة طاقة حرارية في الايمان بدرجة كبيرة جداً، مثل هذه الطاقة الحرارية التي تملكها الأمة يوماً بعد يوم، وشهراً بعد شهر، وفي كل لحظة من لحظات انتصارها أو إنكسارها، كانت هي المصدر وهي السبب في كل الانفتاحات العظيمة، روح القائد هي التي تجذب وهي التي تحصد، وهي التي تقود هؤلاء الى المثل العليا والقيم الضخمة الكبيرة التي حددها الرائد الأعظم (ص) بين أيديهم، إذن فهي طاقة حرارية وليست وعياً.
وقلنا أيضاً فيما سبق، إن الطاقة الحرارية والوعي قد يتفاعلان ويتفقان في كثير من الأحيان ولا يمكن ان نقارن في الحالات الاعتيادية بين أمة واعية، وبين أمة تملك طاقة حرارية كبيرة دون درجة كبيرة من الوعي، المظاهر تكون مشتركة في كثير من الأحيان، لكن في منعطفات معينة من حياة هذه الامة في لحظات حاسمة في حياة هذه الأمة، في مواقف حرجة من تاريخ هذه الامة، يتبين الفرق بين الوعي والطاقة الحرارية، يتبين الفرق بين الوعي والطاقة الحرارية في لحظات الانفعال الشديد، سواء كان إنفعالاً موافقاً لعملية الانتقال، أو انفعالاً معاكساً، لأن الوعي لا يتزعزع في لحظة الانفعال ويبقى صامداً ثابتاً، لا يلين ولا يتميع، وعي الانسان، إيمان الانسان باهدافه ومسؤولياته، فوق كل الانفعالات، فوق كل المشاكل، فوق كل الانتصارات. أي انتصار يحققه الانسان، لا يمكن أن يخلق انفعالاً يزعزع وعيه، إذا كان واعياً وعياً حقيقياً يبقى على الخط، لا يشط ولا يشذ ولا يزيد أو ينقص.
محمد (ص) هذا الرجل العظيم، يدخل الى بيت اللّه الحرام منتصراً في لحظة، لم تزعزع هذه اللحظة من خلقه، لم تخلف فيه نشوة الانتصار، وإنما خلفت فيه ذل العبودية للّه شعر بذل العبودية للّه أكثر مما يشعر بنشوة الانتصار، هذا هو الذي يمثل الوعي العظيم، لكن المسلمين عاشوا نشوة الانتصار، في لحظات عديدة لحظات الصدمة، لحظات المشكلة، لحظات المأساة. الواعي يبقى ثابتاً، يبقى صامداً امام المشكلة لا يتزعزع، لا يلين لا يكف لا يتراخى، يبقى على خطه واضحاً. النبي (ص) لم يكن يبدو منه أي فرق بينه وهو حال دخوله الى مكة فاتحاً، وهو مطرود بالحجارة من قبائل العرب المشركين، يتوجه الى اللّه سبحانه وتعالى يقول له: لا يهمني ما يصنع هؤلاء اذا كنت راضياً عني، نفس الروح الي نجدها في لحظة انقطاعه، في لحظة مواجهته البشرية التي تحمل الوان الشرور، في لحظة تمرد الانسان على هذا الوجه الذي جاء ليصلحه، لم تتبدل حالته في هذه اللحظة وبين حالته، والانسانية تستجيب والانسانية تخضع، والانسانية تطأطئ رأسها بين يدي القائد العظيم (ص) هذا هو الوعي.
أما الأمة لم تكن هكذا، ولا نريد أن نكرر الشواهد مرة أخرى حى يأتي البحث كاملاً اليوم، الشواهد على أن الأمة كانت غير واعية، وإنما هي طاقة حرارية مرت في الأيام السابقة، إذن فالأمة الاسلامية كانت تحمل طاقة حرارية كبيرة، ولم تكن أمة واعية بدرجة كبيرة فلم تكن العصمة متوفرة لا في القيادة، ولا في الأمة بوجودها المجموعي، ومن أجل هذا كان الانحراف حتمياً على النحو الذي بيناه بالأمس، وهكذا بدأ الانحراف بعد النبي (ص)، وقلنا أن الخط الذي بدأه الأئمة (ع) هذا الخط ينحل الى شكلين:
الأول: خط محاولة القضاء على هذا الانحراف بالتجربة، أليست التجربة تجربة المجتمع الاسلامي والدولة الاسلامية. هذه التجربة انحرفت بإعطاء زمامها الى أناس لا يؤمنون عليها وعلى مقدراتها، وعلى ممتلكاتها، الخط الأول كان يحاول أخذ هذه التجربة، تسلم زمام التجربة.
الثاني: هو الخط الذي كان يعلمه الأئمة (ع) حتى في الحالات التي كانوا يرون إن ليس في الأمكان السعي وراء تلسم زمام التجربة، وهو خط الضمان لوجود الأمة مسقبلاً.
قلنا إن التجربة حينما انحرفت، كان من المنطقي في تسلسل الاحداث، أن يتعمق هذا الانحراف، ثم يتعمق حتى تنهار التجربة، واذا انهارت التجربة امام أول غزو، امام أول تيار، إذن فسوف لن تحارب عن إسلامها كأمة، فبعد أن تنهار الدولة والحضارة الحاكمة، وسوف تتنازل عن إسلامها بالتدريج لأنها لم تجد في هذا الاسلام المنحرف ما تدافع عنه، إذ ماذا جنوا من هذا الاسلام.
كيف نقدر أن نتصور أن الانسان غير العربي يدافع عن الاسلام الذي يتبنى زعامة العربي لغير العربي؟ كيف يمكن ان نتصور أن الانسان العربي والفارسي يدافع عن كيان يعتبر هذا الكيان هو ملك لأسرة واحدة من قبائل العرب وهي أسرة قريش؟؟ كيف يمكن أن نفرض أن هؤلاء المسلمين يشعرون بأنهم قد وجدوا حقوقهم قد وجدوا كرامتهم، في مجتمع يضج بكل الوان التفاوت والتمييز والاستئثار والاحتكار؟
إذن كانوا قد تنازلوا عن هذا الاسلام حينما تنهار التجربة بعد تعمق الانحراف.
إلا أن الذي جعل الأمة لا تتنازل عن الاسلام، هو أن الاسلام له مثل آخر قدم له، مثل واضح المعالم، أصيل المثل والقيم، أصيل الأهداف والغايات، قدمت هذه الأطروحة من قبل الواعين من المسلمين بزعامة الأئمة(ع) من أهل البيت (ع). ولنعرف مسبقاً قبل أن نأتي الى التفاصيل، ان هذه الأطروحة الي قدمها الأئمة (ع) للاسلام لم تكن تتفاعل فقط مع الشيعة المؤمنين بإمامة أهل البيت (ع) فقط، هذه الأطروحة كان لها صدى كبير في كل العالم الاسلامي فالأئمة (ع) كان لهم أطروحة للاسلام وكانت لهم دعوى لإمامة انفسهم، صحيح ان الدعوى لإمامة انفسهم لم يطلبوا لها إلا عدداً ضئيلاً من مجموع الأمة الاسلامية، ولكن الأمة الاسلامية بمجموعها تفاعلت مع هذه الأطروحة، إذن فكان الخط الكبروي للأئمة (ع) هو تقديم الأطروحة الصحيحة للاسلام والنموذج والمخطط الواضح الصحيح الصريح، للاسلام، في كل مجالات الاسلام في المجالات الخاصة والمجالات العامة، في المجالات الاجتماعية، والسياسية والاقتصادية، والخلقية والعبادية، كانوا يقدمون هذه الأطروحة الواضحة، التي جعلت المسلمين على مر الزمن يسهرون على الاسلام ويقيمونه وينظرون اليه بمنظار آخر غير منظار الواقع الذي يعيشونه، غير مناظر التجربة الفريدة التي يعيشونها.
في لحظة انقطاعه، في لحظة مواجهته البشرية التي تحمل الوان الشرور، في لحظة تمرد الانسان على هذا الوجه الذي جاء ليصلحه، لم تتبدل حالته في هذه اللحظة وبين حالته، والانسانية تستجيب والانسانية تخضع، والانسانية تطأطئ رأسها بين يدي القائد العظيم (ص) هذا هو الوعي.
أما الأمة لم تكن هكذا، ولا نريد أن نكرر الشواهد مرة أخرى حى يأتي البحث كاملاً اليوم، الشواهد على أن الأمة كانت غير واعية، وإنما هي طاقة حرارية مرت في الأيام السابقة، إذن فالأمة الاسلامية كانت تحمل طاقة حرارية كبيرة، ولم تكن أمة واعية بدرجة كبيرة فلم تكن العصمة متوفرة لا في القيادة، ولا في الأمة بوجودها المجموعي، ومن أجل هذا كان الانحراف حتمياً على النحو الذي بيناه بالأمس، وهكذا بدأ الانحراف بعد النبي (ص)، وقلنا أن الخط الذي بدأه الأئمة (ع) هذا الخط ينحل الى شكلين:
الأول: خط محاولة القضاء على هذا الانحراف بالتجربة، أليست التجربة تجربة المجتمع الاسلامي والدولة الاسلامية. هذه التجربة انحرفت بإعطاء زمامها الى أناس لا يؤمنون عليها وعلى مقدراتها، وعلى ممتلكاتها، الخط الأول كان يحاول أخذ هذه التجربة، تسلم زمام التجربة.
الثاني: هو الخط الذي كان يعلمه الأئمة (ع) حتى في الحالات التي كانوا يرون إن ليس في الأمكان السعي وراء تلسم زمام التجربة، وهو خط الضمان لوجود الأمة مسقبلاً.
قلنا إن التجربة حينما انحرفت، كان من المنطقي في تسلسل الاحداث، أن يتعمق هذا الانحراف، ثم يتعمق حتى تنهار التجربة، واذا انهارت التجربة امام أول غزو، امام أول تيار، إذن فسوف لن تحارب عن إسلامها كأمة، فبعد أن تنهار الدولة والحضارة الحاكمة، وسوف تتنازل عن إسلامها بالتدريج لأنها لم تجد في هذا الاسلام المنحرف ما تدافع عنه، إذ ماذا جنوا من هذا الاسلام.
كيف نقدر أن نتصور أن الانسان غير العربي يدافع عن الاسلام الذي يتبنى زعامة العربي لغير العربي؟ كيف يمكن ان نتصور أن الانسان العربي والفارسي يدافع عن كيان يعتبر هذا الكيان هو ملك لأسرة واحدة من قبائل العرب وهي أسرة قريش؟؟ كيف يمكن أن نفرض أن هؤلاء المسلمين يشعرون بأنهم قد وجدوا حقوقهم قد وجدوا كرامتهم، في مجتمع يضج بكل الوان التفاوت والتمييز والاستئثار والاحتكار؟
إذن كانوا قد تنازلوا عن هذا الاسلام حينما تنهار التجربة بعد تعمق الانحراف.
إلا أن الذي جعل الأمة لا تتنازل عن الاسلام، هو أن الاسلام له مثل آخر قدم له، مثل واضح المعالم، أصيل المثل والقيم، أصيل الأهداف والغايات، قدمت هذه الأطروحة من قبل الواعين من المسلمين بزعامة الأئمة(ع) من أهل البيت (ع). ولنعرف مسبقاً قبل أن نأتي الى التفاصيل، ان هذه الأطروحة الي قدمها الأئمة (ع) للاسلام لم تكن تتفاعل فقط مع الشيعة المؤمنين بإمامة أهل البيت (ع) فقط، هذه الأطروحة كان لها صدى كبير في كل العالم الاسلامي فالأئمة (ع) كان لهم أطروحة للاسلام وكانت لهم دعوى لإمامة انفسهم، صحيح ان الدعوى لإمامة انفسهم لم يطلبوا لها إلا عدداً ضئيلاً من مجموع الأمة الاسلامية، ولكن الأمة الاسلامية بمجموعها تفاعلت مع هذه الأطروحة، إذن فكان الخط الكبروي للأئمة (ع) هو تقديم الأطروحة الصحيحة للاسلام والنموذج والمخطط الواضح الصحيح الصريح، للاسلام، في كل مجالات الاسلام في المجالات الخاصة والمجالات العامة، في المجالات الاجتماعية، والسياسية والاقتصادية، والخلقية والعبادية، كانوا يقدمون هذه الأطروحة الواضحة، التي جعلت المسلمين على مر الزمن يسهرون على الاسلام ويقيمونه وينظرون اليه بمنظار آخر غير منظار الواقع الذي يعيشونه، غير مناظر التجربة الفريدة التي يعيشونها.
هذا هو الخط الثاني الذي عمل عليه الأئمة (ع).
والآن، نبدأ بتحليل الموقف عقيب وفاة النبي (ص).
أمير المؤمنين حينما واجه الانحراف في التجربة قام بعملية تعبئة فكرية في صفوف المسلمين الذين يذهب تفكيرهم الى أن هذا الوضع الذي قام الآن جديداً وضع غير طبيعي، وضع منحرف عن الخط الاسلامي، واستعان بهذا السبيل ببنت رسول اللّه (ص) الزهراء (ع) لأجل أن يستثير في نفوس المسلمين عواطفهم ومشاعرهم المرتبطة بأعز شخص يحبونه ويجلّونه، وهو شخص النبي (ص). إلا أنه لم يستطع أن يستثير المسلمين بالدرجة التي تحول مجرى التجربة ويجعل هناك تبدلاً أساسياً في الخط القائم، لم يستطع ذلك، وهذا أمر طبيعي، يعني من الطبيعي أن ينتهي أمير المؤمنين (ع) الى عدم النجاح في القضاء على هذا الانحراف، يكفي لأن نفهم هذا أن نلتفت الى نفس ما أصاب النبي (ص) وهو الرائد الأعظم (ص) لهذه الرسالة من قلق وخوف وارتباك في سبيل تركيز خلافة علي بن أبي طالب (ع)، هذا النبي الذي لم يتلكأ، ولم يتوقف، ولم يتردد عن أي لون من الوان التركيز والعمل في سبيل تلك المهمات، هذا النبي العظيم الذي لم يشعر بالخوف ولم يخفق قلبه بأي لون من الوان الوساوس والشكوك، أو الضعف والانهيار، هذا النبي العظيم، وقف حائراً امام الأمر الالهي في أن يبلّغَ إِمامة علي بن أبي طالب، حيث جاء ما جاء الى النبي (ص) من إنذاره بأن يبلّغ، وإلا فكأنه لم يبلّغ الرسالة. هذه الموانع الي كان تمنع النبي (ص) عن تزعم علي بن أبي طالب (ع) للتجربة الاسلامية عميقة قوية واسعة، بدرجة ان النبي (ص) نفسه كان يخشى من أن يعلن عن تشريع هذا الحكم، ليس عن تطبيقه بحسب الخارج بل عن تشريعه واعلانه امام المسلمين.
هذه جهة، والجهة الأخرى، حينما أراد أن يسجل هذا الحكم في كتاب المسلمين الاول مرة في تاريخ النبي (ص).
هذا النبي الذي كان المسلمون يتسابقون الى الماء الذي يتقاطر من وضوئه.
هذا النبي الذي ذهب رسول قريش يقول لهم: إني رأيت كسرى وقيصر وملوك الأرض، فما رأيت رجلاً انجذب اليه جماعته وأصحابه، وآمنوا به، وذابوا بوجوده كما ذاب أصحاب محمد (ص) في محمد.
هؤلاء لا يشعرون بوجودهم امام هذا الرجل العظيم (ص) في مجلس النبي (ص) فيقوم واحد منهم فيقول ما يقول، مما تعلمون، ثم لا يحصل بعد هذا أي رد فعل لهذا الكلام، فالنبي (ص) عندئذ يقول: قوموا عني لا ينبغي الاختلاف في مجلس نبي.
المسألة بهذه الدرجة من العنف، الموانع بهذه الدرجة من الشمول.
يجب أن نعرف ان علياً (ع) لم يكن رئيساً حينما فشل، ولم يكن قاصراً حينما فشل، كل هذا لم يكن، لأن كل هذا غير محتمل في شخص هو قمة النشاط، وقمة الحيوية وقمة الحرص. ومع هذا كله، النبي (ص) واجه هذه المشاكل والصعاب تجاه تشريع هذا الحكم، إذن فموقف الامام (ع) كان حرجاً غاية الحرج تجاه هذه الموانع، اما ما هي صيغة هذه الموانع، هذه الموانع تحتاج الى دراسة مفصلة لنفسية المجتمع الاسلامي في ايام الرسول (ص). فهنالك عوامل كثيرة لها دخل في نسج خيوط هذه الموانع. يمكن ان نذكر بعضها على سبيل المثال.
العامل الأول: التفكير اللاإسلامي من ولاية علي بن ابي طالب (ع)، رسول اللّه (ص) جعل علياً بعده حاكماً على المسلمين، وإماماً للمسلمين ككل، المسلمون، ولنتكلم عن المسلمين المؤمنين باللّه ورسوله حقاً، هؤلاء المسلمون المؤمنون باللّه وبرسوله حقاً، قلنا انهم لم يكونوا من الواعين بدرجة كبيرة، نعم كان عندهم طاقة حرارية تصل الى درجة الجهاد، الى الموت في سبيل اللّه هؤلاء الذين قاموا بعد النبي (ص) ضد علي بن أبي طالب (ع)، أنا لا أشك بأنهم مر عليهم بعض اللحظات، كانوا على استعداد لأن يضحوا بأنفسهم في سبيل اللّه، وأنا لا أشك أن الطاقة الحرارية كانت موجودة عند هؤلاء، سعد بن عبادة الخزرجي مثلاً، هذا الذي عارض علي بن أبي طالب (ع) الى حين، والذي فتح أبواب المعارضة على علي بن أبي طالب الى
حين سعد هذا، كان مثل المسلمين الآخرين يكافح ويجاهد غاية الأمر لم يكن لديه الوعي، هؤلاء المسلمون المؤمنون باللّه ورسوله (ص)، لم يكونوا على درجة واحدة من الوعي وكان الكثرة الكاثرة منهم اناساً يمكلون الطاقة الحرارية، بدرجة متفاوتة، ولم يكونوا يملكون وعياً، إذن فقد تبادر الى ذهن عدد كبير من هؤلاء أن محمداً (ص) يفكر أن يعلي مجد بني هاشم، أن يعلي كيان هذه الأسرة، أن يمد بنفسه بعده فأختار علياً، إختار ابن عمه، لأجل أن يمثل علي بن أبي طالب أمجاد أسرته، هذا التفكير كان تفكيراً منسجماً مع الوضع النفسي الذي يعيشه أكثر المسلمين كراسب الجاهلية، كراسب عرفوه ما قبل الاسلام، ولم يستطيعوا ان يتحملوا تحملاً تاماً، أبعاد الرسالة ألسنا نعلم... ماذا صنعوا في غزوة حنين، حينما وزع رسول اللّه (ص) المال، وزع الغنائم على قريش ولم يعط الانصار، وزعه على قريش على أهل مكة، ولم يعط أهل المدينة، ماذا صنع هؤلاء ماذا صنع أهل المدينة، أخذ بعضهم يقول لبعض، إن محمداً لقي عشيرته فنسينا، لقي قريشاً ونسي الأوس والخزرج، هاتين القبيلتين اللتين قدمتا ما قدمتا للاسلام، إذن فكان هؤلاء على المستوى الذي تصوروا في هذا القائد الرائد العظيم، الذي كان يعيش الرسالة، آثر قبيلته بمال، فكيف لا يتصورون أنه يؤثر عشيرته بحكم، بزعامة، بقيادة على مر الزمن وعلى مر التاريخ.
هذا التصور كان يصل الى هذا المستوى المتدني من الوعي، هؤلاء لم يكونوا قد أدركوا بعد أبعاد محمد (ص) ولم يكونوا قد أدركوا أبعاد الرسالة الاسلامية، وكانوا بين حين وحين يطفو على أنفسهم الراسب الجاهلي وينظرون الى النبي من منظار ذلك الراسب الجاهلي، ينظرون اليه كشخص يرتبط بالعرب ارتباطاً قومياً، ويرتبط بعشيرته ارتباطاً قبلياً ويرتبط بإبن عمه إرتباطً رحمياً، كل هذه الارتباطات كانت تراود أذهانهم بين حين وحين، وأنا أظن ظناً كبيراً أن علي بن أبي طالب (ع) لو لم يكن إبن عم النبي (ص) لو أن الصدفة لم تشأ أن يكون الرجل الثاني في الاسلام لو لم يكن من أسرة محمد (ص) لو كان من عدي، أو لو كان من تميم، لو كان من أسرة اخرى، لكان لهذه الولاية مفعولاً كبيراً جداً، لقضي على هذا التفكير اللاإسلامي..... لكن ما هي حيلة محمد إذا كان الرجل الثاني في الاسلام إبن عمه، لم يكن له حيلة في أن يختار شخصاً دون شخص آخر وإنما كان عليه أن يختار من اختاره الله سبحانه وتعالى، ومن اختاره اللّه هو الرجل الثاني في الاسلام، في تاريخ الرسالة، في كيان الرسالة، وفي الجهاد... في سبيل الرسالة، وفي الاضطهاد في سبيل الرسالة، كان من باب الاتفاق إبن عم محمد (ص). هذا الاتفاق فتح باب المشاغبة على هؤلاء . هذا هو العامل الأول، هذا العامل يعيش في نفوس المؤمنين باللّه تعالى وبرسوله (ص).
العامل الثاني: عامل يعيش في نفوس المنافقين، والمنافقون كثيرون في المجتمع الاسلامي، خاصة وأن المجتمع الاسلامي كان قد انفتح قبيل وفاة رسول اللّه (ص) انفتاحاً جديداً على مكة، وكانت قد دخلت مكة ايضاً داخل هذا المجتمع، ودخلت قبائل كثيرة في الاسلام قبيل وفاة رسول اللّه (ص). وكان هناك أناس كثيرون قد دخلوا الاسلام نفاقاً، ودخلوه طمعاً، ودخلوه حرصاً على الجاه، ودخلوه إستسلاماً للأمر الواقع، لأن هذا مُسلّم، لأن محمداً فرض زعامته على العرب. لم يكن شخص يفكر في أن تزعزع هذه الزعامة، إذن فلا بد من الاعتراف بهذه الزعامة.
دخل كثير من الناس بهذه العقلية. وهؤلاء كانوا يدركون كل الإدراك ان علي بن أبي طالب (ع) هو الرجل الثاني للنبي (ص) وهو الاستمرار الصلب العنيد للرسالة، لا الاستمرار الرخو المتميع لها. وهؤلاء كانوا مشدودين إلى أطماع وإلى مصالح كانت تتطلب أن تستمر الرسالة ويستمر الاسلام، لأن الاسلام اذا انطفأ معنى هذا انه سوف تنطفئ هذه الحركة القوية التي بنت دولة ومجتمعاً والتي يمكن ان تطبق على كنوز دولة كسرى وقيصر وتضم أموال الأرض كلها الي هذه الأمة، كان من المصلحة ان تستمر هذه الحركة، لكن كان من المصلحة ان لا تستمر بتلك الدرجة من الصلابة والجدية، بل ان تستمر بدرجة رخوة هينة لينة، كما وصف الامام الصادق (ع) حينما سئل، كيف نجح أبو بكر وعمر بقيادة المسلمين وفشل عثمان في هذه القيادة، قال: لأن علياً أرادها حقاً محضاً، وعثمان أرادها باطلاً محضاً، وابو بكر وعمر خلطا حقاً وباطلاً.
كان لابد وان تستمر الرسالة لكن تستمر بشكل لين هين، بشكل ينفتح على مطامح أبي سفيان، بشكل يمكن أن يتعامل معه ابو سفيان الذي جاء الى علي (ع) في لحظة قاسية تلك اللحظة التي يشعر فيها الانسان عادة بقدر كبير من المظلومية حيث يرى كيف ان الناس قد تنكروا لكل أمجاده وأنكروا كل جهاده حتى أخوته لرسول اللّه (ص) في هذه اللحظة جاءه أبو سفيان يعرض عليه القيادة بين يديه، يعرض عليه ان يزعّمه في سبيل ان يكون هو اليد اليمنى للدولة الاسلامية، يأبى علي (ع) ذلك، يأبى وهو مظلوم، وهو متآمر عليه، وهو مضطهد حقه ثم يذهب أبو سفيان، أو بالأحرى نقول أن أبا بكر وعمر يذهبان الى أبي سفيان، ويوليان اولاد أبي سفيان على بلاد المسلمين، وهذا هو الاستمرار الهين الذي كانت مصالح المنافقين تطلبه وقتئذ وبهذا كانت قيادة علي بن أبي طالب (ع) وزعامته تمثل خطراً على هذه المصالح فكان لابد في سبيل الحفاظ عليها من قبل المنافقين هؤلاء أن يخلقوا في سبيلها العراقيل ويقيموا الحواجز والموانع.
العامل الثالث: وهو مرتبط بمراحل نفسية خلقية، علي بن أبي طالب (ع) كان يمثل باستمرار تحدياً بوجوده التكويني، كان يمثل تحدياً للصادقين من الصحابة لا للمنحرفين من الصحابة، كان يمثل تحدياً بجهاده، بصرامته، بإستبساله، بشبابه، بكل هذه الأمور، كان يضرب الرقم القياسي الذي لا يمكن ان يحلم به أي صحابي آخر، كل هؤلاء كانوا يودون ان يقدموا خدمة للاسلام.
أتكلم عن الصحابة الصالحين. الصحابة الصالحون كانوا يودون ان يقدموا خدمة للاسلام ولكن علي بن أبي طالب (ع) كان يفوقهم بدرجة كبيرة، بدرجة هائلة، علي بن أبي طالب (ع) بالرغم من التفاوت الكبير في العمر بينه وبين شيوخ الصحابة، من أمثال أبي بكر وعمر وغيرهما، ممن عاش بعد النبي (ص) بالرغم من هذا، أفلس أبو بكر وأفلس عمر، وأفلس هؤلاء كلهم، امام رسوخ علي (ع) الذي كان يضرب بسيفين.
معاوية يقول في كتابه لمحمد بن ابي بكر بأن علياً كان في أيام النبي (ص) كالنجم في السماء لا يطاول، الأمة الاسلامية كانت تنظر اليه كالنجم في السماء بالرغم من أن العدد الكبير منها لم يكن يحبونه، كان علي مجاهداً بدرجة لا يمكن ان يقاس به شخص آخر، كان صامداً زاهداً، بدرجة لا يمكن ان يقاس به شخص آخر، وهكذا في كل كمالات الرسالة الاسلامية، اذن فعلي كان تحدياً، كان إستفزازاً للآخرين، وهؤلاء الآخرون ليسوا كلهم يعيشون الرسالة فقط، بل جملة منهم يعيشون انفسهم ايضاً، يعيشون انانيتهم ايضاً، وحينما يشعرون بهذا الاستفزاز التكويني من شخص هذا الرجل العظيم الذي كان يتحداهم وهو لا يقصد أن تحداهم، بل يقصد ان يهديهم، وان يبني لهم مجدهم، يبني لهم رسالتهم وعقيدتهم، لكن ماذا يصنع بأناس يعيشون انفسهم.
فهؤلاء الاناس كانوا يفكرون في ان هذا تحد واستفزاز لهم. كان رد الفعل لهذا مشاعر ضخمة جداً ضد علي بن أبي طالب (ع).
يكفي مثال واحد ليتضح هذا الموقف. النبي (ص) يسافر من المدينة الى غزوة من الغزوات فيخلف علياً مكانه أميراً على المدينة، فهل تركه الناس، لا إنما أخذوا يشيعون بالرغم من أن رسول اللّه (ص) في المرات السابقة كان يستخلف أحد الأنصار على المدينة غير علي، فكانوا يشيعون، بأنه ترك علياً لأنه لا يصلح للحرب؟؟ علي بن أبي طالب هذا الرجل الصلب، العنيد، المترفع، هذا الرجل الذي يقول: لا يزيدني إقبال الناس علي ولا ينقصني
إدبارهم عني. هذا الرجل الصلب استفز الاعصاب الى درجة انه اضطر ان يلحق بالنبي (ص)، فيسأله النبي (ص) عن سبب تركه المدينة، فيقول: الناس يقولون بأنك طردتني لأني لا أصلح للحرب؟؟
يمكن ان تنكر اية فضيلة من فضائل علي بن أبي طالب (ع)، ولكن هل يمكن ان ينكر ان علي بن أبي طالب لا يصلح للحرب؟ انظروا الحقد كيف وصل عند هؤلاء المسلمين بأن اخذوا يفسرون امارة علي بن أبي طالب (ع) على المدينة بأنه لا يصلح للحرب، فيقول رسول اللّه (ص) كلمته المشهورة، إن علياً مني بمنزلة هارون من موسى، انه لا ينبغي ان اخرج من المدينة الا وانت فيها اثباتاً لوجودي ولتحمي المدينة.
هذا الموقف من هؤلاء لا يمكن ان يفسر الا على اساس هذا العامل النفسي هذا العامل الثالث.
وهناك عوامل اخرى هذه العوامل كلها اشتركت في سبيل ان تجعل هناك موانع قوية جداً اصطدم بها النبي (ص) عند تشريع الحكم، واصطدم بها علي بن أبي طالب عند محاولة مقابلة الانحراف وتعديل التجربة وإرجاعها الى وضعها الطبيعي، ولهذا فشل في زعزعة الوضع القائم بعد النبي (ص). [/align][/align]
يا محوّل الحول والاحوال ، حوّل حالنا إلى أحسن الحال......
-
[align=center]
المحاضرة السابعة
بداية الانحراف وبعض المشاكل التي واجهت أمير المؤمنين (ع)
القسم الثاني[/align]
[align=justify]قلنا انه حينما وجد الانحراف بعد وفاة الرسول الاعظم (ص)، لم تكن الأمة على مستوى المراقبة بوصفها المجموعي، لم تكن قادرة على ضمان عدم وقوع هذا الحاكم المنحرف بطبيعته في سلوك منحرف، لأن كون الأمة على هذا المستوى من الضمان، إنما يكون فيما اذا وصلت الأمة بوصفها المجموعي الى درجة العصمة، أي اذا اصبحت الأمة كأمة تعيش الاسلام عيشاً كاملاً عميقاً، مستوعباً مستنيراً منعطفاً على مختلف مجالات حياتها، هذا لم يكن، بالرغم من ان الأمة الاسلامية وقتئذ، كانت تشكل أفضل نموذج للامة في تاريخ الانسان على الاطلاق. يعني نحن الآن لا نعرف في تاريخ الانسان، أمة بلغت في مناقبها، وفضائلها، وقوة إرادتها وشجاعتها وايمانها وصبرها وجلالتها وتضحيتها ما بلغته هذه الأمة العظيمة حينما خلفها رسول اللّه (ص).
الذي يقرأ التاريخ تاريخ هؤلاء الناس، الذي عاشوا مع النبي (ص) تبهره انوارهم في المجال الروحي والفكري والنفسي، في مجال الجهاد والتضحية في سبيل العقيدة. ولكن هذه الأنوار التي تظهر للمطالع لم تكن نتيجة وضع معمق تعيشه الأمة في ابعادها الفكرية والنفسية، بل كانت نتيجة طاقة حرارية هائلة إكتسبتها هذه الأمة بإشعاع النبي (ص).
هذه الأمة التي عاشت مع أكمل قائد للبشرية، اكتسبت عن طريق الاشعاع من هذا القائد، درجة كبيرة من الطاقة الحرارية صنعت المعاجز، وصنعت البطولات والتضحيات التي يقل نظيرها في تاريخ الانسان.
ولا اريد ان اتكلم عن هؤلاء الناس في أيام رسول اللّه (ص). وإيثار كل واحد منهم للاسلام والعقيدة، إيثاره بكل وجوده وطاقاته بكل إمكانياته وقدراته. هذه النماذج الرفيعة إنما هي نتاج هذه الطاقة الحرارية التي جعلت
الامة الاسلامية تعيش ايام رسول اللّه (ص) محنة العقيدة والصبر وتتحمل مسؤولية هذه العقيدة بعد وفاته (ص) وتحمل لواء الاسلام بكل شجاعة وبطولة الى مختلف أرجاء الارض هذه هي طاقة حرارية وليست وعياً لذا يجب ان نفرق ونميز بين الطاقة الحرارية وبين الوعي:
الوعي: عبارة عن الفهم الفعّال: الإيجابي المحقق للاسلام في نفس الامة، الذي يتأصل ويستأصل جذور المفاهيم الجاهلية السابقة استئصالاً كاملاً. ويحوّل تمام مرافق الانسان من مرافق الفكر الجاهلي الى مرافق الفكر الاسلامي والذوق الاسلامي.
اما الطاقة الحرارية: فهي عبارة عن توهج عاطفي حار، بشعور قد يبلغ في مظاهره نفس ما يبلغه الوعي في ظواهره بحيث يختلف الأمر، فلا يميز بين الأمة التي تحمل مثل هذه الطاقة الحرارية وبين أمة تتمتع بذلك الوعي الا بعد التبصر.
إلا أن الفرق بين الأمة الواعية والأمة التي تحمل الطاقة الحرارية كبير، فإن الطاقة الحرارية بطبيعتها تتناقص بالتدريج بالإبتعاد عن مركز هذه الطاقة الحرارية.
والمركز الذي كان يمون الامة بهذه الطاقة الحرارية هو شخص النبي (ص) القائد. فكان طبيعياً ان تصبح طاقة الأمة بعده في تناقض مستمر، حال الشخص الذي يتزود من الطاقة الحرارية للشمس والنار، ثم يبتعد عنهما، فإن هذه الحالة تتنافص عنده بإستمرار.
هكذا كان، وتاريخ الاسلام يثبت ان الامة الاسلامية كانت في حالة تناقص مستمر من هذه الطاقة الحرارية التي خلفها النبي (ص) في أمته حين وفاته بخلاف الوعي فإن الوعي بذلك المعنى المركز الشامل المستأصل لجذور ما قبله ذلك الوعي من طبيعته الثبات والاستقرار، بل التعمق على مر الزمن، لأنه بطبيعته يمتد ويخلق له بالتدريج خيالات جديدة وفقاً لخط العمل وخط الاحداث، فالأمة الواعية هي أمة تسير في طريق التعمق في وعيها والأمة التي تحمل طاقة حرارية هائلة، هي الأمة التي لو بقيت وحدها مع هذه الطاقة الحرارية فسوف تتناقص طاقتها باستمرار.
وهناك فرق آخر: هو ان الوعي لاتهزه الانفعالات، يصمد امامها، اما الطاقة الحرارية فتهزها الانفعالات، الانفعال يفجر المشاعر الباطنية المستترة، يبرز ما وراء الستار، ما وراء سطح النفس كأن الطاقة الحرارية طاقة تبرز على سطح النفس البشرية، واما الوعي فهو شيء يثبت في اعماق هذه النفس البشرية، ففي حالة الانفعال، سواء كان الانفعال انفعالاً معاكساً، يعني حزناً وألماً أو كان انفعالاً موافقاً، أي فرحاً ولذة وانتصاراً، في كلا الحالتين سوف يتفجر ما وراء الستار ويبرز ما كان كامناً وراء هذه الطاقة الحرارية في الامة المزودة بهذه الطاقة فقط، اما الامة الواعية فوعيها يجمد ويتقوى على مر الزمن فكلما مر بها انفعال جديد أكدت شخصيتها الواعية في مقابل هذا الانفعال، وصبغته بما يتطلبه وعيها من موقف.
هذا هو الفرق بين الوعي والطاقة الحرارية.
نحن ندعي ان الأمة الاسلامية العظيمة التي خلفها القائد الاعظم (ص) والتي ضربت اعظم مثل للكون في تاريخ الانسان الى يومنا هذا، هذه الامة كانت تحمل طاقة حرارية كبيرة، ولم تكن تحمل وعياً مستنيراً مجتثاً لأصول الجاهلية فيها.
والدليل على هذا كله واضح من تاريخ الامة نفسها وكشاهد على ذلك، علينا أن ننظر الى غزوة حنين، غزوة هوازن بعد فتح مكة، ماذا صنعت هذه الامة العظيمة بتلك الطاقة الحرارية في لحظة الانفعال، رسول اللّه (ص) خرج بجيش من الانصار ومن قريش من أهل مكة فانتصر في معركته واخذ غنائم كثيرة، وكان قراره توزيع الغنائم كلها جميعاً على من خرج من مسلمي مكة، فوزعها كذلك، ولم يعط مسلمي الانصار شيئاً منها، هذه لحظة انفعال نفسي، إن هؤلاء الأنصار يرون انفسهم خرجوا مع رسول اللّه (ص) من المدينة ليفتحوا مكة، وفتحوها وحققوا للأمة اعظم انتصاراتها في حياة النبي (ص) وبعد هذا يدخل النبي (ص) في الدين اناساً جدداً يستقلون بتمام الغنائم ويأخذونها. هذه لحظة إنفعال، في هذه اللحظة من لحظات الانفعال لاتكفي الأمة الطاقة الحرارية بل تحتاج الأمة الى وعي يثبتها لتستطيع ان تتغلب على لحظة الانفعال، هل كان مثل هذا الوعي موجوداً...؟ الجواب انه لم يكن:
فإن الانصار اخذوا يثيرون ما بينهم الهمس القائل: بأن محمداً (ص) لقي أهله وقومه وعشيرته، فنسي أنصاره واصحابه، هؤلاء الذين شاركوه في محنته، هؤلاء الذين ضحوا في سبيله، هؤلاء الذين قاوموا عشيرته في سبيل دعوته، نسيهم وأهملهم وأعرض عنهم، لأنه رأى أحبائه وأولاد عمه، رأى عشيرته...
أنظروا الى هذا التفسير، يبدو من خلاله الانصار وكأن المفهوم القبلي متركز في واقع نفوسهم، الى درجة يبدو معه لهم، أن محمداً (ص) وهو الرجل الأشرف والأكمل، الذي عاشوا معه، وعاشوا تمام مراحل حياته الجهادية، ولم يبد في كل مراحله الجهادية أي لون من الالوان يعطي شعوراً قبلياً قومياً، بالرغم من هذا، وبالرغم من خلوه من أي شعور يشير الى ذلك. في لحظة الانفعال قالوا، بأنه وقع تحت تأثير العاطفة القبلية والقومية. هذه العاطفة القبلية او القومية هذا الترابط القبلي كيف كان قوياً في نفوسهم بحيث انهم اصطنعوه تفسيراً للموقف في لحظة من لحظات الانفعال، رسول اللّه (ص) سمع بالهمس، اطلع على أن هناك بذور فتنة ضده في الأنصار، فأرسل على أبناء الانصار من الأوس والخزرج، وجمعهم عنده ثم التفت اليهم (ص) وقال ما معناه: لقد بلغني عن بعضكم هذا الموضوع ان محمداً نسي أصحابه وأنصاره حينما التقى بقومه، فسكت الجميع واعترف البعض بهذه المقالة. حينئذ اخذ رسول اللّه (ص) يعالج الموقف والمشكلة وذلك بإعطاء المزيد من الطاقة الحرارية، لأن هذه المشكلة ذات حدين، حد آني وحد المدى الطويل، الحد على المدى الطويل يجب ان يعالح عن طريق التوعية على الخط الطويل، وهذا ما كان يمارسه (ص)، والمشكلة بحدها الآني يجب ان تعالج ايضاً معالجة آنية، والمعالجة الآنية لا تكون الا عن طريق إعطاء مزيد من هذه الطاقة الحرارية للسيطرة على لحظة الانفعال، ماذا قال (ص)؟ كيف الهب عواطفهم، قال لهم: ألا ترضون ان يذهب أهل مكة الى بلادهم بمجوعة من الأموال الزائفة، وانتم ترجعون الى بلادكم بمحمد (ص) برسول اللّه (ص).
هذه كانت دفعة حرارية حولت الموقف في لحظة حيث أخذ هؤلاء الاوس والخزرج يبكون امام رسول اللّه (ص) ويستغفرون ويعلنون ولاءهم واستعدادهم وتعلقهم به، أراد رسول اللّه (ص) ان يعمق هذا الموقف العاطفي أكثر فعندما سكن بكاؤهم وهدأت عواطفهم قال لهم: ألا تقولون لي مقابل هذا، ثم أخذ يترجم بعض الأحاسيس المستترة في نفوسهم حتى يهيج عواطفهم تجاهه، ويتيح لذلك المجلس جواً عاطفياً وروحياً، بعد ذلك يتغلب على الموقف الى آخر القصة.
هذه الأمة التي تحمل الطاقة الحرارية تنهار امام لحظة انفعال.
شاهد آخر في لحظة انفعال أخرى ايضاً في تاريخ هذه الأمة.
الامة بعد وفاة رسول اللّه (ص) تملكتها لحظة انفعال كبيرة، لأن رسول اللّه (ص) راحل وكان رحيله (ص) يشكل هزة نفسية هائلة بالنسبة الى الأمة الاسلامية، التي لم تكن قد تهيأت بعد ذهنياً وروحياً لأن تفقد رسول اللّه (ص)، في هذه اللحظة من الانفعال ايضاً المشاعر التي كانت في الأعماق برزت على السطح.
المهاجرون: هناك تكلمنا عن الأنصار، وهنا نتكلم عن المهاجرين، ماذا قال المهاجرون في لحظة الانفعال...؟ هؤلاء المهاجرون الذين هاجروا من بلادهم، وتركوا دورهم وعوائلهم وقومهم في سبيل الاسلام، ماذا قالوا، وماذا كان موقفهم؟
قالوا ان السلطان سلطان قريش، إن سلطان محمد سلطان قريش، نحن أولى من بقية العرب، وبقية العرب أولى من بقية المسلمين.
هنا يبرز الشعور القبلي والشعور القومي، في لحظة انفعال، لأن هذه اللحظة من الانفعال تشكل صدمة بالنسبة الى الطاقة الحرارية يصبح الانسان معها في حالة غير طبيعية حيث لا يوجد عنده وعي فينهار امام تلك الأفكار وهذه العواطف.
إذن لحظة الانفعال هي التي تحدد ان هذه الأمة تحمل وعياً، أو طاقة حرارية.
ماذا صنع المسلمون في لحظة الانتصار والاستيلاء على كنوز كسرى وقيصر، المسلمون في هذه اللحظة، اخذوا يفكرون في الدنيا أخذوا يفكرون في أن يقتنص كل واحد منهم أكبر قدر ممكن من حطامها.
والأزمة التي مرت بعمر بن الخطاب في تحقيق حال الأرض المفتوحة عنوة، وأن الأرض المفتوحة عنوة هل تقسم على المقاتلين أو أنها تجعل لبيت المال، وتجعل ملكاً عاماً، هذه الأزمة تبينّ، كيف ان هذه الأمة ترددت في لحظة الانفعال، لأن وجوه المهاجرين والأنصار، هؤلاء الأبرار المجاهدون هؤلاء الذين عاشوا كل حياتهم الكفاح والجهاد في سبيل اللّه، هؤلاء اخذوا يصرون إصراراً مستميتاً على أن هذه الأرض يجب ان توزع عليهم، وعلى أن كل واحد منهم يجب ان ينال أكبر قدر ممكن من هذه الأرض، الى ان أفتى علي (ع) بأن الأرض للمسلمين جميعاً، لمن هو موجود الآن ولمن يوجد بعد اليوم الى يوم القيامة.
هذه اللحظات لحظات انفعال، لحظات الانفعال الانخذالية، ولحظات الانفعال الانفصالية هي التي تحدد ان الامة هل تحمل طاقة حرارية، أو تحمل وعياً.
إذن كان وعي الامة يحمل وراءه قدراً كبيراً من الرواسب الفكرية والعاطفية والنفسية التي لم تكن قد استؤصلت بعد؟
وربما قيل: إذن ماذا كان يصنع النبي (ص) اذا لم تكن قد استؤصلت هذه الرواسب؟
وجوابه: ان هذه الرواسب ليس من السهل استئصالها، لأن الدعوة الاسلامية التي جاء بها النبي (ص) لم تكن مجرد خطوة الى الامام، بل كانت طفرة بين الأرض والسماء.
إذا لاحظنا حال العرب قبل الاسلام، ولاحظنا مستوى الرسالة الاسلامية نرى ان المستوى هو مستوى الطفرة بين الأرض والسماء، لا مستوى الحركات الاصلاحية التي توجد في المجتمعات العالمية، وهي مستوى الخطوة الى الامام، أي حركة إصلاحية تنبع من الأرض وتنبع من عبقرية الانسان بما هو انسان، تزحف بالمجتمع خطوة الى الامام لا أكثر، المجتمع كان قد وصل الى الخطوة السابقة، في خط التقدم، وحينئذ من الممكن في زمن قصير ان تستأصل رواسب الخطوة السابقة، بعد الدخول في الخطوة التالية، لأن الفرق الكيفي، بين الخطوة السابقة والثانية مثلاً، فرق قليل ضئيل التشابه، بين الخطوتين تشابه كبير جداً هذا التشابه الكبير، أو ذاك التفاوت اليسير، يعطي في المقام إمكانية التحويل، إمكانية إجتثاث تلك الأصول الموروثة من الخطوة السابقة.
لكن ماذا ترون وما تقدرون، عندما جاء النبي (ص) الى مجتمع متأخر يعيش الفكرة القبلية بأشد ألوانها ونتائجها، وأقسى مفاهيمها وأفكارها، جاء فألقى فيها فكرة المجتمع العالمي، الذي لا فرق فيه بين قبيلة وقبيلة، وبين شعب وشعب، وبين أمة وأمة، وقال: ان الناس سواسية كأسنان المشط.
هذه الطفرة الهائلة بكل ما تضم من تحول فكري وانقلاب إجتماعي، وتغيير في المشاعر والمفاهيم والانفعالات هذه الطفرة لم تكن شيئاً عادياً في حياة الانسان، وإنما كانت شيئاً هائلاً في حياته. إذن فكيف يمكن ان نتصور، أن هذا المجتمع الذي طفر بهذه الطفرة مهما كان هذا المجتمع ذكياً، وصبوراً على الكفاح ومهما كان قوياً ومؤمناً برسول اللّه (ص) كيف يمكن ان نتصور في الحالات الاعتيادية، أنه يودع تمام ما كان عنده من الأفكار والمشاعر والانفعالات، ويقلب صفحة جديدة كاملة، دون أي اصطحاب لموروثات العهد السابق، هذا غير ممكن إلا في فترة طويلة جداً مع ان رسول اللّه (ص) لم يعش لمجتمع ودولة كمربي تربية كاملة في المدينة الا عشر سنوات فقط، علماً ان جزءاً كبيراً من المجتمع الاسلامي دخل الاحداث بعد وفاة رسول اللّه (ص) ومجتمع مكة الذي دخل في حظيرة الاسلام وقت فتح مكة، وقبل سنتين فقط من وفاة رسول اللّه (ص).
فكيف يمكن ان نتصور من خلال هذه الأزمنة القصيرة ومع تلك الطفرة الهائلة الكبيرة إثبات تلك الأصول.
فالاصول إذن كان من المنطقي والطبيعي ان لا تبقى وكان من المنطقي والطبيعي أيضاً ان لا تجتث الا في خلال أمد طويل، وخلال عملية تستمر مع خلفاء الرسول (ص) بعده. إلا ان هذه العملية قطعت بالانحراف، بتحول خط الخلافة عن علي (ع). وهذا لا يثير استغراباً، أو يسجّل نقطة ضعف، بالنسبة الى عمل الرسول (ص) بل ينسجم مع الرسالة مع عظمتها وجلالتها ومع تخطيط النبي (ص).
فهذه هي الأمة التي تحمل طاقة حرارية، أمة غير واعية واذا كانت تحمل هذه الطاقة وهي غير واعية، فليست بقادرة على حماية التجربة الاسلامية وعلى وضع حد لانحراف الحاكم الذي تولى الحكم بعد رسول اللّه (ص)، إذ بالصيغة الاصولية التي قلناها، من ان الأمة بوصفها المجموعي ليست معصومة، ما دامت تحمل طاقة حرارية فقط، ولاتحمل وعياً مستنيراً بجتث أصول الجاهلية فيها. وما دامت كذلك فهي لا تقف في وجه هذا الانحراف. وقد قلنا بأنه حتى لو أخذنا الحاكم بغير المفهوم الشيعي، مع هذا تبقى طبيعة الاشياء وطبيعة الاحداث تبرهن على أن يكون هذا الحاكم عرضة للانحراف ولتحطيم التجربة الاسلامية، وبالتالي تحطيم جميع الأصول الموضوعية والأطار العالم لهذه التجربة الشريفة المباركة. فإن الحاكم أولاً هو جزء عادي من هذه الامة التي قلنا بإنها لم تكن تحمل وعياً مستنيراً بل كانت تحمل طاقة حرارية، ولنفرض ان هذا الحاكم لم يكن شخصاً متميزاً من هذه الامة بإنحراف خاص، وبتخطيط سابق، للاستيلاء على الحكم، أو بتصميم على قتل رسول اللّه (ص) في سبيل الاستيلاء على الحكم، لنفرض ان هذا لم يكن، وإنما هو جزء عادي من هذه الأمة تدل سوابقه على ذلك فمعنى كونه جزءاً من هذه الأمة ان الحاكم يستبطن قدراً كبيراً من الأفكار الجاهلية والعواطف الجاهلية والمشاعر الجاهلية، وهذا كان واضحاً من اللحظة الاولى في يوم السقيفة، وفي الحجج التي أوردها المهاجرون ضد الأنصار. وكان من الواضح ان تقييم الخلافة لم يكن تقييماً إسلامياً، فهذه الرواسب الفكرية والعاطفية للجاهلية سوف تعمل عملها في سلوك هذا الحاكم. وفي تخطيطه.
إذا أضفنا الى هذا ان الحاكم كان يبدو منه في حياة الرسول (ص) نزعة الاستقلال بالرأي وروح التمرد على التعبد، وهذا كان ظاهراً فيهم وخاصة الخليفة الثاني. حيث كانت تبدو فيه روح التمرد على جملة التعاليم التي جاء
بها الرسول (ص) لأنها تحدث عنده حالة تناقض بين الدعوة الجديدة التي دخل فيها وبين مفاهيمه وافكاره وعواطفه المسبقة التي صاغتها الجاهلية له، هذه النزعة نزعة التمرد، ونزعة التعويل على الرأي لم تكن تشكل خطراً في الوقت الذي كان هذا إنساناً عادياً في المجتمع الاسلامي، وكان الرسول (ص) هو الحاكم في هذا المجتمع، واما في الوقت الذي تولى فيه هذا الشخص وأصحابه زمام قيادة التجربة، قيادة هذه السفينة، هذه النزعة أصبحت تشكل خطراً في المقام، خطر أن هذا الحاكم، سوف يُعبِّر في جملة من قضاياه ومفاهيمه ومشاكله على وفق الموروثات الجاهلية، وعلى وفق رواسبه العاطفية والنفسية التي خلفها له آباؤه وأجداده، لا التي خلَّفها له رسول اللّه (ص).
واذا اضفنا الى ذلك ايضاً أن الحاكم لم يكن قد هيأ أبداً لأن يكون حاكماً، وللحاكم مشاكله الخاصة وسلوكه الخاص وثقافته الخاصة، الحاكم خاصة اذا كان حاكماً في صدر دعوة جديدة ذات حرارة خاصة وثقافة جديدة، فلا بد وان يكون هذا الحاكم مهيأً بصورة مسبقة تهيؤاً ثقافياً وعلمياً وروحياً، لأن يكون حاكماً...؟
وقصدنا من عدم التهيؤ هو عدم التهيؤ الثقافي والعلمي، بمعنى انه لم يكن قد أستوعب الاسلام عمر نفسه كان يقول: شُغِلنا ايام رسول اللّه (ص) في الأسواق والحرب.؟ تأتيه مشكلة فلا يعرف الجواب عنها فيبعث للمهاجرين والأنصار ليستفتيهم مرة ثانية وثالثة ورابعة، حينما يتكرر هذا المطلب منه ويقف موقفاً سلبياً تجاه المشاكل من الناحية الدينية، فيعتذر عن ذلك فيقول شغلتنا ايام رسول اللّه (ص) الحرب والعمل في الأسواق.
رسول اللّه (ص) لم يهيؤ هذا الحاكم: نعم رسول اللّه (ص) لم يكن قد اشتغل لتهيئة مجموعة من الأمة لتحكم الناس وإنما هيأ قادة معينين من أهل البيت (ع) ليحكموا.
كان رسول اللّه (ص) يعمل على خطين للتوعية: الخط الأول هو التوعية على مستوى الأمة، وهذه التوعية للأمة بوصفها رعية بالمقدار الذي تتطلبه الرعية الواعية من فهم وثقافة، وكان له خط عمل على مستوى آخر من التوعية، للصفوة التي اختارها الله سبحانه وتعالى حتى تخلفه لقيادة هذه التجربة كانت توعية على مستوى القيادة وعلى مستوى الحاكمية.
وهؤلاء الذين تولوا الحكم بعد رسول اللّه (ص) لم يكونوا قد عاشوا على هذا المستوى للتوعية من الناحية الفكرية والثقافية، ألسنا جميعاً نعرف ان الصحابة في أيام عمر وأبي بكر اختلفوا في المسائل الواضحة جداً، اختلفوا في حكم سنَّةٍ كان يمارسها رسول اللّه (ص) أمام اعينهم مدة طويلة اختلفوا في حكم صلاة الجنائز، هذه المسألة العبادية الصرفة البعيدة عن كل مجالات الهوى والسياسة والاقتصاد، فالاختلاف هنا اختلاف ناشئ من الجهل حقيقة، لا اختلاف ناشئ من الهوى، ليس من قبيل الاختلاف في حكم الأرض وفي حكم الغنيمة وحكم الخمس.
كل هذا ينشأ من عدم التهيئة سابقاً ومن عدم الاستعداد لممارسة الحكم ولقيادة هذا التجربة يضاف الى ذلك ان الأمة كانت تحمل طاقة حرارية ولم تكن واعية الى أن الحاكم كان قاصراً او مقصراً، يضاف الى كل ذلك ان الاسلام كان على أبواب تحول كمي هائل، كان على أبواب ان يفتح احضانه لأمم جديدة، لم تر النبي (ص) ولم تسمع آية من القرآن منه على الاطلاق. تلك الأمة التي خلفها النبي (ص) كانت تحمل طاقة حرارية، لكن بعد ان اتسعت الأمة كمياً وضمَّت اليها شعوباً كثيرة، ضمت اليها الشعب العربي بأكمله تقريباً، في زمن عمر، وضمّت اليها من الشعوب الاخرى من الفارسية والتركية والكردية والهندية والافغانية والاوروبية وغيرها، ما بال هذه الشعوب. التي لم تكن قد رأت رسول اللّه (ص) ولم تسمع منه كلمة من القرآن، هل يترقب ان يكون لها وعي، او يترقب ان يكون لها طاقة حراراية؟ تلك الطاقة، كانت نتيجة كفاح مستمر مع أشرف قائد على وجه الأرض. إن هذه الشعوب التي دخلت حظيرة الاسلام، لم تكن قد عاشت هذا الكفاح المستمر مع القائد إذن فهذا الانفتاح الهائل على الشعوب الاخرى ايضاً ضعّف مناعة هذه الأمة، واضعَفَ من قدرتها على الحماية، وفتح بالتالي مجالات جديدة للقصور والتقصير امام الحاكم.
الحاكم الذي لم يكن مهيأً نفسياً لأن يحكم في مجتمع المدينة. كيف يكون مهيأً نفسياً وفكرياً وثقافياً لأن يحكم بلاد كسرى وقيصر ويجتث أصول الجاهلية، الفارسية والهندية والكردية والتركية، إضافة الى إجتثاث الجاهلية العربية، هذه الجاهليات التي كانت كل واحدة منها تحتوي على قدر كبير من الأفكار والمفاهيم الأخرى، جاهليات عديدة متضاربة فيما بينها عاطفياً وفكرياً، وكلها في مجتمع واحد وفي حالة عدم وجود ضمان لا على مستوى الحاكم، ولا على مستوى الأمة؟!
لئن كان أولئك الذين خلفهم رسول اللّه (ص) قد رأوا بأم أعينهم، في لحظة قصيرة، تجسيداً واقعياً حياً للنظرية الاسلامية للحياة وللمجتمع في ايام رسول اللّه (ص) ورأوا تصرفات رسول اللّه (ص) في المجال السياسي والاقتصادي والعسكري والاجتماعي، وسمعوا من رسول اللّه (ص) انه يقول: الناس سواسية كأسنان المشط فإن هذه الشعوب التي دخلت في الاسلام جديداً، لم تكن قد سمعت كل هذا بل سمعت هذا من الحكام الجدد الذين كانوا يقودون زعامة التجربة فإذا كان أمينها حاكماً منحرفاً، وكانت الأمة غير قادرة على مواجهة هذا الانحراف، وكانت على ابواب توسع هائل ضخم يضم شعوباً لا تعرف شيئاً أصلاً عن هذه النظرية الاسلامية للحياة الاجتماعية انما تعرف الواقع الذي يتجسد خارجاً والذي عاشته كواقع وهو ان فاتحاً مسلماً سيطر على بلادها. إذن كان من المفروض ومن المنطقي بحسب طبيعة الاشياء، أن تتحول النظرية الاسلامية للحياة الاجتماعية الى نظرية اخرى وفق خط الحاكم الموجود فعلاً والذي يجسد في سلوكه وتصرفاته، حقيقة بعيدة عن الحقيقة التي عمل رسول اللّه (ص) على تجسيدها في حياته فنظرية أبي بكر وعمر وعثمان للحكم وكما عاشوها واقعياً وسياسياً واقتصادياً كانت كفيلة بأن تطمس تلك الأطروحة الصالحة فكرياً وروحياً كما انطمست سياسياً واقتصادياً يوم السقيفة ولذا كان أمراً طبيعياً أن يعمل قادة أهل البيت (ع) على التخطيط لحماية اسلامهم من ان يندرس، وذلك عن طريق الدخول في الصراع السياسي مع هؤلاء الخلفاء.
الائمة (ع) دخلوا في صراع مع الخلفاء ومع الزعامات المنحرفة، دخلوا في الصراع يحملون في ايديهم مشعل تلك النظرية الاسلامية للحياة الاجتماعية بكل بهائها ونورها وجمالها وكمالها ولم يكونوا يستهدفون من هذا ان يعيدوا خط التجربة لأن المؤسف ان خط التجربة لم يكن بالامكان ان يعود مرة اخرى الى الاستقامة بعد ان انحرف، لم يكن الصراع السياسي يستهدف في المقام ان يعيد التجربة الى خطها المستقيم او على المدى الطويل الطويل، ولم يكن هذا هو الهدف الآني للصراع السياسي وانما كان الهدف الآني للصراع هو ان يبثوا الوعي في المسلمين والشعوب الجديدة التي دخلت في الاسلام على النظرية الحقيقية للاسلام عن الحياة، عن المجتمع عن الدولة عن الاقتصاد وعن السياسة وعن الآخرة ويبينوا لهم بصدق ما هو مفهوم الاسلام في هذه المجالات وصولاً الى ترسيخ هذه النظرية في أذهان الناس.
صحيح ان النظرية كانت موجودة في القرآن، وكانت موجودة في النصوص، ولكن هذا لا يكفي وحده للوصول الى الهدف وذلك:
أولاً: لأن النظريات حينما تكون حبراً على ورق لا تكفي لأن تعطي صورة واضحة عن الحقيقة الصادقة في أذهان الناس.
ثانياً: لأن القرآن والسنة لم تكن قد فهمته هذا الشعوب الجديدة التي قد دخلت في الاسلام، السنة لم يكونوا قد سمعوا عنها شيئاً وانما سوف يسمعون عنها عن طريق الصحابة. واما القرآن الكريم لم يكونوا قد سمعوا شيئاً عن تفسيره ايضاً، وانما بدأوا يسمعونه عن طريق الصحابة، فلا بد حينئذ من تجسيد حي لهذه النظرية الاسلامية، وحيث لم يكن بالامكان تجسيده عن طريق الحكم بعد رسول اللّه (ص) مباشرة، كان من الضروري تجسيده عن طريق المعارضة للزعامات المنحرفة على يد علي (ع) والحسن والحسين (ع) أئمة المرحلة الاولى.[/align]
يا محوّل الحول والاحوال ، حوّل حالنا إلى أحسن الحال......
-
[align=justify][align=center]المحاضرة الثامنة
بسم اللّه الرحمن الرحيم
ممارسة أئمة المرحلة الاولى للصراع السياسي
[/align]
في هذه المرحلة مارس هؤلاء الأئمة (ع) الصراع السياسي، لأجل إعطاء هذه النظرية بكل وضوح، غاية الأمر أننا نرى ان امير المؤمنين (ع) لم يقم بالصراع الحاد الا بعد موت عمر بن الخطاب، نعم بعد السقيفة بأيام، سجل أمير المؤمنين (ع) للتاريخ رأيه في السقيفة وسجل ذلك الحواريون من أصحابه من امثال سلمان والمقداد وعمار. وهناك قالوا حكمهم، قالوا بأن هذا ليس تعدياً على علي (ع)، وانما هو تعد على الامة الاسلامية، وعلى التجربة الاسلامية سلمان اخذ يصف حال المسلمين وماذا يكون عليه فيما لو ولّوا علياً.
وفاطمة الزهراء عليها السلام، في كلام لها مع نساء المهاجرين والأنصار، وصفت ايضاً حالة المسلمين لو انهم ولّوا علياً...
لكن بعد هذا، امير المؤمنين (ع) لم يبد على مسرح الصراع بشكل مكشوف في ايام ابي بكر وعمر بالرغم من ان الانحراف كان قد بدأ منذ خلافة ابي بكر لا الانحراف في تغيير شخص الحاكم بل الانحراف في تغيير مضمون الحكم وسياسة الحكم.
هذا الانحراف بدأ في أيام ابي بكر واشتد في ايام عمر وانجلى في ايام عثمان بصورة غير اسلامية، وكان الانحراف يسير في خط منحن حتى وصل الى الهاوية بعد ذلك.
نعم بدأ أمير المؤمنين (ع) معارضته لأبي بكر وعمر وعثمان وللزعامات المنحرفة جميعاً بشكل مكشوف وصريح، بعد وفاة عمر مباشرة، وقبل ان يتم
الامر لعثمان عندما قال له عبد الرحمن بن عوف وكانوا ستة قد اجتمعوا للشورى قال له: مد يدك أبايعك على كتاب اللّه وسنة نبيه (ص) وسنة الشيخين، وكان يريد عبد الرحمن من ذلك ان يجعل سيرة الشيخين ممثلاً شرعياً للنظرية الاسلامية للحياة الاجتماعية، لو كان علي قبِلَ ذلك لانتهى هذا التمثيل، لأنه لم يكن في مقابل اطروحة هذين الشيخين الا علي (ع) ولو وافق على ذلك، لأصبح هو ذات النظرية السائدة، فقال: بايعني على كتاب اللّه وسنة رسوله (ص) واجتهادي. اما سيرة الشيخين لا يمكن ان تقبل كممثل شرعي للنظرية الاسلامية وللحياة الاجتماعية.
هنا بدأ الامام (ع) يشجب ويعارض هذه الزعامة المنحرفة، امير المؤمنين (ع) رفض الخلافة والزعامة لأجل ان لا يدخل سيرة هذين الرجلين كجزء للنظرية الاسلامية.
قد يقال: ان هذا باب التزاحم وباب العناوين الثانوية ماذا كان يضره لو قال: نعم فيبايعه على كتاب اللّه وسنة رسوله (ص) وسيرة الشيخين، ثم بعد هذا يقول ويعمل حسب رأيه وينقض عهده لعبد الرحمن لأن كل شرط خالف كتاب اللّه ورسوله مردود؟! ألم يكن هذا تكليفاً شرعياً بناءً على ان الوصول الى الخلافة واجب، وتنحصر مقدمة هذا الواجب بأن يمضي هذا الشرط، فعليه يكون هذا واجباً بالعناوين الثانوية لأنه مقدمة للواجب...؟!
وجوابه: إنه لو قال علي بن أبي طالب (ع) ذلك لتم هذا التخطيط، ثم ان النظرية الاسلامية للحياة هي النظرية التي قدمها هؤلاء المنحرفون في المقام، وما أشد ضياع الاسلام لو قال هذا، وقد قلنا وسوف نشرح ان عودة التجربة الى الخط المستقيم على المدى البعيد البعيد، لم تكن بالامكان اصلاً حتى لو تولى أمير المؤمنين (ع) الخلافة بعد عمر، فماذا يكون الا الخسارة الا ان يعطي هذا الامضاء وهذا الصك للزعامات المنحرفة.
من هنا بدأ الامام (ع) يصارع، ثم بعد هذا في ايام عثمان انفتح صراعه السياسي بشكل اوضح.
كان (ع) يعبر عن آلام الامة وعن آمالها، ومظالمها امام عثمان، ويعظه ويوبخه، ويذكره اللّه وايام اللّه والآخرة ورسول اللّه (ص) ولكن عثمان لم يكن يتعظ.
لماذا كان حريصاً كل الحرص على ان يبدو صراعه موضوعياً عقائدياً يستهدف النظرية لا الشخص يستهدف تثبيت دعائم نظرية حقيقية للاسلام، لاتدعيم شخصه، كان الامام (ع) حريصاً على ان تكون التصورات والانعكاسات التي يعيشها الناس عن صراعه على مستوى ان صراعه صراع نظري عقائدي، وليس صراعاً شخصياً لأن هذا كان من اكبر الوسائل لتثبيت حقانية هذه النظرية التي يقدمها أليس هو يريد ان يثبت للذهنية الاسلامية ان النظرية الاسلامية للحياة الاجتماعية هذه لا تلك التي يطبقها الزعماء المنحرفون كيف يستطيع ان يرسخ هذا في الذهنية الاسلامية على انه صراع عقائدي ونضالي في سبيل تثبيت النظرية، ولهذا انتظر أمير المؤمنين (ع) ان يبرز الانحراف واضحاً ثم يبدأ الصراع. لأن هؤلاء الناس الغير الواعين لا يشعرون بمرارة الانحراف الا اذا دخل الانحراف الى بيوتهم، الا اذا مس جلودهم، أما قبل هذا فلا يترقب من الأمة الغير الواعية، ان تشعر بالانحراف.
الانحراف بدأ في ايام ابن أبي قحافة وعمر، وكان انحرافاً مستوراً، وكان عمر موفقاً جداً في ان يلبس هذا الانحراف الثوب الديني المناسب. نحن لا نريد ان نعطي مفهومنا الخاص عن عمر بل نأخذ بمفهوم السنة عن عمر ان عمر حتى بحسب المفهوم الذي يحتمل انه كان حقيقة في الاسلام على مستوى هذا الثوب الديني المصطنع نجد عمر فرط في العطاء بين الناس ووضع تركيباً قبلياً في المجتمع الاسلامي كما صنع عثمان، لكن فرق بينهما، لأن عمر جعل هذا التركيب القبلي الطبقي على اساس خدمة الاسلام، قال ان كل من كان أقرب للنبي (ص) يعطيه أكثر، وهذا ثوب تقبله أمة غير واعية قبولاً إجماعياً، أكثر مما تقبل النظرية الاسلامية الحقيقية. قبل ان يلتفت الى نتائج هذا التركيب القبلي من اللحظة الاولى، قبل ان يلتفت الى ما سوف يتمخض عنه هذا التركيب الطبقي من بلايا وكوارث ومحن في المجتمع الاسلامي،
تستسيغ هذا المطلب تستسيغ ان عم الرسول (ص) أكثر الناس عطاءً ان يكون البدريون اكثر عطاءً من الاحديين. وان يكون المهاجرون أكثر عطاءً من غيرهم وان يكون العرب الموجودون أيام رسول الله (ص) وعاشوا الدعوة في مراحلها الاولى أكثر عطاء من غيرهم، وهكذا فلو كان علي يعارض هذا الانحراف وقتئذ لفسر على مستوى تلك الذهنية بأنه صراع شخصي وليس صراعاً عقائدياً. لم يكن بإمكانه ان يفهم المسلمين ذلك ولهذا سكت لئلا يلبس صراعه الثوب الشخصي، وهذا هو يقول: سأسالم ما سلمت أمور المسلمين مادام التعدي علي انا، فأنا ساكت مادام الناس يعيشون ويشعرون بأن الامور بخير فأنا ساكت حتي يصابوا بنيران الانحراف.
ويعد عمر أعلن رأيه في الشيخين، فإعلانه بمخالفة سيرة الشيخين كان موقفاً عقائدياً ونضالياً، ولم يكن موقفاً شخصياً لأن المصلحة الشخصية تقتضي هنا ان يسكت فإن لم يكن بينه وبين وصوله الى الخلافة الا ان يقر بزعامة هؤلاء المنحرفين وهذا أمر مؤقت لا يمكن ان يفسر على اساس الصراع الشخصي، وانما يفسر على اساس ان هذا الشخص يريد ان يمسك بيده نظرية جديدة للاسلام غير النظرية التي طبقها الشيخان، ثم بعدما تكشف الانحراف في ايام عثمان الى درجة لم يكن بحاجة الى صعوبة لتشعر به الأمة الغير الواعية، شعرت الامة الاسلامية بذلك خصوصاً في السنوات الاخيرة من ايام عثمان، فدخل الامام (ع) في الصراع بشكل مكشوف ليثبت للتجربة الاسلامية دعائم النظرية الاخرى، فكان (ع) هو رمز نظرية اسلامية للحياة الاجتماعية تختلف عن النظرية المطبقة لواقع الحياة الاجتماعية على ما سوف نشرح ان شاء اللّه تعالى. [/align]
يا محوّل الحول والاحوال ، حوّل حالنا إلى أحسن الحال......
-
[align=center]المحاضرة التاسعة
بسم اللّه الرحمن الرحيم
تولي أمير المؤمنين زعامة المسلمين
انتهينا في خط العرض العام الى تولي أمير المؤمنين (ع) لزعامة المسلمين سياسياً وادارياً بعد مقتل عثمان، الا ان أمير المؤمنين (ع) حينما تولى الخلافة بعد مقتل عثمان، اراد ان يشرح للمسلمين بطريقته الخاصة، ان المسألة ليست بالنسبة اليه تبديل شخص بشخص آخر، وليست مسألة فارق اسمي بين زعيم الأمس وزعيم اليوم، وانما المسألة هي مسألة اختلاف شامل كامل للمنهج، وفي كل القضايا المطروحة.
الا انه لعلاجها وتصفيتها، كان يريد ان يبين للمسلمين ضرورة ان ينظر اليه بوصفه قائماً على الخط، وقيماً على المنهج وأميناً على الرسالة. وعنواناً لدستور جديد، يختلف عن الوضع المنحرف القائم بعد وفاة النبي (ص).
لأجل هذا امتنع عن قبوله الخلافة أول الأمر، فقال لهم فكروا في غيري، واتركوني وزيراً لمن تستخلفونه، فانا لكم وزير خير مني أمير، يعني على مستوى حياة الدعة والكسل، على مستوى الرخاء واليسر، على مستوى الحياة الفارغة من المسؤولية، على مستوى هذه الحياة انا وزير خير مني امير، لاني حينما اكون اميراً سوف ارهقكم، سوف اتعبكم سوف افتح امامكم أبواب مسؤوليات كبرى تجعل ليلكم نهارا، وتجعل نهاركم ليلاً، هذه الهموم التي تجعلكم دائماً وابداً تعيشون مشاكل الامة في كل ارجاء العالم الاسلامي، هذه الهموم التي سوف تدفعكم الى حمل السلاح - من دون حاجة مادية - لاجل تطهير الارض الاسلامية من الانحراف الذي قام عليها...؟
اتركوني وزيراً أكون أفضل لكم على مستوى هذه الحياة مني وانا امير، لأني كوزير لا املك ان ارسم الخط، أو أن أضع المخطط، وانما انصح واشير
وحينئذ يبقى الوضع الذي كان بعد وفاة النبي (ص) مستمراً، اصروا عليه بان يقبل الخلافة، ففرض عليهم الشروط فقبلوها اجمالاً دون ان يسألوه التوضيح، اعطاهم فكرة عن ان عهده هو عهد منهج جديد للعمل السياسي والاجتماعي والاداري، فقبلوا هذا العهد، وكان هذا سبباً في ان ينظر المسلمون من اللحظة الأولى، الى أن علي بن أبي طالب (ع) بوصفه نقطة تحول في الخط الذي وجد بعد النبي (ص)، لا بوصفه مجرد خليفة، فانتعشت مع هذا العهد الجديد آمال كثيرة.
وحينما بويع علي (ع)، كانت اكثر الصعاب التي واجهها بعد بيعته، هو انشقاق معاوية وتخلف الشام بكامله لابن ابي سفيان عن الانضمام الى بيعته. هذا التناقض، شق المجتمع الاسلامي في الدولة الاسلامية الى شقين، ووجد في كل منهما جهاز سياسي واداري لايعترف بالآخر. ومنذ البدء، كان هناك فوارق موضوعية واضحة، بين وضع علي بن أبي طالب (ع) السياسي والاداري، ووضع معاوية السياسي والاداري، تجعل هذه الفوارق معاوية، احسن موقفاً واثبت قدماً، واقدر على الاستمرار في خطه من امام الاسلام (ع).
هذه الفوارق الموضوعية لم يصنعها الامام (ع) وانما كانت نتيجة تاريخ:
فأولاً: كان معاوية يستقل باقليم من اقاليم الدولة الاسلامية، ولم يكن لعلي أي رصيد او قاعدة شعبية في ذلك الاقليم على الاطلاق، لأن هذا الاقليم، قد دخل في الاسلام بعد وفاة رسول اللّه (ص) وانعزال علي عن خط العمل، وكان هذا الاقليم، قد دخل ودشن حياته الاسلامية بولاية يزيد أخي معاوية، ثم بعد بولاية معاوية، وعاش الاسلام من منظار آل أبي سفيان، ولم يسمع لعلي (ع)، ولم يتفاعل مع الوجود الاسلامي والعقائدي، هذا الامام العظيم لم يكن يملك شعاراً له رصيد او قاعدة شعبية في المجتمع الذي تزعمه معاوية، وحمل لواء الانشقاق فيه، في حين، العكس فان شعار معاوية كان يملك رصيداً قوياً وقاعدة قوية في المجتمع الذي تزعمه الامام (ع) لأن معاوية، كان يحمل شعار الخليفة القتيل، والمطالبة بدمه والخليفة هذا كان أمير المجتمع الذي تزعمه علي (ع)، وكان لهذا الخليفة القتيل اخطبوط في هذا المجتمع وقواعد. وهكذا كان شعار ابن أبي سفيان يلتقي مع وجود قاعدة ورصيد في داخل محتمع أمير المؤمنين (ع) بينما لم يكن شعار علي يلتقي مع قاعدة ورصيد في داخل مجتمع معاوية.
وثانياً: كانت طبيعة المهمة تميز معاوية عن علي بن أبي طالب (ع)، لأن أمير المؤمنين (ع) بوصفه الحاكم الشرعي، والمسؤول عن الأمة الاسلامية كان يريد ان يقضي على هذا الانشقاق الذي وجد في جسم الأمة الاسلامية وذلك بشخصية هؤلاء المنحرفين، واجبارهم بالقوة على انضمامهم الى الخط الشرعي، وكان هذا يستدعي الدخول في الحرب، التي تفرض على علي (ع) الطلب من العراقي ان يخرج من العراق، تاركاً امنه ووحدته واستقراره، ومعيشته ورخائه، ليحارب اناساً شاميين لم يلتق معهم بعداوة سابقة، وانما فقط بفكرة ان هؤلاء انحرفوا، ولا بد من اعادة ارض الشام للمجتمع الاسلامي والدولة الاسلامية، فكان موقف علي (ع) يتطلب ويفترض ويطرح قضية الهجوم. على اناس لا يملكون - في غالبيتهم - الوعي لخطورة تراخيهم على قمع هذا الانحراف، انطلاقاً من عدم استيعابهم لابعاده؟!
في حين ان معاوية بن أبي سفيان، يكتفي من تلك المرحلة، بأن يحافظ على وجوده في الشام، ولم يكن يفكر (مادام أمير المؤمنين) ان يهاجم أمير المؤمنين، وان يحارب العراق ويضم العراق الى مملكته، وانما كان يفكر فقط، في ان يحتفظ بهذا الثغر من الثغور للمسلمين، حتى تتهيأ له الفرص والمناسبات والظروف الموضوعية، بعد ذلك يتآمر على الزعامة المطلقة في كل ارجاء العالم الاسلامي. فمعاوية لم يكن يقول للشامي، اترك استقرارك ووحدتك، واذهب الى العراق محارباً، لأن هذا الشخص خارج عن طاعتي، ولكن كان علي (ع) يقول هذا للعراقي، لان علياً (ع) كان يحمل بيده مسؤولية الامة ، ومسؤولية اعادة وحدة المجتمع الاسلامي، بينما كان كل مكسب معاوية وهمّه او قصارى امله، ان يحافظ على هذا الانشقاق ويحافظ على هذه التجزئة التي اوجدها في جسم المجتمع الاسلامي. وشتان بين قضية الهجوم حينما تطرح وقضية الدفاع.
وثالثاً كان هناك فرق آخر بين معاوية والامام (ع) وهو ان معاوية، كان يعيش في بلد لم يكن قد نشأت فيه زعامات سياسية طامحة الى الحكم والسلطان من ناحية ولم يكن فيه اناس ذوو سابقة في الاسلام، ممن يرى لنفسه الحق ان يساهم في التخطيط وفي التقدير، وفي حساب الحاكم، وفي رسم الخط، لم يكن هكذا، الشام اسلمت على يد معاوية واخيه، كلهم كانوا نتيجة لإِسلام معاوية ولإِسلام اخي معاوية، ولإِسلام من استخلف معاوية على الشام ولم يكن قد مني بتناقضات من هذا القبيل.
اما علي (ع) كان يعيش في مدينة الرسول (ص) كان يعيش في حاضرة الاسلام الاولى التي عاش فيها الرسول (ص) وعاش بعد ذلك ابو بكر، وعاش بعد ذلك عمر وعثمان، حتى قتلا، ومن ناحية كان يواجه كثيراً ممن يرون ان من حقهم ان يساهموا في التخطيط ، وان يشتركوا في رسم الخط، كان يواجه علي (ع) اشخاصاً كانوا يرونه نداً لهم، غاية الامر انه ند افضل، ند مقدم، لكنهم صحابة كما انه هو صحابي عاش مع النبي (ص) وعاشوا مع النبي (ص).
طبعاً اننا نعلم ايضاً، بان خلافة علي كانت بعد وفاة النبي (ص) بعشرين سنة، وهذا معناه، ان ذلك الامتياز الخاص الذي كان يتمتع به امير المؤمنين في عهد الرسول (ص) كالنجم لا يطاول، ذاك الامتياز الخاص كان قد انتهى مفهومه وتضاءل أثره في نفوس المسلمين، الناس عاشوا عشرين سنة يرون علياً مأموماً، يرونه منقاداً، يرونه جندياً بين يدي أمير هذا الاحساس النفسي خلال عشرين سنة اذهب تلك الآثار التي خلفها عهد النبوة، وهكذا كان علي (ع) يُنظر اليه بشكل عام، عند الصحابة الذين ساهموا في حل الامور وعقدها وكانوا يمشون في خط السقيفة، هؤلاء الصحابة الذين قدموا للاسلام في صدر حياتهم، وكانوا قد قدر لهم بعد هذا ان يمشوا في خط الانحراف وفي خط السقيفة، هؤلاء كانوا ينظرون الى علي الأخ الأكبر، الزبير صحيح كان يخضع لعلي (ع) لكن كان يخضع له كالاخ الاكبر لا يرى ان اسلامه مستمد منه، هذه الحقيقة الثانية الثابتة التي كانت واضحة على عهد النبي (ص) حُرفت خلال عهد الانحراف، خلال عهد أبي بكر وعمر وعثمان، ولهذا كان الزبير يعترف بأن علياً افضل منه، لكنه لا يرى نفسه مجرد آلة ومجرد تابع
يجب ان يؤمر فيطيع، فكان هناك اناس من هذا القبيل، هؤلاء يريدون ان يشتركوا في التخطيط ويشتركوا في رسم الخط، في ظرف هو ادق ظرف وابعده عن عقول هؤلاء القاصرين.
رابعاً كانت توجد هناك الاطماع السياسية والاحزاب السياسية التي تكونت في عهد ابن الخطاب، واستفحلت بعده نتيجة للشورى، هذه الاحزاب السياسية كان يفكر في امرها ويفكر في مستقبلها ويفكر في انه كيف يستفيد اكبر قدر ممكن من الفائدة في خضم هذا التناقض، وهذا بخلاف معاوية لم يكن قد مني بصحابة أجلاء يعاصرونه ويقولون له نحن صحابة كما انت صحابي، بل كل اهل الشام مسلمون نتيجة لاسلامه واسلام اخيه، لم ير احد منهم رسول اللّه (ص) ولم يسمع احد القرآن الا عن طريق معاوية، اذن كانت حالة الاستسلام في المجتمع الشامي بالنسبة اليه لا يوجد ما يناظرها بالنسبة الى الامام (ع) في مجتمع المدينة والعراق.
خامساً: كان هناك فرق آخر بين الامام (ع) ومعاوية، وحاصل هذا الفرق هو ان الامام (ع) كان يتبنى قضية هي في صالح الاضعف من افراد المجتمع، وكان معاوية يتبنى قضية هي في صالح الاقوى من افراد المجتمع، أمير المؤمنين (ع) كان يتبنى الاسلام بما فيه من قضايا العدالة الاجتماعية التي يمثلها النظام الاقتصادي للاسلام، وهذه القضايا لم تكن في صالح الاقوى، بل كانت في صالح الاضعف، ومعاوية كان يمثل الجاهلية بفوارقها وعنفوانها وطبقاتها، وهذا لم يكن في صالح الاضعف بل كان في صالح الاقوى، وذلك انه بعد رسول اللّه (ص) حينما دخل العراق والشام وبقية البلاد في داخل المجتمع الاسلامي، لم يقدر الخلفاء الذين تزعموا زعامة المسلمين على تذويب التنظيم القبائلي الذي كان موجوداً في هذه البلاد، بل بقي التنظيم القبائلي سائداً وبقي زعيم كل قبيلة هو الشخص الذي يرتبط كهمزة الوصل بين قبيلته وبين السلطان. وهذا التنظيم القبائلي بطبيعته، يخلق جماعة من الزعماء ومن شيوخ هذه القبائل الذين لم يربِّهم الاسلام في المرتبة السابقة ولم يعيشوا ايام النبوة عيشاً صحيحاً مما جعل من هؤلاء طبقة معينة ذات مصالح، وذات اهواء وذات مشاعر في مقابل قواعدها الشعبية مما يوفر لهم اسباب النفوذ والاعتبار.
الآن تصوروا مجتمعاً اسلامياً تركه الخلفاء المنحرفون وهو يعم بالتقسيمات القبلية بمعنى ان كل قبيلة كانت تخضع ادارياً وسياسياً لزعامة تلك القبيلة التي تشكّل كما قلنا همزة وصل بين القبيلة وبين الحاكم الذي يسهل عليه ان يرشي رؤساء هذه القبائل بقدر الامكان وهذا ما كان يفعله غير علي (ع) من الحكام وكان عاملاً من عوامل القوة بالنسبة الى معاوية، هذه الظروف الموضوعية لم يصنعها الامام (ع) وانما هي صنعت خلال التاريخ وأوجدت لمعاوية مركزاً قوياً ووجد للإِمام مركز ضعف ولولا براعة التضحية وكفاءته الشخصية ورصيده الروحي في القطاعات الشعبية الخاصة الواسعة، لولا ذلك لما استطاع (ع) ان يقوم بما مرّ به نفسه من حروب داخلية خلال اربع سنوات...
هكذا بدأ الامام بخلافته ودشن عهده، وبدأ الانقسام مع هذا العهد على يد معاوية بن أبي سفيان، واخذ الامام يهيئ المسلمين للقيام بمسؤولياتهم الكبيرة للقيام بدورهم في تصفية الحسابات السابقة، في تصفيتها على مستوى مالي، على المستوى الاقتصادى، على المستوى الاجتماعي على المستوى السياسي والاداري ايضاً، كل ذلك كان يحتاج الى الكفاح والقتال فأخذ يدعو الناس الى القتال وخرجوا إليه فعلاً. لقد درسنا الى هنا علياً مع معاوية بحسب ظروفه الموضوعية، فلا بد وان ندرس الذهنية العامة للمسلمين ايضاً، كيف كان يفسر هذا الخلاف الموجود بين علي ومعاوية.
الذهنية العامة للمسلمين بدأت تفسر هذا الخلاف، بأنه بين خط خلافة راشدة، وبين شخص يحاول الخروج على هذه الخلافة، كانوا ينظرون الى علي بشكل عام على انه هو الخليفة الراشد، الذي يريد ان يحافظ على الاسلام، ويحافظ على خط القرآن في حين ان معاوية يحاول ان يتأمر هذا المفهوم. استطاع أمير المومنين (ع) ان يثبت هذا الانطباع، بالرغم من كل الظروف الموضوعية التي قلناها، في ذهن القاعدة الشعبية الواسعة، في كل ارجاء العالم الاسلامي، عدا القطر الذي كان يرتبط بمعاوية، وهذه الذهنية هي التي كانت تصبغ المعركة بين علي ومعاوية بطابع الرسالة، كأن تعطيه معنى رسالياً. وكانت تفسر هذه المعركة بأنها معركة بين الجاهلية، بين فكرين، بين هدفين، وليست بين زعامتين وشخصيتين، الا ان الامر تطور الى الأسوأ حيث إن المسلمين بدأوا يشكون شكاً واسع النطاق، بأن المعركة بين امير المؤمنين (ع) وبين معاوية بن ابي سفيان معركة رسالية.
من الصعب جداً ان نتصور انه كيف يمكن للمسلمين ان يشكوا في ان المعركة القائمة بين امام الورع والتقى والعدالة، وبين شخص خائن جاهلي منحرف عدو رسول اللّه (ص) كانت معركة رسالية إلا اني لا اشك في ان عدداً كبيراً من المسلمين على مر الزمن في عهد خلافة امير المؤمنين بدأ يشك في ان هذه المعركة أهي رسالية حقيقية او غير رسالية وهنا يجب ان نعرف ان المسلمين الذين شكوا من هم. انهم اولئك الذين عرفناهم عقيب وفاة الرسول (ص)، هم اولئك المسلمون الذين خلفهم الرسول فكانت خير امة اخرجت للناس، على مستوى ايمانهم وطاقتهم الحرارية واشعاعهم وشحنهم من النبي (ص) بشخص المبادئ التي طرحها (ص)، ولكن لم يكن لهم من الوعي العقائدي الراسخ الا شيء قليل، هذا المعنى شرحناه وبيناه وبينا جهاته وقلنا ان الامة لم تكن على مستوى الوعي وإنما كانت على مستوى الطاقة الحرارية، اذن فنحن سوف لن نتوقع فيها ان تبقى مشتعلة، وتبقى على جذوتها وحرارتها بعد وفاة رسول اللّه (ص)، يبقى هذا ايضاً غير منطقي، اذن يجب ان نفكر في ان هذه الطاقة الحرارية قد تضاءلت بدرجة كبيرة وحتى تلك الصبابة من الوعي تلك الجذور من الوعي التي كان رسول اللّه (ص) قد بدأ بها كي يواصل بعد هذا خلفاؤه المعصومون عملية توعية الامة، حتى تلك البذور قد فتتت، واخفقت ومنع بعضها عن الاثمار، وبقي بعضها الآخر بذوراً منقسمة ايضاً. وحينما نتصور الامة الاسلامية بهذا الشكل، من ناحية اخرى يجب ان نتصور مفهوم المسلمين عن معاوية، نحن الآن ننظر الى معاوية بعد ان استكمل خطه من الدنيا، وبعد ان دخل الكوفة وصعد على منبر علي بن ابي طالب (ع) وقال اني لم احاربكم لكي تصوموا او تصلوا وانما حاربتكم لان أتأمر علكيم، بعد ان اعلن بكل صراحة ووقاحة عن هدفه، وبعد ان طرح بكل برودة شعار الخليفة المظلوم وشعار الخليفة القتيل، دخل عليه اولاد عثمان بن عفان وقالوا له: لقد جعلنا هذا الامر وتم الامر لك يا امير المؤمنين، فما بالك لا تقبض على قتلة ابينا، قال: أولاً يكفيكم انكم صرتم حكام المسلمين.
نحن ننظر الى معاوية بعد ان ارتكب الفظائع وغير احكام الشريعة وأبدع في السنة، ننظر الى معاوية بعد ان استخلف يزيد ابنه على امور المسلمين، وبعد ان قتل مئات من الابرار والاخيار، ننظر الى معاوية بعد ان تكشفت اوضاعه، لكن فلنفرض ان شخصاً ينظر الى معاوية قبل ان تكشف له هذه الاوضاع، لنفترض ان اولئك الاشخاص يعيشون في اطار الامة الاسلامية وقتئذ - ،معاوية ماذا كان يكشف عن اوضاعه وقتئذ على المسلمين، الذين كانوا يدورون في فلك السقيفة، وحكومات السقيفة، ماذا كان من اوراق معاوية مكشوفاً وقتئذ؟ كان معاوية شخصاً قد مارس عمله الاداري والسياسي بعد وفاة رسول اللّه (ص) بأقل من سنة، خرج الى المدينة وذهب الى الشام كعامل عليها، وبقي معاوية هناك مدللاً محترماً معززاً من قبل ابن الخطاب، الذي كان ينظر اليه بشكل عام في المجتمع الاسلامي، بنظرة الاحترام والتقدير، حتى ان عمر بن الخطاب، حينما اراد ان يؤدب ولاته، استثنى معاوية من هذا التأديب، وحينما اراد ان يقاسم اموال ولاته استثنى معاوية من ذلك؟! فمعاوية كان والياً موثوقاً به معززاً من الناحية الاسلامية عند ابن الخطاب، وبعد هذا جاء عثمان فوسع من نطاق ولاية معاوية، وضم اليه عدة بلاد اخرى، اضافة الى الشام، ولم يطرأ أي تغيير في ابن أبي سفيان، فمعاوية لم يكن شخصاً مكشوفاً بل كان شخصاً عنوانه الاجتماعي انه حريص على كرامة الاسلام، وانه هو الشخص الذي استطاع ان يدخل في قلب الخليفة الخشن الذي يعاتب ويعاقب، الذي كان يضرب ابنه بحد الخمر حتى يموت، هذا الخليفة لم يضرب معاوية، ولم يعاقبه، معاوية كان نتيجة الترويجات من قبل الحكام والخلفاء المنحرفين، وكان يتمتع بسمعة طيبة وبمفهوم طيب، هنا دخل الصراع لاول مرة شعار الأخذ بالثأر لدم عثمان، هذا الشعار الذي أخذه معاوية وكان يبدو للبسطاء من الناس وكثير من المغفلين، كان شعاراً له وجهة شرعية، كان يقول بأن عثمان قتل مظلوماً، وعثمان بالرغم من انه خان الامانة من استهزاء بالاسلام، وبالرغم من انه صير الدولة الاسلامية الى دولة عشيرة وقبيلة، وبالرغم من انه ارتكب الجرائم التي ادنى عقابها القتل، بالرغم من هذا، ابن أبي سفيان يقول: قتل عثمان مظلوماً. وليس هناك من يعرف بأن عثمان يستحق القتل، كثير من الناس البسطاء ايضاً يقولون: عثمان قتل مظلوماً. فلا بد من القصاص، فيا علي ان كنت قادراً فاعطنا قاتليه، وان كنت عاجزاً، فانت عاجز عن ان تطبق احكام الاسلام فاعتزل الحكم لان الخليفة يشترط فيه القدرة على تطبيق احكام الاسلام.
هذا هو الشعار الذي ابرزه معاوية في مقابل الامام (ع)، والامام (ع) في مقابل هذا الشعار لم يكن يريد بأن يصرح بأن عثمان كان جديراً بأن يقتل، او كان يجب ان يقتل، لانه لو صرح بهذا، لتعمق اتهام معاوية وطّور التهمة من قول اعطني، الى قول: انك قتلت عثمان، فبقي شعار معاوية شعاراً مضللاً الى حد كبير.
ثم لا بد وان نلاحظ الجهود والأتعاب والتضحيات التي قام بها المسلمون في كنف علي (ع) لا ادري هل ان احداً جرّب او لم يجرب هذا الايحاء النفسي، حينما تكون المهمة صعبة على الانسان وثقيلة، حينئذ توسوس له نفسه بالتشكيك في هذه المهمة بمختلف التشكيكات، فحينما يصعب عليه الامر بالمعروف والنهي عن المنكر حينئذ يأخذ بالوسوسة، من قال بأن هذا الرجل مبطل، من قال انه قادر على هذا الكلام من قال ان شروط الامر بالمعروف تامة، وهكذا يوسوس لاجل ان يستريح من هذه المهمة، لأجل ان يلقي عن ظهره هذا العبء الكبير، كل انسان يميل بطبعه الى الدعة، الى الكسل الى الراحة الى الاستقرار، فاذا وضعت امامه مهام كبيرة، حينئذ، اذا وجد مجالاً للشك في هذه المهمة فسوف يكون عنده دافع نفسي الى ان يشك، يشك لاجل ان يريد ان يشك ويشك لاجل انه من مصلحته ان يشك، وهذا كان موجوداً على عهد الامام (ع).
العراقيون قدموا من التضحيات شيئاً كثيراً بذلوا اموالهم ونفوسهم ودماءهم في حروب ثلاثة، آلاف من العراقيين ماتوا وقتلوا، عشرات من الاطفال يتموا آلاف من النساء اصبحن ارامل، آلاف من البيوت والعوائل تهدمت، كثير من المدن والقرى غارت عليها جيوش معاوية، كثير من هذه المآسي والويلات حلَّت بهؤلاء المسلمين، نتيجة ماذا ولأجل ماذا، لاجل ان يزداد مالهم، لا، لأجل ان يزداد جاههم، لا، وانما لحساب الرسالة، لحساب الخط، لحساب المجتمع الاسلامي، لاجل هذا الهدف الكبير،وهذا هدف كبير اعز من كل النفوس واعز من كل الدماء واعز من الاموال، لكن نحن يجب ان نقدر موقف هؤلاء الذين ضحوا وبذلوا وقدموا، ثم اصبحوا يشككون لان من مصلحتهم ان يشككو، واصبح الامام يدفعهم فلا يندفعون ، يحركهم، فلا يتحركون، لماذا، لان من مصلحتهم ان يعطوا للمعركة مفهوماً جديداً، وهو ان القصة قصة زعامة علي أو معاوية ، ما بالنا وعلي ومعاوية، اما ان يكون هذا زعيماً واما ان يكون ذلك رعيماً، نحن نقف على الحياد ونتفرج، فاما أن يتم الامر لهذا او لذاك، هذا التعبير بداياته، وهذا التفسير الذي اوحت مصلحة هؤلاء وهؤلاء هو الذي كان يشكل عقبة دون ان يتحركوا دون ان يتحرك هؤلاء من جديد الى خط الجهاد، هذا التعبير هو الذي جعل أمير المؤمنين (ع) يبكي من على المنبر، وينعي اصحابه الذين ذهبوا، اولئك الذين لم يشكوا في خطه وفيه لحظة اولئك الذين آمنوا به الى آخر لحظة، اولئك الذين كانوا ينظرون اليه كامتداد لرسول اللّه (ص)، من قبيل عمار وامثاله، هذا عمار الذي وقف بين الصفين، ووضع سيفه على بطنه، وقال: واللّه انك تعلم لو كان رضاك ان تغمد هذا في بطني حتى أخرجته من ظهري لفعلته، واللّه انك تعلم اني لا اعلم رضا الا في قتال هؤلاء المائعين المنحرفين، كان يبكي لأمثال عمار، لأن عماراً وامثاله كانوا قد ارتفعوا فوق هذه الشكوك، قد طلقوا مصالحهم الشخصية لمصلحة الرسالة، كانوا قد غضوا النظر عن كل الاعتبارات الخاصة في سبيل حماية كيان الاسلام، وفي سبيل اعادة مجد المجتمع الاسلامي ووحدة المجتمع الاسلامي الى هؤلاء.
اصبح هؤلاء الذين كانوا يفكرون في الهموم الكبيرة يفكرون في الهموم الصغيرة، اصبحوا يفكرون في قضاياهم، يجب ان لانعتب عليهم، نحن اسوأ منهم فنحن لم نرتفع لحظة هكذاً، نهبط وهؤلاء ارتفعوا لحظة ثم هبطوا. هؤلاء خرجوا من بلادهم وطلقوا نساءهم واطفالهم واموالهم في سبيل اللّه، وفي سبيل قضية ليس لهم ربح مادي فيها. هؤلاء فعلوا هذا ساعة ثم ادركهم الشيطان، اما نحن لا ندري اذا وقفنا مثل هذا الموقف هل نصمد ولو ساعة او نبقى مكاننا، على أي حال هؤلاء كانوا ثلة، لم يكونوا عمار بن ياسر، هؤلاء بدأ الشك يتسرب الى نفوسهم، بدأوا يشكون في هذا الامام (ع) الصالح حتى تمنى الموت، لان الامام (ع) اصبح يحس انه انقطع عن هؤلاء، واصبح منفصلاً عنهم. انهم اصبحوا لا يفهمون اهداف رسالته. ومن أمرّ ما يمكن ان يقاسيه زعيم او قائد ان يعيش في جماعة لا تتفاعل معه فكرياً، ولا تعيش مع اهدافه ولا مع خطه، مع انسان يبذل كل ما لديه في سبيلهم، وهم لا يحسون ان كل هذا في سبيلهم، وانما يشكون فيه، في نيته، هذا هو الامتحان العسير الذي قاساه افضل الصلاة والسلام عليه، لكن بالرغم من كل هذا الامتحان يحاول ان يبث من روحه الكبير في هذا المجتمع المتفتت الذي بدأ يشك، والذي بدأ يتوقف. كان يحاول ان يبث فيهم من روحه الكبير، الى ان خر شهيداً في مسجد الكوفة.
اللّهم اجعلنا ممن ينتصر لدينك.
[/align]
يا محوّل الحول والاحوال ، حوّل حالنا إلى أحسن الحال......
-
[align=center]المحاضرة العاشرة
بسم اللّه الرحمن الرحيم
ثلاثة أئمة
يدور هذا البحث حول حياة الأئمة الثلاثة «الحسن والحسين وعلي بن الحسين» الذين يشكلون مع أبيهم (ع) على ما قلناه سابقاً، المرحلة الاولى من المراحل الثلاث لحياة الأئمة (ع)، فاننا قلنا فيما تقدم عن تاريخ الأئمة (ع) على ان هذا التاريخ يمكن تقسيمه الى مراحل ثلاث.
المرحلة الاولى: وهي مرحلة تفادي صدمة الانحراف، هذه المرحلة هي التي عاش فيها قادة أهل البيت (ع) مراراة الانحراف، وصدمته بعد وفاة رسول اللّه (ص)، وكانت مرارة هذا الانحراف وصدمة هذا الانحراف التي كان من الممكن ان تمتد وتقضي على الاسلام ومصالحه وعلى الامة الاسلامية، فتصبح قصة في التاريخ لا وجود لها في خط الزمن المستمر.
الأئمة (ع) في هذه المرحلة عاشوا صدمة الانحراف وقاموا بالتحصينات اللازمة بقدر الامكان، بكل العناصر الاساسية للرسالة ضد صدمة الانحراف، فحافظوا على الرسالة الاسلامية نفسها.
كل هذه الاركان والمقومات حصنوها تجاه صدمة الانحراف، هذه هي المرحلة الاولى وتبدأ بعد وفاة رسول اللّه (ص)، وتستمر الى حياة الامام الرابع من قادة اهل البيت (ع).
المرحلة الثانية: ثم تبدأ المرحلة الثانية والامام الباقر (ع) شبه البداية لها. وحينما نقول شبه البداية، لأن تصور هذا العمل ليس حدّياً، حيث يمكن ان نقف، على اللحظة، فنقول: هذه اللحظة هي نهاية المرحلة وبداية اخرى، وانما هذا التصور يتفق مع طبيعة الاحداث المتصورة في خط تاريخ الاسلام.
والمرحلة الثانية، هي المرحلة التي شرع فيها قادة اهل البيت (ع) - بعد ان وضعوا التحصينات اللازمة وفرغوا من الضمانات الاساسية ضد صدمة الانحراف - ببناء الكتلة، بناء الجماعة، المنطوية تحت لوائهم، الشاعرة بكل الحدود والابعاد من المفهوم الاسلامي المتبنى من قبلهم (ع)، منذ زمان
علي بن الحسين (ع)، وعلى زمان الامام الباقر والصادق (ع) كان هذا العمل يبلغ القمة، وليس معنى ذلك، ان هذا العمل الاول الذي كان اللبنة الرئيسية للمرحلة، قد انقطع، وانما معنى هذا ان العمل الاول استمر، لكن حيث ان صدمة الانحراف، كان قد امكن تقليل خطرها، خلال ما قام به الائمة الاربعة الاول من جهود وتضحيات في سبيل حفظ الاسلام، وهذا يحتم ان يواجه قادة اهل البيت (ع) المهمة الجديدة، مهمة بناء الجماعة الصالحة من مجموع هذه الامة، التي حصنت بالحد الادنى من التحصين، ولا بد ان تُنتَخبَ مجموعة من هذه الامة، فيحَصّنَّون بأعلى درجة ممكنة من التحصين، ويوعون باعلى درجة ممكنة من التوعية، حتى تكون هذه الجماعة، هي الرائد والقائد والحامي للوعي الاسلامي الذي حصن بالحد الادنى.
هذا العمل مارسه الامام الباقر (ع) على مستوى القمة وقلنا ان هذه المرحلة استمرت الى زمن الامام الكاظم (ع)، وفي زمان الامام الكاظم (ع) بدأت المرحلة الثالثة.
وهذه المرحلة الثالثة: لا تحدد بشكل بارز من قبل الأئمة (ع) انفسهم، بل يحددها بشكل بارز، موقف الحكم المنحرف من الأئمة انفسهم، وذلك لان الجماعة التي نشأت في ظل المرحلة الثانية التي وضعت بذرتها في المرحلة الاولى، نشأت ونمت في ظل المرحلة الثانية، وهذه الجماعة غزت العالم الاسلامي، وقتئذ، وبدا للخلفاء ان قيادة اهل البيت (ع)، اصبحت على مستوى تسلم زمام الحكم والعود بالجتمع الاسلامي الى حظيرة الاسلام الحقيقي، وهذا خلّف بشكل رئيسي ردود الفعل للخلفاء تجاه الائمة (ع) من ايام الامام الكاظم (ع).
هذه هي المراحل الثلاث التي سوف نستوعبها بالتأريخ، خلال تاريخ كل واحد من الأئمة (ع) الى ان يكملوا، وخصيصة هذه المرحلة الرئيسية، ان الأئمة الاربعة (ع) قاموا بتحصينات المقومات الاسلامية للحضارة الاسلامية، ضد صدمة الانحراف، هذا الانحراف وعمقه وخطورته يمكن ان ننتبه حينئذ لجلالة وعظمة منجزات الأئمة (ع).
صدمة الانحراف: خطورة هذا الانحراف الذي يمكننا ان نوجزه في جملة بسيطة قصيرة جداً، هي ان شخصاً غير علي بن ابي طالب (ع) تولى الامر بعد رسول اللّه (ص)، واصبح سلطان المسلمين بعده.
هذه الجملة البسيطة هي التي تشكل كل هذا البلاء العظيم بكل مضاعفاته ونتائجه التي سوف نتحدث عنها، وليست هذه الجملة معبرة فقط، عن ظلم وغبن شخصي للإمام (ع)، واستيلاء على حق خاص من حقوقه، ليس هكذا، لو كان مجرد مظلومية علي (ع)، لوقف على مستوى العقيدة الدينية، ولم يسر الى الحياة الاسلامية في كل مجالاتها الخارجية، لم تكن المسألة مسألة عقيدة فحسب، او نزاع بين شخصين في حق مشروع يدعيه المدعي وينكره المنكر، لم يكن هذا وانما كان تغيير شخص الحاكم، تعريضاً للتجربة الاسلامية للفشل المحقق فعلاً، ثم خطر الانهيار الكامل في المستقبل.
بيان ذلك، ولكي يتضح هذا المعنى تماماً، لا بد وأن نعرف ما هي الرسالة التي بمجرد تغيير شخص الحاكم فيها، بمجرد استيلاء ابي بكر علي الحكم بدلاً من الشخص المعين من قبل رسول اللّه (ص) بالنص، يزعزع كيان هذه الرسالة ثم يمحقها محقاً كاملاً، لولا جهود الأئمة (ع).
كيف ان مجرد تغيير هذا الحاكم ، يوجب هذا العمق في الخطر وهذا المحق في نهاية الشوط، وما هي الرسالة الاسلامية حتى نعرف على ضوء ذلك كيف يكون هذا الخطر عميقاً، ثم نفهم بعد هذا ما هي التحصينات ضد هذا الخطر العميق، هناك منذ البدء نظرتان اساسيتان للكون ولموقف الانسان من الكون.
احدى هاتين النظرتين: أن يرى ان الكون مملكة لمليك قدير يراقب من وراء الستار مراقبة غير منظورة، هذه هي النظرة الأولى التي يتحدد بها موقف الانسان من الكون وطبيعة هذا الكون، وهذه النظرة، تستبطن حتماً الشعور بأن وجود الانسان في الكون، هو وجود الأمين ووجود الخليفة، لا وجود الأصيل والمتحكم، لأن هذه مملكة غيره بكل ما فيها من وجود، بما فيها نفس الانسان، هي مملكة ذاك المليك القدير المراقب من وراء الستار، وهذا يشعر بانه يقوم بأعباء الأمانة والخلافة، هذه الخلافة التي قام فيها آدم (ع)، وقامت به بعد ذلك الأجيال الصالحة لبني آدم. هذه الخلافة والامانة تستبطن معنى
آخر هو ضرورة استيحاء الأمر والنهي والتدبير والتقدير والتقديم من قبل ذلك المليك القدير، لأنه خليفة وأمين، والامين لا بد له ان يطبق على الامانة التي استؤمن عليها قرارات المالك، فلا بد للانسان اذن ان يكون رهن ذلك المليك القدير.
ثم ان الجزء الآخر لهذه النظرية الاساسية، المليك القدير المراقب من وراء الستار، يراقب ويحاسب ويدقق. لكن بطريقة خاصة في المراقبة والتدقيق، فانه يراقب من وراء الستار، لا يتجلى للانسان في مملكته جهاراً فكل من عصاه ينزل به العقوبات، بل يختفي عن مملكته بحسب المنطق الحسي، ويراقب اهل هذه المملكة، فكرة يراقب من وراء الستار، تستبطن المسؤولية تستبطن الثواب والعقاب، والحساب والعقاب يستبطن وجود عالم آخر، وراء هذا العالم، لتحقيق نتائج هذه المراقبة المستورة، الغير السافرة والعاجلة من قبل ذلك المليك القدير، اذن جاءت فكرة عالم آخر للجزاء والحساب والعقاب، حينئذ تجيء فكرة الاهداف الكبيرة، وحينئذ الانسان لا يكون قيد هذا الشوط القصير في الدنيا، بل يكون رهن خط طويل، يمتد من ذلك العالم المنظور، وحينئذ يكون الانسان على مستوى الاهداف الكبيرة، الاهداف التي لا يستطيع هو ان يستفيد منها ويمتصها ويستنزفها، اعظم الاهداف واجل الاهداف واسمى الاهداف، هي تلك الاهداف التي تكون اوسع من عمر الانسان.
واحد من هذه الاهداف كيف يمكن ان تحمل الانسانية بها وتحمل الانسانية على تحقيقها، اذا كانت الانسانية لا ترى الامر في نظرها الا هذا الشوط القصير، اذن هذا الهدف ليس هدفها، لأنها لا تستلزم خسارة هذا الهدف، ولا تشرب نخبه فتكون هذه الاهداف معطلة، وتبقى الانسانية رهن الاهداف القصيرة وهي غايات المادة المحدودة، وهذه الغايات المحدودة هي منطلق الوان كثيرة من الكفاح والصراع ما ين الاسرة البشرية بين فرد وفرد، بين مجتمع ومجتمع، بين قومية وقومية، بين امة امة، اما اذا اصبحت البشرية على مستوى الاهداف الكبيرة لانها انطلقت في غاياتها وفي ثباتها الى أكثر من حدود هذه الدنيا، حينئذ تستطيع ان تقوم بأعباء تلك الاهداف الكبيرة. من خرج من بيته مهاجراً في سبيل اللّه، فمات وقع اجره على اللّه، كم من الناس درسوا وماتوا قبل ان يحققوا النتيجة، كم من آلاف المجاهدين خرجوا للحرب
واستشهدوا قبل ان يذوقوا لذة النصر والانتصار، كم من آلاف من المجاهدين والمعلمين طافوا وتحملوا في سبيل مباحثهم من الاذى والظلم والاهانة، وماتوا قبل ان يذوقوا لذة الانتصار، الا ان هؤلاء حيث انهم خرجوا من بيوتهم هاجروا في سبيل اللّه سبحانه وتعالى وماتوا وسط الطريق، فوقع اجرهم على اللّه سبحانه وبذلك انفتح امام هؤلاء طريق هذه الاهداف الكبيرة، فلا يهم هذا الانسان القصير العمر ان يموت خلال الخطوة الأولى او الثانية، ما دام يسير في خط، في أي مرحلة منه يموت يقع اجره على اللّه، هنا انفتح طريق الاهداف الكبيرة، انفتح باب أن القيم الخلقية لا معنى لها ما لم تكن على مستوى الاهداف الكبيرة والجزاء الكبير الغير المنظور. والقيم الخلقية من التضحية والفداء والحب والايثار ونحو ذلك من الامور، كل هذه انفتح بابها لانها جميعاً طرق اللّه سبحانه وتعالى، كل من يمشي في طريق من هذه الطرق ويموت ويخسر ويبتدئ تجاهها بصدمة يقع اجره على اللّه سبحانه وتعالى، كل من يضحي فلا يلاقي جزاء تضحيته يقع اجره على اللّه. كل من يقوم بخدمة للآخر فلا يلاقي جزاء من الآخر يقع اجره على اللّه. لانه يدخل في ملاك من خرج من بيته مهاجراً في سبيل اللّه فمات وقع اجره على اللّه.
هذه النظرة الاساسية تشعبت منها كل هذه الشعب وكل هذه الفروع التي بكاملها تشكل الحضارة الاسلامية.
فالحضارة الاسلامية عبارة عن هذه النظرة الاساسية بكل شعبها وفروعها التي ترجع بالنهاية الى تجسيد كامل للعلاقة مع اللّه سبحانه وتعالى، في تفاعل الانسان مع كل مجالاته الحيوية والكونية. هذه هي النظرة الأولى وفي مقابلها نظرة اخرى.
والنظرة الثانية هي ان يرى الانسان نفسه بانه اصيل في هذا الكون، وحينما ينظر في نفسه على انه اصيل في هذا الكون، وان هذا الكون مستقل وغير خاضع لمليك ومراقبة من وراء الستار، حينما تتركز في نظره هذه الاصالة والاستقلال بهذا الكون تنعدم المسؤولية، واذا انعدمت المسؤولية في المقام، بقي عليه هو ان يتحمل المسؤولية بنفسه.
يعني، بدلاً من ان يشعر بانه مسؤول ومراقب امام جهة علياً تضعه امام اهداف كبرى في سبيل الثواب الكبير والعقاب الكبير، يصنع هو المسؤولية وحينما يتحمل هو وضع المسؤولية تكون هذه المسؤولية تكون هذه المسؤولية نتاج نفسه فينعكس فيما وضعه تمام ما في نفسه، تمام المحتوى الداخلي والروحي والحسي بكل ما فيه من نقص وشهوة، وحينئذ حينما يريد الانسان ان يحدد لنفسه مسؤولياته، يحددها على ضوء اهدافه، التي سوف يحددها على ضوء مدى طريقه، وحيث ان طريقه محدود، وحيث ان طريقه منكمش في نطاق المادة، فسوف تكون الاهداف على مستوى الطريق، وحينما يكون كذلك، فسوف تكون المسؤوليات في نطاق هذه الاهداف، وبعد هذا سوف يخسر القيم الاخلاقية، ويتولد عن ذلك الوان من الصراع والنزاع بين البشرية حيث تصبح جماعات ووحداناً وهذه النظرة غير اسلامية.
لماذا جاء الاسلام: الاسلام جاء لأجل ان يربي الانسان على النظرية الاولى، لا لأجل ان يكون مجرد عالم يجيء بنظرية ليكتبها في كتاب، بل جاء الاسلام ليربي الانسان على هذه النظرية بحيث تصبح جزءاً من وجوده وتجري مع دمه وعروقه، مع فكره وعواطفه وتنعكس على كل مجالات تصرفه وسلوكه مع اللّه سبحانه وتعالى، ومع نفسه ومع الآخرين.
فعليه لا بد للاسلام ان يهيمن على هذا الانسان، وعلى كل طاقاته وعلاقاته، ليستطيع ان يربيه، فالمربي لا يستطيع ان يربي شخصاً ما لم يهيمن عليه، اذا لم يهيمن عليه يكون مجرد استاذ وتلميذ، الاستاذ يلقي النظرية العلمية للتلميذ، فان شاء التلميذ قبل وان شاء رفض وهذا باب التلمذة والبحث.
واما باب التربية فانه باب الهيمنة، الاب يستطيع ان يربي ابنه فيما اذا هيمن عليه، وعليه فالهيمنة هي الشرط الاساسي للتربية، والهيمنة كلما كانت اوسع نطاقاً واوسع مجالاً، كانت اكثر إنجاحاً لعملية التربية، قلنا ان الاب يستطيع ان يربي ابنه، لكن قد لا يستطيع ان ينجح، لأن وجود ابنه ليس كله تحت هيمنته وسيطرته لان هذا الابن هو ابنه، وايضاً ابن المجتمع، ابن مجتمع كبير يتفاعل معه ويتأثر به ويؤثر فيه، ويتبادل معه العواطف والمشاعر
والافكار والانفعالات وقد يقيم معه علاقات بالحقول الاخلاقية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية وغير ذلك من مجالات حياته فهو ليس ابنه وحده بل ابن المجتمع ايضاً.
الاب اقوى حقيقة وابوته مجازية، فبنوة المجتمع لهذا الولد، أكثر بكثير من بنوته لهذا الاب الذي ولد منه، ولهذا قد يعجز كثير من الآباء عن تربية ابنائهم في المجتمع الفاسد، كم سمعت من أب يتذمر اذ انه لا يستطيع ان يربي ابنه في آخر الزمان ومع هذا الفساد مثلاً، كل هذا لانه يوجد أب آخر لهذا الابن وهو المجتمع.
كيفية وجود التربية الكاملة: والتربية الكاملة لا يمكن ان تكون لهذا الفرد، الا اذا هيمن المربي عليه، على علاقاته الاجتماعية وروابطه مع غيره ايضاً، يصبح تمام هذا الوجود تحت سيطرة هذا المربي، بحيث يصير شخص واحد هو الاب ويكون هو المجتمع، فحينئذ يصبح هذا مربياً كاملاً مطلقاً بالنسبة الى هذا الابن.
وهذا ما صنعه رسول اللّه (ص)، هيمن على العلاقات الاجتماعية، لأنه تزعم بنفسه المجتمع، لأنه انشأ مجتمعاً وقاده بنفسه، ووقف رسول اللّه (ص) يخطط لهذا المجتمع ويبني كل العلاقات داخل الاطار الاجتماعي، علاقه الانسان مع نفسه، علاقته مع ربه، علاقته مع عائلته، علاقته مع بقية ابناء مجتمعه، علاقته في مختلف المجالات والحقول الاجتماعية والشخصية، فكان هو الذي يخطط، لذا كل هذه الأمور صارت تحت هيمنته، فحينئذ استكمل الشرط الاساسي للتربية الناجحة.
ولا شك ان رسول اللّه (ص)، لو كان قد امتد به العمر، او كان قد امتدت التجربة الاسلامية من بعده على يد خلفائه المعصومين الميامين من اهل بيته من أمير المؤمنين (ع)، وأولاده (ع) اذن لقدّر لهذه التجربة والتربية ان تؤتي ثمارها بشكل عجيب، هذه الثمار نقرأها الان بعنوان المعجزات والكرامات من احوال الناس بعد ظهور الحجة، وتلك المعجزات والكرامات ليست معجزات وكرامات، وانما هي نتيجة تربية، هل يمكن أن يبلغ المجتمع البشري الى مستوى من التعاون والتعاضد، الى مستوى من التوحيد والترفع، بحيث يستغني عن النقد، عن التعبير المادي القاسي جداً في حياة الانسان، الروايات وقعت تقول بان هذا سوف يقع في عهد الحجة (ع). ونتيجة هذه التربية المخططة على يد رسول اللّه (ص) ويد الخلفاء المعصومين من اهل بيته (ع)، فالتجربة الاسلامية اذن كانت تشمل عناصر ثلاثة، باعتبار انها عملية تربية من فاعل وهو المربي، ومن تنظيم يستمد من قبل الشريعة، ومن حقل لهذا التنظيم وهو الامة أي المجتمع، هذه هي العناصر الثلاثة المزدوجة في هذه التجربة.
ولكن الانحراف بدأ يغير العناصر الرئيسية لهذه التجربة.
أحد هذه العناصر لهذه التجربة تهدّم بعد وفاة رسول اللّه (ص) بمعنى ان ثلث التجربة الاسلامية تهدم، تهدم ذاك البناء الذي لأجله جاءت اربع وعشرون الف رسالة من السماء، وكان تهدم هذا الجزء الواحد كفيلاً بهدم الجزئين الآخرين، لأن هذه التجربة متفاعلة في عناصرها، فبهدم جزء منها يتهدم الجزءان الآخران. لا ندري ان المسلمين وقتئذ، هل كانوا يتصورون عمق هذا الانحراف بعد هذا...؟! أكبر الظن انهم لم يكونوا يتصورون ذلك، بل غاية ما كانوا يتصورونه ان المسألة مسألة تغيير حكم من احكام اللّه لا أكثر، ان اللّه سبحانه وتعالى جعل علياً، وهم جعلوا ابا بكر، اما باقي الجهات فيبقى الوضع فيها على حاله، بقيت الصلاة على حالها، بقيت الزكاة على حالها تجبى، بقي الفقراء يُعطَونَ منها، بقي كتاب اللّه يقرأ في المساجد، بقيت الجماعات تقام ظهراً وعصراً، ومغرباً وعشاءً وصباحاً، بقي بيت اللّه يحج اليه عشرات الآلاف من الناس، بقي الجنود والمرابطون يفتحون بلاد اللّه الواسعة، بلداً بلداً، وعليه لم يتغير شيء سوى ان شخصاً كان اسمه علي، هو أعدل وأعلم من أبي بكر، أقصي من مقام الحكم لغلبة الأهواء والشهوات ولامور اخرى سوف تذكر في حياة أمير المؤمنين (ع)، وجعل مكانه ابو بكر لا أكثر من هذا المقدار.
وفي الحقيقة لم يكن الأمر كذلك، وانما كان هذا نذير شؤم بالنسبة الى التجربة الاسلامية كلها، لما بدل شخص الحاكم وجعل مكانه آخر، هذا الحاكم الآخر لم يكن معصوماً، ولم يكن مصمماً من قبل واضع التجربة، ومعناه ان هذا الانسان على أقل تقدير، حتى لو أخذنا بمفهوم السنة عن ابي
بكر، فهو انسان تحتشد في نفسه افكار كثيرة خاطئة، تحتشد في نفسه شهوات كثيرة تعرضه للانحراف، لم يكن معصوماً لا من ناحية المفاهيم الفكرية ولا من الناحية العملية، هذا الانسان جاء ليتسلم زمام التجربة الاسلامية في بداية امرها بدلاً من ذلك الانسان المعصوم، حينئذ من هو الحاكم الآن، هو ابو بكر، ابو بكر يعني المجموعة الكثيرة من العواطف والمشاعر والانفعالات، اذن فالحاكم هو هذه الكومة من الافكار والعواطف. هذا هو ابو بكر، اذن فالحاكم هو هذه الحفنة، فلنفرض ان فيها 50% افكاراً وعواطف اسلامية لكن فيها 50% من العواطف مما هو ليس باسلامي اذن فقد اصبح الحاكم مزدوج الشخصية، اصبح الحاكم في المقام عبارة عن 50% من الافكار. والعواطف الاسلامية من جهة رأي السنَّة و 50% من العواطف والافكار غير الاسلامية والجاهلية في المقام، فبطبيعة الحال ان هذا النصف الثاني على أقل تقدير لو لم نقل بان كلا النصفين حاله هكذا، واخذنا بنظرية من يقول ان القصة قصة مناصفة، لا اقلّ من ان يكون هذا الشخص عرضة للانحراف، من هو الضامن لعدم الانحراف، هل الضامن هو الامة، الامة لم تكن على مستوى العصمة وقتئذ، كما ان ابا بكر لم يكن معصوماً، لقد كان من الممكن ان تبلغ الأمة درجة العصمة خلال تربية طويلة، لو ان رسول اللّه (ص) والأئمة (ع) قد توالوا على امة واحدة، ومارسوا عملية التجربُة، كان من الجائز ان تبلغ الامة بوصفها المجموعي مستوى العصمة بحيث لا تحتاج بعد هذا الى قائد معصوم، بل هي تحكم نفسها بنفسها، هذا امر جائز عقلاً، ولكن بعد رسول اللّه (ص) لم تكن الامة معصومة، والدليل على هذا يأتي بعد ذلك، فاذا لم تكن الامة على مستوى العصمة، اذن فسوف ينفتح من هذا الحكم الغير المعصوم الخطر على الاجزاء الاخرى للتجربة ، للمقومات الاساسية للرسالة الاسلامية، سوف ينفتح الخطر على المصادر الاخرى، على الكتاب والسنة، ومن البديهي انه لم يكن الكتاب والسنة في عهد الرسول الاعظم (ص)، مدونين في كتاب، لم يكن هذا الكتاب في ايدي المسلمين بوصفه كتاباً او قرآناً، محدوداً من الفه الى يائه، وانتم تعلمون ان السنة لم تكن مكتوبة اصلاً وانما كانت محفوظة في صدور المسلمين وقتئذ والسنة كانت هي في الصدر الثاني للاسلام، ماذا يترقب من شخص حاكم منحرف في
المقام ان يقف من هذين المصدرين وان يعمل في حمايتهما، لم يكن هناك تحصين من الخارج من قادة اهل البيت (ع) بالنحو الذي سوف نشرحه ان شاء اللّه، كان من الطبيعي ان يترقب ان السنة سوف تكون عرضة للضياع والانحراف والتزوير على اساس الانحراف في هذا الحكم، فالمقومات الاسلامية للاسلام سوف تتطور وتزور، الاسلام نظرية للحياة، هذه النظرية سوف تتطور وتزور وتشوه بشكل آخر، بشكل جاهلي لا يختلف عن نظرية جاهلية لأن المصدر الاساسي للاسلام عرضة للتحريف وللاقصاء عن مجالاته الذهنية والاسلامية وحتى لو لم تكن عرضة فان النصوص الموجودة في امهات الكتب، لم تكن تعطي النظرية الحقيقية للناس، الناس حسيون اكثر منهم منطقيون، الناس يعيشون ما يرون لا يعيشون ما يقرأون حبراً على ورق، اذن فيعيشون ما يرون النظرية التي يمارسها ابو بكر ويمارسها الخلفاء الذين تولوا من بعده، يمارس هذا الخط المنحني، من الانحراف الذي اشتد انحناؤه بالتدريج حتى بلغ الى الهاوية من الانحراف، سوف يعيشون هذا الواقع وهذا المجسَّد للنظرية الاسلامية للحياة وسوف لن تبقى هناك اطروحة اخرى للنظرية الاسلامية للحياة، وبذلك يفقد الاسلام اطروحته على المستوى النظري، وعلى المستوى النضالي، بعد ان فقده على المستوى الواقعي والمستوى الاجتماعي والخارجي، بعد هذا سوف تزول الامة نفسها لأن هذه الامة سوف ينعكس فيها، بعد اقصاء مصادر الرسالة عنها، وبعد تشويه معالم النظرية الاسلامية في وجهها، وبعد تعمق الحاكم في انحرافه، ومعنى انحراف الحاكم انه سوف يتميع في حفظ مصالح الأمة وسوف يتحيز في حاكميته، وسوف ينعكس هذا التميع للامة في الظلم والفساد والتناحر والصراع فيما بين افراد الأمة، لان الوالي لا يحفظ مصالحه الحقيقية، وسوف ينعكس على الامة في الضياع والذل وفقدان الارادة وفقدان الشعور بالمسؤولية.
اذن سوف تصبح الأمة، بعد شوط طويل من الزمن، ملؤها الفساد وانعدام الارادة، وهذه التجربة الاسلامية المنحرفة، سوف تسقط حتماً في يوم من الايام، لأنها منحرفة، ولو كانت اسلامية وسوف تجيء بتجربة اخرى لا اسلامية مكانها وحينما تجيء تلك التجربة مكانها، سوف تواجه امة متميعة لا يوجد لديها أي مناعة ضد الكفر، وسوف تندمج هذه الامة اندماجاً كاملاً بالتجربة الكافرة، وبذلك يضيع الاسلام والرسالة، والنظرية الاسلامية للحياة، وتضيع الامة نفسها. هذه هي الاخطاء التي كان يترقب ان تنجم من منطلق الانحراف يوم السقيفة. [/align]
يا محوّل الحول والاحوال ، حوّل حالنا إلى أحسن الحال......
-
[align=justify]المحاضرة الحادية عشر
بسم اللّه الرحمن الرحيم
بداية الانحراف
كنا نريد أن نحدد دور الائمة (ع)، والمخلصين ممن يدور في فلكهم من اهل البيت (ع)، والواعين من المسلمين في عصرهم في حماية الاسلام، ورد الفعل على ما يقع من انحراف بعد وفاة النبي الاعظم (ص).
هناك دور مفروض للأئمة (ع) في نص الشريعة الاسلامية، في عالم التشريع، وهو دور صيانة تجربة الاسلام، تجربة المجتمع الاسلامي التي أنشأها النبي (ص)، وكان المفروض ان هذه القيادة تتسلسل في هؤلاء الأئمة (ع) الاثني عشر (ع) واحداً بعد الآخر.
الا اننا نريد ان نتحدث عن هذا الدور التشريعي وادلته ومبرراته، يعني لانريد ان ندرس مواطن العبرة من حياة الأئمة (ع) ونفهم ان الائمة (ع) بعد ان أقصوا عن مراكزهم القيادية في تزعم التجربة الاسلامية للمجتمع والدولة وللامة، ماذا كان وصفهم، فان معرفة وضع الائمة بعد الاقصاء مما يؤثر في حالنا ومما نحن فيه من خط في عملنا، وفي تصورنا وموقفنا الاسلامي تجاه قضايانا واهدافنا، الفكرة التي اريد ان أعرضها خلال ايام عديدة الخصها في البدء بعدة كلمات ثم بعد هذا ابدأ بتطبيقها.
ماذا جابه الاسلام
إن الاسلام جابه بعد وفاة النبي (ص)، انحرافاً خطيراً في صميم التجربة الاسلامية التي أنشأها النبي (ص) للمجتمع الاسلامي والامة الاسلامية، وهذا الانحراف في التجربة الاجتماعية للامة والتجربة السياسية للامة في الدولة الاسلامية، كان بحسب طبيعة الاشياء من المفروض ان يتسع ليتعمق بالتدريج على مر الزمن، الانحراف يبدأ بذرة، وتنمو هذه البذرة، وكلما تحقق مرحلة من الانحراف تمهد هذه المرحلة لمرحلة اوسع وارحب، فكان من المفروض ان يصل هذا الانحراف الى خط منحن، طوال عملية تاريخية زمنية طويلة المدى، يصل الى الهاوية فتمر التجربة الاسلامية للمجتمع
والدولة، لتصبح مليئة بالتناقضات من كل جهة ومن كل صوب، وتصبح عاجزة عن مجاراة ومواكبة الحد الادنى من حاجات الامة ومصالحها حتى تعلن عن افلاسها نهائياً عن مواكبة الحد الادنى من حاجات هذه الامة وعن الحلول بالحد الادنى للقضايا التي تتبناها وللرسالة التي تعلن عنها، فحينما يتسلسل الانحراف في خط تصاعدي من هذه القبيل أو في خط تنازلي الى الهاوية من هذا القبيل، فمن المنطقي في فهم تسلسل الاحداث، ان هذا التجربة سوف تتعرض بعد مدى من الزمن لانهيار كامل، يعني ان الدولة والمجتمع الاسلامي والحضارة الاسلامية لقيادة المجتمع سوف تتعرض للانهيار الكامل لأن هذه التجربة حين تصبح ملأى بالتناقضات، وحين تصبح عاجزة عن مواجهة وظائفها الحقيقية، تصبح عاجزة عن حماية نفسها، لأن التجربة تكون قد استنفدت امكانية البقاء والاستمرار على مسرح التاريخ كما ان الامة ليست على مستوى حمايتها، لأن الامة لا تجني من هذه التجربة الخير الذي تفكر فيه، ولاتحقق عن طريق هذه التجربة الآمال التي تصبو اليها، فلا ترتبط بأي ارتباط حياتي حقيقي معها، فالمفروض ان تنهار هذه التجربة في مدى من الزمن، تنهار كنتيجة نهائية، وخاتمة حتمية لبذرة الانحراف التي غرست فيها.
معنى انهيار الدولة الاسلامية
ومعنى انهيار الدولة الاسلامية ان تسقط الحضارة الاسلامية وتتخلى عن قيادة المجتمع، والمجتمع الاسلامي يتفكك، والاسلام يقصى عن مركزه كقائد للمجتمع وكقائد للامة، لكن الامة تبقى طبعاً المسلمون يبقون كأمة التجربة، تجربة المجتمع والدولة تفشل وتخطئ وتنهار امام اول غزو يغرها، كما انهارت التجربة امام الغزو التتري، الذي واجه الخلافة العباسية، وواجه الدولة الاسلامية في اواخر الخلافة العباسية.
هذا الانهيار يعني ان الدولة والتجربة سقطت ام ان الامة بقيت، لكن هذه الامة ايضاً بحسب تسلسل الاحداث من المحتوم ان تنهار فبعد ان تنهار التجربة، الامة كأمة تدين بالاسلام، وتؤمن بالاسلام، وتتفاعل مع الاسلام ايضاً تنهار، لماذا: لأن هذه الامة، عاشت الاسلام الصحيح الكامل زمناً قصيراً، وهو الزمن الذي مارس فيه التجربة شخص الرسول (ص) الاعظم
وبعد هذا عاشت تجربة منحرفة، هذه التجربة المنحرفة ما استطاعت ان تعمق فيها الرسالة وتعمق فيها المسؤولية تجاه عقيدتها، وتثقفها وتحصنها وتزودها بالضمانات الكافية لعدم الانهيار امام حضارة جديدة، وغزو جديد، وافكار جديدة يحملها الغازي الى بلاد الاسلام، فهذا الغازي الذي يأتي يحطم التجربة، يحطم المجتمع الاسلامي، يحطم الدولة الاسلامية، يأتي معه بتقاليد ومفاهيم حضارية، سوف تؤثر على الامة الاسلامية التي لم تعرف الاسلام معرفة حقيقية كاملة طيلة هذه التجربة المنحرفة، فسوف لن تجد هذه الامة الاسلامية، في نهاية هذه التجربة المنحرفة، بعد ان اهينت كرامتها، وبعد ان حطمت ارادتها، وبعد ان غلت اياديها عن طريق الزعامات التي مارست تلك التجربة المنحرفة وبعد ان فقدت روحها الحقيقية سوف لن تقدر على تحصين نفسها ضد ما يطرأ بعد انهيار التجربة، وحينئذ ستنهار الامة ايضاً كما انهارت التجربة.
الامة ايضاً سوف تنهار بالاندماج مع العالم الكافر الذي غزاها سوف تذوب الامة، وتذوب الرسالة والعقيدة، وتصبح الامة خبراً بعد ان كانت امراً حقيقياً على مسرح التاريخ، وبهذا ينتهي دور الاسلام.
هذا هو التسلسل المنطقي بقطع النظر عن دور الائمة (ع)، تبدأ بذرة الانحراف بعد النبي (ص) بحكم طبيعة الاشياء، وينمو هذا الانحراف بالتدريج، يتعمق بالتدريج، تتردى التجربة بالتدريج حتى تصبح عاجزة عن حماية نفسها وتصبح الامة ايضاً عاجزة عن حماية هذه التجربة، فتتعرض لنكسة امام أي غزو يأتي من الخارج وسوف تصبح هذه الامة حينئذ مجموعة من البشر المتميعين الذائبين الخانعين، الغير الواعين والغير الملتفتين لرسالتهم، فبطبيعة الحال ان هذا الامة سوف تنهار، وسوف تتفتت كأمة، فتسقط بعد ان سقطت التجربة. [/align]
يا محوّل الحول والاحوال ، حوّل حالنا إلى أحسن الحال......
-
[align=center]السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
تقبل الله صيامكم وقيامكم وأحسنتم وبارك الله فيكم أخت منازار ورحم الله شهيدنا الغالي شهيد الإسلام العظيم آية الله العظمى السيد محمد باقر الصدر وأخته العلوية بنت الهدى آمنة الصدر والفاتحة الى أرواحهم الطاهرة .[/align]
-
وعليكم السلام والرحمة
جميعا ان شاء الله،،،
لا حرمنا الله من دعاء الاخوة المؤمنين والاخوات المؤمنات
يا محوّل الحول والاحوال ، حوّل حالنا إلى أحسن الحال......
-
[align=center]المحاضرة الثانية عشر
بسم اللّه الرحمن الرحيم
دور الأئمة (ع) تجاه هذا التسلسل:
اما دور الائمة (ع) تجاه هذا التسلسل فيتلخص بأمرين:
الأمر الأول: الذي كان الأئمة (ع) يعيشونه في حياتهم، هو محاولة القضاء على الانحراف الموجود في تجربة المجتمع الاسلامي، وارجاعها الى وضعها الطبيعي، وذلك باعداد طويل المدى، وتهيئة للطروف الموضوعية التي تتناسب وتتفق مع ذلك.
فمتى ما كانت الظروف الموضوعية مهيأة لذلك، كان الأئمة (ع) على استعداد لأن يمارسوا ارجاع التجربة الى الوضع الطبيعي، كما مارس امير المؤمنين (ع) وقال: بان اللّه سبحانه وتعالى اخذ عهداً على الانسان ان لا يقر على الظلم مع وجود الناصر، والناصر موجود، وفي كلمة الناصر استبطن كل الحدود والظروف الموضوعية التي سوف تذكر فيما بعد والتي ذكرناها سابقاً. التي تجعل في قدرة الانسان الامام المعصوم، ان يحاول اعادة التجربة الاسلامية الى وضعها الطبيعي ووضعها الصحيح الكامل.
الأمر الثاني: والذي كان يمارسه الأئمة (ع)، حتى في حالة الشعور بعدم وجود هذه الظروف الموضوعية، التي تهيئ الامام لخوض معركة في مقام تسلم زمام الحكم من جديد.
فالدور الثاني الذي كان يمارسه الأئمة (ع) والذي كان يمارسه الامام (ع) هو تعميق الرسالة فكرياً وروحياً وسياسياً للامة نفسها، بغية ايجاد تحصين كاف في صفوفها لكي يؤثر هذا التحصين في مناعتها، وفي عدم انهيارها بعد تردي التجربة وسقوطها، إذ كان من اللازم بعد ان حرمت الامة الاسلامية من التجربة الصحيحة الكاملة للحياة الاسلامية، بعد وفاة رسول اللّه (ص) ان تطعم وتغذى الامة كأمة، تطعم الامة وتغذى بالاسلام رسالياً، وتغذى في مجالها الروحي والفكري والاجتماعي والسياسي، لكي تستوعب الاسلام.
واقصد بالامة لا مجموع الامة لأن هذا لا يمكن ان يتحقق بالنسبة الى المجموع الا في حالة قيادة تمارس التجربة وتمارس الحكم وتمارس الدولة في المجتمع، ولكن الذي اقصده في المقام من التعبئة، ايجاد قواعد واعية في الامة، وايجاد روح رسالية، فيها وايجاد عواطف تجاه هذه الرسالة في الامة.
والائمة (ع) حتى في حالة شعورهم بعدم امكان استرجاع مركزهم المغصوب، كانوا يعملون عملاً مهماً جداً لانقاذ وجود الامة في المستقبل، وضمان عدم انهيارها الكامل وتفتتها كأمة بعد سقوط التجربة وذلك باعطاء التحصين الكامل المستمر لها، على تفصيل سوف يأتي ان شاء اللّه خلال شرح هذه الفكرة، والفكرة على سبيل الاجمال، ملخصاً لما سبق لتتمة تتبع التسلسل في عرضها.
ولقد وقع الانحراف بعد وفاة الرسول (ص) هذه البداية في تسلسل هذه الفكرة وكان هذا الانحراف الذي وقع بعد وفاة النبي (ص) انحرافاً سياسياً خطيراً جداً، بالرغم من ان هذا الانحراف لم يمس بحسب الظاهر الا ميداناً واحداً من الميادين التي كان يعتمد عليها الاسلام، في بداية الامر لعل كثيراً من الناس بدا لهم ان هذا الانحراف لا يعني اكثر من ان شخصاً كان مرشحاً من قبل النبي (ص) او من قبل اللّه سبحانه وتعالى، وهذا الشخص قد اقصي او غصب حقه، واعطي لشخص آخر بدلاً عنه، قد يكون هذا الشخص الآخر قادراً على ان يقوم مقامه في هذه المهمة.
الا ان الانحراف لم يكن انحرافاً شخصياً، او سهلاً او بسيطاً بهذا المقدار، لأننا قلنا فيما سبق، بأن الاسلام رسالة تربية للانسان، رسالة جاءت لتبني الانسان من جديد، وبناء الانسان من جديد، يتوقف على السيطرة على كل المجالات، وما لم يمتلك زمام كل تلك الميادين، لا يمكن ان يسيطر على كل ابعاد الانسان، وبالتالي ان يربي الانسان وفقاً للرسالة التي جاء بها، التربية الشاملة الكاملة للانسان بشكل متميزاً كلياً عن انسان ما قبل الاسلام، عن انسان الجاهلية، هذا يتوقف على المربي بحيث يسيطر على كل المجالات التي يعمل عليها الانسان يسيطر على مجالات العلاقات الفردية مع ربه، يسيطر على مجالات علاقاته مع الآخرين في النطاق العائلي، يسيطر على مجالات علاقته مع
الافراد الآخرين في المجال الاجتماعي وهكذا يسيطر على كل المجالات لأن أي واحد من هذه المجالات، لو انه لم يسيطر عليه، فمعنى هذا انه لم يسيطر على جزء من الانسان، لأن الانسان يتفاعل مع كل هذه المجالات، انتم ترون ان الاب لا يستطيع ان يربي ابنه تربية كاملة شاملة، ليس الاب هو المربي الوحيد لابنه، لأن هناك اشياء اخرى تشاركه في تربية ابنه، يشاركه في تربية ابنه زملاؤه في المدرسة واساتذته فيها. المجتمع الذي يعيش فيه، الشارع الذي يلعب فيه، القوانين التي تطبق عليه من قبل الدولة، كل هذا يشارك في تربية الابن، فالتربية الشاملة الكاملة لهذا الانسان لا تكون الا بالهيمنة الكاملة على كل هذه المجالات، بحيث تؤخذ كل هذه المجالات بيد المربي، وبعد هذا يستطيع ان يحدد الاطروحة الصحيحة للانسان الافضل.
علي هذا الاساس كانت سيطرة الاسلام على كل المجالات بما فيها المجال الاجتماعي الذي هو رأس هذه المجالات، كان هذا جزءاً اساسياً من التركيب الاسلامي ومن الاطروحة الاسلامية، كان من الضروري جداً للنبي (ص) ان يسيطر على كل هذه المجالات لا ان يكون واعظاً في المسجد فحسب، ولا ان يكون استاذاً في حلقة فحسب، بل يكون هذا وذاك، ويكون اضافة الى هذا وذاك، رائداً للمجتمع، حاكماً للمجتمع في كل مكان، في كل ما يمكن ان يصبو اليه المجتمع من آمال واهداف، ويكون مخططاً ومقنناً للمجتمع في كل المجالات، في كل ما يحتاج اليه المجتمع من قوانين وتنظيم، هذا هو اسلوب التربية الشاملة الكاملة الذي اتجه اليه الاسلام، وليس من الكلفة ان يقال في نص نبوي، من مات ولم يعرف امام زمانه مات ميتة جاهلية، لأن الارتباط بالامام (ع) والارتباط بالقيادة جزء من التربية الشاملة الكاملة للانسان، فوجود قيادة اسلامية للحياة الاجتماعية كان جزءاً ضرورياً في الحياة الاسلامية الاجتماعية، وانجاح الثورة الاسلامية، وانتاج الامة والفرد والعائلة التي يريدها اللّه سبحانه وتعالى، والتي يحددها القرآن الكريم وعلى ضوء هذا، نستطيع ان نعرف ان أي انحراف يحصل في هذا المجال، في مجال قيادة المجتمع، أي انحراف يقع في هذه القيادة فهو يهدد المخطط بكامله: لأن هذا الانحراف، سوف يجعل المجال الاجتماعي يفلت من يد الاسلام، واذا افلت هذا المجال من يد الاسلام فسوف يفلت من يد الاسلام جزء كبير من وجود الانسان، وبالتالي، وبقانون التفاعل بين اجزاء الانسان بعضها ببعض، سوف تفلت بقية الاجزاء ايضاً.
هذا الانحراف كان يشكل بداية خطر على التجربة الاسلامية كلها، على عملية التربية الاسلامية كلها، ولم يكن مجرد استبدال شخص بشخص آخر، كان ظلماً للتجربة الاسلامية كلها، وبالتالي للبشرية كلها.
هذا الانحراف وقع بعد وفاة النبي (ص) وتمثل في ان جماعة من صحابة الرسول (ص) لم يرتضوا علياً المنصوص عليه من قبل النبي (ص)، للخلافة فتصدى بعضهم لها، مارس ابو بكر قيادة التجربة الاسلامية بعده مارس عمر بن الخطاب، بعده مارس عثمان بن عفان، هؤلاء الصحابة تارة ننظر اليهم بمنظار شيعي خاص نختص نحن به في مقام النظر اليه، وهذا المنظار لا نريد ان نتحدث عنه، لأننا متفقون على طبيعة هذا المنظار، لكننا نصرف النظر عن هذا المنظار الخاص الذي نحن متفقون عليه فيما بيننا، وننظر الى هؤلاء بقطع النظر عن المنظار الخاص، النظر الى هؤلاء بالمنظار العام، ان تسلم هؤلاء الحكام لزمام زعامة التجربة الاسلامية كان يشكل بداية انحراف، وكان سبباً حتمياً لتأرجح التجربة بين الحق والباطل، واستبطانها شيئاً من الباطل، واتساع دائرة الباطل بالتدريج وذلك لعدة أمور:
اولاً: أن هؤلاء الصحابة الذين تسلموا زمام الحكم بقطع النظر عن ذلك المنظار الخاص الذي جمدناه الآن في حبل الكلام، هؤلاء اناس يشهد التاريخ بانهم عاشوا الجزء الأكبر من حياتهم في عصر جاهلي، وضمن اطار التفكير الجاهلي في كل ما كانوا يفكرون فيه، او يعملون فيه، او يتألمون منه، في كل مجالاتهم العاطفية، ومجالات اهدافهم، ومجالاتهم الفكرية والعقائدية، لم تكن حياتهم قبل الاسلام الا حياة من طرز جاهلي آخر، بعد هذا دخلوا في الاسلام ولا نريد ان نتحدث عن طبيعة دخولهم في الاسلام، افرضوا ان هؤلاء دخلوا في الاسلام دخولاً حسناً، وعاشوا مع الرسول (ص) عيشة حسنة، الا ان هذه الاهداف المضادة لم تستأصل، وبذور هذه الجاهلية لم تستأصل من افكارهم وعقولهم، بدليل انهم بالرغم من عيشهم
مع النبي (ص)، وبالرغم من الإدعاء بالاستئثار بلطف النبي (ص)، بالرغم من كل هذا كانوا بين حين وحين يعلنون عن تقاليد او عن تصورات ترتبط بالوضع الذي كانوا يعيشونه قبل الاسلام، ومع كل ما نعلم، يضع الخليفة الثاني احتجاجه على متعة الحج، بالرغم من ان متعة الحج عمل عبادي خالص، لا يرتبط بأي مصلحة من مصالح الدنيا المعلومة، الانسان العاقل لا يستطيع ان يدرك بعقله، أيهما احسن، هل الاحسن هي العمرة المستمرة الى الحج، او العمرة المتحلل منها التى يأتي بعدها الحج، هذا بعقولنا لا نستطيع ان نحكم عليه بانه افضل او ذاك افضل، فهي مسألة عبادية ثابتة، هنا عمر لم يتأثر في احتجاجه بعقله، لأن العقل لا يدرك ايهما الافضل، وانما تأثر بطبيعة تربية عادته وتقاليده، وان الجاهلية التي كانت قبل الاسلام، وانما تأثر بطبيعة تربية عادته وتقاليده، وان الجاهلية التي كانت قبل الاسلام، كانت ترفض التحلل بين العمرة والحج، مثل هذه العادة أثرت في نفس الخليفة الثاني اثراً كبيراً، الى درجة ان يرد على رسول اللّه (ص) وجهاً لوجه في ذلك، وفي حياتهم شواهد كثيرة على هذا تظهر بين حين وحين، ولا نريد ان نقول من هذا، ان هؤلاء كانوا اناساً يستبطنون الكفر او العداء للاسلام، او البغض لشخص النبي (ص)، فان الحديث عن هذا قد جمدناه بل ان هذا يمكن ان ينسجم حتى مع التصور السني لهؤلاء، اناس صحابة صالحون، ولكنهم مع هذا كله لا يزال الراسب الجاهلي يعيش في اعماقهم بثلاثين في المائة او اربعين او خمسين، لا يزال جاهلياً والباقي اصبح اسلامياً.
في يوم السقيفة طبعاً تعلمون بانهم قالوا: من ينازعنا سلطان محمد....؟؟
محمد كان شيخ قبيلة، وهم شيوخ هذه القبيلة بعد ان مات شيخ القبيلة الأول يتولى شيوخ القبيلة الآخرون، من ينازعنا سلطان محمد...؟ هذا راسب جاهلي، قد لا يكون عمر او ابو بكر قد لا يكون هذا الصحابي يعيش هذا الراسب في تمام حالاته، بل يكون في بعض الحالات يترفع عن هذا الراسب، قد يكون الجانب الاسلامي يتغلب على هذا الجانب الجاهلي، حيث ان الراسب موجود، بالنهاية جزء من نفسه يمثل هذا الراسب، ولهذا يطفو هذا الراسب في لحظات عديدة من حياتهم الاجتماعية والسياسية، اذن فهؤلاء
الخلفاء، بحكم وصفهم وحياتهم، لم يكونوا اناساً قد اجتثت الجاهلية من نفوسهم اجتثاثاً كاملاً، بل كانت الجاهلية تعيش في نفوسهم في حالة واضحة ملموسة وملحوظة، تنعكس على سلوكهم بين حين وآخر، وحينئذ فهؤلاء حينما يتزعمون قيادة التجربة الاسلامية فبطبيعة الحال الذي يتولى القيادة، قيادة هذه التجربة الاسلامية، ومن هم، هم مجموع هذه الافكار والعواطف التي سوف تحكم وهي التي سوف تسود ان كان من هذه 50% او 30% جاهلياً فمعنى ذلك ان الجاهلية سوف تشارك الاسلام في الحكم، وسوف يصبح للجاهلية حكم وتزعم في توجيه التجربة الاسلامية التي جاءت لأجل ان تنقذ الانسان من الجاهلية الى الاسلام، وتصنع الانسان الجديد، وتقضي على الانسان القديم، بينما كان المفروض هكذا واذا الجاهلية تشارك في الحكم في المقام.
ثانياً: وهؤلاء لم يكونوا مهيئين للحكم، بقطع النظر عن جهة الراسب الجاهلي، لم يكونوا قد استوعبوا الرسالة الاسلامية استيعاباً كاملاً، لان هؤلاء الصحابة، تأثروا بالمحنة، عاشوا المحنة السياسية للدولة الاسلامية، المحنة العسكرية للدولة الاسلامية، الدولة الاسلامية كانت في خضم الحروب وفي خضم الفتن، وفي المنازعات مع المشركين من ناحية، ومع اليهود من ناحية اخرى، ومع سائر القبائل العربية من ناحية ثالثة.
فخضم هذا الصراع العسكري والسياسي، كان يجعل الصحابة دائماً في دوامة التفكير، في كيفية حماية الدولة، وفي كيفية الدفاع عنها، وفي كيفية المساهمة في حروبها، تعلمون ان رسول اللّه (ص) غزا عشرات الغزوات في فترة قصيرة، في عدة سنوات عشرات الغزوات اعم من ان تكون وقع فيها القتال او لم يقع فيها القتال، فالحياة كانت حياة قلقة، حياة صراع عسكري وصراع سياسي مع الاعداء، ومع المشركين ومع المنافقين من كل صوب وحدب، لم يكن يتوفر لرسول اللّه (ص) الوقت على تدريبهم او تثقيفهم على مستوى القيادة، صحيح ان رسول اللّه (ص) كان يمارس تثقيفاً عالمياً لأجل ايجاد امة واعية تتمتع بالحد الادنى من الوعي، اما انه لم يكن هناك تخطيط من قبل النبي (ص) ولم يكن هناك تخطيط من قبلهم ايام النبي (ص) في ان
يثقفوا انفسهم ويهيئوا انفسهم لكي يتسلموا الحكم بعد رسول الله (ص)، ولهذا قال عمر بن الخطاب عندما عجز عن الفتوى، انه الهانا ايام رسول اللّه (ص) القصف في الاسواق عن تعلم مثل هذه الاحكام، ومع هذا هو لم يتهيأ لمستوى القيادة في المقام، قلنا بانه اشتغل في القصف في الاسواق كما هو يعترف، دون الشغل بوضع الدولة الاسلامية وظروفها السياسية والعسكرية، على أي حال لم يتهيأ للقيادة، من هنا نرى ان ابا بكر وعمر كانا عاجزين عن تحديد ابسط الاحكام الشرعية، لأنه لم يكن عندهم تثقيف لفترة ما بعد الرسول (ص).
قلنا في بعض الايام السابقة، ان صلاة الميت التي كان يمارسها النبي (ص) امام المسلمين، وكان يمارسها في كل يوم، لأنه في كل يوم او شهر يموت عدد لا بأس به من المسلمين، وكان النبي (ص) يصلي عليهم، مع هذا اختلف المسلمون بعد هذا، اختلف هؤلاء القادة بان التكبيرات على صلاة الميت كم عددها، هذا كله يعطي المعنى الاتكالي، ان هؤلاء كانوا في ايام النبي (ص) متكلين على القائد ، الرائد، المتوجه، الواحد كان يأتي يأتم بالنبي (ص)، لم يخطر على باله في مرة من المرات ان يحسب هذه التكبيرة الاولى وهذه الثانية وهذه الثالثة وهذه الرابعة حتى يحسب انها خمسة او اربعة، هذا معنى الاتكالية، هذه الاتكالية عاشها هؤلاء الصحابة في عصر النبي (ص)، ولم يكن المسلمون متهيئين بعد وفاة النبي (ص) تهيؤاً فكرياً وعقائدياً لتحمل اعباء الرسالة.
ثالثاً: ان التجربة التي عاشها النبي (ص) لو فرض انها هي التي تعطي الامكانيات الفعلية، فمن المعلوم ان هناك فارقاً كبيراً بين ظروف التجربة في ايام النبي (ص) والظروف التي كانت الامة الاسلامية مقبلة عليها حينئذ، الامة الاسلامية بعد النبي (ص) كانت مقبلة على تحول اجتماعي وسياسي كبير وضخم جداً، لأنه كان من المفروض تحقيق فكرة المجتمع العالمي، هذه الفكرة التي دعا اليها النبي (ص)، ولكنه لم يحققها، لأن النبي (ص) الى ان توفي لم يمتد نفوذه الى اكثر من النطاق العربي بالرغم من ان النبي (ص) دعا ملوك العالم، دعا كسرى وقيصر، دعا سلطان الحبشة دعا غيرهم الى
الاسلام لأجل توعيتهم بالاسلام، ولاجل تسجيل ان الاسلام مجتمع عالمي، ويدعو الى المجتمع العالمي، الذي لا يفرق فيه بين شعب وشعب وبين قومية وقومية، بالرغم من هذا لم يتحقق المجتمع العالمي، ايام النبي (ص) تحقق مجتمع عربي يحمل فكرة العالمية ويقوم على اساس الرسالة، لا على اساس الفكرة القومية او القاعدة القومية للرسالة، هذا المجتمع بعد النبي (ص) كان من المفروض ان يبنى عالمياً، ان ينشئ المجتمع الاسلامي العالمي، ان يضم في مجتمع واحد العرب والفرس والترك والهنود وجميع شعوب الأرض، هذه المهمة صعبة وعظيمة جداً، تختلف كل الاختلافات عن الظروف الموضوعية للمرحلة الاولى التي عاشها النبي (ص).
هذه المرحلة او هذه المهمة تحتاج الى عقلية رسالية، 100%، الى نزاهة عن كل شائب، وعن كل الانخفاضات الفكرية والعاطفية التي يعيشها الانسان القبلي، او الانسان القومي. عمر او ابو بكر لن يستطيعا ان يجعلا من تجربة رسول اللّه (ص) (بالرغم من انها كانت تمر في المرحلة البدائية) اساساً ضامناً قطعياً لصفحة سيرهم في المرحلة الثانية، في مرحلة انشاء المجتمع العالمي، حتى الآن لم يعيشوا المجتمع العالمي الا كفكرة لم تولد الى النور، أن الناس كلهم اسرة، الناس سواسية كاسنان المشط، ان لا فرق بين عجمي وعربي، هذا كانوا يسمعونه كفكرة من النبي (ص) لكن لم يكونا يريانه مجسداً في المجتمع وفي علاقاتهما، بحيث ان انساناً أعجمياً وانساناً عربياً عاشا مجتمعاً واحداً بصورة متكافئة، وانما هي مجرد فكرة لم يتيسر لمثل هؤلاء ان يحققوا هذه الفكرة ، وان يتولوا تحقيقها في مثل هذه المرحلة الدقيقة من التجربة الاسلامية بطبيعة الحال سوف تحصل هناك انخفاضات فكرية وعاطفية، تجعلهم دون مستوى تحقيق فكرة المجتمع العالمي، وقد تكون بذرة صغيرة جداً في عهد ما، قد تكون هذه البذرة تكبر بعد هذا وتصبح بلاء كبيراً وشراً مستطيراً.
كلكم تعلمون بان في التاريخ امثلة كثيرة على هذا، العمدة على التاريخ في النقل، ان عمر بن الخطاب اعفى نصارى العرب في العراق من الجزية، العرب الذين كانوا موجودين في العراق اعطوا الجزية، عاتبوه قالوا: بان
الجزية فيها شأن الذل لا ندفع الجزية فنحن عرب قال لهم، اذن فادفعوا الزكاة، فامر باخذ المال منهم بعنوان الزكاة!!، طبعاً لم تكن الزكاة باصغر من الجزية، لأن المشرك يدفع الجزية والمسلم يدفع الزكاة، غاية الامر كأن الجزية بحسب نفسها علاقة فيها مهانة، عمر بدل الجزية بالزكاة، فامر باخذ الزكاة، هذه البذرة الصغيرة جداً والطفيفة جداً لم تنطبق الا على عشيرة واحدة لا أكثر من عشائر النصارى في العراق، هذه البذرة على مر الزمن تأتي الشر المستطير، لعل هذه البذرة هي الاساس في كل الشرور التي عاشها المسلمون بعد هذا، او التي مني بها المسلمون نتيجة للكيانات القومية التي زعزعت بعد هذا الاسلام، وحطمت الرسالة الاسلامية، الكيانات القومية العربية والفارسية والتركية والهندية، الى غير ذلك من الكيانات القومية الكافرة التي انشئت في العالم الاسلامي، ولا اريد ان اصحح هذه النقطة، لا ادري انها صحيحة او لا، بل اريد ان اقول بان مهمة انشاء مجتمع عالمي، هذه المهمة تحتاج الى قيادة تختلف عن طبيعة الصلاة، والذوق التي كانت موجودة في هؤلاء الخلفاء....؟؟.
رابعاً: أن الشعور بالظلم في نفس الخلفاء، يقيض التوسع في الاضرار، الخلفاء كانوا يشعرون بانهم ظلموا علياً، وانهم غصبوا علياً، وإنهم تعدوا على حق علي المنصوص عليه من قبل النبي (ص).
نعم لعلهم لم يكونوا يشعرون بانهم أساؤا الى الاسلام بهذا الترتيب، بحيث ان عملهم سوف يؤدي الى هدم الكيان الاسلامي، لعلهم لم يكونوا يشعرون، لعلهم لم يكن لهم دقة نظر وفهم منطق الاحداث، ومنطق التاريخ، لم يكونوا يقدرون بعد ستين سنة من وفاة رسول اللّه (ص) ان يشرب الخمر خليفة المسلمين في بيته وفي قصره، لعلهم لا يستطيعون ان يفسروا هذا التفسير، لكنهم على أي حال كانوا يشعرون بانهم غصبوا علياً، وانهم اخذوا حق علي، ولهذا قالوا في تبرير ذلك بينهم وبين انفسهم، ارادوا ان يبرروا، وظهر هذا السبيل على كلماتهم ان عمر، خليفة المسلمين قال: بان رسول اللّه (ص) حاول ان يولي علياً، ان يرشح علياً لكني انا منعته، احتياطاً للاسلام، وحرصاً على مصلحة الاسلام، كل هذه التبريرات تبريرات نفسية ازاء وخز الضمير في نفوسهم، هذه التبريرات انتجت انحرافاً خطيراً وانتجت انه لا يلزم التقيد بما يقوله رسول اللّه (ص)، هذا المبدأ تبلور في نفوسهم بالتدريج كتبرير للدفاع عن العملية التي قاموا بها، للدفاع عن الذنب الذي كان موجوداً في نفوسهم.
وحينما قام هذا المبدأ انفتحت كل البدع والانحرافات، بعد هذا لم ير عمر بن الخطاب مانعاً ان يقول: متعتان كانتا على عهد رسول اللّه (ص) احرمهما وعاقب عليهما، لم ير مانعاً من هذا بعد ان عاش مدة من الزمن، الشعور بالذنب، وحل هذا التناقض في المبدأ، بعد هذا انفتح باب البدع وباب حمل الشعارات الجزئية الهستيرية الغير الصحيحة، فهذه الامور الاربعة تجعل حتمية انحراف التجربة بعد رسول اللّه (ص) على اساس تولي غير ائمة اهل البيت (ع) قيادة هذه الامة.... [/align]
يا محوّل الحول والاحوال ، حوّل حالنا إلى أحسن الحال......
-
[align=center]المحاضرة الثالثة عشر
بسم اللّه الرحمن الرحيم
دور الأئمة (ع)
اريد في هذا الحديث، ان اعبر عن اتجاه معين من دراسة حياة الائمة، وسوف لن يتسع الحديث في حدود هذه الفرصة ان نرسم اتجاهاً معيناً، وانما كل ما احاوله، هو اثارة التفكير حول هذا الاتجاه،واعطاء بعض الملامح العامة عن حياة الائمة (ع).
وهذا الاتجاه الذي اريد ان اتحدث اليكم عنه هو الذي يتناول حياة كل امام، ويدرس تاريخه على اساس النظرة الكلية، بدلاً عن النظرة الجزئية، أي ينظر الى الائمة (ع) ككل مترابط ويدرس هذا الكل، ويكشف ملامحه العامة، واهدافه المشتركة، ومزاجه الاصيل. ويتفهم الترابط بين خطواته، وبالتالي الدور الذي مارسه الأئمة جميعاً في الحياة الاسلامية.
ولا اريد بهذا ان لا ندرس حياة الائمة (ع) على اساس النظرة الجزئية، دراسة كل امام بصورة مستقلة، بل ان هذه الدراسة الجزئية نفسها ضرورية لانجاز دراسة شاملة كاملة ملائمة ككل، اذ لا بد لنا اولاً ان ندرس الائمة بصورة مجزئة تستوعب الى اوسع مدى ممكن حياة كل امام، بكل ما تزخر به من ملامح واهداف ونشاط، حتى نتمكن بعد هذا ان ندرسه ككل ونستخلص الدور المشترك للائمة (ع) جميعاً، وما يعبرون عنه من ملامح واهداف وترابط.
واذا قمنا بدراسة احوال الائمة (ع) على هذين المستويين، فسوف نواجه على المستوى الاول اختلافاً في الحالات، وتبايناً في السلوك وتناقضاً من الناحية الشخصية بين الادوار التي مارسها الائمة (ع). فالحسن مثلاً هادن معاوية، بينما حارب الحسين يزيد حتى قتل، وحياة السجاد قائمة على الدعاء بينما كانت حياة الباقر قائمة على الحديث والفقة، وهكذا.
واما على المستوى الثاني، حينما نحاول اكتشاف الخصائص العامة والادوار المشتركة بالائمة (ع) ككل، فسوف تزول كل تلك الخلافات والاختلافات والتناقضات، لانها تبدو على هذا المستوى مجرد تعابير مختلفة عن حقيقة واحدة، وانما اختلف التعبير عنها وفقاً لاختلاف الظروف والملابسات التي مر بها كل امام، وعاشتها القضية الاسلامية والشيعة منحصرة على الظروف والملابسات التي مرت بالرسالة في عهد امام آخر، ويمكننا عن طريق دراسة الائمة (ع) على اساس النظرة الكلية ان نخرج بنتائج ازخر من مجموع النتائج التي تتمخض عنها الدراسات الجزئية، لأننا سوف نكشف الترابط بين اعمالهم، وسوف نتخذ مثالاً لتوضيح الفكرة.
فنحن نقرأ في حياة الامام امير المؤمنين (ع)، انه جمع الصحابة في خلافته واستشهدهم على نصوص الامامة، وشهد بذلك عدد كبير من التابعين، وطلب منهم ان يحدثوا بنصوص النبي (ص) في علي واهل البيت (ع)، ونقرأ في حياة الامام الباقر (ع) أنه قام بنفس العملية واستشهد التابعين وتابعي التابعين.
وحين ندرس الائمة ككل ونربط بين هذه النشاطات، وبعضها ببعض ونلاحظ ان العمليات وضعت على مدى ثلاثة اجيال، نجد انفسنا امام تخطيط مترابط يكمل بعضه بعضاً، ويستهدف الحفاظ على تواتر النصوص عبر اجيال عديدة حتى تصبح في مستوى الوضوح والاشتهار، تتحدى كل مؤامرات الاخفاء والتحديد.
وفي عقيدتي، ان وجود دور مشترك مارسه الائمة جميعاً، ليس مجرد افتراض نبحث عن مبرراته التاريخية، وانما هو مما تفرضه العقيدة نفسها وفكرة الامامة بالذات، لأن الامامة واحدة في الجميع بمسؤولياتها وشروطها، فيجب ان تنعكس انعكاساً واحداً في شروط الأئمة (ع) وادوارهم مهما اختلفت ادوارها الطارئة بسبب الظروف والملابسات، ويجب ان يشكل الائمة بمجموعهم وحدة مترابطة الاجزاء، ليواصل كل جزء من تلك الوحدة الدور للجزء الآخر ويكمله.
الدور المشترك للائمة (ع):
هذا هو السؤال كله الذي يقتبس على ضوء ما تقدم. وقد لا نحتاج الى شيء من البحث لكي نتفق بسرعة على نوعية الدور المشترك الذي اسند الى الائمة (ع) في تخطيط الرسالة.
فكلنا يعلم ان الرسالة الاسلامية، بوصفها رسالة عقائدية، قد خططت لحماية نفسها من الانحراف، وضمان نجاح التجربة خلال تطبيقها على مر الزمن، فأوكل امر صيانة التجربة وتحويلها وتوجيهها سياسياً الى الائمة (ع) بوصفهم اشخاصاً عقائديين، بلغوا في مستواهم العقائدي درجة العصمة من الانحراف والزلل والخطأ، غير اننا حينما نحاول ان نحدد الدور المشترك الذي مارسه الائمة (ع) ككل في تاريخهم المجيد، لا نعني هذا الدور الخيالي من تزعم التجربة الاسلامية، لاننا نعلم ان الاحداث المؤلمة وقعت بعد وفاة النبي الاعظم (ص) واقصي الائمة عن القيام بدورهم القيادي في تزعم التجربة، وسلمت مقاليد الرسالة ومسؤولية تطبيقها الى اشخاص آخرين، انحرف معهم التخطيط واشتد الانحراف على مر الزمن، وانما نريد بالدور المشترك من تاريخ الائمة (ع)، الموقف العام الذي وقفوه في خضم الاحداث والمشاكل التي اكتنفت الرسالة بعد انحراف التجربة واقصائهم عن مناصبهم.
وهنا نجد تصوراً شائعاً لدى كثيرين من الناس، الذين احتاجوا ان يقيموا الائمة بوصفهم اناساً مظلومين فقط قد اقصوا عن مركز القيادة، وذاقوا بسبب ذلك الوان الاضطهاد والحرمان، فهؤلاء الناس يعتقدون، ان دور الائمة في حياتهم، كان دوراً سلبياً على الأغلب، نتيجة لإِقصائهم عن مجال الحكم، فحالهم حال من يملك داراً فيغصب منه، وينحصر امله في امكان استرجاعها، وهذا التفكير بالرغم من انه خاطئ، فانه يعتبر خطأ من الناحية العملية وانه يحبب الى الانسان السلبية والانكماش والابتعاد عن مشاكل الامة ومجالات قيادتها، ولهذا اعتقد ضرورة ان نثبت خطأ ذلك التفكير، وندرس حياة الائمة على اساس نظرة كلية لتتبين ايجابيتهم الرسالية على طول الخط، ودورهم المشترك الفعال في حفظ الرسالة وحمايتها.
ان الائمة (ع) بالرغم من اقصائهم عن مجال الحكم، كانوا يتحملون باستمرار مسؤوليتهم والحفاظ على الرسالة وعلى التجربة الاسلامية وتحصينها ضد التردي الى الهاوية، هاوية الانحراف والانزلاق عن مبادئها وقيمها. فكلما كان الانحراف يقوى ويشتد، وينذر بخطر التردي الى الهاوية، كان الائمة (ع) يتخذون التدابير اللازمة ضد ذلك، وكلما وقع في التجربة الاسلامية والعقيدة من المحنة والمشكلة، وعجزت الزعامات المنحرفة من علاجها بحكم عدم كفاءتها، بادر الائمة (ع) الى تقويم الحل، ووقاية الامة من الاخطار التي كانت تحددها بكلمة مختصرة، كان الائمة (ع) يحافظون على المقياس العقائدي والرسالي في المجتمع الاسلامي، ويحافظون على ان لا يحبط الى درجة تشكل خطراً ماحقاً، وهذا يقدر ممارستهم جميعاً دوراً ايجابياً فعالاً في حماية العقيدة، وتبني مصالح الرسالة والامة، وتمثل هذا الدور الايجابي، في ايقاف الحاكم عن المزيد من الانحراف كما عبر الامام (ع) حين صعد عمر بن الخطاب المنبر، وتساءل عن ردّ الفعل لو صرف الناس عما يعرفون الى ما ينكرون، فرد عليه الامام (ع) بكل وضوح وصراحة: اذن لقومناك بسيوفنا، وتمثل في ايقاف الزعامة المنحرفة اذ اصبحت تشكل خطراً ماحقاً ولو عن طريق الاصطدام المسلح، والشهادة في سبيل كشف زيفها وسلب تخطيطها كما صنع الامام (ع) الحسين مع يزيد في مجابهة المشاكل التي تهدد كرامة الدولة الاسلامية، وتعجز الزعامات المنحرفة عن حلها كما في المشكلة التي اشار اليها ملك الروم، الى عبد الملك بن مروان، اذ عجز عبد الملك عن الجواب، فبادر الامام السجاد (ع) واجاب بالشكل الذي يحفظ للدولة كرامتها وللأمة الاسلامية هيبتها، وتمثل ايضاً، في انقاذ الدولة الاسلامية من تحدي الكافرين الذين هددوا سيادتها، كالذي واجهه هشام من الروم وعجز عن الرد عليه، فكان الامام الباقر (ع) في مستوى الرد على هذا التحدي فخطط للاستقلال النقدي.
وتمثل الدور الايجابي في تلك المعارضة العميقة التي كان الائمة (ع) يواجهون بها الزعامات المنحرفة بارادة سليمة لا تلين، وقوة نفسية صامدة لا تتزعزع.
فاذن، هذه المعارضة، بالرغم من انها اتخذت مظهراً سلبياً بدلاً عن مظهر الاصطدام الايجابي، والمقابلة المسلحة، غير ان المعارضة حتى بصيغتها السلبية كانت عملاً ايجابياً عظيماً في حماية الاسلام والحفاظ على مثله وقيمه، لأن انحراف الزعامات القائمة، كان يعكس الوجه المشوه للرسالة، فكان لا بد للقادة من اهل البيت (ع)، ان يعكسوا الوجه النقي المشرق والمشرف لها، وان يؤكدوا عملياً بالاستمرار المطابق بين الرسالة والحكم الواقع، وهكذا خرج الاسلام على مستوى النظرية سليماً من الانحراف، وان تشوهت معالم التطبيق، ويمكنني ان اؤكد بهذا الصدد مثالاً جزئياً، ولكنه يعبر عن مدى الجهود التي بذلها الائمة (ع) في سبيل الحصول على هذا المكسب، مكسب خروج الاسلام على المستوى النظري سليماً من الانحراف، تصوروا ان الامام موسى بن جعفر (ع) قد هد السجن صحته، واذاب جسمه، حتى اصبح حين يسجد لربه كالثوب المطروح على وجه الأرض، فيدخل عليه رسول الزعامة المنحرفة فيقول له: ان الخليفة يعتذر اليك، ويأمر باطلاق سراحك، على ان تزوره وتعتذر اليه وتطلب رضاه، فيشمخ الامام (ع) ويجيب بالنفي بكل صراحة، يتحمل مرارة الكأس لا لشيء الا لكي لايحقق للزعامة المنحرفة هدفها من ان يبارك خطها، فتعكس معالم التشويه من التطبيق المنحرف على الرسالة نفسها.
وتمثل الدور الايجابي بالائمة (ع)، في تحويل الامة العقائدية بشخصيتها الرسالية والفكرية من ناحية.. ومقاومة التيارات الفكرية التي تشكل خطراً على الرسالة وضربها في بدايات تكونها من ناحية اخرى...
والامام (ع) في علمه المحيط المستوعب، بما يجعله قادراً على الاحساس بهذه البدايات الخطرة، وتقديراً لاهميتها ومضاعفاتها والتخطيط للقضاء عليها، وقد يمكن ان يفسر على هذا الضوء، اهتمام الامام العسكري (ع) وهو في المدينة بمشروع كتاب يضعه الكندي وهو في العراق، حول متناقضات القرآن اذ اتصل به عن طريق بعض المنتسبين الى مدرسته، واحبط محاولته، واقنع مدرسة الكندي بانها على خطأ.
الايجابية تنكشف في علاقات الائمة بالامة. في الواقع ان حياة الائمة، ذاكرة كلها للشواهد الايجابية، الدور المشترك الذي كانوا يمارسونه، من ذلك علاقات الأئمة بالأمة والزعامة الجماهيرية الواسعة النطاق، الذي كان امام اهل البيت يتمتع بها على طول الخط، فلان هذه الزعامة لم يكن امام اهل البيت يحصل عليها صدفة، او على اساس مجرد الانتماء الى الرسول (ص) بل على اساس العطاء للدور الايجابي الذي يمارسه الامام في الامة، بالرغم من اقصائه عن منصب الحكم. فان الامة لا تمنح على الاغلب الزعامة مجاناً، ولا يملك الفرد قيادتها وميل قلوبها من دون عطاء سخي منه تستنصره الامة في مختلف عباداتها، تستفيد منه في حل مشكلاتها والحفاظ على رسالتها، ان تلك الزعامة الواسعة التي كانت نتيجة لايجابية الائمة (ع) في الحياة الاسلامية، هي التي جعلت علي بن ابي طالب المثل الاعلى للثوار الذين قضوا على عثمان بن عفان وهي التي كانت تتمثل بمختلف العلاقات التي عاشها الائمة (ع) مع الامة.
انظروا الى الامام موسى بن جعفر (ع) كيف يقول لهارون الرشيد: انت امام الاجسام وانا امام القلوب، انظروا الى عبد اللّه بن الحسن، حين اراد ان يأخذ البيعة لابنه محمد، كيف يقول للامام الصادق (ع) مرتبكاً: انك اذا اجبت لم يختلف عن ابني احد من اصحابك ولم يختلف عليه اثنان من قريش ولا من غيرهم، ولاحظوا مدى ثقة الامة بقيادة ائمة اهل البيت (ع) نتيجة لما يعيشونه من دور ايجابي من حماية الاسلام ومصالح الامة لاحظوا المناسبة الشهيرة التي انشد فيها الفرزدق قصيدته في الامام السجاد (ع)، كيف ان هيبة الحكم وجلال السلطان، لم يستطيعا ان يشقا لهشام طريقاً لاستلام الحجر، بين الجموع المحتشدة من افراد الامة في موسم الحج، بينما استطاعت زعامة اهل البيت (ع)، ان تكهرب تلك الجماهير في لحظة، وهي تحس بمقدم الامام القائد، فتشق الطريق بين يديه نحو الحجر، ولاحظوا قصة الهجوم الشيعي الهائل الذي تعرض له قصر المأمون، نتيجة لاغضاب الامام الرضا (ع)، فلم يكن مناص من الالتجاء الى الامام لحمايته من غضب الامة، وقال له الامام (ع): اتق اللّه في امة محمد (ص) وما ولي لك من
هذا الامر وخصك به، انك قد ضيعت امور المسلمين، وتعرضت في ذلك الى غيرك ليحكم بغير حكم اللّه سبحانه وتعالى.
ان كل هذه النماذج والمظاهر للزعامة الشيعية التي عاشها ائمة اهل البيت (ع) على طول الخط تبرهن على ايجابيتهم، وشعور الامة بدورهم الفعال في حماية الرسالة، الايجابية تنكشف في علاقات الائمة بالحكام ويمكننا ان نتطرق لزاوية جديدة، لنصل الى نفس هذا النتيجة من زاوية علاقات الزعامات المنحرفة من امام اهل البيت (ع) على طول الخط، فان هذه العلاقات كانت تقوم على اساس الخوف الشديد من نشاط الائمة (ع)، ودورهم في الحياة الاسلامية، حتى يصل الخوف لدى الزعامات المنحرفة احياناً الى درجة الرعب، وكان محصول ذلك الاستمرار بتطويق امام ذلك الوقت ووضع رقابة محكمة عليه، ومحاولة فصله عن قواعده الشعبية، ثم التآمر على حياته ووفاته شهيداً، بقصد التخلص من خطره، فهل كان من الصدفة او لمجرد تسلية، أن تتخذ الزعامات المنحرفة كل هذه الاجراءات تجاه ائمة اهل البيت (ع)، بالرغم من انها تكلفها ثمناً باهظاً من سمعتها وكرامتها، أو كان ذلك نتيجة شعور الحكام المنحرفين، بخطورة الدور الايجابي الذي يمارسه الائمة؟ والا فلماذا كل هذا القتل والتشريد والسجن والتبعيد، هل كان الائمة يحاولون تسلم الحكم.
قد يتبادر الى الذهن هذا السؤال: وهو ان ايجابية الائمة (ع)، هل كانت تصل الى مستوى العمل لتسلم زمام الحكم من الزعامات المنحرفة، او تقتصر على حماية الاسلام والرسالة الاسلامية ومصالح الامة من التردي الى الهاوية وتفاقم الانحراف؟
وجواب ذلك: يحتاج الى توسع في الحديث يضيق عنه المجال هنا، غير ان الفكرة الاساسية للجواب المستخلص من بعض النصوص والاحاديث المتعددة، ان الائمة (ع) لم يكونوا يرون الظهور بالسيف، والانتصار المسلح آنياً، كافياً لاقامة دعائم الحكم على يد الامام، ان اقامة هذا الحكم وترسيخه، لا يتوقفان في نظرهم، على مجرد تهيئة حملة عسكرية، بل يتوقف قبل ذلك على اعداد جيش عقائدي، يؤمن بالامام وعصمته ايماناً مطلقاً، ويعيش اهدافه الكبيرة ويدعم تخطيطه في مجال الحكم، ويحرس ما يحققه للأمة من مصالح، وكلكم تعرفون قصد الخراساني الذي جاء الى الامام الصادق (ع)، يعرض عليه تبني حركة الثوار الخراسانيين، فأجل جوابه، ثم امره بدخول النار فرفض، وجاء ابو بصير، فامره بذلك، فسارع الى الامتثال، فالتفت الامام الى ثوار خراسان وقال: لو كان بينكم اربعون مثل هذا لخرجت لهم.
وعلى هذا الاساس تسلم امير المؤمنين زمام الحكم، في وقت توفر فيه ذاك الجيش العقائدي متمثلاً في الصفوة المختارة من المهاجرين والانصار والتابعين.
عرفنا ان الدور المشترك الذي كان الائمة (ع) يمارسونه في الحياة الاسلامية كدور لايقاف المزيد من الانحراف، وامساك المقياس عن التردي الى الحضيض، والهبوط الى الهاوية غير ان هذا في الحقيقة، يعبر عن بعض ملامح الدور المشترك، وهناك جانب آخر في هذا الدور المشترك لم نشر اليه حتى الآن، وهو جانب رعاية الشيعة، بوصفهم الكتلة المؤمنة بالامام (ع)، والاشراف عليها بوصفها المجموعة المرتبطة به والتخطيط لسلوكها وحمايتها، وتنمية وعيها، واسعافها بكل الاساليب التي تساعد على صمودها في خضم المحن، وارتفاعها الى مستوى الحاجة الاصلاحية، الى جيش عقائدي وطبقة واعية، ولدينا عدد كبير من الشواهد في حياة الائمة (ع) على انهم كانوا يباشرون نشاطاً واسعاً في سبيل الاشراف على الكتلة المرتبطة بهم والمؤمنة بامامتهم حتى ان الاشراف كان يصل احياناً الى درجة تنظيم اساليب الحل للخلافات الشخصية بين افراد الكتلة، ورصد الاموال لها، كما يحدّث بذلك المعلى بن خنيس، عن الامام الصادق (ع).
وعلى هذا الاساس، يمكننا أن نفهم عدداً من النصوص عن الائمة (ع)، بوصفها تعليم اساليب الجماعة التي يشرفون على سلوكها، وقد تختلف هذه الأساليب باختلاف ظروف الشيعة والملابسات التي يمرون بها.
هذه نقاط احببت اثارتها عن دراسات الائمة.
وختاماً ارجو ان يكون هذا منطلقاً للباقين في حياة اهل البيت (ع)، وابتهل الى اللّه ان يجعلنا من التابعين والسائرين على خطاهم. [/align]
يا محوّل الحول والاحوال ، حوّل حالنا إلى أحسن الحال......
ضوابط المشاركة
- لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
- لا تستطيع الرد على المواضيع
- لا تستطيع إرفاق ملفات
- لا تستطيع تعديل مشاركاتك
-
قوانين المنتدى
|
|